حدود “التحديث السلطوي” في سوريا: الضمان الاجتماعي الخاص، الجمعيات الخيرية الإسلامية، وصعود جماعة زيد

ظهر المقال على موقع معهد العالم للدراسات في 16 أكتوبر، 2016

ترجمة: أحمد نظير الأتاسي  

المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط، 41 (2009)
توماس بيريه (Thomas Pierret) وكيتيل سيلفيك (Kjetil Selvik)
ترجِمت هذه الدراسة بعد أخذ موافقة د. توماس بيريه/ محاضر في الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، جامعة أدنبره. وكانت الدراسة الأصلية قد نشرت باللغة الإنكليزية في العدد 41 من المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط، الولايات المتحدة الأميركية تحت عنوان: Limits of ‘Authoritarian Upgrading’ in Syria. Welfare Privatization, Islamic Charities and the Rise of the Zayd Movement..2009.

النص  

“هلق بدي شوف تبرعاتكم. كل واحد منكم بيقدر يدفع لكم زيجة لهالشباب”[1]  (أحد الرجال في المسجد رفع خمسة أصابع)  “أيوه؟ أبو بشار؟ خمسة؟ إذن أخونا بشير الخولي، خمسة شباب. جمال عمّوري، خمسة شباب. الدكتور محمود الحلاق، خمسة شباب.”  (ثم التفت الشيخ نحو رجل في الصف الأول)  “أبو محمود، كم واحدة؟ خمسة، كمان؟ إخواني الأعزاء تذكروا أنها هديتكم إلى رسول الله، فاعطوا على قدر استطاعتكم.” — الشيخ نعيم العرقسوسي  الشيخ نعيم العرقسوسي أحد أشهر علماء دمشق. وهو شخصية قيادية في حركة إسلامية محلية تدعى جماعة زيد، ويحظى بثناء الجميع على علمه وتواضعه وزهده. وكل أسبوع، يجذب هذا الرجل الضعيف جسدياً ذو اللحية القصيرة والستة وخمسين عاماً عدة آلاف من الناس إلى جامع الإيمان المبني من الإسمنت، والذي يقع قرب مقر حزب البعث في حي المزرعة الذي تسكنه الطبقة المتوسطة.

حملة جمع المال التي وصفناها أعلاه تم تنظيمها بمناسبة المولد النبوي في جامع الإيمان المكتظ بالناس في نيسان من عام 2007. في نهاية الأمسية، دعا الشيخ نعيم الحاضرين للتبرع إلى مشروع خيري يسمى صندوق المودة والرحمة، وهو مشروع يساعد الشباب على الزواج بتغطية جزء من تكاليف الصداق. وقد رفع المريدون الميسورون أيديهم ليتبرع كل منهم بـ 50.000 ل.س. أي ما يعادل 1.100 دولار أمريكي، وهو مبلغ يمكن أن يغطي تكاليف زيجة واحدة. ووقف إلى جانب الشيخ يسجل التبرعات مدير صندوق المودة ذو الشارب والبدلة الرسمية، الحاج [1] عمر المخللاتي، أحد أعضاء غرفة تجارة دمشق. ومع نهاية “المزاد” (auction، والتورية من الكاتب؛ م)، تم جمع 150 تبرع، أي ما يعادل 7,5 مليون ل.س [2].

وقد أصبحت مشاهد مماثلة أمراً معتاداً في سوريا، حيث تضخمت الأنشطة الخيرية عدداً وحجماً منذ التسعينات [3]. وينبع هذا التطور من ديناميكيتين متمايزتين تؤثران على طبيعة العلاقات بين الدولة والمجتمع في هذا البلد. فمن جانب، وقعت منظومة الضمان الاجتماعي[2] (welfare) في سوريا تحت ضغوط شديدة منذ منتصف الثمانينات، نتيجة تقلص موارد الدولة، وعقود من النمو السكاني المتسارع، وسوء الإدارة، مما أضعف قدرة الدولة على تقديم خدمات اجتماعية مناسبة للفقراء من الشعب. ومع أواخر التسعينات بدأت الحكومة تدريجياً التخفيف من شدة العوائق المفروضة على الجمعيات الخيرية. وقد قدمت هذه الجمعيات مساهمات مفيدة، رغم أنها متواضعة نسبياً، من خلال نمو أنشطة الضمان الاجتماعي التي يمولها القطاع الخاص. وقد أثبتت المبادرات الدينية[3] (faith-based initiatives) خاصة مهارتها في تحريك التبرعات الخيرية من الطبقة الوسطى والطبقة البرجوازية[4].

ومن جانب آخر، فإن نمو القطاع الخيري الإسلامي يدل على استرخاء العلاقة المتوترة بين نظام البعث وبين التيار الإسلامي (Islamic trend) وذلك بدءاً من منتصف التسعينات. وأملاً في تقوية شرعيته من خلال تحسين علاقاته مع قوى إسلامية داخلية وإقليمية، فقد سمح النظام بعودة جزئية لأنشطة فاعلين سبق أن قضى عليهم النظام منذ الانتفاضة الإسلامية بين عامين 1979 و1982 وما بعدها. ففي عام 1994 عاد بعض قيادي جماعة زيد، وهي منظمة إسلامية تستقطب الطبقات الوسطى جذورها صوفية لكنها واعية للظروف السياسية المحيطة بها، من ملتجئهم في العربية السعودية. وفي الوقت الذي خفف فيه النظام من العوائق المفروضة على قطاع الجمعيات، كانت الجماعة[5] ((movement قد أعادت تأسيس نفسها، مما أتاح لها خلال العشرية التالية أن تبرز كفاعل ريادي في الضمان الاجتماعي الذي يموله القطاع الخاص.

بالنسبة للنظام، فإن السيناريو الأفضل كان يمكن أن يكون استلام الشبكات الإسلامية الموالية له (regime-friendly) تاريخياً، مثل شبكة المرحوم أحمد كفتارو مفتي الجمهورية، قيادة النمو المتسارع للمشاريع الخيرية. لكن ثبت أن هذه الشبكات تعتمد على قاعدة اجتماعية أضيق من أن تستطيع إدارة سيرورة (process) النمو إدارة ناجعة [4]. لكن جماعة زيد، على النقيض من ذلك، تتمتع بشعبية واسعة في أوساط الطبقة التجارية الدمشقية المتوسطة، مما يعطيها قابلية فريدة لجذب الأموال من القطاع الخاص. ونتيجة لذلك، فقد تمكنت الجماعة من السيطرة على القطاع الخيري في العاصمة دون منازع.

من خلال تحليل مفصّل وقائم على عمل ميداني لهذه السيرورة، فإننا نأمل تعميق فهمنا لنجاحات الجمعيات الخيرية الإسلامية. وسيتجاوز عملنا الفرضيات التقليدية عن هذه الجمعيات الخيرية و”إنغراسها الثقافي” (cultural embedment) و”سمتها العضوية”[6] organic character)) ، إذ ليس هدفنا تحديد الأسباب العامة لهذه النجاحات وإنما هدفنا شرح نجاح بعض هذه المبادرات الدينية أكثر من غيرها. بالإضافة إلى ذلك، فإننا نقترح مساهمة مشفوعة بالقياس التجريبي (empirical) إلى النقاش الدائر حول التغيرات الراهنة التي طرأت على الأنظمة السلطوية العربية. فالنظام السوري، كغيره من سلالة الأنظمة السلطوية “العنيدة” (hard)، يُدرَس عادة من خلال منظور فوقي-سفلي[7] top-down perspective)) يتجاهل فاعلية (agency) الفواعل الاجتماعية (social actors). وسنوضح فيما يلي، ودون الاستخفاف بالعوائق المفروضة من فوق، كيف تقتنص هذه الفواعل الاجتماعية الفرص التي تخلفها دولة تمر في حالة من التغيير (readjusting).

لطالما شددت مجمل التوصيفات الأكاديمية للجمعيات الخيرية الإسلامية على بعدها الأيديولوجي المناهض للهيمنة (counter-hegemonic)، سواءاً كأساس لنجاحاتها [5] أو كنتيجة لأفعالها – ونعني بذلك أسلمة المجتمع. ومن المفترض أن تتم عملية الأسلمة “شاقولياً” من خلال جذب هذه الجمعيات للفقراء [6]، أو “أفقياً”، كما بينت جانين كلارك (Janine Clark) بشكل أكثر إقناعاً، باعتبار أن الانخراط في الأنشطة الخيرية يقوي الشبكات الإسلامية (Islamist networks) بين الطبقات الوسطى [7].

إن حيثيات (specificities) السياق السوري تقودنا إلى اعتماد منظور مختلف. فالعوائق السياسية تحت نظام البعث أبقت الجمعيات الإسلامية في حالة “بدائية”، إذ بقيت معظمها كبنيات إدارية بسيطة تستخدم موارد بشرية (human resources) قليلة. ولأن مهمتها لا تتعدى جمع وتوزيع الأموال، فإن هذه الجمعيات الخيرية لا تزيد في تكوينها عن مجلس إدارة من الأعيان (notables)، وجمعية عامة تجتمع مرة في السنة، وحفنة من المتطوعين أو الموظفين. ولذلك لا يمكن اعتبارها بؤراً للتجييش السياسي أو التواصل الاجتماعي (socialization)، وإنما مجرد أذرع وظيفية لشبكات دينية أوسع وغير ممأسسة  (informal)[8].  وفي الحقيقة، فإن المشاريع الخيرية الأسرع نمواً في دمشق ليست إلا رأس جليدية حركة زيد، والتي تزودهم بالمال من خلال الثقة (trust)، والشبكات، والبنيات الهرمية غير المؤسساتية للسلطة (power structures)[9]. بتعابير أخرى، فإن الامتداد الاجتماعي (social reach) لجماعة زيد، والناتج عن شبكة تضم حوالي ثلاثين مسجداً بموظفين ناشطين في الدعوة (proselytizing)[10]، هو مسبب أكثر منه نتيجة لمشاريع خيرية ناجحة. وضمن السياق الاقتصادي الحالي، فإن هذا التوزيع غير المتساوي للرأسمال الاجتماعي[11] social capital)) بين الفاعلين الدينيين المحليين له نتائج هامة على المنظومة السياسية السورية — وليس هذا لأن الجمعيات الخيرية الإسلامية  تجتذب أعضاءاً جدداً للشبكات الإسلامية، وإنما لأن قادة هذه الشبكات قد أصبحوا بشكل متزايد شركاء (partners) هامين، وإن كانوا غير مرغوب بهم، للنظام.

تتعارك الأدبيات الأكاديمية حول موضوع النتائج السياسية لانتقال المسؤوليات التي كان القطاع العام يضطلع بها سابقاً إلى فواعل اجتماعية. إن فرضية الليبرالية الجديدة، بأن هذا الانتقال يؤدي إلى ظهور وزن مجتمعي معاكس (counterweights) للنخبة السياسية، قد تحدتها خلال العشرية الأخيرة مقاربات نقدية تتحدث عن “إعادة انتشار الدولة” (redeployment of the state)، أي عن تراجع مؤسسات الدولة الرسمية بالتزامن مع استمرار تحكمها الفعلي بالاقتصاد [8]. وحديثاً انضم ستيفن هايدمان (Steven Heydemann) إلى هذه الموضة الجديدة عندما حاجج بأن عملية من “التحديث السلطوي” (authoritarian upgrading) تجري في السياق العربي، حيث تتأقلم الأنظمة مع الضغوطات من أجل الإصلاح بأن تتلاعب بسمات معروفة عن اللبرلة السياسية والاقتصادية، الانتخابات التعددية والخصخصة مثالاً. وبهذا فإن هذه الأنظمة تقلل من العوائق السياسية الناتجة عن تزايد المشاركة المجتمعية، وتضاعِف استقلالها النسبي عن قطاعات المجتمع الأقل موالاةً. والحاصل، كما يزعم هايدمان، هو أنظمة سلطوية “أقوى، وأكثر مرونة، وأقل تأثراً (resilient) من أي وقت مضى” [9].

وتأييداً لهذه الحجة، فقد قامت أعمال جديدة بتحليل حالات يقوم فيها القطاع الخاص بمبادرات للضمان الاجتماعي لا تسبب أية مخاطر سياسية للأنظمة العربية، وذلك لأن الدولة تمتلك أو تسيطر بإحكام على الموارد اللازمة لتمويل الأعمال الخيرية إما من خلال العوائد النفطية (العربية السعودية) [10]، أو أوقاف دينية سبق تأميمها (مصر) [11]، أو رجال أعمال من زبانية النظام (crony businessmen)– أي من خلال فواعل تنتمي إلى الشبكات نفسها التي تنتمي إليها النخبة السياسية، وتشارك الأنظمة اهتماماتها وتصوراتها، وتعتمد غالباً على عقود عمل من الدولة. ويضرب هايدمان مثلاً المنظمات غير الحكومية ونصف الرسمية (NGOs) التي أسستها بعض السيدات الأوليات العربيات، مثل المنظمات التي تشكل الأمانة السورية للتنمية والتي ترعاها أسماء الأخرس، زوجة بشار الأسد، والتي يمولها الاتحاد الأوروبي بشكل رئيسي [12]. إن الأثر الاجتماعي الفعلي لهذه المشاريع التي تقوي الأنظمة مشكوك فيه، وهو في أية حال بعيد عن أن يناظر أثر الجمعيات التي تتبع الطريقة التقليدية في إعادة توزيع الثروة والتي تديرها القيادات الدينية.

ومع أن بعض هذه الجمعيات يقودها علماء “ترضى عنهم الدولة” (state-sanctioned)، إلا أنه لا يمكن اعتبارهم بالمجمل بيادق في يد النظام. وفي الحقيقة، فإن محدودية الإمكانيات المالية للدولة لا تسمح بأي مساعدة حكومية ذات قيمة لمنظمات القطاع الخاص [13]. أما الدعم الخارجي للمنظمات الإسلامية فهو مقيد بشدة لأسباب سياسية [14]. ولهذه الأسباب، فإن هذه المنظمات يمولها بشكل رئيسي  رجال أعمال محليون من خلال الزكاة والتبرعات. بالإضافة إلى ذلك، فإن الرأسمال الاجتماعي اللازم لجذب التبرعات من (pious bourgeoisie) “البرجوازية المؤمنة”[12] [15] يؤمنه العلماء بشعبيتهم التي تقوم على عوامل لا سلطة للدولة عليها. وفي الحقيقة، فإن جماعة زيد تراكِم هذا الرأسمال الاجتماعي ليس عبر نشاطاتها الدينية بالمعني الضيق (أي الدروس الدينية والتوجيه الروحي)، وإنما عبر موقفها السياسي المستقل، باعتبار أن نظام البعث يفتقد إلى الشرعية في عيون الطبقة الوسطى السنية المحافظة [16].

إن “سوسيولوجيا التمويل الناجح”[13] لا تتناسب مع اختيار بسيط للنظام السوري للفواعل الدينية الأكثر طواعية، مما يعني استحالة فهم النمو الحالي للأنشطة الخيرية على أنه مجرد إعادة انتشار للدولة. لكن الحاصل هو تعاضد معقد يعمّق التعاون المتبادل بين الدولة وقادة الجمعيات الخيرية. ورغم أن النتائج السياسية لهذا التحالف لا تزال متواضعة، إلا أنه يشكل قطيعة واضحة مع الأنساق (patterns) القديمة للعلاقات بين الدولة والمجتمع في سوريا. وفي الحقيقة، فقد كان الاستقلال النسبي للنظام عن المجتمع يقوم عادة على شراكات مع فواعل اجتماعية متعاطفة مع البعث تاريخياً، أو/و ضعيفة إلى درجة، وخاصة في الفضاء الديني، لا تسمح لها بالالتزام بقواعد علاقة الراعي-الزبون[14] (patron-client relationship). لكن هذا لا ينطبق على حالة جماعة زيد، والتي يسمح لها اتساع قاعدتها الشعبية والاقتصادية بأن تتعاون مع الدولة بينما لا تمنحها الجماعة إلا دعماً رمزياً. إن مخالطة السلطات الرسمية للقوى الدينية ذات الشعبية المرتفعة، وتسامحها مع المبادرات الدينية ذات الديناميكية المتزايدة، يسمحان باستقرار النظام، في حين يقلصان استقلاليته (autonomy) من خلال المساهمة في دمج شركاء غير متحمسين ضمن تحالف النخب الداعمة للدولة. ويبدو أن “التحديث السلطوي” ليس آمناً كما توحيه الأمثلة السابقة عن المنظمات غير الحكومية المدعومة من الدولة.

سنصف في القسم التالي من هذه المقالة تطور العمود الفقري التنظيمي والمالي للقطاع الخيري في سوريا خلال القرن العشرين، والذي ندعوه تقاطع العلماء والتجار (nexus). أما القسم الثاني فيعالج النمو الملحوظ للمنظمات الخيرية الخاصة  في سوريا منذ نهاية التسعينات. ويستعرض القسم الثالث “الإمبراطورية الخيرية” لحركة زيد. ويحاجج القسم الرابع بأن قوة جماعة زيد في المجال الخيري تنبع من جذورها العميقة والقديمة في القطاع الخاص الصغير والمتوسط الحجم. أما القسم الأخير فيحلل العلاقات السياسية الغامضة بين النظام وجماعة زيد.  

تقاطع العلماء والتجار

يقوم القطاع الخيري الإسلامي في سوريا بشكل رئيسي على تعاون بين العلماء والتجار. وبينما لا يندر هذا الارتباط بين هاتين الفئتين المجتمعيتين في العالم الإسلامي [17]، فإن تاريخ سوريا الحديث قد أعطى هذا الارتباط قوة متميزة.

في دمشق، شهدت الفترة الممتدة بين عامي 1925 و1950 تجديداً شاملاً للقيادات الدينية المحلية. فالمزاج الثقافي الجديد الذي دفع النخبة المجتمعية المدينية إلى إرسال أولادها إلى المدارس العلمانية الجديدة، بالإضافة إلى زوال دعم الدولة العثمانية، قاد إلى تلاشي دور العائلات الدمشقية القديمة من الطبقة العليا كفواعل دينية هامة. وفي الوقت نفسه، فقد أدى نشر المحتل الفرنسي والبرجوازية الحاكمة للأفكار العلمانية إلى ردة فعل دينية سميت “النهضة العلمية”. وقد قاد هذه الحركة مشايخ ذوو ميول صوفية –مثل علي الدقر وصالح فرفور وحسن حبنكة وعبد الكريم الرفاعي– من العائلات البرجوازية الرثة[15] (petty bourgeoisie) والمتوسطة غير المعروفة سابقاً بإنجابها للعلماء [18]. وفي غياب أي دعم من الدولة أو من مؤسسة أكاديمية عريقة مثل الأزهر في مصر، اضطر هؤلاء المشايخ للاعتماد على قاعدتهم الشعبية والاقتصادية. وكنتيجة لذلك ولدت القيادات الإسلامية الدمشقية الجديدة من رحم السوق، باعتبار أن هؤلاء البارزين الجدد كانوا تجاراً أو أصحاب دكاكين. وقد دعمهم أقاربهم وجيرانهم بالمال اللازم لإنشاء المساجد وتمويل المنظمات الخيرية والتعليمية. وبالمقابل فقد داومت مجالس الأمناء لهذه المنظمات على احتواء الراعيين (sponsors) الأساسيين من التجار [19].

وقد انتعشت الشبكات المدينية[16] (urban) المشتملة على رجال الأعمال التقليديين والعلماء في ظل المنظومة الليبرالية التي قامت بعد الجلاء الفرنسي عام 1946، وشهدت الخمسينات ازدهاراً للجمعيات الخاصة. لكن قوانيناً معيقة حدّت من إنشاء وعمل هذه الجمعيات بعد الوحدة بين سوريا ومصر ضمن الجمهورية العربية المتحدة، وخاصة بعد فرض النظام البعثي الجديد حالة الطوارئ عام 1963 – والتي لا تزال سارية المفعول عام 2008 [20].

 أثناء الستينات، وبسبب إضعاف جماعة الإخوان المسلمين التي كانت ملاحقة حينئذ [21]، شكل العلماء وأتباعهم من التجار رأس حربة المعارضة لطموحات البعث العلمانية والاشتراكية. وكان قائدهم في دمشق الشيخ حسن حبنكة، الذي حاول النظام مواجهته بأن دعم أحمد كفتارو الأكثر طواعية وعينه مفتياً عاماً للجمهورية[17] (grand mufti) عام 1964 [22].

أما “الحركة التصحيحية” التي أطلقها حافظ الأسد عام 1970 فقد خففت اللعب على وتر (downplayed) التحولات الثقافية والاقتصادية، وهدأت (relaxed) بعض الشيء العلاقات مع النخبة الدينية والقطاع الخاص [23]. وباعتبار أن الستينات شهدت تفكيك البرجوازية العليا (haute bourgeoisie)[18] تحت نظام البعث، فإن أول انفتاح شهدته سوريا أفاد طبقة رجال الأعمال من زبائن النظام (crony businessmen) والمسماة “بالطبقة الجديدة”، بالإضافة إلى تجار من الأحياء المدينية التقليدية. وقد سيطر هؤلاء على قطاعات واسعة من التجارة الداخلية والخارجية لسوريا وطوروا نشاطات صناعية صغيرة ومتوسطة الحجم. إن اغتناء كبريات (leading) عائلات السوق حولها إلى ما يسميه فيليب دروز-فينسنت (Philippe Droz-Vincent) “طبقة أعلى الوسط من التجار”[19] [24] (upper middle class). وإلى اليوم فقد أبقت هذه الفئة الاجتماعية على ظهور اقتصادي وسياسي متواضع، على الرغم من التعقيد الذي تجلبه بعض المسارات المتميزة مثل مسار عائلة الشلاح التي حاكت روابط متينة مع حافظ الأسد.

عملية التحول هذه كانت مفيدة جداً للنخبة الدينية السورية، لأن عائلات التجار التقليدية كانت من الوسط الاجتماعي نفسه الذي أنتج ودعم العلماء من العشرينات فصاعداً؛ مما نتج عنه أن تصنيفي “شيخ” و”تاجر” كانا هويتين مهنيتين متمايزتين فقط بالنسبة للأشخاص المنتمين إلى الطبقة الاجتماعية نفسها. وبالكاد تغير هذا الوضع خلال العقود التالية: فنظام البعث الفاقد للموارد وللشرعية الدينية لم يستطع أبداً -ولم يحاول كما يبدو- لأن يحوّل بعض أفراد النخبة الدينية إلى موظفين حكوميين تجمعهم مؤسسة رسمية مطيعة. وعادة ما كان كبار العلماء يرفضون تلقي الأجور لقاء وظائفهم في المساجد؛ على العموم فقد كانت وزارة الأوقاف تدفع معاشات رمزية. وكنتيجة لذلك، استمر العديد من العلماء بالاعتماد على وظائف تدريسية في معاهد خاصة وعلى تبرعات من الميسورين، بالإضافة إلى استثماراتهم المالية الشخصية التي سهلها رأسمالهم الاجتماعي. وإلى اليوم، لا تزال التجارة المهنة المفضلة عند أبناء العلماء في سوريا.

أظهرت الانتفاضة الإسلامية بين عامي 1979 و1982 اختلافات عميقة في علاقة النظام مع المدن الكبرى في سوريا. ففي حماة وحلب قاد العداء الشعبي الواسع الانتشار للمركز السياسي إلى مواجهة دموية مع قوات الأمن، وينبع هذا العداء جزئياً من إحساس القطاع الخاص المحلي في هاتين المدينتين بأن دمشق قد دفعته إلى هامش الاقتصاد السوري. أما في دمشق، فإن العلاقة الأفضل نسبياً بين النظام وقطاع الأعمال قلصت من امتداد الأزمة [25]. بغض النظر عن ذلك، فقد اضطر عدد من كبار علماء العاصمة إلى الهرب، وأغلقت الجمعيات الإسلامية المرتبطة بهم.  أما العِقد الذي تلى الأزمة فقد كان من أحلك الأزمنة في تاريخ علماء سوريا، حيث اشتدت العوائق المفروضة على معظم الأنشطة الإسلامية ما عدا أنشطة الشبكات المدعومة من الدولة مثل شبكة كفتارو. لكن فقط بعد عودة بعض المشايخ المهجرين في منتصف التسعينات، بدأت العلاقات بين النظام وبقية النخبة الدينية تتحسن.

أما في عالم الاقتصاد، فإن انفتاحاً ثانياً أعقب أزمة الموازنة العامة (fiscal crisis) لعام 1986، وقد حسن هذا الانفتاح القوة النسبية للقطاع الخاص. ومع حلول عام 1990، تجاوز إجمالي الاستثمارات الخاصة استثمارات القطاع العام [26]، علماً أن إجمالي استثمارات القطاع الأول لعام 1970 حامت حول ثلث الإستثمارات الكلية في سوريا. وبعد توقف مؤقت أثناء مفاوضات السلام بين سوريا وإسرائيل في التسعينات، عادت الإصلاحات الاقتصادية تحت حكم بشار الأسد. ففي عام 2005، أعلن المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث رسمياً أن سوريا تسير نحو “اقتصاد السوق الاجتماعي” [27]. وأثناء هذه المرحلة الجديدة من اللبرلة، عاد القطاع الخاص للظهور في قطاع الخدمات، مثل البنوك والتأمين، الذي كان حكراً على الدولة منذ استيلاء البعث على السلطة عام 1963.

وبينما كان حال رجال الأعمال السوريون في ازدهار، كان من الواضح أن علاقتهم بالنخبة الدينية قد أصبحت أفضل من ذي قبل، كما يدل على ذلك حفل المولد النبوي الخاص الذي انعقد في منزل فاخر في ضواحي دمشق عام 2007. وقد أقام الوليمة أحد الأفراد النمطيين (typical) من طبقة أعلى الوسط من التجار المحلية، والذي جمع ثروته من خلال استيراد وصناعة الأجهزة الكهربائية المنزلية. رجل الأعمال هذا والداعم لعدد من الجمعيات الإسلامية، استضاف في بيته 250 شخصاً، غالبيتهم العظمى من رجال الأعمال بالإضافة إلى سفراء وبرلمانيين وأعيان أصحاب الشعائر الدينية مثل سعيد رمضان البوطي، العالم الأكثر شهرة في سوريا، وأحمد حسون، المفتي العام للجمهورية، وسارية الرفاعي، أحد قياديي جماعة زيد المتنفذة.

وقد حظي هذا الاستقبال بالعديد من عبارات الثناء من العلماء وداعميهم من القطاع الخاص. في البداية رحب المضيف بضيوفه من المشايخ قائلاً: “لما دعوتكم نويت أن أدعو صنّاع هذه الأمة، هؤلاء الذين يصنعون العقول والقلوب ويصورونها على صورة منهج النبي … أنتم، يا مشايخي وأسيادي، يا فضيلة العلماء”. وأجاب مفتي الجمهورية أحمد حسون بأن ربط بين التقوى وبين الازدهار والنجاح قائلاً: “عندما تصفو القلوب بالإيمان يتطهر المال في جيوبنا … ويمنحنا الله النعمة والفضل”. أما الشيخ البوطي فقد أضاف إلى هذه الكلمات بأن أثنى على “اجتماع دعائم المجتمع المسلم التي لا غنى عنها”؛ وكانت كلماته: (religion plans, industry provides and completes, and commerce sells) “الدين يخطط، والصناعة تؤمّن وتكمّل، والتجارة تبيع” [28].

وأصبحت فعالية تقاطع العلماء والتجار ظاهرة للعيان مرة أخرى في الانتخابات التشريعية التي جرت في نيسان من عام 2007، فكل القوائم الانتخابية الرئيسية للمستقلين في دمشق كانت مكونة في غالبيتها من رجال الأعمال المصحوبين بشخصية دينية. وقد نجح محمد حمشو، أحد الأغنياء السنة الجدد وأحد زبانية عائلة الأسد، وعبد السلام راجح، عميد كلية الشريعة في أكاديمية كفتارو، بحوالي 80.000 صوت لكل منهما. وحظيت قائمتهما بدعم واسع وعلني من النخبة الدينية المحلية، فقد انتهى رجال الأعمال في تلك القائمة في السنوات الأخيرة من بناء عدد من المساجد الضخمة وقدموا دعماً مالياً سخياً لعدد من الجمعيات الدينية [29].

تنامي الأنشطة الخيرية

في غمرة تحوله إلى اقتصاد السوق، اتبع النظام مقاربة حذرة جداً. منذ عام 1970 بدأ النظام تحولاً تدريجياً إلى الليبرالية في حقل الاستثمارات، لكن دون أن يتخلى عن العقد الاجتماعي الشعبوي (populist) الذي بُني عليه[20]. ومع أن الحكومة عملت على حلحلة (streamlining) القوانين واللوائح الناظمة لعمل القطاع الخاص، فإنها تفادت رفع الدعم (subsidy) عن وإصلاح القطاع العام في معظم الأحيان [30]. لكن نوبات حادة من أزمة الموازنة العامة حشرت القيادة السورية في الزاوية. فمثلاً خفضت الحكومة الميزانية العامة (budget) من 50 إلى 30 من إجمالي الناتج القومي (Gross Domestic Product, GDP)، وحافظت طوال التسعينات على سياسة تجميد الرواتب وتقليص الاستثمار الحكومي. ورغم أن ظروفاً اقتصادية سعيدة الحظ خففت من الأثر الاجتماعي لهذه الإجراءات في النصف الأول من التسعينات، إلا أن حسن الطالع الاقتصادي تغير في عام 1996 عندما دشنت سوريا سنوات عجاف من الجفاف وانخفاض إنتاج البترول، وتردي أسعار النفط، وتضاؤل الاستثمارات الخاصة. ووصلت سوريا إلى الحضيض عام 1999 مع نمو سلبي للاقتصاد بنسبة 3,6 بالمائة [31].

لكن أثناء السنة الأولى لبشار الأسد في الحكم رفعت الدولة رواتب العاملين في القطاع العام (public salaries)[21] عدة مرات. أما في عام 2003 فقد ارتفع الصرف العام للدولة (public expenditure) كنسبة من إجمالي الناتج القومي من 30 إلى 33 بالمائة [32]. بالرغم من ذلك، لم تعد الحكومة السورية قادرة على سداد مستحقات الضمان الاجتماعي على النحو المناسب، وذلك بسبب التسارع الحثيث للنمو السكاني وعدم كفاية نسب النمو الاقتصادي. ففي عام 2004 كان 10,36 بالمائة من السوريين (أي حوالي مليوني سوري) يعيشون على أقل من دولارين في اليوم [33].  وبالرغم من نسب النمو الاقتصادي الأعلى مؤخراً (6,2% في عام 2007) [34]، إلا أن الوضع ازداد سوءاً نتيجة صعود حاد في (consumer price index) مؤشر أسعار المستهلكين (10% في عام 2006) [35].

وبغرض التخفيف من حدة الأثر المقلقل للفقر، فقد قام النظام في نهاية التسعينات بلبرلة سياساته المتعلقة بنشاطات الضمان الاجتماعي التي يقوم بها القطاع الخاص. ونتيجة لذلك بدأت الجمعيات الخيرية صعودها بعد عدة عقود من الخمول، وشهدت هذه الجمعيات توسعاً ملحوظاً من حيث العدد، والموارد المالية، وحجم الأنشطة.

شهدت السنوات الأخيرة موجة من المشاريع الخيرية غير مسبوقة في تاريخ نظام البعث. حسب تقديرات وزارة العمل والشؤون الاجتماعية فإن العدد الإجمالي للجمعيات في سوريا قد تضاعف من  586 عام 2004 إلى 1.187 (ويتضمن الرقم 600 جمعية خيرية) عام 2006 [36]. وقد ربط مدير اتحاد الجمعيات الخيرية في دمشق [37]، وهي مؤسسة خاصة تقوم بالتنسيق بين فعاليات الجمعيات الخيرية في المدينة، بوضوح وصراحة بين ازدهار الجمعيات الجديدة وبين تقهقر الأحوال المجتمعية: “إن تزايد عدد الجمعيات يدل على رغبة الحكومة في التخلص من واجباتها نحو مواطنيها، فهذا التزايد يشخص حالة مجتمع مكون في أغلبيته من الفقراء … وإن هؤلاء الذين يعملون في الجمعيات الخيرية يعرفون تماماً مدى انتشار الفقر في البلد، فبينما يزداد عدد الجمعيات، يزداد الوضع سوءاً.” [38].

لا تعترف القوانين المرعية بهوية دينية متميزة لهذه المنظمات، لكن من بين الجمعيات الخيرية المائة تقريباً المتمركزة في دمشق في بدايات الألفية الثانية، 80 بالمائة منها على الأقل كانت مسلمة سنية –أما البقية فكانت مسلمة شيعية اثنا عشرية، مسيحية، أو علمانية (أي غير دينية، م).

في غياب إحصائيات موثوقة، من الصعب تقييم أثر العمل الخيري لهذه الجمعيات. ففي عام 2003، أي قبل طفرة الجمعيات لما بعد الـ 2004، قدّر الباحث السوري جمعة حجازي أن حوالي 300 جمعية أمّنت مساعدات قيمتها 842 مليون ل.س. لأكثر من 72.000 عائلة [40]. فإذا كان هذا الرقم دقيقاً، فإن تقديراً تقريبياً يوحي بأن الضمان الاجتماعي الخاص (private welfare) يشمل عدة مئات من الآلاف في سوريا اليوم.   بينما اعتمدت نهضة القطاع الخيري في دمشق بشكل رئيسي على جمعيات مدنية سابقة، قامت هذه النهضة في أماكن أخرى على خصخصة بنيات كانت الدولة تديرها سابقاً (أو إذا أردنا أن نكون أكثر دقة فلنقل فك تأميم هذه البنيات). ففي حماة على سبيل المثال حولت الدولة مكتب الرعاية الاجتماعية، وهو الجمعية الخيرية الأقوى في المدينة والذي ولد نتيجة تأميم جمعية النهضة الإسلامية عام 1983، إلى مؤسسة خاصة عام 2003 لتصبح الجمعية الخيرية للرعاية الاجتماعية. وقد قامت هذه الأخيرة بافتتاح عدد من الفروع لها في ريف حماة [41]. وقبل ذلك بعامين، تمت إعادة تأسيس جمعية أعمال البر الإسلامية، وهي المؤسسة الأقدم من نوعها في المدينة (1925)، كمؤسسة خاصة تحت اسم جمعية أعمال البر [42]. ولما كانت حماة المركز الرئيسي لانتفاضة 1978-82 الإسلامية، فإن مجتمع هذه المدينة، وخاصة المكون الديني، لا يزال خاضعاً لتحكم الدولة أكثر من أي مجتمع آخر في البلد، مما يمكنه أن يفسر لماذا يرأس محافظ المدينة الجمعية الخيرية ويرأس محافظ سابق جمعية أعمال البر [43]. لكن مجالس أمناء هذه المؤسسات، كما هي حال مجالس أمناء الجمعيات المؤسسة حديثاً في المدينة، لا تزال تضم أعياناً من العائلات السنية القديمة في المدينة (الكيلاني والبارودي والعظم)، فعلة ما يبدو لا يزال رأسمالهم الاجتماعي ضرورياً من أجل جمع المال من القطاع الخاص.

خلال السنوات الأخيرة، تزامنت المرونة المتزايدة للحكومة مع سيلان غير مسبوق لرؤوس الأموال إلى الاقتصاد السوري. ويدفع هذا التطور عوامل متعددة: سياسة جديدة للنظام الغاية منها تسهيل عودة الرأسمال المغترب، الفقاعة النفطية الأخيرة، كميات كبيرة من المال العراقي الذي رافق موجات اللاجئين، المخاوف المتزايدة للاستثمار العربي في الغرب بسبب “الحرب على الإرهاب”، وافتتاح بنوك خاصة في سوريا مع تدهور العلاقات مع لبنان، الملجأ المعتاد للمال السوري. وحسب أرقام سورية رسمية، فإن المشاريع الاستثمارية ارتفعت بنسبة 250 بالمئة منذ عام 2004، حتى وصلت إلى 9,2 مليار دولار عام 2006 [44]. وقد أدت هذه الطفرة الاقتصادية إلى ارتفاع حاد في التبرعات الخيرية، مما ضاعف من موارد الجمعيات الخيرية. على سبيل المثال، ارتفعت النفقات السنوية لصندوق المودة والرحمة من 2,7 مليون ل.س. (حوالي 60.000 دولار) في عام 2002 إلى 22,1 مليون ل.س. (حوالي 500.000 دولار) في عام 2006 [45].

إن القمع البعثي جمد حجم وفعاليات الجمعيات من خلال الحد الشديد من نموها وإمكانيتها افتتاح مدارس ومستشفيات خاصة. وكنتيجة لذلك، كانت الجمعيات الخيرية الإسلامية في أواخر التسعينات بنيات صغيرة الحجم يرجع تاريخها إلى ما قبل دولة البعث، ويختص معظمها بتوزيع التبرعات والطعام والحاجيات الأساسية في الأحياء التي تحيط بمقراتها [46]. لكن منذ عام التسعينات شهدت سوريا بروز مشاريع خيرية تتصف بموارد مالية أكبر ومجال أوسع للعمل. بعض هذه الجمعيات مرتبطة بقيادات دينية معروفة بولائها للنظام [47]. لكن الجمعيات الأكثر فعّالية والأفضل إدارة كانت دون شك تلك التي تقوم على إدارتها جماعة زيد، سواءاً بشكل مباشر أم من خلال اتحاد الجمعيات الخيرية في دمشق.

إمبراطورية جماعة زيد الخيرية

إن الشيخ سارية الرفاعي، الذي سار على خطى والده عبد الكريم الرفاعي (1904-73) أحد الرائدين في النهضة العلمية ومؤسس جماعة زيد، هو الفاعل الأكثر تأثيراً في القطاع الخيري في دمشق.

الشيخ عبد الكريم الرفاعي (1904-73)
  الشيخ عبد الكريم الرفاعي (1904-73)

وقد أطلق عام 2002 مشروع حفظ النعمة، والذي اتخذ مقاربة مشابهة لحملات الداعية المصري عمرو خالد في جمع كل ما يزيد عن الحاجة من طعام ودواء وملابس ومفروشات وكتب [48]. يومياً، كان أسطول حفظ النعمة من الشاحنات الصغيرة يجوب المدينة حاملاً الوجبات الغذائية، وكان عشرات من الفقراء يتجمعون أمام مركز التوزيع التابع للجمعية [49]. وحسب سارية الرفاعي، الذي لا يضيع فرصة للتسويق لمشروعه من على منبره، فإن حفظ النعمة تساعد الآن أكثر من 6.000 عائلة –وهذا يتعدى بكثير ما تقدمه أية جمعية تقليدية[22] (neighborhood association) من جمعيات الأحياء [50].

إن قدرة مؤسسة الرفاعي على تحمل حجم كبير من العمل يمكن أن يفسر السبب وراء اختيار وزارة الأوقاف لها لتأمين الطعام، خلال شهر رمضان لعام 2006، لمائدة الإفطار الرسمية في الجامع الأموي والتي كان يأمها وسطياً 10.000 شخص في اليوم [51]. وكذلك فقد لعبت جمعية حفظ النعمة دوراً ريادياً في مساعدة عشرات الآلاف من اللاجئين اللبنانيين، الذين تدفقوا إلى دمشق أثناء حرب تموز من عام 2006، حين كانت تقدم حوالي 20.000 وجبة فردية يومياً [52].

وبالإضافة إلى حفظ النعمة، فإن جماعة زيد تابعت إدارة وتوسيع شبكة من الجمعيات المحلية كان عبد الكريم الرفاعي قد أسسها في الخمسينات. بالرغم من أن الشبكة الخيرية لجماعة زيد نشأت تاريخياً في الأحياء الدمشقية التقليدية وفي الحزام الأول من أحياء الطبقة الوسطى والبرجوازية الحديثة الإنشاء[23]، فإن هذه الشبكة استطاعت أن تتوسع إلى أحياء طرفية تقطنها الطبقة العاملة. ففي عام 2006 مثلاً تم تدشين جمعية الصحة في حرستا شرقي دمشق بحضور الشخصيات القيادية الثلاثة في جماعة زيد–سارية الرفاعي،  وأخوه الأكبر أسامة، ونعيم العرقسوسي السابق الذكر. وقد حضر حفل التدشين رجال أعمال بارزون كان بينهم رئيس غرفة تجارة ريف دمشق [53].

الشيخ أسامة الرفاعي
الشيخ أسامة الرفاعي

  بالإضافة إلى المشاريع التي تديرها مباشرة مثل حفظ النعمة، فإن الإمبراطورية الخيرية لجماعة زيد تقوم على سيطرتها على اتحاد الجمعيات الخيرية في دمشق. في عام 1957 أنشأ بعض العلماء المسلمين والتجار هذا الاتحاد لتمثيل والتنسيق بين الجمعيات الخيرية في المدينة [54]. ودائماً كانت منظمات إسلامية تسيطر على الاتحاد، وكانت جمعيات مرتبطة بجماعة زيد تمارس تأثيراً قوياً بسبب عددها وقدرتها على جمع التبرعات. وبعد اعتماد الحكومة مقاربة رفع اليد بوقت قصير سيطرت جماعة زيد بالكامل على اتحاد الجمعيات الخيرية في دمشق. ففي الانتخابات العامة لمجلس إدارة الاتحاد عام 2006 فازت أغلبية من رجال الأعمال المرتبطين بجماعة زيد. بالإضافة إلى رئيس الاتحاد عمر مخللاتي، ونائب الرئيس عمر سيروان، وامين السر صفوح السمان، ثلاثة من المنتمين النمطيين لطبقة أعلى الوسط من التجار [55]، كان العديد من مدراء الاتحاد ذوو علاقة وثيقة بالجماعة. وإنه لذو دلالة أن ينقل الاتحاد مقره الرئيسي عقب الانتخابات إلى جوار جامع زيد بن ثابت التابع للرفاعي، في بناء يتقاسمه الاتحاد مع مكاتب مشروع حفظ النعمة.   مع نهاية التسعينات أطلق اتحاد الجمعيات الخيرية في دمشق مشاريعه الكبيرة الخاصة به التي يديرها بنفسه –صندوق العافية، عام 1997، الذي كان يغطي تكاليف العمليات الجراحية؛ وصندوق المودة والرحمة، عام 1999، الذي كان يتكفل بالزيجات. بين عام 1997 وحزيران من عام 2007 جمع الأول 953 مليون ل.س. (حوالي 21 مليون دولار)، مما مكنه من تمويل 60.000 عملية جراحية لـ 29.823 شخصاً؛ وجمع الثاني 75 مليون ل.س. (1,6 مليون دولار) لتزويج ألفي زوج من الشباب [56]. في عام 2005 أطلق الاتحاد أيضاً مشروعاً لبناء مستشفى كبير يتم بناؤه الآن قرب جسر الميدان في القسم الجنوبي من دمشق.

لم تنتشر جماعة زيد كشبكة دينية إلى أي من المدن السورية الكبرى الأخرى، وذلك بسبب العوائق السياسية التي يفرضها النظام، وأيضاً، وبنفس الأهمية، بسبب قوة الهويات المحلية بين رجال الدين السوريين [57]. لكن تم تصدير المشاريع الخيرية لجماعة زيد وكذلك مشاريع اتحاد الجمعيات الخيرية بدمشق “كتراخيص”[24] (franchises) خارج العاصمة. فعلى سبيل المثال تدير مشروع حفظ النعمة في حماة الجمعية الخيرية للرعاية الاجتماعية الحموية، بينما يرعى المفتي العام للجمهورية أحمد حسون مشروع صندوق العافية في حلب [58].

وبينما يعتبر تمويل الرعاية الصحية فعالية مشتركة بين الجمعيات الخيرية حول العالم، إلا أن مساعدة الشباب على الزواج قد يبدو غريباً للقراء الغربيين. في الحقيقة فإن المنطق وراء هذه الفعالية يتعدى مبادئ المساعدة الإنسانية، إذ له بعد أخلاقي-ديني، كما يدل عليه اسم المشروع المستوحى من القرآن. ففي نظر هذا المجتمع المحافظ، فإن الصعوبات الاقتصادية التي تؤخر الزواج تجعل الشباب عرضة للفساد الأخلاقي بصورة ممارسة الجنس قبل الزواج. وبناءً على هذا فإن تأمين المقدرة المالية التي تمكن الشباب من بناء بيت وتأسيس أسرة  يُعتبر من أعمال التقوى [59]. ويشرح منشور تم توزيعه في المساجد للدعاية لصندوق المودة والرحمة أن هدف المشروع هو “بناء أسر مؤمنة وحماية الشباب والشابات … من خلال تخليصهم من مشاكلهم النفسية والأخلاقية” [60]. ويردد هذا الخطاب صدى خطاب سارية الرفاعي الذي سأل الحضور أثناء حفل زفاف أحد طلابه أن “يدعوا الله أن يعطي لكل شاب زوجة مؤمنة وزوجاً مؤمناً لكل شابة حتى يختفي الفساد من على وجه الأرض” [61].

وتبعاً للنمط الزبائني (المحسوبية، م)، فمن الطبيعي أن يكون للأشخاص ذوي العلاقة مع الشخصيات الدينية والتجارية التي تشكل العمود الفقري لمشاريع جماعة زيد حظوة وأولوية حين يطلبون مساعدة مالية. يعتمد مشروع حفظ النعمة على قائمة المستفيدين في كل من جمعيات الأحياء الأربعين الموجودة على الساحة. ويعمل المشروع، كما يفعل اتحاد الجمعيات الخيرية في دمشق، على “التأكد من صحة احتياجاتهم، إما من خلال طلب تقدمه جمعية الحي الأقرب إلى مكان سكن المستفيدين، أو من خلال معرفة سابقة مع شخصيات تجارية معروفة أو مع أحد أعضاء مجلس الأمناء”. وبالمثل، فإن على الشباب الذين يطلبون منحاً للزواج أن يقدموا شهادة حسن سلوك موقعة من “أحد العلماء أو الوجهاء” [62]. ومن المثير للاهتمام أن السياسة الرسمية لمشروع إعفاف، وهو مشروم مشابه لحفظ النعمة أطلقته في عام 2005 جمعية دار الإيمان [63]، تعطي أولوية “لحملة الشهادات الجامعية” [64].

وبينما تستهدف المشاريع الخيرية ذات الاتجاه التوزيعي الفقراء من الدمشقيين السنة، يبدو أن مبادرات تمويل الزواج  تعطي الأفضلية للخريجين الجامعيين من الطبقة الوسطى، والذين يشكلون الخزان البشري للجماعات الإسلامية الرئيسية في المدينة. وكلتا الحالتين توضحان أن أهمية الأعمال الخيرية الإسلامية كمصادر للضمان الاجتماعي لا يمكن فهمها بشكل مطلق، وذلك لأن عشرات الآلاف من المستفيدين لا يشكلون رقماً ضخماً مقارنة بمشكلة الفقر في سوريا، وإنما يجب فهمها بشكل نسبي، لأن هذه الجمعيات تشكل المصدر الرئيسي وشبه الوحيد للمساعدات الخاصة للفقراء السنة والإنتلجنسيا الرثة[25] (lumpen intelligentsia) في دمشق، أي إلى الفئتين الاجتماعيتين اللتين تُعتبران الخطر الرئيسي على الاستقرار السياسي في العاصمة.

ومع ذلك، وبسبب الضغط السياسي، فإن على الجمعيات الخيرية الدينية أن تساعد أناساً ليسوا في عداد زبائنها التقليديين. وكما وضّح ممثل عن اتحاد الجمعيات الخيرية في دمشق “فإن الوزارة عندما ترسل إلي طلباً، فإني لا أستطيع رفضه ولا حتى أن أنتظر إتمام دراسة حالة الطلب، وذات الشيء يحصل مع العديد من الطلبات الآتية من جهات أفضل أن لا أذكرها” [65]. وعلى الرغم من أن هذه السياسة تُظهر أن الدولة تحاول إعادة نشر ذاتها من خلال منظمات ضمان اجتماعي خاصة، إلا أنه من الخطأ الاعتقاد بأن منظمات جماعة زيد قد أصبحت مجرد “منظمات غير حكومية (NGOs) تنظمها الحكومة”. في الحقيقة، فإن الضغط والرقابة الرسميين لا يستطيعان التعويض عن غياب التحكم الحكومي بالرأسمال الاجتماعي لهذه الجمعيات، وهو الذي يؤمنه العلماء، ولا تستطيع الدولة كذلك أن تفرض الجهة التي يتبرع التجار إليها بأموالهم.

الرأسمال الاجتماعي وتمويل الأعمال الخيرية الإسلامية

ليس من الصعب فهم منطق التعاون بين العلماء ورجال الأعمال، وذلك لأن هؤلاء الشركاء يكمل بعضهم البعض: إذ بينما يؤمّن الأخير الدعم المالي والمهارات الإدارية، يجلب الأول الرأسمال الاجتماعي — أي المكانة الاجتماعية (الاحترام أو البريستيج) والثقة والشبكات. الناتج عن هذا التعاون مفيد للطرفين أيضاً: يربح رجال الأعمال المكانة الاجتماعية والعلاقات، وتربح المؤسسات الدينية زيادة السلطة (power) والمحسوبية (patronage). وقد أعطت حملات الانتخابات التشريعية الأخيرة أمثلة ذات دلالة عن هذه المقايضات (trade-off)؛ لا يُخفي بعض المرشحين حين يتحدثون بصورة غير رسمية الأهمية الاستراتيجية لتبرعاتهم المالية إلى المنظمات الخيرية [66]. ويتلقى رجال أعمال صغار وكبار جوائز رمزية مقابل دعم هذه الجمعيات، فقد يتلقون دعوات للجلوس إلى جانب الشيخ خلال الاحتفالات الدينية، وبشكل عام فهم يحافظون على سمعتهم كمؤمنين أتقياء. التبرعات قد تحسن أيضاً السمعة الملوثة، وخير مثال على ذلك أحد مليونيرات (tycoon) القطاع السياحي الذي تبرع بمبلغ 44 مليون ل.س. (ما يقرب من مليون دولار) إلى حفظ النعمة، رغم أنه “من المعروف”، كما أكد أحد التجار المتدينين، أن هذا الرأسمالي المحسوب على النظام “لا يصلي” [67].

إنه لمن المضلل تفسير التعاون بين العلماء والتجار على أنه تحالف انتهازي صرف. فكما أثبتنا، فإن مفهوم “التحالف” غير مناسب تماماً باعتبار الأصول الاجتماعية المشتركة بين النخبة الدينية الراهنة وطبقة أعلى الوسط التجارية. وغالباً ما يكون بين المشايخ والتجار علاقات قرابة وجوار، بالإضافة إلى العلاقات الروحانية. وبحسب تعابير ي.، وهو مهندس متدين يدير مكتب استيراد وتصدير صغير وداعم لمشاريع جماعة زيد الخيرية، “القيم الرئيسية في المجتمع الدمشقي اثنتان هما كالتالي: أن يكون عندك مال، وأن يكون عندك شيخ” [68].

­ هذه الروابط الدينية الشخصية لها أثر مباشر على تمويل الأعمال الخيرية الإسلامية. فبينما يُضاعِف رجال الأعمال الكبار إلى الحد الأقصى أرباحهم في مجال العلاقات العامة من خلال دعم عدد من الجمعيات الدينية، فإن رجال الأعمال الصغار يتبعون على الأرجح تعليمات شيخهم ويمولون منظمة واحدة. وبالنسبة لهذا الصنف الأخير من المتبرعين، فإن الدين –وليس فقط السمعة– له أهمية. وهذا ما يجعل المكانة الاجتماعية للعلماء المسلمين والكاريزما العوامل المفتاحية في نجاح الأعمال الخيرية الإسلامية.

يمكن للعلماء الأكثر شعبية أن يعتمدوا على العديد من رجال الأعمال الكبار والمتوسطين المخلصين الذين يبلغ إجمالي موارد رساميلهم حدوداً مذهلة، والذين يضمن دعمهم المستمر دخلاً مستقراً واستقلالية سياسية. أحد هؤلاء المشايخ هو راتب النابلسي، الذي أكسبه برنامجه على الراديو ذو الشعبية الهائلة دعماً مالياً واسعاً من القطاع الخاص منذ منتصف العقد الحالي. وبالرغم من أن هذا المال يذهب لمنفعة مشاريع خيرية ممأسسة، لكن تتم أيضاً إعادة توزيع هذا المال بطريقة زبائنية وغير ممأسسة: إذ من المشهور عن هذا الشيخ أنه يوزع مبالغ صغيرة من المال نقداً على الناس بعد دروسه في المسجد [69].

الشيخ راتب النابلسي
  الشيخ راتب النابلسي

إن مثال النابلسي على دعم القطاع الخاص المبني على الشهرة المفاجئة مثال استثنائي. بالنسبة للعلماء المسلمين الآخرين، فإن إمكانية الاعتماد على عدد كبير من رجال الأعمال هي ثمرة عقود من العمل الدعوي الشعبي. هذا العمل الدعوي الصبور هو السبب الأساسي للهيمنة الحالية لجماعة زيد على القطاع الخيري في دمشق. وبالرغم من أن هذا الهيمنة لم تكن ممكنة دون موافقة النظام، فإن السلطات لا تملك إلا القليل من الخيارات. تاريخياً، كانت العلاقة بين دولة البعث وجماعة زيد صعبة، وهذا أقل ما يمكن قوله. لكن حتى المنافسين من القيادات الدينية يقرّون بأن القاعدة الاجتماعية لجماعة زيد والتي تشتمل على شبكة واسعة من أصحاب المحال التجارية ورجال الأعمال المتوسطين لا نظير لها في دمشق، ومثل هذه الشبكة لا يمكن الاستغناء عنها عند القيام بأي مشروع خيري فعّال على مستوى المدينة.

بالنسبة لجماعة زيد، فإن الدعم المالي من القطاع الخاص المحلي ليس ضرورة فقط، ولكنه أيضاً مصدر افتخار ومسألة عقدية. في الحقيقة، يُروى أن عبد الكريم الرفاعي طلب قبل وفاته من خلفائه أن يضمنوا استقلالية الجماعة بأن يرفضوا أي تمويل من الدولة أو من طرف خارجي وأن يقبلوا تبرعات من تجار سوريين فقط [70]. وقد عمل الرفاعي خلال حياته بلا كلل على وضع هذه الاستقلالية الاقتصادية على أسس صلبة.

إن مشايخ فترة النهضة لم يؤسسوا جمعيات ومدارس رسمية فقط، بل أسسوا بنيات غير مؤسساتية (جماعات) تشكل قاعدة قوتهم غير المنظورة لكن الحقيقية. وكغيرها من الجماعات الأكثر شهرة والتي ظهرت في فترة ما بين الحربين العالميتين في الهند (التبليغ والدعوة) وتركيا (جماعة النور) ومصر (الإخوان المسلمون)، فإن مثيلاتها السورية شابهت في تنظيمها طرق صوفية، وذلك لأن هرميتها اعتمدت على علاقة الأستاذ-التلميذ (أو الشيخ-المريد). لكن هذه الجماعات السورية تميزت عن الطرق التقليدية من خلال شعور واضح بالرسالة الاجتماعية: في زمن يتصاعد فيه التأثير الثقافي الغربي، كانت هذه الجماعات تعمل بجد ونشاط من أجل دعوة هدفها إرجاع المسلمين إلى جادة الإسلام.

في دمشق، كانت جماعات أسسها مشايخ مثل حسن حبنكة وصالح الفرفور مؤلفة في أغلبيتها من علماء لأن هدفها كان تدريب نخب المستقبل الدينية. في المقابل، فإن جماعة عبد الكريم الرفاعي هدفت إلى تزويد المجتمع ككل بتعليم إسلامي سليم، يشمل دروس حفظ القرآن، والعلوم الدينية الأساسية، ونوع من التصوف [71]. كان لجماعة زيد ذات الاتجاه الدعوي العام (lay) جاذبية أوسع بكثير من الجماعات “ذات التوجه التعليمي الخاص للعلماء”[26] (clerical). وقد أسس الرفاعي، من خلال سياسة نشيطة لبناء المساجد بدعم من أتباعه من التجار، أكبر شبكة من دور العبادة في العاصمة. مع حلول السبعينات، كانت هذه الشبكة تغطي الأحياء التقليدية والأحياء الغنية الجديدة. وقد ألهم الشيخ في جميع هذه المساجد حلقات درس متعددة المستويات تتماشى مع حاجات “العاملين” (معظمهم من التجار) وطلبة العلم (أبناء الطبقات الوسطى التقليدية والجديدة). وقد شجع الشيخ بشدة أتباعه الشباب على الانخراط في التعليم العالي العصري حتى يكونوا كأطباء ومهندسين نموذجاً يحتذى به من الإيمان في مجتمع يهدده “الإلحاد” [72].

لا يختلف الحال كثيراً هذه الايام. إذ رغم أن القسم الأعظم من أتباع جماعة زيد هم من الشباب المتعلم من الطبقة الوسطى، إلا أن دروساً خاصة لا تزال تُنظم من أجل التجار. فالشيخ أسامة الرفاعي (الابن الأكبر لعبد الكريم الرفاعي) يعطي كل يوم بعد صلاة الفجر درساً في قبو مسجده، هذا القبو الذي أعيد ترتيبه على شكل قاعة درس جامعية. ويجذب هذا الدرس، الذي يقتصر على النخبة من أتباع جماعة زيد، حوالي 200 شخصاً، معظمهم من مشايخ الجماعة والتجار المخلصين [73]. يمكن أن نعطي أمثلة مشابهة على التواصل اليومي والحميمي بين قيادات جماعة زيد والأتباع المخلصين المؤمنين (والأغنياء) عن كل مسجد تديره الجماعة، وهذا يشمل طيفاً واسعاً، من دروس فقه المعاملات التجارية إلى محاضرات عن البنوك الإسلامية.

ويوضح المولد الذي نظمه تجار من سوق باب سريجة في أوائل نيسان عام 2007 العلاقة التكافلية بين جماعة زيد والقطاع الخاص. كان باب سريجة، الواقع قرب مسجد زيد بن ثابت، المعقل الأول لجماعة عبد الكريم الرفاعي في الخمسينات. وقد جرى الاحتفال في شارع تضيئه أضواء حالمة وتغطيه اللافتات والرايات التي تمدح الرسول. مئات من أصحاب المحال التجارية المحليين جلسوا على كراس بلاستيكية يتفرجون على المنشدين على المنصة وعلى رقص المولوية أمامها. ووقف الشيخ سارية الرفاعي في بقعة الضوء يلقي خطاباً على الحضور مادحاً القيم الأخلاقية “للتاجر المسلم”، وهو موضوع يتكرر كثيراً في خطابه:

“يا أهل هذا الحي! يا تجار هذا الحي! … لقد غرس الله في قلوبكم حب الأشياء، حتى تحبوا المال والعمل والاعتناء بأسركم. من ناحية أخرى، إذا زهدتم بهذه الدنيا، إذا تركتم العمل، إذا تركتم حب المال، إذا بقيتم في المسجد، فهل تظنون بأنكم ستُؤجرون على ذلك؟ … أبداً، يا إخواني! في الحقيقة، إنكم حين تعملون في السوق فإنكم تعبدون الله، شرط أن تلتزموا بضوابط الشريعة” [64].

تقترح ملاحظاتنا الميدانية أن الدور الخيري المتنامي لجماعة زيد لا يغيّر السمة البرجوازية الوسطى البارزة لأتباعها. وهذا لا يثير الاستغراب: فكما وصفتها جانين كلارك بدقة، فإن الأعمال الخيرية شأن وجودي للطبقة الوسطى أكثر منها وسيلة لضم الفقراء إلى الحركة الإسلامية. في أحسن الأحوال، قد تكون جمعية حفظ النعمة ومثيلاتها قد وسعت زبائن جماعة زيد من الطبقة العاملة، لكن مشايخ زيد بعيدون جداً عن التحول إلى وعّاظ شعبويين (populist). ويسخر سارية الرفاعي، مدفوعاً ربما بحرصه على رأي الداعمين له من التجار، في أحيان كثيرة من “المنتفعين” من بين متسولي المدينة ويعِد بأن يستبدل بالأعمال الخيرية القائمة على التوزيع منظومة قائمة على (workfare) “الضمان من خلال العمل” [75].

إن شعبية زيد بين الدمشقيين السنة المحافظين بعد سياسي، وذلك لأن قادة زيد يحافظون في نظر الجمهور على مسافة آمنة من النظام. لكن منذ بداية العشرية الراهنة، أخذت السلطات تحاول استرضاء الجماعة بأن تركتها تعمل بحرية في مجالات كثيرة ليس أقلها في عالم الأعمال الخيرية. وقد أصبحت، نتيجة لذلك، تصرفات جماعة زيد السياسية غامضة بعض الشيء.

علاقات غامضة مع النظام

انخرطت جماعة زيد خلال السنوات القليلة الماضية في توازنات حرجة. ففي الوقت الذي تحلحلت فيه العوائق السياسية والإدارية، صار من اللازم على الجماعة أن تحافظ على سمعتها كمعارضة للنظام القائم، والتي راكمتها خلال تاريخ عاصف. ليس الفرق بين جماعة زيد والجماعات الموالية للنظام مثل الكفتارية مسألة عقدية، لأن الجماعتين كلتيهما تنتميان إلى الإسلام السوري التقليدي الذي تحدد معالمه المدرسة الأشعرية في العقيدة،  والاقتداء بواحد من مذاهب الفقه السني الأربعة (الشافعية في هذه الحالة)، والتصوف. إنها في الحقيقة مسألة موقف سياسي وسجلّ تاريخي، فوق أي شيء آخر.

منذ نشوئها في الخمسينات، تصرّف التنظيم الموسوم بسمات الطبقة الوسطى لجماعة زيد دائماً كحركة اجتماعية مكرَّسة للتعليم بدلاً من العمل السياسي المباشر، وهي مقاربة مشابهة لتلك التي اعتمدتها جماعة النور التركية [76]. لكنها أبدت دائماً وعياً واضحاً (واهتماماً) بأفكار المفكرين الإسلاميين المعاصرين مثل مصطفى السباعي، القائد الأول لجماعة الإخوان المسلمين السورية، وأبو الأعلى المودودي، مؤسس الجماعة الإسلامية الباكستانية [77].

أثناء الصحوة الإسلامية في السبعينات، كانت جماعة زيد في موقع جيد مكّنها من استقطاب بعض أتباع جماعة الإخوان المسلمين المحظورة،  وذلك بسبب شبكة مساجدها الواسعة وتركيزها على الشباب المتعلم من الطبقة الوسطى السورية. وبالرغم من وفاة الرفاعي عام 1973، أصبحت الجماعة أكبر التنظيمات الدينية في المدينة في الوقت الذي بدأ فيه، مع اقتراب نهاية العقد، المقاتلون الإسلاميون صدامهم مع أجهزة الأمن. ومع أن قيادات زيد امتنعت عن اتخاذ موقف في الصراع الدائر، إلا أن الجماعات المسلحة تمكنت من توظيف بعض أعضاء جماعة زيد الشباب العارفين بأمورها. وهذا ما أجبر لاحقاً الشخصيات القيادية في الجماعة، بمن فيهم ابنا الرفاعي، أسامة وسارية، على الالتجاء إلى العربية السعودية. ومنذ عام 1981 وإلى أواسط التسعينات، تجمدت فعاليات جماعة زيد بشكل شبه كامل. ورغم ذلك فقد بقيت الشبكة على قيد الحياة في دمشق بجهود قياديين قدامى أو من الصف الثاني كان النظام قد سمح لهم بالبقاء.

وفي منتصف التسعينات عاد ابناء الرفاعي مع عدد من العلماء اللاجئين الآخرين، وذلك ضمن سياق من تخفيف الضغط السياسي المحدود [78]. استعادت الجماعة قوتها ببطء، ومع بداية العقد الراهن، بدأ نظام ما بعد التوريث إعطاءها حرية الحركة، وذلك من أجل توسيع دائرة تأييد النظام بين قطاعات كبيرة من البرجوازية المؤمنة وحلقات العلماء في العاصمة بشكل يتعدى حدود الحلفاء التقليديين مثل شبكة كفتارو وسعيد رمضان البوطي.

في عام 2002، قام بشار الأسد بزيارة شخصية إلى الشيخ أسامة الرفاعي، المرجعية الأعلى في جماعة زيد [79]. وقد كانت إيماءة الاحترام هذه مهمة لأن الرئيس عادة ما يقتصر على استقبال العلماء في قصره أو مقابلتهم أثناء احتفالات رسمية. علمياً حصلت جماعة زيد على موافقة وزارة الأوقاف على جمع الأموال عند الخروج من صلاة الجمعة من أجل مشاريعها الخيرية [80]. وحسب الإشاعات، فقد استطاعت جماعة زيد أن تسيطر على مساجد جديدة وأن تغير القائمين عليها، وهي خطوة لا يمكن تنفيذها إلا بمساعدة السلطات [81]. ونذكر من أفراد جماعة زيد الذين تمكنوا من الوصول إلى مناصب إدارية متوسطة المستوى هيثم الإدلبي، المدير العام لمعاهد الأسد لتحفيظ القرآن، وزياد موصلي، الذي تم تعيينه في عام 2008 مديراً للأوقاف في محافظة ريف دمشق [82].

وإلى اليوم لا تزال آمال الاستقطاب الكامل على النمط الكفتاري في غير محلها، وذلك لأن المزايا التي منحتها الدولة لجماعة زيد لم تنجح بتحويلها إلى ناطق باسم النظام. ولم تمنع نوايا النظام الحسنة الأخوين الرفاعي من أن يتحديا مطلبين أساسيين تطلبهما الدولة من الفواعل الدينية التي تدعمها: أولاً الامتناع عن مهاجمة المنافسين العلمانيين في قطاعات أخرى، وثانياً الإظهار الدائم لعلامات الاحترام للرئيس. في الحقيقة، لم يتوانى أسامة وسارية الرفاعي عن التشهير العلني ببعض الصحفيين ذوي الميول العلمانية العاملين في جريدة الثورة الرسمية، سواءً من على منبرهما أو في صفحات مجلة وزارة الأوقاف [83]. وفي حادثتين رضخت أجهزة الأمن لمطالب أسامة الرفاعي (والبوطي) بأن تتحرك ضد التيار العلماني، وذلك بأن جمعت نسخ كتاب معاد للحجاب من مكتبات البلد في تشرين الثاني من عام 2005، وبأن سحبت رخص جمعيتين نسويتين (feminist) (إحداهما مرتبطة بفرع الحزب الشيوعي الموالي للنظام) في أوائل عام 2007 [84].

بالإضافة إلى ما سبق، لم تتحول علاقة جماعة زيد المتحسنة مع النظام إلى تأييد معلَن. وبقيت مواقف قيادات زيد المعلنة تجاه قيادة الدولة فاترة بعض الشيء. فعلى سبيل المثال، لا يطلب بعض خطباء جماعة زيد من مصلي الجمعة الدعاء “لرئيسنا بشار الأسد”، لكنهم يستخدمون عوضاً عن هذا التعبير تعابير مواربة مثل “أرباب الحقوق علينا”. وفي سياق مماثل، ورغم أن أكاديمية كفتارو نظمت احتفالاً ضخماً بمناسبة إعادة انتخاب الرئيس في أيار من عام 2007، اعتمد قيادات زيد موقفاً أقل بروزاً أثناء حملة “نعم”. فعلى جانب مسجد زيد حملت لافتة خجولة شعار “نعم للمشجع الأول للعمل الخيري”. أما أسامة الرفاعي فقد ربط ودون مواربة بين شرعية القيادة الوطنية وبين احتضانها لأجندة إسلامية. وقال أثناء مولد حضره بضعة آلاف من الناس ما يلي:

“يجب أن أنبه القادة في بلدنا … إلى أن سلطتهم … تنبع من الأمة. وبما أن هذه الأمة قد عادت إلى دينها … فلا خيار آخر لهؤلاء القادة إلا أن يعكسوا رغبة شعبهم وأن يرفعوا راية الإسلام. إن وضعهم يعتمد على عودتهم إلى الله … وإلى رغبة هذه الأمة … فإذا لم يعكسوا هذه الرغبة، فإنهم سيفقدون مصداقيتهم، وسيفقدون في النهاية كل شيء في هذه الدنيا … وسيستبدل الله بهم قوماً خيراً منهم” [85].

خاتمة

في آب من عام 2008، أعلن محمد عبد الستار السيد، وزير الأوقاف الذي تم تعيينه مؤخراً، نهاية “فترة الفوضى،” ملمحاً إلى منعطف سلطوي في سياسة النظام الدينية. وقد عززت التدابير المتوقعة من سلطة الدولة على التعليم الإسلامي في البلد، واستهدفت فعاليات خيرية بأن حظرت على المساجد إقامة موائد الرحمن (موائد إفطار مفتوحة تقدم الطعام للفقراء) [86].

موائد الرحمن في جامع الاموي / دمشق
موائد الرحمن في جامع الاموي / دمشق

في 27 أيلول، أعطى تفجير سيارة مفخخة في إحدى ضواحي دمشق أدى إلى مقتل سبعة عشر شخصاً التبرير للوزارة لتوسع من نطاق خطتها من خلال فرض تسلط وزاري كامل على معاهد الشريعة الخاصة ومن خلال إقالة العلماء المسلمين، ومن ضمنهم سارية وأسامة الرفاعي، من مجالس إدارة الجمعيات الخيرية. وقد اختارت السلطات بدائل لهم من قوائم تحمل كل منها أسماء ثلاثة مرشحين كان على كل عالم طالته الإقالة أن يقدمها [87]. ورغم أن الرئيس استقبل وفداً من علماء المسلمين استنكر هذه الإجراءات، بدا من الواضح أن القرار “الوزاري” جاء في الحقيقة من مكتب الأمن القومي لحزب البعث، وكان بالتالي لا رجعة فيه تقريباً.

على الرغم من أن أسباب هذا التغير المفاجئ في طرف النظام ليست واضحة، إلا أن تحسن الوضع الدولي لسوريا عام 2008 سهّل هذا التغير، ونخص بالذكر زيارة بشار الأسد الرسمية إلى باريس في تموز، التي تزامنت مع استيلاء حزب الله عسكرياً على بيروت الغربية في أيار، ونذكر كذلك مؤشرات تدل على استئناف وشيك للحوار مع الولايات المتحدة. ويبدو النظام، مستنداً إلى التقدم الذي حققه على الساحة الدولية، وكأنه يستشعر ما يكفي من القوى ليسحب بعض التنازلات السابقة التي أعطاها للعلماء، مبرهناً بذلك على أن النظام لم يكن يوماً مرتاحاً للدور المتنامي للعلماء المسلمين في قطاع الضمان الاجتماعي الخاص. لكن السماح للعلماء المبعَدين بأن يقترحوا أسماء بدائلهم، يشير إلى أن السلطات لا تزال حريصة على أن لا تُلحق ضرراً لا يمكن إصلاحه بالرأسمال الرمزي الذي تحتاجه الجمعيات الخيرية لتجمع الأموال. فقط المستقبل سيكشف فيما إذا كان القطاع الخاص لن يزال مستعداً للتبرع إلى الجمعيات الخيرية في المستقبل كما كان في الماضي القريب.

استنتاجغالباً ما يُوصف النظام السوري وكأنه قوة طاغية تتلاعب بالفواعل الاجتماعية المنصاعة لها وتقمع الفواعل المتململة. على العكس، فإن مقالتنا تُظهر أن القيادة البعثية، في سعيها لتكريس نفسها، تستجّر مساعدة شركاء داخليين اختارتهم مكرهة لا راغبة.

هذا النظام، الذي يئن تحت وطأة التضخم السكاني وفشل البنية الاقتصادية، قد غض الطرف عن توسع قطاع الضمان الاجتماعي الخاص منذ أواخر التسعينات. بالتوازي مع عملية التغيير هذه، فإن سعي الدولة وراء المشروعية الداخلية أدى بها إلى تحسين علاقاتها مع بعض القوى الدينية الأكثر شعبية، والتي استهدفها قمع الدولة في أوائل الثمانينات. إن اجتماع هاتين الديناميكيتين أدى إلى سيطرة جماعة زيد على الفعاليات الخيرية الأكثر قوة في دمشق. ورغم خلفية علاقاتها المتوترة مع الدولة ورغم استمرار مواقف قياداتها المعادية، فقد تركت سطوة جماعة زيد التي لا نظير لها على البرجوازية الدمشقية المؤمنة أصحاب القرار دون بدائل ذات مصداقية في قطاع الضمان الاجتماعي الخاص. هذا هو التناقض الكائن وراء قبول الحكومة الصاغر “بالإمبراطورية الخيرية” التي تديرها جماعة زيد.

بالرغم من شائعات عن تدخل سياسي في اختيار المستفيدين من الجمعيات الخيرية، إلا أنه لا يمكن النظر إلى توسع الفعاليات الخيرية لجماعة زيد على أنه امتداد ليد الدولة لا غير. بالتأكيد تحاول القيادة السورية استمالة زيد (كما دلت على ذلك الزيارة الرئاسية لأسامة الرفاعي عام 2002)، لكن الجماعة لا تسمح لنفسها بالانجراف بعيداً في ذلك الاتجاه، وهي تستمر بإظهار موقف سياسي مستقل. في الحقيقة، فإن على العلماء المسلمين أن يتصرفوا بحذر عند استغلالهم لامتيازات إدارية وسياسية حصلوا عليها مقابل إسهاماتهم في تحقيق الاستقرار الاجتماعي، وذلك من أجل أن يتفادوا الظهور بمظهر “المستلقي” مع النظام –وهاذان هما القيدان المتناقضان اللذان حددناهما كأسباب لمواقف زيد السياسية الغامضة. وعلى الرغم من ذلك، استمرت إدارة الدولة بتقديم التسهيلات لفعاليات جماعة زيد الخيرية خلال الجزء الأكبر من العقد الأخير، وهو ما نعتبره تشجيعاً فعلياً للنفوذ المتزايد لأحد الفواعل الدينية المستقلة.

واعتماداً على محاكمتنا، كان تشديد سياسة الحكومة في تشرين الأول من عام 2008 محدوداً، وذلك لأن النظام سمح للعلماء المبعَدين من مجالس إدارة الجمعيات الخيرية باقتراح بدائلهم، مما مكنهم من المحافظة على سيطرة غير مباشرة على هذه الجمعيات. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن المنظمات المرتبطة بزيد والتي يقودها رجال أعمال مثل اتحاد الجمعيات الخيرية في دمشق لم تتأثر بهذه الإجراءات.

يستخدم الباحثون عادة القدرة على توفير خدمات ضمان اجتماعي فعّالة ليفسروا شعبية الحركات الإسلامية. في هذه المقالة، قلبنا هذه الحجة على رأسها، وذلك بأن اقترحنا النظر إلى أتباع جماعة زيد على أنهم مصدر نجاحها في مجال النشاطات الخيرية وليس على أنهم نتيجة هذه النشاطات. إن اتساع جمهور زيد ضمن الطبقة الوسطى ينبع من تصوّر (conception) الجماعة لمفهوم الدعوة.

في الوقت الذي ركزت فيه المؤسسات الدينية الأخرى على تدريب علماء المستقبل، استهدفت جماعة زيد الناس من غير ذوي الميول المشيخية (laypeople) واهتمت بالتعليم العام. خلال عقود من بناء المساجد والدعوة الصبورة على المستويات الشعبية (grassroots proselytizing)، تمكنت الجماعة من بناء قاعدة اجتماعية فريدة من نوعها في دمشق. ودون هذه القسم المخفي من نشاطات زيد (الجهد اليومي في الدعوة)، لا يمكن أن نتخيل في سوريا القسم الأكثر ظهوراً (التوسع السريع في النشاطات الخيرية).

هناك إذن حدود لاستراتيجية “التحديث السلطوي” في سوريا. لا يملك نظام البعث في سوريا الموارد المادية والرمزية التي قد تجعل تطوير قطاع الضمان الاجتماعي الخاص خالياً من المخاطر السياسية، أي ذلك النوع من التطوير الذي يسمح بتسلط مباشر للدولة على الديناميكيات الاجتماعية التي تحكم الأعمال الخيرية. إن مصار تمويل القطاع الخاص الأكثر وثوقاً (most reliable) هم رجال الأعمال الصغار والمتوسطين وغير الموالين للنظام (non-crony entrepreneurs). يتبرع رجال الأعمال هؤلاء بأموالهم بشكل رئيسي إلى العلماء المسلمين، الذين تنبع شعبيتهم من موقفهم السياسي المستقل، بالإضافة إلى أسباب دينية بحتة. بكلمات أخرى، فإن الفواعل الذين يوفرون الضمان الاجتماعي الخاص الأكثر فاعلية هم بالضبط أولئك الفواعل الخاضعين لأقل تسلط سياسي من الحكومة.

إن تطوير قطاع الضمان الاجتماعي الخاص سيقوي وضع قيادات الجمعيات الخيرية تجاه الدولة، شرط أن يأخذ هؤلاء القادة – كما في حالة جماعة زيد- تمويلهم من قاعدة شعبية واسعة تحدّ من إمكانية تحويلهم إلى أدوات من قبل النظام. لكن الأثر الأوسع لهذه العملية ملتبس بعض الشيء: إنها تدعم استقرار النظام السلطوي السوري المقلقل من خلال التخفيف من مشكلة مشروعيته الدينية، وأيضاً من خلال امتصاص توترات مرتبطة بالفقر عند فئة اجتماعية حرجة من الناحية السياسية، لكنها تُدخل عناصر لا يمكن الاعتماد عليها في تحالف النخبة الموالية للدولة.

إن صعود جماعة زيد لا يعني بأن الدولة السورية “تتحول إلى إسلامية” أو أن تغييراً هاماً في ميزان القوى قادم. إن هذا الصعود يشير بكل بساطة إلى أن النظام قد وسع دائرة المؤيدين له لتشمل قوة دينية تسمح لها قاعدتها الشعبية والاقتصادية الواسعة بأن تتعامل مع السلطات على أرضية شراكة بدلاً من علاقة راعي-زبون.

هوامش

[1] لقب “حاج” يُعطى نظرياً لشخص أدى فريضة الحج إلى مكة. في سوريا، بما أن هذا اللقب ُيستخدم للتأكيد على الإيمان والتقوى بشكل فضفاض، فإنه عادة ما يطلق على التجار. [2] من ملاحظات الكاتبين، 27 نيسان، 2007.
[3] للاطلاع على تاريخ للجمعيات السورية منذ الانتداب الفرنسي، أنظر سكينة بوخيمة، “الحركة الجمعياتية في سوريا،” في السلطة والجمعيات في العالم العربي، تحرير سارة بن نفيسة (باريس: طبعة المركز القومي للبحث العلمي، 2002)، صص. 77-94.

Soukaina Boukhaima, “Le mouvement associatif en Syrie,” in Pouvoirs et associations dans le monde arabe, ed. Sarah Ben Nefissa (Paris: CNRS édition, 2002), 77–94.

فيما يخص المنظمات السورية غير الحكومية (NGOs) في أوائل الـ 2000، أنظر ماتيو لو سو، “الديناميكيات المتناقضة للفضاء الجمعياتي السوري،” مجلة العالم الإسلامي ومنطقة البحر المتوسط 115-16 (2006): صص 193-209.

Mathieu Le Saux, “Les dynamiques contradictoires du champ associatif syrien,” Revue du monde musulman et de la Méditerraneée 115–16 (2006): 193–209.

فيما يخص الأعمال الحديثة عن الأعمال الخيرية الإسلامية، أنظر “الصراع والتنمية،” مجلة المعهد الدولي لدراسة الإسلام في العالم الحديث 20 (2007): صص 4-19.

“Conflict and Development,” ISIM Review 20 (2007): 4–19.

[4] فيما يخص كفتارو، أنظر أنابل بوتشر، الدين السياسي السوري في عهد الأسد (فرايبورغ إيم برايسغاو، ألمانيا: معهد أرنولد بيرغشتريسر، 1998).

Annabelle Böttcher, Syrische Religionspolitik unter Asad (Freiburg im Breisgau, Germany: Arnold-Bergstraesser-Institut, 1998).

فيما يخص الفترة ما بعد 1997، أنظر لايف ستنبيرغ، “أن تكون شاباً وذكراً ومسلماً صوفياً في مدينة دمشق،” في الشباب وثقافة الشباب في الشرق الأوسط المعاصر، تحرير يورغن بك سيمونسن (آروس، الدنمارك: دار نشر جامعة آروس، 2005)، صص 68-91.

Leif Stenberg, “Young, Male and Sufi Muslim in the City of Damascus,” in Youth and Youth Culture in the Contemporary Middle East, ed. Jørgen Bæck Simonsen (Aarhus, Denmark: Aarhus University Press, 2005), 68–91. [5]

بونوا شالاند، “نهضة المنظمات الخيرية؟ توفير الخدمات الصحية وسياسة الإعانة في فلسطين،” المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط 40 (2008): صص 227-47.

Benoît Challand, “A Nahda of Charitable Organizations? Health Service Provision and the Politics of Aid in Palestine,” International Journal of Middle East Studies 40 (2008): 227–47. [6]

أنظر مثلاً، سامي زبيدة، “الإسلام، الدولة والديمقراطية: تصورات متناقضة عن المجتمع في مصر،” تقرير الشرق الأوسط 179 (1992): 2-10.

Sami Zubaida, “Islam, the State and Democracy: Contrasting Conceptions of Society in Egypt,” Middle East Report 179 (1992): 2–10. [7]

جانين كلارك، الإسلام، العمل الخيري والنشاط السياسي: شبكات الطبقة الوسطى والضمان الاجتماعي في مصر، الأردن، واليمن (بلومينغتن، إنديانا: دار نشر جامعة إنديانا، 2004).

Janine A. Clark, Islam, Charity and Activism: Middle-Class Networks and Social Welfare in Egypt, Jordan, and Yemen (Bloomington, Ind.: Indiana University Press, 2004).

أنظر أيضاً، إيمان فرج، الإيمان والمصلحة: خواطر عن جمعيتين إسلاميتين (القاهرة: مركز الدرسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية، 1992).

Iman Farag, Croyance et intérêt: Réflexion sur deux associations islamiques (Cairo: CEDEJ, 1992). [8]

أنظر بياتريس هيبو، خصخصة الدولة (لندن: هيرست، 2004)، صص 38-39؛

Béatrice Hibou, Privatising the State (London: Hurst, 2004), 38–39;

تشارلز تريب، “الدولة والنخبة و’إدارة التغيير‘،” في الدولة والتغيير العالمي: الاقتصاد السياسي الانتقالي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تحرير حسن حكيميان وزيبا موشاور (لندن: كورزون، 2001)، صص 211-31.

Charles Tripp, “State, Elites and the ‘Management of Change,’” in The State and Global Change: The Political Economy of Transition in the Middle East and North Africa, ed. Hasan Hakimian and Ziba Moshaver (London: Curzon, 2001), 211–31.

[9] ستيفن هايدمان، تحديث السلطوية في العالم العربي، أوراق مركز سابان التحليلية 13 (واشنطن، دي سي: بروكينغز، 2007)، ص 7.

Steven Heydemann, Upgrading Authoritarianism in the Arab World, Saban Center Analysis Paper 13 (Washington, D.C.: Brookings, 2007), VII.

[10] أميلي لو رينار، “الفقر والعمل الخيري في العربية السعودية: العائلة المالكة وقطاع الأعمال ودولة الرفاه،” مجلة الانتقاد العالمي 41 (2008): صص 137-56.

Amélie Le Renard, “Pauvreté et charité en Arabie Saoudite: La famille royale, le secteur des affaires et l’État-Providence,’” Critique internationale 41 (2008): 137–56.

[11] دانيلا بيوبي، من الجمعية الخيرية الإسلامية إلى دولة الضمان الاجتماعي وبالعكس: حالة إعادة إحياء الأوقاف في مصر، معهد الجامعة الأوروبية أوراق مركز روبرت شومان للدراسات المتقدمة 32 (فلورنس: معهد الجامعة الأوروبية، 2004).

Daniela Pioppi, From Religious Charity to the Welfare State and Back: The Case of Islamic Endowments (waqfs) Revival in Egypt, EUI Working Papers RSCAS 32 (Florence: EUI, 2004).

[12] هايدمان، تحديث السلطوية، ص 8؛ لو سو، “الديناميكيات المتناقضة،” ص 197.

[13] تخصص وزارة لشؤون الاجتماعية منحة سنوية بمقدار 20.000 ل.س. (حوالي 400 دولار) تمنحها إلى كل جمعية خيرية. بثينة عواد، “هل تريد الحكومة أن تتخلص من فقرائها؟”، أبيض وأسود 225 (أيار، 2007): صص 2-4.

[14] واحدة من الاستثناءات النادرة هي أكاديمية كفتارو الموالية للنظام، والتي تتلقى دعماً رسمياً من الإمارات العربية المتحدة والكويت. أنظر الثورة، 2 شباط 2007، انظر الرابط( تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008) (رابط غير موجود، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م) .

[15] جيل كيبيل، الجهاد: درب الإسلام السياسي (كامبريدج، ماساتشوست: دار نشر جامعة هارفارد، 2002).

Gilles Kepel, Jihad: The Trail of Political Islam (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 2002).

[16] إن  جذور نقص الشرعية هذا شديدة التعقيد ولا يمكن مناقشتها هنا، لكن طبيعة النظام السلطوية؛ وأصوله الريفية، والاشتراكية، والعلمانية؛ وطغيان الأقلية العلوية على أعلى مستويات السلطة، كلها عوامل مساهمة.

[17] فيما يخص إيران، أنظر مثلاً أحمد أشرف، “تحالف البازار والمسجد: الأساس الاجتماعي للتمردات والثورات،” المجلة الدولية للسياسة والثقافة والمجتمع 1 (1988): صص 538-67.

Ahmad Ashraf, “Bazaar–Mosque Alliance: The Social Basis of Revolts and Revolutions,” International Journal of Politics, Culture and Society 1 (1988): 538–67.

[18] توماس بيريه، “سياسة المشايخ السنيون في سوريا،” في تفكيك لغز سوريا، تحرير فريد لوسن (لندن: دار الساقي، 2009).

Thomas Pierret, “Sunni Clergy Politics in Syria,” in Demystifying Syria, ed. Fred Lawson (London: Saqi Books, 2009).

[19] محمد حسن الحمصي، الدعاة والدعوة الإسلامية المعاصرة المنطلقة من مساجد دمشق، مجلدان، (دمشق: دار الرشيد، 1991)، 1: صص 263-82.

[20] بوخيمة، “الحركة الجمعياتية،” صص 83-85.

[21] حافظت جماعة الإخوان المسلمين على تأثير هام نسبياً على الأرض من خلال شبكات نصف سرية حتى انتفاضة ض979-82، حين تم القضاء عليها من خلال القمع الدموي للدولة. ورغم أن قيادة الجماعة المتمركزة في لندن لا تزال تشكل العنصر الأهم في المعارضة المهجرة، إلا أن جماعة الإخوان المسلمين لم تعد موجودة كتنظيم على المستوى الداخلي؛ ليس هناك أي تقرير عن تفكيك أية خلية فاعلة لفترة أربعة عقود. منذ التسعينات، معظم النشطاء الإسلاميين المسجونين في سوريا ينتمون إلى حزب التحرير الإسلامي والشبكات الجهادية.

[22] عبد الرحمن حبنكة، الوالد الداعية المربي الشيخ حسن حبنكة الميداني (جدة، العربية السعودية: دار البشائر، 2002)، صص 228-302.

[23] فولكر بيرتيس، الاقتصاد السياسي لسوريا في عهد الأسد (نيويورك: أي بي توريس، 1995)، صص 50-53.

Volker Perthes, The Political Economy of Syria under Asad (New York: I. B. Tauris, 1995), 50–53. [24]

فيليب دروز-فينسنت، الشرق الأوسط: الدولة السلطوية والمجتمعات المحصورة (باريس: دار النشر الجامعي الفرنسي، 2004)، صص 240-43.

Philippe Droz-Vincent, Moyen-Orient: Pouvoirs autoritaires, sociétés bloquées (Paris: PUF, 2004), 240– 43.

[25] حنا بطاطو، فلاحو السوريون: أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأنًا وسياساتهم (برنستون، نيو جيرزي: دار نشر جامعة برينستون، 1999)، صص 271-72.

Hanna Batatu, Syria’s Peasantry, the Descendants of its Lesser Rural Notables, and their Politics (Princeton, N.J.: Princeton University Press, 1999), 271–72.

[26] هانس هوبفنغر و مارك بوكلر، “خطوة إثر خطوة نحو نظام اقتصادي مفتوح: سوريا تبدأ مسيرة اللبرلة،” المجلة البريطانية لدراسات الشرق الأوسط 23 (1996): صص 183-202.

Hans Hopfinger and Marc Boeckler, “Step by Step to an Open Economic System: Syria Sets Course for Liberalization,” British Journal of Middle Eastern Studies 23 (1996): 183–202.

[27] الثورة، 10 حزيران 2005، انظر الرابط ( تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008) (رابط غير موجود، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م) .

[28] من ملاحظات الكاتبين.

[29] من ملاحظات الكاتبين في مساجد دمشقية خلال الاحتفال بمولد النبي، 4 و9 و15 نيسان 2007.

[30] لكن في أيار عام 2008، قررت الحكومة أن تفرض حداً أقصى من الوقود المدعوم لكل عائلة.

[31] برنامج الأمم المتحدة للتنمية، الفقر في سوريا 1996-2004: تشخيص وتوصيات لسياسة منحازة للفقراء (دمشق: برنامج التنمية، 2005).

United Nations Development Programme (UNDP), Poverty in Syria 1996–2004: Diagnosis and Pro-Poor Policy Considerations (Damascus: UNDP, 2005), 12.

[32] سمير عيطة، بروفايل بلد لسوريا: الطريق أمام سوريا (القاهرة: منتدى البحث الاقتصادي، 2006)،2: صص 21-22.

Samir Aita, Syria Country Profile: The Road Ahead for Syria (Cairo: Economic Research Forum, 2006), 2:21–22.

في ربيع 2008 تم رفع الرواتب بنسبة 25 بالمائة. أنظر الثورة، 5 أيار 2008، انظر الرابط) تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008) (رابط غير موجود، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م) .

[33] برنامج الأمم المتحدة للتنمية، الفقر في سوريا، ص 23.

UNDP, Poverty in Syria, 23.

[34] مجموعة أوكسفورد للأعمال، “سوريا: مراجعة لعام 2007،” 15 كانون الثاني 2008،

Oxford  Business Group, “Syria: 2007 Year in Review,” 15 January 2008,

تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008 انظر الرابط (رابط غير موجود، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م) .

[35] الشرق الأوسط، 15 أيلول 2007، انظر الرابط( تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008).

[36] نتوجه بالشكر إلى لورا رويس دي إلفيرا (Laura Ruiz de Elvira) على هذه المعلومة، والتي حصلت عليها من باحث سوري يعمل في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية. ترفض الوزارة أي اطلاع رسمي على سجلاتها المحتوية على الجمعيات المرخصة. الأرقام التقريبية التي تُعطى أحياناً على الإعلام لا تميز بين الجمعيات الخيرية وبن الجمعيات الثقافية والمهنية والرياضية وجمعيات الإسكان.

[37] اتحاد الجمعيات الخيرية بدمشق.

[38] عواد، “هل تريد الحكومة،” ص 4.

[39] نعتبر أية جمعية “مسلمة سنية” بناءاً على واحد على الأقل من المعايير التالية: اسمها يذكر الإسلام، مركزها الرئيسي في مسجد، أو مجلس إدارتها يضم مشايخاً.

[40] الحياة، 5 كانون الثاني 2006، انظر الرابط (تم الاطلاع عليها في 1 شباط  2008). (رابط غير موجود، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م)

[41] سانا، 19 أيار 2008، انظر الرابط (تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008). (رابط غير موجود، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م)

[42] الفداء (حماة)، 6 شباط 2006، انظر الرابط (تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008) (رابط غير مقطوع، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م) .

[43] الموقع الرسمي لمحافظة حماة، 23 تموز 2006، انظر الرابط (تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008). (رابط غير موجود، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م)

[44] جوليان بارنس-داسي، “المغتربون السوريون يعودون بأمل الحصول على ثروة جديدة،” مرآة العلوم المسيحية، 29 كانون الأول 2007،

Julien Barnes-Dacey, “Syrian Expatriates Return Home in Hopes of New Wealth,” The Christian Science Monitor, 29 December 2007,

انظر الرابط (تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008).

[45] اتحاد الجمعيات الخيرية بدمشق، التقرير السنوي لاتحاد الجمعيات الخيرية بدمشق، 2007، ص 11.

[46] مثال عن هذه الجمعيات الخيرية الإسلامية الصغيرة هو جمعية التعاون، والتي كانت في 2007 تعطي معونة شهرية مقدارها وسطياً 1.000 ل.س. لكل من 650 عائلة في حي شارع بغداد (عواد، “هل تريد الحكومة،” ص 2).

[47] وهذه حال جمعية الغيث، التي أطلقها في عام 2004 بعض مريدي رجب ديب، اليد اليمنى لأحمد كفتارو، وجمعية الشهباء، والتي أسسها عام 2005 ممثل حلب الإسلامي في مجلس الشعب النائب عبد العزيز الشامي.

[48] الموقع الرسمي لحفظ النعمة، انظر الرابط (تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008). (رابط غير موجود، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م)

[49] من ملاحظات الكاتبين، دمشق، 2006.

[50] سارية الرفاعي، خطبة الجمعة، جامع زيد بن ثابت، دمشق آذار 2007.

[51] رويترز (العربية)، 4 تشرين الأول 2006، انظر الرابط (تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008) (رابط غير موجود، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م) .

[52] الثورة، 28 تموز 2006، انظر الرابط (تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008) (رابط غير موجود، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016 م) .

[53] الثورة، 19 أيار 2006، انظر الرابط (تم الإطلاع عليها في 1 شباط 2008) (رابط غير موجود، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م) .

[54] الحمصي، الدعاة والدعوة، 1: ص 267.

[55] ثلاثتهم من الصناعيين المتوسطين، أبناء عائلات تجار محلية قديمة. عمر المخللاتي، مصنع ملابس وعضو في غرفة صناعة دمشق، ويدير محلين في أسواق المدينة القديمة. عمر سيروان، أيضاً منخرط في صناعة وتجارة الأقمشة. وهو أخو جمال، أحد أبرز مريدي عبد الكريم الرفاعي، والذي عاش لاجئاً في العربية السعودية منذ عام 1981. صفوح السمان يملك مصنع منتجات حديدية. أما من المدراء الآخرين من أبناء عائلات أعلى الوسط التجارية المعروفة فنذكر مصطفى الحكيم وصفوح النوري.

[56] اتحاد الجمعيات، التقرير السنوي.

[57] من الخمسينات إلى السبعينات، كان لجماعة زيد جماعة شقيقة في حلب هي جماعة أبي ذر، والتي أسسها وقام عليها علماء محليون من عائلة البيانوني.

[58] سانا، 19 أيار 2008، انظر الرابط (تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008)؛ (رابط غير موجود، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م) سانا، 13 تشرين الأول 2005، انظر الرابط (تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008)؛ (رابط غير موجود، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م)؛ فيما يخص صندوق العافية في حمص، أنظر الثورة، 14 آب 2006، انظر الرابط (تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008) (رابط غير موجود، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م).

[59] للاطلاع على تحليل لأسباب مشروع مشابه، أنظر كوينتن فيكتوروفيتش وسها تاجي فاروقي، “المنظمات غير الحكومية والسياسة الإسلامية: دراسة حالة من الأردن،” فصلية العالم الثالث 21 (2000): صص 685-99.

Quintan Wiktorowicz and Suha Taji Farouki, “Islamic NGOs and Muslim Politics: A Case from Jordan,” Third World Quarterly 21 (2000): 685–99. [60]

اتحاد الجمعيات، صندوق المودة والرحمة (دمشق: الاتحاد، 2007)

[61] من ملاحظات الكاتبين، دمشق، 30 آذار 2007.

[62] اتحاد الجمعيات، صندوق المودة والرحمة؛ سلوى الأسطواني، “النعمة … ملاذ فقراء سوريا”، إسلام اونلاين، 8 تموز 2004، انظر الرابط (تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008) (رابط مقطوع، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016 م) .

[63] ليس هناك علاقة واضحة تربط دار الإيمان بأية شبكة إسلامية، لكن مجلس إدارتها يشمل على الأقل أحد التجار المرتبطين بجماعة زيد، أنور جمعة زبادنة.

[64] الإعفاف، “المستفيدون”، (رابط مقطوع، تم الاطلاع عليه في 1 شباط 2008)

[65] عواد، “هل تريد الحكومة،” ص 4.

[66] مقابلات قام بها الكاتبان، دمشق 14، 21 و22 حزيران 2007.

[67] مناقشات مع الكاتبين، 6 أيار 2008.

[68] مناقشات مع الكاتبين، 14 آب 2007.

[69] من ملاحظات الكاتبين، دمشق، تموز 2007.

[70] مقابلة مع أحد العارفين بجماعة زيد، دمشق، 6 أيار 2008.

[71] بدلاً من اتباع أي تقليد صوفي سابق، صنعت جماعة زيد طقوسها الصوفية الخاصة، الفردية والجماعية، وذلك بأن انتقت أوراداً من القرآن والسنة.

[72] صدى زيد، “رأيه في العلوم الكونية وحض طلابه على النبوغ فيها”، 9 نيسان 2008، انظر الرابط (تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008). (رابط مقطوع، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م)

[73] من ملاحظات ومقابلات الكاتبين، دمشق 5 آذار 2007.

[74] من ملاحظات الكاتبين، دمشق، 4 نيسان 2007. [75] سارية الرفاعي، خطبة الجمعة، مسجد زيد بن ثابت، 1 كانون الأول 2006.

[76] خلال فترات الحرية البرلمانية التي سبقت انقلاب 1963، حظّر الرفاعي على أتباعه الترشح للانتخابات لكنه دعم علنياً مرشحين من البرجوازية الوطنية والأحزاب الإسلامية. أنظر صدى زيد، “موقفه من السياسة والسياسيين”، 9 نيسان 2008، انظر الرابط (تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008). (رابط مقطوع، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م)

[77] أنظر مثلاً مديح سارية الرفاعي لمصطفى السباعي في كلنا شركاء، 9 أيلول 2007، انظر الرابط (تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008) (رابط مقطوع، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م) .

[78] ريموند هينبوش، “التنفيس المحسوب كبديل عن التحول الديمقراطي: سوريا،” في اللبرلة السياسة والتحول الديمقراطي في العالم العربي، تحرير بهجت كوراني، ريكس برينن، وبول نوبل (بولدر، كولورادو: دار نشر لين رينر، 1998)، صص 223-40.

Raymond Hinnebusch, “Calculated Decompression as a Substitute for Democratization: Syria,” in Political Liberalization and Democratization in the Arab World, ed. Baghat Korany, Rex Brynen, and Paul Noble (Boulder, Colo.: Lynne Rienner, 1998), 223–40.

[79] مقابلات (الأسماء محذوفة بطلب من أصحابها)، دمشق، آب 2007.

[80] سارية الرفاعي، خطبة جمعة، مسجد زيد بن ثابت، دمشق، 2 آذار 2007، شكل المال الذي تم جمعه في المسجد 40 بالمئة من دخل اتحاد الجمعيات الخيرية بدمشق. أنظر الثورة، 6 كانون الثاني، انظر الرابط (تم الإطلاع عليها في 1 شباط 2008) (رابط غير موجود، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م) .

[81] مقابلات (الأسماء محذوفة بطلب من أصحابها)، دمشق، أيار 2007.

[82] الفتح أونلاين، “الأخبار،” 16 نيسان 2008، انظر الرابط (تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008).

[83] الجمل، 9 تموز 2006، انظر الرابط (تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008)؛ سارية الرفاعي، رسالة من نهج الإسلام إلى الثورة،” نهج الإسلام 107 (2007): صص 20-22.

[84] أخبار الشرق، 11 كانون الثاني و 11 شباط 2007؛ نسوية سورية (الاسم محذوف بطلب من صاحبته)، مقابلة مع الكاتبين، دمشق، 13 أيار 2007.

[85] أسامة الرفاعي، مسجد الشيخ عبد الكريم الرفاعي، دمشق، 31 آذار 2007.

[86] شام برس، 28 آب 2008.

[87] الثورة، 31 تشرين الأول 2008، انظر الرابط (تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008) (رابط غير موجود، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م) ؛ مركز دمشق للدارسات النظرية والحقوق المدنية، 12 تشرين الثاني 2008، انظر الرابط (تم الاطلاع عليها في 1 شباط 2008). (رابط مقطوع، تم الاطلاع عليه في 16 أيلول 2016، م).

هوامش المترجم:

[1] الترجمة باستخدام العامية السورية هي اجتهاد من المترجم، إذ لا نعتقد أن الشيخ تحدث بالفصحى في ذلك السياق (م).

[2] إن مفهوم الضمان الإجتماع (welfare) أساسي في فهم الدول الحديثة، إذ يعبر عن الكيفية التي تتم فيها إعادة توزيع الثروة الوطنية (الخاصة والعامة). عندما يتبرع الأغنياء لجمعيات خيرية تعتني بالمرضى والأرامل وتعين الفقراء فهذا شكل من الضمان الإجتماعي الأهلي. أما الشكل الأكثر ظهوراً والأهم في دراسة الدول الحديثة فهي المؤسسات والبرامج الحكومية التي توزع واردات الدولة (أي الضرائب المباشرة وغير المباشرة والموارد الطبيعية) مثل الضمان الصحي وتعويض البطالة والتأمين على الحياة والسكن المدعوم والقروض الدراسية والمواد الإستهلاكية الأساسية وتأمين فرص العمل والتعليم المجاني. في الدول السلطوية غالياً ما يكون الضمان الإجتماعي وبالتالي توزيع الثروة الوطنية مسيساً حيث تنفق الدولة على شرائح معينة من أجل ضمان ولائها (م).

[3] المصطلح الإنكليزي أمريكي المنشأ ويعني حرفياً “المبادرات المبنية على دوافع إيمانية”. والبناء اللغوي للمصطلح الأمريكي يتقصد عدم ذكر الدين لأن الأعمال الخيرية قد تكون ذات دافع إيماني لكنها ليست من شعائر الدين (كحال الزكاة في الإسلام مثلاً). وكذلك فإن المصطلح يتفادى تسمية دين معين بسبب تعدد الأديان والطوائف في الولايات المتحدة. والمصطلح يندرج في “موضة” ما يسمى “بالإنضباط أو الإحترام السياسي” (political correctness) أي الحرص على استخدام مصطلحات تراعي حساسيات الفئات الإجتماعية والإثنية والدينية والجنسية المتعددة في المجتمع الأمريكي (م).

[4] وليس الإستخدام هنا بالمعنى البعثي المشوش أو بالمعنى الماركسي الصارم، وإنما للإشارة إلى الفئة المدينية من الصناعيين والتجار وملاكي الأراضي (م).

[5] يدعوها الكاتب “حركة زيد”، لكن فضلنا استخدام الإسم المتعارف عليه في سوريا وهو “جماعة زيد”. وربما تعمد الكاتب الإشارة إليها “كحركة” لأنه يعتقد أنها حركة إجتماعية (social movement). لكن ليس في المقالة ما يؤكد ذلك أو يوحي إلى أن التحليل الذي اعتمده الكاتب مبني على مفهوم الحركات الإجتماعية المتعارف عليه في علم الإجتماع (م).

[6] هناك نمط كامل من الأدبيات السوسيولوجية والسياسية الغربية يهتم بالأعمال الخيرية الإسلامية، وذلك بسبب استخدام الإسلاميين (وخاصة الإخوان المسلمين) لهذه الأعمال سياسياً، وبسبب دور بعض الجمعيات الخيرية الإسلامية العالمية في تمويل الإرهاب. فالكاتب هنا يستخدم مصطلحين متعارف عليهما في هذه الأدبيات، يدل الأول على أصالة الأعمال الخيرية الإسلامية في ثقافة المجتمعات المسلمة وانسجامها مع هذه الثقافة رغم استخدامها سياسياً (م).

[7] و”فوق” تعني الدولة هنا، و”الأسفل” يعني المجتمع (م).

[8] ترجمة هذا المصطلح الإنكليزي المعتادة هي “غير رسمي”. لكن المصطلح العربي قد يوحي بالدولة، وليس ذلك هو المقصود وإنما نقص المأسسة.

[9] بنيات السلطة (أو البنيات المشبعة بعلاقات التسلط) مفهوم مهم جداً في الدراسات الاجتماعية الحديثة نبه إليه ميشيل فوكو (Michel Foucault، الذي يمكن إلحاقه بمدرسة ما بعد البنيوية، post-structuralism). وهذا المفهوم مبني على نظرة للمجتمع والعلاقات الاجتماعية ترى في كل مكان أنماطاً أو بنيات اجتماعية (شيء منتظم ومتكرر وثابت) أساسها تفاوت امتلاك السلطة من قبل الأفراد المنخرطين في ذلك النمط من العلاقات أو في تلك البنية الاجتماعية. مثلاً في الجماعة المشيخية (كجماعة زيد) هناك هرمية معروفة داخل الجماعة وإن كانت غير مصرح عنها أو مسجلة رسمياً (الشيخ القائد، تلاميذه، طلبة العلم، المريدون). وكل فرد داخل الهرمية له هيبته ومكانته واحترامه وسطوته الخاصة به والمختلفة نوعاً وكماً عن الأفراد الآخرين؛ هذا ما نسميه سلطة ونفضله على مفردة “القدرة” التي هي الترجمة الحرفية لكلمة “power” (م).

[10] الكلمة الإنكليزية تعني إدخال فرد في دين جديد، أو في فكر جديد. مفهوم “الدعوة” في الإسلام يعني الإدخال في دين الإسلام وهو المصطلح المستخدم عند الجماعات الدينية. لكن في كثير من الأحيان فإن الأعمال “الدعوية” التي تقوم بها هذه الجماعات تكون موجهة لمسلمين آخرين، وليس لغير المسلمين، من أجل إدخالهم في الجماعة باعتبار أنها تحمل فكراً تجديدياً أو أنها تمثل نهضة إسلامية. ولذلك رأينا من المناسب جداً استخدام مصطلح “الدعوة” في الترجمة رغم أن الكاتب لم يستخدمه بشكل صريح (م).

[11] الرأسمال الاجتماعي يعبر عن كثافة العلاقات الاجتماعية لشخص أو لمجموعة. وهو أحد مفاهيم منظومة نظرية متكاملة (اشتهرت في التسعينات فصاعداً) مرتبطة عادة باسم السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو (̇Pierre Bourdieu) ترى أن الإنسان يعمل دائماً ضمن شبكة إجتماعية من الأفراد الذين يمتلكون ويتبادلون عدداً من الرساميل مثل الرأسمال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والرمزي (م).

[12] الاسم (piety)، والصفة (pious)، تنحدر من أصل لاتيني هو (pietas)؛ والتي وتعني الواجب، أي واجب المواطن تجاه أهله ومدينته وآلهته. ثم اقتصر المعنى في الإنكليزية على الواجب الديني. وبالتالي فإن الصفة (pious) تعني الإنسان الذي يؤدي واجباته الدينية، أي ما نسميه (بالمؤمن) في العربية أو (التقي) أو (صاحب دين) أو (ورِع)، وحديثاً (متين أو ملتزم دينياً). ورغم أن الإيمان يعني التصديق والتقوى تعني الالتجاء والحماية، إلا أن المصطلحين الإثنين دينياً مرتبطان، ويمكن استخدام المصطلح  الواحد بدل الأخر في مواضع كثيرة. وفي سياق المقالة فإن المعنى الأقرب إلى (pious) الإنكليزية هي (مؤمن) العربية (م).

[13] إشارة من الكاتب إلى مراجع يتحاور معها (م).

[14] وهنا يستدعي الكاتب مفهوماً هاماً في تحليل العلاقات الاجتماعية-السياسية له جذور في التاريخ الروماني ولا يزال قابلاً للتطبيق على كثير من السياقات المتوسطية أو العربية أو حتى الإسلامية. الطرف الأول في العلاقة هو الراعي (patron) والثاني هو الزبون (client)، والعلاقة بينهما هي (patronage). المصطلحان لهما أصل لاتيني، (patronus/pater) و (cliens)، على التوالي. الأول تعني الأب أو الراعي أو الحامي أو المجير أو الولي، والثاني تعني التابع أو المطيع لصاحب الأمر أو صاحب الأمر. في الإنكليزية الحديثة أضاف المصطلحان إلى معنييهما القديمين معني صاحب العمل والزبون على التوالي. وهذا الوضع يشبه كثيراً ما كان معروفاً عند القبائل العربية القديمة قبل الإسلام وبعده بالجوار أو الموالاة. الجار يدخل في حماية مجيره ويصبح تابعاً له، والطرف الضعيف يدخل في علاقة ولاء وطاعة ويصبح مولى لولي أمره (هذا الطرف الضعيف قد يكون عبداً مكاتباً أو معتوقاً ثم يصبح بعد إعتاقه مولى). وكلتا العلاقتين كان لهما طابع رسمي كما في المجتمع الروماني، وكان الولاء عقداً يباع ويشرى في العصر العباسي الأول. لكننا آثرنا ترجمة المصطلحين بـ(الراعي والزبون) لخروج الجوار والولاء من الاستخدام، ولشيوع مصطلح الزبائنية (والمحسوبية) في سوريا للدلالة على علاقة (patronage). ويعرف القارئ أهمية المحسوبية والولاء في السياق السوري الحالي (م).

[15] البرجوازية الرثة أو الرثة الثياب مصطلح ماركسي يشير إلى طبقات مدينية وسطى من الحرفيين والموظفين الذين لا ينتمون إلى الطبقات العمالية (من يبيعون عملهم حسب التعبير الماركسي)، وليسوا كذلك من الطبقات الوسطى الميسورة. والمصطلح فيه نوع من الاحتقار الأيديولوجي لأن ماركس كان يعتقد أن الطبقة البرجوازية الرثة الثياب تستحي من أن تتحول إلى طبقات عمالية وتتشبث بأفكار البرجوازية الوسطى الحالمة بالصعود الاجتماعي رغم فقرها و”ثيابها الممزقة أو الرثة”. إن مدى صحة مطابقة النظرية الماركسية الطبقية للمجتمع السوري ليس محل إجماع، لكننا نعتقد أن الكاتب اختار المصطلح قاصداً به أهل المدينة من أصحاب الدكاكين الصغيرة والحرفيين الصغار (م).

[16] جرت العادة على ترجمة هذا المصطلح “بالحضري” لكننا نفضل “المديني” لأن القرية لا تزال من الحضر رغم أن الكاتب لا يشملها في حديثه (م).

[17] المصطلح الغربي يمكن ترجمته “بالمفتي الأعظم” متأثر بدراسة التاريخ العثماني الذي يميز بين مفتي السنجق ومفتي الولاية وشيخ الإسلام وكذل بين الوزير والصدر الأعظم. لكن المصطلح السوري المستخدم رسمياً هو المفتي العام للجمهوري ولذلك استخدمناه هنا (م).

[18] يستخدم الكاتب هنا المصطلح الفرنسي الذي يقابله بالإنكليزية (upper bourgeoisie) للدلالة على الصناعيين والرأسماليين وملاكي الأراضي المدينيين.

[19] وهو مصطلح أمريكي يشير إلى الفئة الأغنى من الطبقة الوسطى والتي رغم غناها لا تصل إلى مرحلة أصحاب رؤوس الأموال. والتسميات الأمريكية للطبقات لا تركز على امتلاك أدوات الإنتاج أو عدمه حسب الطريقة الماركسية  وإنما تعتمد مستويات الغنى وامتلاك المال والثروة. وباعتبار أن الأيديولوجيا الأمريكية تعتبر أن معظم المجتمع الأمريكي ينتمى إلى الطبقة الوسطى فإنها تتعمد إدخال تصنيفات جزئية في هذه الطبقة مثل الطبقة الوسطى السفلى (lower middle class) والطبقة الوسطى العليا (upper middle class) (م).

[20] أي الضمان الاجتماعي (من توزيع للأراضي المأممة، وضمان التوظيف الحكومي،  والضمان الصحي لموظفي القطاع العام، ودعم بعض السلع الاستهلاكية، والجمعيات السكنية للموظفين، وتوسيع التوظيف في الجيش والأمن) مقابل الولاء. والعقد الاجتماع الشعبوي يختلف عن مفهوم العقد الاجتماعي التي تقوم عليه الديمقراطية (م).

[21] من الأفضل تفادي ترجمة (public) في سياق هذه المقالة بـ (عام أو عمومي)، لأن المقصود بالمصطلح الإنكليزي هو كل شيء تابع للدولة وليس كل شيء معمم على الشعب (م).

[22] وهو نمط التضامن الأهلي المعروف بين الأصحاب أو الجيران أو أهل الحارة، والمسمى عادة “الجمعية” (م).

[23] يشير الكاتب إلى نظرية مقبولة في الأوساط البحثية الغربية حول توسع المدن السورية. وتزعم هذه النظرية أن المدن السورية الكبرى عندما توسعت خارج أسوار المدينة القديمة في أواخر القرن التاسع عشر ومن ثم القرن العشرين ظهرت الأحياء الجديدة على شكل أحزمة متتابعة تحيط بالمدينة القديمة. وقد بنيت هذه الأحياء على الطريقة الغربية وسكنتها حينئذ الطبقة البرجوازية والطبقات الوسطى الناشئة (م).

[24] وترخيص ماركة تجارية يكون بإعطاء المرخَص له حق تسويق المنتج وبيعه دون أن يصبح المنتج ملكه. فمثلاً مطاعم ماكدونالدز في الولايات المتحدة لا تتبع كلها لشركة ماكدونالدز وإنما هي مطالع يملكها أشخاص لكنهم يشترون حق تسويق وبيع منتجات ماكدونالدز واستخدام اسم الشركة. وهذا ما يشبه مفهوم “الوكالة” في سوريا، فوكالة مرسيدس تبيع سيارات المرسيدس وتستخدم اسم الماركة لكن يملكها مواطن سوري وليس شركة مرسيدس بالضرورة (م).

[25] كلمة (lumpen) ألمانية الأصل وتعني الِخرق والثياب البالية. وتستخدم الماركسية هذه الكلمة إلى جنب مصطلح البرلوليتاريا أو البرجوازية لتشير إلى فئة من كل من هاتين الطبقتين لا تهتم بالثورة على النظام الرأسمالي رغم فقرها ضمن حدود طبقتها. وهذا طبعاً تعتبره الماركسية عكس سنة التاريخ، حيث على البرليتاريا أن تثور وعل البرجوازية أو تقود البروليتاريا. وهنا يستخدم الكاتب هذا المصطلح المتداول ليشير إلى الفقر الاقتصادي لخريجي الجامعات السوريين الذين يسميهم هنا بالمثقفين (الإنتلجنسيا). ورغم أن الكاتب يُكثر من استخدام المصطلحات الماركسية الطبقية مثل البرجوازية والبرجوازية الرثة ومقابلاتها الأمريكية مثل الطبقة الوسطى والعليا من الوسطى إلا أن الكاتب لا يلتزم بالماركسية كأداة للتحليل السوسيولوجي. إن هذا المصطلحات أصبحت جزءاً من اللغة الأكاديمية المتداولة. ونعتقد أن المقالة محاولة في التحليل السياسي-الاقتصادي لجماعة زيد مما يدفع الكاتب باتجاه استخدام مصطلحات طبقية لرسم حدود الفئة الاجتماعية (أي جماعة زيد) التي يتعامل معها. الطبقات المتعارف عليها في الماركسية الكلاسيكية غير واضحة المعالم في سوريا وخارج بلدان الغرب بشكل عام، لكن هناك محاولات مستمرة من الكتاب السوريين والغربيين لتطويع النظيرة الماركسية للواقع السوري في العصر الحديث (م).

[26] يستخدم الكاتب هنا مصطلحان من المسيحية الكنائسية لا مقابل لهما في الإسلام السني الذي يفتقد إلى المؤسسة الكهنوتية. وتميز الكنيسة بين القسم الكهنوتي من المجتمع (clerical) وبين القسم العلماني غير الكهنوتي (lay). ويقصد الكاتب أن جماعة زيد التي توجهت إلى الفئات غير الكهنوتية (سميناها ذات اتجاه دعوي عام) كانت أكثر جاذبية من الجماعات التي كان هدفها إنتاج كهنوت أو علماء (سميناها ذات اتجاه تعليمي خاص للعلماء). ويقابل مصطلحات الكاتب بعض الشيء مصطلحان كانا مستخدمين بين المسلمين في العصور الوسطى (ولا يزالان بعض الشيء الآن) هما مصطلح “الخاصة” (أي أهل العلم) ومصطلح العامة (أي عامة الناس)؛ لكنها لا يفيان بالغرض هنا لأن (م).

تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

You may also like...

shares