صناعة الأبوية

جيردا ليرنر. صناعة البطريركية.

قرأت المقالة (ميسا صالح. “كيف صنعنا البطريركية”. موقع الجمهورية، 8 آب، 2023.) ولم اقرأ الكتاب بعد، لكن عندي نسخة انكليزية.

إن الحديث عن الازمنة التاريخية البعيدة وخاصة منذ ظهور الزراعة لا يقوم على دلائل وانما فقط على حجة متناسقة ومنطقية. حسب المقالة، تعود الكاتبة الى عصور ما قبل التاريخ لتبحث عن اصول النظام الابوي، لكنها تضع اختراعه وتبلوره في الالفية الثنية قبل الميلاد في بلاد الرافدين. طبعا عندنا معلومات لا بأس بها عن تلك الفترة، لكنها ليست كافية لمهر اية دراسة حديثة بأنها واقعية. دراسة التاريخ عملية تأويلية، وذلك العصر ومسألة الابوية لا تخرجان عن القاعدة. المشكلة باعتقادي هي ان مثل هذه الدراسات، كما كان حال كتاب انجلز عن اصل العائلة، مغرقة في الايديولوجيا. وهنا بالتحديد اسميها الايديولوجيا النسوية وليس اليسارية. النسوية قضية نضال لكنها ايضا ايديولوجيا. باعتقادي لا يوجد نضال دون ايديولوجيا، لكن ايضا لا توجد ايديولوجيا دون تأويل ضيق وغائي للتاريخ.

في هذه الحالة اعطي نفسي تمرينا. وهو ان اجد تأويلا مختلفا للمعلومات التاريخية نفسها، بحيث استخدمها كلها وبحيث يعارض تأويلي تماما التأويل الذي اتعامل معه. فاذا نجحت فان لا فضل لتأويل على آخر الا في عالم الايديولوجيا.

نشوء الاسرة الابوية مثلا. تتحدث الكاتبة عن تسلط الذكر واستعباده المرأة، وتحويلها الى سلعة يمكن بيعها وشراؤها ومبادلتها. وكل ذلك لمصلحة الرجل وتأبيد سلطته على المرأة، ودعم مملكته الصغيرة التي تقوم على مبدأ الملكية الخاصة للارض والاولاد، والتي تتحول فيها المرأة الى مجرد اداة انجاب يمكن شراؤها.

وكما في الايديولوجيا الماركسية يتم التأكيد على ان الابوية مجرد منظومة مختلقة (صنعنا الابوية)، غير طبيعية، صنعها الرجال ليسيطروا على النساء. طبعا اذا كانت مختلقة فلم اتفق كل الرجال على استعباد كل النساء، ألم يشعر احدهم بأن الامر مجرد لعبة. اذا لم يكن حب التسلط طبيعة في الرجال فكيف اتفقوا جميعا وعبر عصور طويلة على نفس اللعبة. واذا كان حب التسلط عندهم طبيعيا فان المنظومة الابوية ليست مختلقة. التفسير يكون غالبا بابراز الفوائد الضخمة التي يجنيها الرجال من استعباد المرأة بحيث انهم لا يستطيعون مقاومة تلك اللعبة الجهنمية التي همشت المرأة وجعلتها ضحية لخمسة آلاف سنة على الاقل. ولماذا لم تنجح النساء في كسر تلك القيود والتحرر من الاسر الابوي باعتبار انهم كن يعرفن انها لعبة مختلقة. حتى العبيد كانوا يثورون بشل متكرر حتى ولو ادى ذلك الى موتهم. طبعا هنا يتم الاعتماد على عنصر ماركسي اخر وهو الوعي الزائف. اي ان اصحاب اللعبة الرجال استطاعوا اقناع المرأة بأنها حقيقة ولا خيار غيرها ولا مفر منه. هذا ما نسميه في ايديولوجيات اخرى مثل القومية والطائفية بالمظلومية.

التأويل المختلف. ماذا لو كانت الاسرة الامومية غير قادرة على تحويل الزراعة من رافد للغذاء الى نمط انتاج وحياة؟ ماذا لو كانت الاسرة الابوية هي الانسب لتلك المهمة؟ لا احد يطرح هذا السؤال. الكل يعتقد بأن الزراعة كانت فرصة ذهبية اقتنصها الرجال ولا احد يعرف لماذا.

الاسرة بحد ذاتها منظومة طبيعية، موجودة عند اسلافنا في التطور. لم ينجح احد في اثبات ان الاسرة هي مجرد منظومة اجتماعية تم انتاجها في مرحلة معينة من حياة الهوموسابيان التي امتدت لحوالي مائتي ألف عام. لا بل يمكن الحديث عن سيادة ذكورية للذكر الالفا كما عند الغوريلا. لكن هناك ادلة نفسية تشير الى تطور باتجاه التعاون والحد من سلطة الذكر الالفا. وعند الغوريلا يمكن ان يتحد عدد من الذكور الاقل سنا للتخلص من الذكر الالفا. اذا لم ندفع باتجاه السيادة الذكورية فان مجتمع الصيد والجمع الصغير العدد يمكن ان يتكون من عدد من الاسر التي يلعب فيها الذكر والانثى ادوارا مختلفة لكن متساوية في الاهمية الاجتماعية.

ان تطور الارتباط العاطفي كأساس للاسرة يشير الى اهمية خاصة للمرأة، فمقابل وظيفتها الطبيعية بالانجاب والرعاية اصطفت النساء الرجال الذين يدخلون في عقد معهن من اجل تربية اولادهن ولا يجدون مفرا منه بسبب قوة الرابطة العاطفية. هذه الرابطة لا ترقى الى القوة الحتمية للانجاب لكنها تقترب بان تجعل العاطفة خارج اطار التحكيم العقلي. فمن الافضل للرجل منطقيا ان ينجب من عدة نساء، اذا كان الغرض فقط نشر جيناته.

هذه الاسرة الامومية، او العاطفية، لا تستطيع انجاب اكثر من طفل كل اربع سنوات حسب الملاحظات الانثروبولوجية. وهو الزمن الذي يتحكم فيه الحب بالرجل حسب الملاحظات نفسها. وهو خلالها يكرس كل جهوده لاطعام ورعاية امرأة واحدة وطفلها ويمتنع فيها عن الارتباط باية امرأة اخرى والانجاب. معدل الانجاب هذا الذي تفرضه الاسرة الامومية مناسب جدا لنمط حياة الصيد والجمع. انه مجتمع لا يسعى الى تكثير اعداده بحيث تكون بعدد نجوم السماء كما يأمر رب التوراة. لكن الامر يختلف تماما في المجتمع الزراعي.من المحتمل والمنطقي تماما ان النساء كن العامل الاساسي وراء اكتشاف الزراعة باعتبار ان الجمع كان من وظيفتهن. لكن التحول الكامل الى نمط الحياة الزراعي المستقر يحتاج الى تخطي الاسرة الامومية.في مجتمع الصيد لا مجال لتخزين الغذاء ولذلك فان اي تناسب بين الغذاء والعمل ليس ضروريا. لكن في حالة الزراعة والقدرة على التخزين، لا بل الحاجة الماسة للتخزين خلال الشتاء، يجعل التناسب بين كمية العمل محجم الانتاج عاملا اساسيا في الحياة الزراعية. لا علاقة لذلك بالقدرة العضلية للرجال، فالعمل الزراعي ممكن للجنسين. لكن عدد العمال هو المفتاح. المجتمع هنا بحاجة الى التكاثر ليزيد في كمية المخزون. الاسرة الامومية العاطفية لا تنتج الا عاملا كل ارب سنوات. لكن ماذا لو جعلنا الانجاب صفة للرجل بدل المرأة. ماذا لو اصبح اصل الانجاب هو الرجل. عندها تصبح الاسرة ابوية، وعندها يستطيع الرجل ان ينجب اي عدد ممكن من الاطفال العمال في السنة الواحدة اذا استطاع الاقتران بعدد مفتوح من النساء. ولذلك نجد في المجتمعات الابوية ان الاولاد يأتون من صلب الرجل ولا تكون المرأة الا مجرد حامل وارض خصبة للبذرة الذكرية.

ان الاسرة الابوية اقدر على التعامل مع الزراعة المستقرة. لا بل انه من مصلحة النساء ان ينتمين الى احدى هذه الاسر لما في ذلك من ضمان الطعام والحماية لهن ولاطفالهن. التعاضد الاسري هنا يحل الالتزام الذكري في الاسرة العاطفية الامومية. الرجل هنا يستطيع ان يمارس استراتيجيته الاخرى في الانجاب وهي استراتيجية ناشر النسل الذي لا يحتاج الى ارتباط عاطفي. كان الرجل دائما قادرا على استخدام الاستراتيجيتين. لكن انشغال المرأة بالانجاب والرعاية يحجب عنها استراتيجية النحلة الطيارة. يمكن هنا ان نرى ان الاسرة الابوية كانت اتفاقا جديدا بين النساء والرجال عاد بالفائدة على كليهما. وهناك ما يدعم هذه النظرية. فجينات المزارعين الشرقية موجودة في الجينات البريطانية مثلا، لكنها جينات ذكورية. وهذا يعني ان الذكور المزارعين كانوا جذابين جدا لنساء العصر الحجري.

اعتقد اني نجحت في اعطاء تأويل تعاقدي وليس تسلطيا، على الاقل في بدايته. الجانب التسلطي في الاسرة الابوية سيظهر لاحقا، لكن يمكننا ايضا لن نعطيه تأويلا تعاقديا ايضا. لا انكر التسلطية والسلطوية في المنظومة الابوية ولا انكر ان النساء اصبحن الجانب الخاسر مع الزمن. لكن لا نحتاج بالضرورة الى تأويلات مظلومية ونضالية لشرح الحالة. المظلومية تبقى اداة ايديولوجية لها المستفيدات منها ولها الخاسرات.

تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

You may also like...

shares