في نقد المجلس الوطني السوري

ظهر المقال على موقع المجلة الدولية لدراسات الثورة السورية في

أنا من المدمنين على النقد. لكن النقد ليس دائماً هداماً لأعتذر عنه، ولن أتشدق أيضاً بزعم أن كل نقدي بنّاء. في السياسة والشأن العام النقد ضرورة ملحة لا يمكن الإستغناء عنها أو التوقف عنها مهما كانت الظروف حرجة. هناك من يرى، وأنا منهم، أن المثقف الحقيقي ناقد أبدي ينقد كل شيء حتى نفسه. للنقد من يقوم به وللبناء من يقوم به وقد تتقاطع المجموعتان، فمن ينقد ويحلل يفهم حقيقة الظاهرة التي ينقدها وقد يستطيع إقتراح ما يمكن به توجيه الظاهرة إلى غاية مرجوة.

يعاتبني بعض الأصدقاء على كثرة إنتقادي للمجلس الوطني السوري وللمجموعات والأحزاب المشاركة فيه، وكثرة إنتقادي لكثير من مكونات الثورة وللثورة نفسها واتجاهاتها. البعض يقول “تقسو علينا” وأخرون يقولون “تكسر وحدة الصف”. البعض يقول “نتشاجر على الطريدة قبل اصطيادها” وآخرون يقولون “ترعب الناس بافكارك السلبية”. البعض يعتقد أني “أخوّن” أو “أعمم” أو “أشخصن” أو “أضرب الأوتار الحساسة” أو “أهدم الصف في اللحظات الحرجة التي تحتاج للوحدة”. فليسمح لي كل هؤلاء أن أشرح لهم موقفي. وأعتبر هذا إضافة إلى دراسات الثورة وإلى هذه الصفحة لأن الكثيرين في ثورتنا لا يقبلون النقد أو ينزلقون إلى النقد الشخصي الجارح الذي يعتمد على معلومات من الفضاء الشخصي بدل التركيز على الفعل الذي ينتمي إلى الفضاء العام. لا أدافع عن نفسي فأنا أمارس حقي في ممارسة التعبير عن رأيي فيما يخص الشأن العام. وعندما أنتقد شخصاً لشخصه أو لنقيصة فيه أو لصفة لا أحبها فيه، وعندما أنتقد حياته أو أسرته لأسباب لا يعرفها إلا أنا وهو، فهنا أكون قد تعديت حدود حريتي في التعبير. لكن هذا لم يحصل وأتمنى أن لا يحصل.

اللحظات الحرجة تحتاج فعلاً لوحدة الصف لكن وحدة الصف ليست في الخضوع الأعمى لقيادة غير شفافة وغير ديمقراطية وتعتبر العمل الجماعي ملكاً وامتيازاً لها تستفيد منه وحدها ولا تسمح لأحد بالإقتراب منه حتى ولو بالكلمات. لنفرض جدلاً أن للثورة السورية قيادة موحدة تمثل الجميع، وتتخذت قراراتها وفق مخططات ذكية بعيدة الأمد وواضحة الأهداف، وتشرك في قراراتها جميع الفاعلين وتشاورهم وتخلص دائماً إلى أفضل الحلول الممكنة. ولنفرض أن الأيام أثبتت جدارة هذه القيادة وصحة قراراتها. ولنفرض أني انتقدت هذه القيادة الكاملة فماذا سيكون وقع إنتقادي لها؟ إذا كانت النية من الإنتقاد تهديم القيادة وزرع الشكوك بحكمة قراراتها فأنا فعلاً أحاول كسر وحدة الصف وأعتقد أن الجميع سيبتعدون عني وسيشككون بغاياتي. أما إن كان انتقادي للقيادة وقراراتها يستهدف ثغرات أراها ولا تراها تلك القيادة فمن الحكمة أن تشكرني هذه القيادة على مشاركتي الفعالة وأن تسارع إلى سد الثغرات المشار إليها. أين نحن الآن من هذا السيناريو؟ أولاً لا نملك أية قيادة وليس هناك أي صف موحد. ثانياً، الهيئات والمجموعات والأحزاب التي أنتقدها تزعم أنها تقوم بعمل قيادي، وأنها عنوان وحدة الصف غير الموجودة أصلاً، ويوجد في عملها ثغرات أقر بها الجميع، لا بل ثغرات أعتبرها قاتلة. أفلا يكون النقد واجبا عندها؟ ألا يكون الزعم بوجود وحدة للصف تكميماً للأفواه حتى لا تشي بالثغرات الكبيرة في عمل تلك القيادات المزعومة؟ ألا يكون السكوت والإحجام عن الإنتقاد مشاركة في الخطأ وتحملاً لمسؤولية تبعات هذا الخطأ؟ يتعلق الناس بالقشة في اللحظات الحرجة فمن الواجب معاينة هذه القشة المقترحة ودراستها فقد تكون قشة الغرق وليست قشة النجاة. ولا أقبل بشكل من الأشكال أن يزعم أحدهم أن “ليس بالإمكان أفضل مما كان” وأن “هذا هو الموجود ولا شيء غيره” وكأني أقتل الأمل الأخير للناس. هناك دائماً بدائل وحلول أخرى مهما كان الظلام حالكاً واليأس عميقاً. فلا يحق لأحد أن يزعم ان حله على غثاثته هو الحل الوحيد وأن يمنع الآخرين من أن يستعملوا عقولهم ومهاراتهم لتصوّر حلول أخرى. من هذا المنطلق أرفض تماماً التوقف عن النقد مهما كان مرّاً شرط أن لا يكون مشخصناً ومسفاً. طالما ننتقد الفعل وليس الشخص الذي قام به، وطالما ننتقد الوظيفة أو الدور وليس الشخص الذي يقوم بهما فنحن بعيدون عن الإسفاف والإجحاف. فمثلاً لو قلت “هذا عمل غبي” فقد انتقدت العمل، أو لحظة اتخاذ قرار القيام بالعمل، ولم أزعم ان كل ما يفعله هذا الشخص غبي أو أن الشخص بطبيعته غبي. طبعاً الإتهام بالغباء ليس نقداً بناءاً ولا ينم عن حنكة نقدية حقيقية ولا عن مهارة لغوية تؤهل الناقد لمتابعة العمل النقدي، لكنه نقد ممكن ومسموح به ولا يجب أن يرفضه العامل في الشان العام لأن عمله يمس حياة الكثيرين ولأنه قبل بهذه المسؤولية.

فلنخرج من العموميات ولنعد إلى الهيئات والقرارات التي انتقدتها مما أثار الإنتقاد المضاد. يأتي المجلس الوطني في مقدمة هذه الهيئات التي أنتقدها عادة. فما هو جوهر مأخذي على هذا المجلس. لو حاولت اختزال مصدر غضبي وانتقادي بكلمات قليلة لقلت بأن “المجلس أخذ تفويضاً خطيراً من الشباب الثائر وأساء استخدام هذا التفويض”. ولم تكن إساءة الإستخدام هذه خطأ عابراً بل عملاً منهجياً متكرراً أضاع على الثورة فرصاً ذهبية عديدة لتتقدم نحو تحقيق أهدافها، وأغلق الأبواب في أوجه من حاول استغلال هذه الفرص ووضعها في خدمة الثورة. ولقلت أيضاً أن الإساءة لم تقف عند حد تضييع الفرص بل تعدتها إلى استغلال التفويض الشعبي للحصول على مكاسب مستقبلية في دولة ما بعد الأسد.  طبعاً يعود علينا المجلس دورياً بميثاق أو بتعهد أو بوثيقة شرف أنه سيبني دولة الحرية والقانون والمساواة والتعددية والديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات والمرأة. ويعتقد بهذا أنه يلعب دوره بأن يطمئن هذه الفئة وتلك ويخفف قلقلها على مصيرها في دولة ما بعد الأسد. لكن ليس هذا هو دور المجلس، وفي الحقيقة المجلس ينسى أن أحداً لم يفوضه لقيادة دولة المرحلة الإنتقالية وأن أحداً لم يفوضه لتوزيع الوعود والإلتزامات وأن أحداً لم يطلب منه تحديد نظام الحكم الجديد أو فرض بنود معينة على الدستور الجديد. إنه ببساطة يعطي ما لا يملك. قام المجلس على نظرية الواجهة السياسية التي تتكلم باسم الثورة في الخارج فسعى، قبل حتى أن ينظم نفسه ويوزع المهام على أعضائه، إلى زيارة الدول العظمى ودول الجوار ليسمع آراءها ويأخذ مقترحاتها وينقل إليها رؤية الثورة وحاجاتها إلى الدعم المادي والديبلوماسي. فماذا حصل؟ باعتقادي، لقد اقتنع المجلس برأي تلك الدول ورؤيتها لكيفية حل الأزمة وترك الإيمان بالثورة وقدرتها الذاتية على تحقيق التغيير. وتتلخص هذه الرؤية بانتظار  الدول العظمى حتى تقرر الوقت المناسب للتدخل، ولن يكون هذا التدخل عسكرياً لإسقاط النظام وإنما سيكون تدخلاً سياسياً لإرغام النظام على التفاوض. قد يقدم هذا التفاوض هدية للثورة بترحيل الاسد لكنه لن يقضي على نظام المخابرات والإمتيازات. باختصار لا تريد الدول العظمى رحيل بشار لظنهم بان رحيله سيهدد الإستقرار في المنطقة وسيؤدي للإنتقام من الأقليات الدينية وقد يعرض الأسلحة الكيماوية التي يملكها نظام الأسد لخطر الوقوع في أيدٍ لا تريدها تلك الدول. نحن لا نؤمن بأن هذا سيحدث ولا نريد أن نقايض دماء شهدائنا بهذه التنازلات التي ستٌبقي نظام القمع مسلطاً على رؤوسنا بحجة التوازنات الدولية. منذ عام 1945 كانت منطقتنا ضحية التوازنات الدولية للحرب الباردة ثم كانت ضحية النظام العالمي الجديد الذي برز عقب حرب الخليج الثانية. والآن يستعدون لذبحنا على مذبح التوازنات الجديدة بين الغرب والدول الصاعدة مثل روسيا والصين والهند، والعداء السخيف بين إيران وإسرائيل.

إن المجلس الوطني بتقاعسه عن احتضان الثورة وعن التركيز عليها وعن جعلها مصدر قوته الوحيد ضيّع فرصة ذهبية لإيجاد قيادة موحدة لهذه الثورة اليتيمة تقودها إلى بر الأمان وتقيها من المجازر العديدة التي تعرضت لها، قيادة سياسية ميدانية وقيادة عسكرية؛ قيادة سياسية تجمع شتات الثورة الشعبية وتطور آلياتها ومؤسساتها؛ وقيادة عسكرية تمنع التسليح العشوائي وتشظي المجموعات المحلية الصغيرة. إن الوعود الكاذبة لقتل الوقت، والإرتباط المعيب بالمبادرات العربية والعالمية دون وجود مبادرة داخلية من المجلس، والجدال السخيف العقيم حول التدخل الخارجي الذي كان المجلس يعرف بأنه لن يحصل، كل هذا أطال فترة الأحلام الوردية وأبطأ حركة الناس لاعتقادهم بأن الأزمة ستنحل غداً أو بعد غد أو في أجل قريب. حين كان الأفراد والجماعات الصغيرة تعاني الأمرّين من أجل جمع الأموال وتحويلها عالمياً وإدخالها إلى سوريا كان بإمكان المجلس توفير الغطاء القانوني والخبرات التنظيمة لهذا العمل وتوفير التنسيق بين هذه المجموعات لمضاعفة جدوى عملها. وحين كان الناس في الداخل يخاطرون بحياتهم للتواصل مع الخارج لنقل الأنباء كان بإمكان المجلس أن يوفر الوسائل والتقنيات اللازمة لتلقي ونشر هذه المعلومات. وحين كان ناشطو الداخل يواجهون خطر القنص والإعتقال على الحواجز من أجل التواصل والإجتماع وإنشاء المؤسسات الخدمية والمجالس القيادية، كان بإمكان المجلس أن يكون الطرف الثالث الوسيط الذي يثق به الجميع والقادر على جمع الناشطين في قيادات محلية وإسداء النصح لها في كيفية ممارسة العمل الميداني والتنظيمي. حين كان الناشطون في الداخلين مشغولين عن العمل التنظيري بالمظاهرات وتحدي رصاص النظام بصدور عارية كان بإمكان المجلس أن يساعد في بلورة أهداف الثورة وتطوير أيديولوجيتها وتقديم تصوّر متكامل لإدارة مرحلة الثورة والمرحلة الإنتقالية بعدها.

يقولون ليس لدينا تمويل، وأقول ببساطة كل هذه المعونات الإغاثية الهائلة التي دخلت سوريا منذ اليوم الأول للثورة وكل المعونات المالية لشراء الأسلحة والذخيرة والدفاع عن المدنيين جاءت من جيوب السوريين حول العالم. لم تقدم لنا أية دولة أو مؤسسة عالمية أي دعم مادي فكيف لم تروا هذه المصادر المحلية وركضتم وراء المصادر الخارجية؟ يقولون من يمول عملنا؟ أقول من موّل عمل الآلاف من السوريين الذي جمعوا التبرعات وأدخلوها إلى البلد واشتروا المعونات ووزعوها، وجمعوا الأموال لشراء أجهزة الإتصال أو شراء الأسلحة وتمويل مجموعات الجيش الحر؟ لا أحد، هؤلاء يعملون بعد أعمالهم التي يعتاشون منها ومنهم من يصرف من أمواله الخاصة. يقولون نسينا العمل الجماعي بسبب سنوات الإبعاد أو السجن ولا نزال نتعلم. اقول ومن علم آلاف السوريين الذي يدعمون الثورة بالأفكار والأجهزة والأموال ونقل الأخبار. لو كنت رئيس عمل وكنتم موظفين عندي وسمعت تبريراتكم لتقاعسكم وأخطائكم المتكررة لفصلتكم من العمل دون تردد.

إن المجلس برفضه أن يشارك في العمل الثوري أضاع علينا فرصاً ذهبية في تحقيق نقلة نوعية لهذا العمل لا يستطيع أفراد أو جماعات محلية تحقيقها. اليوم يزعم المجلس رغبته في تسليح الجيش الحر، لكن موقفه السلبي من التسليح عموماً والجيش الحر خصوصاً أدى إلى التسليح العشوائي الذي أدى إلى أخطاء جسيمة أودت بآلاف الأرواح. هناك مجموعات صغيرة تعمل على الأرض تحاول توحيد هيئات الثورة من تنسيقيات ومجالس عسكرية وتبذل الجهد والمال والوقت لكنها تُواجَه بممانعة شديدة من القيادات المحلية الصغيرة التي أنتجها التشظي والتمويل العشوائي والتسليح العشوائي وفقد الأمل في وصول العون والمدد. فهل يساعد المجلس هذه المجموعات ويتبنى مشاريعها؟ بالطبع لا، فأعضاء المجلس، وخاصة المكتب التنفيذي، مشغولون في المحافظة على حصصهم التي اتفقوا عليها عند تشكيل المجلس. يقولون نحن واجهة سياسية، ويعنون بذلك أنهم متخصصون بمؤتمرات الفنادق الكبرى والعمل الديبلوماسي المريح. والأنكى من هذا أنهم يفرضون أنفسهم كقيادة للمرحلة الإنتقالية ويعتقدون أننا سنقبل أن يقودنا في سوريا الجديدة من عجز عن قيادتنا في يوم الأزمة. عندما انسحب هيثم المالح وكمال اللبواني من المجلس وطرحا فكرة توحيد المجموعات المقاتلة قام المجلس على الفور بإنشاء مكتب استشاري عسكري وإلتقى بالجيش الحر ووعده بأموال وأسلحة لم نر منها شيئاً. لا يتحرك المجلس إلا عندما تتعرض سلطته للخطر ويتعرض موقعه كمحاور وحيد مع دول الغرب والجوار للمنافسة من مجموعة أخرى. واليوم يوزعون بعض الأموال على كتائب منتقاة لأ نها بدأت تستجيب لعروض أخرى من هيئات خارج المجلس. المجلس لا يريد تسليحها لكنه في الوقت نفسه لا يريد أن تستقل بنفسها حتى تحين الفرصة التي يفرض فيها نفسه عليها. فمتى ستحين هذه الفرصة؟

ليس للمجلس أي مشروع متكامل لإدارة مرحلة الثورة، وحتى وثيقتهم حول المرحلة الإنتقالية تثير التساؤل عن إلتزام المجلس بالديمقراطية والشفافية وإفساح المجال للناشطين على الأرض ليكون قادة تلك المرحلة. كل ما يفعله المجلس أنه ينتقد المجتمع الدولي على تقاعسه عن حماية المدنيين في سوريا وكأن حماية المدنيين من اختصاص المجتمع الدولي بينما أهل البلد ومن يزعم تمثيلهم لايفعل إلى التأسّي على حاله وعلى عجزه وفقره. في الحقيقة، إن المجلس مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمن يسميهم المجتمع الدولي. المجلس ليس أكثر من مُحاور تحت الطلب. عندما يقرر الغرب ومن معه من دول عربية أن اللحظة حانت للتدخل فيما يسمونه “الأزمة السورية” وإيجاد حل جدي لها، مفصّل على مقاسهم، فإنهم بحاجة إلى مُحاور يقف قبالتهم وقبالة النظام ويتفاوض معه، هذا المحاور والمفاوض هو المجلس الوطني. إن الضمانة الوحيدة لأن يقود هذا المجلس المرحلة الإنتقالية لا تأتي من شرعية ثورية أو من إنتصار للثوار على الأرض، فالمجلس لا يؤمن بهم، وإنما تأتي من قدرة الغرب والدول العربية الموالية له على فرض المجلس على النظام القائم في سوريا كمفاوض وممثل شرعي للمعارضة. فمتى يقرر الغرب وأعوانه التدخل في الثورة السورية؟ وما هو الحل الذي يطرحونه؟

منذ بداية الثورة طلبت الجامعة العربية وأمريكا والدول الأوروبية توحيد المعارضة السورية في هيئة واحدة هي المجلس الوطني. هل هذا تكتيك لا نعرفه في قيادة الثورات الشعبية؟ بالطبع لا، إنهم يريدون عنواناً واحداً يحاورونه ولا يريدون أقطاباً متعددة ذات مطالب متعددة. الجميع يدعو لتوحيد الجهود من أجل إسقاط نظام الأسد لكننا لا ندعو لتوحيد أحزاب المعارضة التقليدية حتى تكون ممثلنا “الشرعي والوحيد” في مفاوضات مقبلة من النظام. من لم يشارك في الثورة لا يستطيع أن يفاوض. من لم يشارك في الثورة سيقبل بأية عروض طالما أنها تحمله إلى الحكم أو تحمل الحكم إليه ولو في حكومة إئتلافية تجمع المجلس والنظام. إن وظيفة المجلس الوحيدة هي الإنتظار، إنتظار أن تتدخل السعودية أو قطر أو فرنسا أو تركيا أو أمريكا لحل “الأزمة السورية”. فمتى تحين هذه اللحظة؟ لن تكون هذه اللحظة من صنعنا ولن تكون حسب ساعتنا ولكن حسب ساعاتهم. أمريكا في خضم عامٍ من الإنتخابات المرشح الديمقراطي فيها هو رئيس الولايات المتحدة وهذا يعني أن أي حركة سياسية غير محسوبة قد تؤدي إلى فشل إعادة إنتخاب أوباما وبقائه في البيت الأبيض. والحال نفسها تنطبق على ساركوزي الذي يحاول أيضاً ان يبقى في الإليزيه. من المعروف أن السياسية الداخلية والخارجية الأمريكية تتجمد تماماً في أعوام الإنتخابات التي يكون فيها الرئيس الحالي مرشحاً لمدة رئاسية ثانية. إن من مهازل الديمقراطية الأمريكية أن ترى النخبة السياسية كلها عاطلة عن العمل لسنة كاملة في انتظار ان يظهر هذا الحزب على ذاك. وإن من أخطر القرارات التي يمكن لرئيس حالي ترشح للإنتخابات القادمة أن يتخذها هي توريط الجيش الأمريكي في معركة مجهولة النتائج أو وضع هيبة الدولة الأمريكية على المحك. وقد سمع العالم أجمع كلمات أوباما للرئيس الروسي ميدفيديف يطالبه فيها بالإنتظار والتريث حتى تنتهي الإنتخابات (أي في أوائل تشرين الثاني المقبل). وكل ما نراه من دعوات السيناتور الجمهوري ماكين لدعم الثورة السورية وتسليح الجيش الحر ليس إلا محاولات من الجمهوريين لتوريط أوباما في سوريا وبالتالي ضمان خسارته في الإنتخابات. ونرى اليوم محاولة الوزيرة كلينتون تهدئة السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي وإقناعهم بعدم تمويل الجيش الحر. فما هي الرؤية الأمريكية للحل، بعد حسم الإنتخابات؟

باعتقادي وحسب ما أراه من تحليلات فإن الولايات المتحدة والغرب لا يريدان التورط في حرب كبيرة مكلفة ولا يريدان أيضاً حرباً أهلية تزعزع المنطقة العربية شرق المتوسط بعد صدمات تونس ومصر وليبيا واليمن التي تفادوا آثارها بالصدفة المحضة أو بتشجيع الجيش على التدخل وإحداث إنقلاب على الحكم او بالتدخل المباشر أو غير المباشر. باعتقادهم، هذه الحرب قد تمتد إلى لبنان والعراق وتؤثر سلباً على الأردن وتزرع القلاقل على الحدود الشمالية لإسرائيل. كذلك فإن أعينهم دائماً مسمّرة على مخزون الأسلحة الكيماوية والبيولوجية الضخم الذي يملكه نظام الأسد. إن من المستحيل تأمين الحماية لهذا المخزون في جو من الحرب الأهلية. كذلك فإن أية قلاقل في سوريا تعني عودة الهجمات الكردية على جنوب شرق تركيا وتأمين ملاذ آمن للقاعدة لتنطلق منه في عملياتها. إلا أن الغرب ودول الخليج لن يتركا فرصة ذهبية كأزمة سوريا من أجل التخلص من إيران وحزب الله. تشكل إيران خطراً على الغرب من خلال برنامجها النووي وتهديدها المستمر لإسرائيل وزعزعتها لتوازنات لبنان بتسليحها حزب الله. وتشكل إيران خطراً على دول الخليج لأنها دولة دينية تقوم على أساس شيعي يتناقض مع الأساس الديني السني الذي تقوم عليه دول الخليج. إن الأقليات الشيعية العربية غرب الخليج تُعتبر تهديداً لسلطة العائلات المالكة الخليجية ولا يمكن لها أن تقبل بتدخل إيران في شؤونها الداخلية من خلال دعمها لهذه الأقليات. لكن هزيمة إيران ليست عملاً سهلاً ولن تكون هزيمة عسكرية بل تحجيماً لإيران وعرقلة لمخططاتها الإمبريالية في المنطقة العربية. تعتبر دول الخليج الإمتداد الجغرافي من إيران إلى البحر المتوسط عبر جنوب العراق وسوريا وجنوب لبنان إمتداداً شيعياً قد يحجب سواحل المتوسط عن  هذه الدول وقد يحرمها من إمتدادها العربي والسني. لا توجد دول في العالم تسمح أن يحاوطها من تعتبره عدواً، حتى وإن كان هذا العداء قائماً على اعتبارات دينية. ويزيد الطين بلة أن الأنظمة الحاكمة في العراق وسوريا وجنوب لبنان أنظمة طائفية بامتياز مما يجعلها حليفة طبيعية للنظام الثيوقراطي الشيعي في إيران. إن قطع الصلة بين إيران وسوريا وبالتالي بين إيران وحزب الله يمثل إنتصاراً سياسياً لأمريكا ودول الخليج على إيران واحتواءاً لها يُضعفها خارجياً وداخلياً أيضاً باعتبار أن النظام الإيراني فقد شرعيته داخلياً ويحاول إعادة هذه الشرعية بتركيز الإهتمام على قضايا خارجية، تماماً كما فعل نظام الاسد باستغلاله شعار الممانعة لتغطية فشله الداخلي إقتصادياً وسياسياً. إن الحل الأمثل لهذه “الأزمات” الأمريكية والغربية والخليجية (هذه ليست قضايانا بل قضايا أمريكا وحليفاتها) ليس في تحطيم النظام القائم في سوريا وإنما في إضعافه بحيث يقبل بالتفاوض والإبتعاد عن إيران. قد يسقط النظام في السنوات العشرة المقبلة لكن سقوطه المفاجئ الآن لا يثير حماسة الدول الغربية ويعتبرون إسقاطه مغامرة لا تُحمد عقباها. الحل إذاً بالنسبة للغرب وحلفائه في إجبار الأسد على التفاوض مع إبقاء السيطرة العسكرية والمخابراتية للنظام. لن تكون هذه السيطرة محكمة لكنها كافية لحماية الأسلحة الكيماوية وتعطي الغرب الزمن اللازم لإيجاد حل دائم للأزمات الآنفة الذكر.

إن تسريب إيميلات الأسد دليل على محاولة ضغط عليه  ليترك الحكم أو يتفاوض. وقد رأينا بوضوح كيف ضغطت قطر من خلال إبنة أميرها على زوجة الأسد بتخويفها على سلامة أولادها لتقوم الأخيرة بدورها بالضغط على زوجها. وسيزداد الضغط من خلال مؤتمر أصدقاء سوريا الثاني والإعتراف بالمجلس الوطني والعقوبات الإقتصادية والتسليح البسيط للجيش الحر بما يمكنه من توجيه ضربات قاسية للنظام لكنها ليست قاصمة. وحال انتهاء الإنتخابات الأمريكية والفرنسية ستبدأ المناورة الحقيقية. يعتقد الأسد الآن أنه انتصر على المعارضة السلمية بمنع التظاهر وعلى المعارضة المسلحة بقصف مناطق تواجدها. لكنه سيكتشف بعد فترة وجيزة أن قمعه الإجرامي قد زاد من إصرار الناس على مقاومته وأن قصفه للمناطق السكنية قد أدى لأزمات إنسانية لن يستطيع حلها وأن ملاحقته للمجموعات المقاتلة قد أقنعها بالتحول إلى حرب العصابات الأكثر ضرراً على النظام وأن تمشيط سوريا لتجميع الآلاف من قطع السلاح الفردية أمر مستحيل. ونرى آثار هذا التحول الآن بالإغتيالات المتتالية لرجالات النظام وسيرى النظام هذه الآثار خلال أشهر الصيف التي ستعطي الجيش الحر إمكانية الإنتشار على مساحة أوسع والتحرك في البرية بحرية أكبر. وعندما تتدخل امريكا بحاملة طائراتها أو بضربة للقصر الجمهوري سيسارع الأسد والعديد من ضباطه إلى الإستسلام للرغبة الأمريكية بالتفاوض وقبول نوع من التعددية في نظام الحكم وإدخال عناصر من المعارضة السياسية في حكومة جديدة. مَن سيكون الطرف “المعارض-المفاوض” في هذه المفاوضات؟ هل سيكون التنسيقيات أم مجالس الثورة أم المجالس العسكرية أم قيادة الجيش الحر؟ لا أعتقد، هذا الطرف “المعارض-المفاوض” سيكون المجلس الوطني الجالس على مقاعد الإنتظار يشجب “تقاعس” المجتمع الدولي عن حماية المدنيين، ويشجع المبادرة العربية بإرسال مراقبين عرب لا يراقبون شيئاً، ويستجدي دعوة لحضور مؤتمر أصدقاء سوريا الأول، ويُصدر وثيقة عهد لا يملك من تحثيقها شيئاً، ويعقد مؤتمر توحيد المعارضة قبل أيام من انعقاد المؤتمر الثاني لأصدقاء سوريا ولسان حاله يقول “ها نحن توحدنا كما طلبت منا”. ومكافئةً له على هذه المسرحية “المقنعة” يعترف مؤتمر أصدقاء سوريا الثاني بالمجلس الوطني “ممثلاً شرعياً ووحيداً” للشعب السوري. هذا المجلس الذي لم ينتخبه أحد يصبح ممثلاً شرعياً، وهذا المجلس الذي لم يقدم شيئاً للثورة يصبح ممثلاً وحيداً دون كل المجموعات المشاركة في الثورة. هذه المكافئة ستُعيد للمجلس بعضاً من الدعم الشعبي الذي انفضّ عنه في الآونة الأخيرة وستعطل محاولات أية جماعة أخرى للظهور حتى وإن كانت من أكبر الفاعلين على الأرض. الناس تعبت من القصف والقتل والتنكيل والتهجير والتجويع ولن ترفض أي حل، ولو كان التفاوض مع النظام، لإنهاء هذه الحالة المأساوية من التشتت والموت وانعدام الجدوى وغياب الحلول. فهل حان أو سيحين قريباً موعد التفاوض مع النظام؟ هل حقيقةً فشلنا في إسقاطه بأي معنى من المعاني؟ هل سنقبل ببقاء نظام المخابرات والجيش غير الوطني مع احتمال زوال بشار الأسد من الواجهة واستبداله بشخص آخر من أزلام النظام؟ لو كنت مقتنعاً فعلاً بأننا غير قادرين على النصر وعلى إسقاط النظام وفرض إرادة الشعب السوري الحقيقية لنصحت الجميع بالتفاوض لكنني مؤمن بقدرتنا على النصر. وحتى لو كنت مخطئاً وفُرض علينا التفاوض فرضاً فإني مؤمن بأن موقعنا لن يكون موقع ضعف إذا تابعنا ما بدأناه واستمرينا في توحيد صفوفنا وتوجيه قدراتنا العسكرية وإحياء نضالنا الشعبي السلمي، هذه العناصر الثلاثة التي لم يؤمن بها المجلس الوطني يوماً ولا رعاها ولا دعمها بل أحياناً وضع العراقيل في وجهها أو أهملها إهمالاً كاملاً. إن سوريا الجديدة صاحبة السيادة على أرضها ومستقبلها والخارجة عن كل تبعية إقتصادية أو سياسية لن تكون من ثمرات عمل (أو لاعمل) المجلس الوطني وانتظاره مبادرات الغرب أو الجامعة العربية. سوريا الجديدة هذه لن تكون إلا من ثمرات اعتمادنا على أنفسنا ومتابعتنا للطريق الذي بدأناه ووفائنا لدماء الشهداء وتضحيات الأرامل واليتامى والمصابين وآلام المفقرين والمهجرين والمعتقلين. إن الطريق التي ستقودنا إل سوريا الجديدة المستقلة السيادية، دولة الحرية والمساواة والقانون، هي في متابعة الثورة وإيجاد قيادة حقيقية ميدانية في الداخل وتوحيد المجموعات المقاتلة تحت قيادة حكيمة واعية تعمل بالتنسيق الكامل مع القيادة الميدانية. لسنا بحاجة إلى واجهة سياسية زائفة همّها عقد المؤتمرات واقتناص المناصب وإنما نحن بحاجة إلى قيادة فعلية تنبع من الأرض، من الداخل، من التنسيقيات والتجمعات والمجالس الثورية، تضع الأهداف المرحلية والبعيدة وتخطط للوصول إليها وتضع الآليات المناسبة لتنفيذ هذه الخطط. هذه هي القيادة الوحيدة التي تمثلنا.

تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

You may also like...

shares