الضحية والرد بين الفرد والدولة – حالة إسرائيل وحماس

من المثير جداً هذه الأيام بالنسبة لمراقب سوسيولوجي استخدام مفهوم الضحية في التواصل بين الناس، التواصل الودي أو التواصل العدواني. اسمتعت إلى رجال دولة ألمان يُسألون على الهواء إن كان قطع الماء والكهرباء عن سكان غزة المدنيين من قبل إسرائيل يمثل خرقاً لحقوق الإنسان، فكان الجواب (وهو بالنسبة للسياسيين مجرد إلتزام بخط الحكومة أو الحزب) بأن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها. إن إلتقاء ألمان مع إسرائيليين وفلسطينيين يمثل حقاً معضلة حقيقية لمن يريد أن يفهم خطاب الضحية وما يوازيه من خطاب حقوق، حتى حق القتل، لا بل أهمها حق القتل.

عندنا دولة، ألمانيا، تقول أن من حق دولة أخرى، إسرائيل، ضرب وقتل أفراد، هنا الفلسطينيون، ومؤسسات، هنا حماس، بسبب أن المؤسسة السابقة التي تدعي تمثيل الفلسطينيين، ضربت مدنيين يتبعون، أو تمثلهم، دولة إسرائيل. أي ان قيام جنود من مؤسسة ما تلعب دور الدولة، حماس، بقتل مدنيين تحميهم دولة أخرى، إسرائيل، يؤدي إلى امتلاك تلك الدولة دور الضحية (بالنيابة عن مواطنيها)، مما يعطيها حق قتل المدنيين الذين تحميهم المؤسسة التي أمرت بالقتل الأول. وهذا بالتالي يعطي الحق لدولة أخرى، ألمانيا، أن تدافع عن حق إسرائيل بالقتل نيابة عن مواطنيها (الدفاع عن النفس) ليس بناءاً على القانون الدولي، بل بناءاً على مظلومية قديمة، حيث حكومة سابقة لألمانيا قامت بقتل يهود، مما يجعلهم ضحايا، هم باثر راجع مواطنون في دولة لم تكن قائمة حين تم قتلهم، هي إسرائيل. هذه فعلاً حجة معقدة. وننوه هنا أن الدفاع عن النفس يحتاج إلى هجوم مستمر، وإلا فإنه مجرد إنتقام لضحايا سابقين.

لا يهمني هنا أن أعطي اي حق لاي إنسان أو مؤسسة أو أسحب منه منها هذا الحق. لا أجادل في من له الحق أن يقتل الآخر. أنا أحاول أن افهم كيفية استخدام مفهوم الضحية، وكيفية استخدام هذا المفهوم في ادعاء حق استخدام العنف تجاه من نعتبرهم الجناة. يتداخل في هذه الحجة عدة مفاهيم إلى جانب الضحية، وبالتالي الجاني، هنا مفهوم المؤسسة ومفهوم التمثيل ومفهوم الحق بالرد بالمثل (الإنتقام، الدفاع عن النفس، القتل المضاد).

ما الذي يجعل أي إنسان ضحية؟ إذا حصل إعتداء عنيف موجه مات نتيجته إنسان هو موضوع العنف، فإن الميت يُعتبر ضحية والقاتل الحي يُعتبر جانياً. كاي مفهوم إنساني فغنه مفهوم تواصلي أي يتم تبادله بين اشخاص من خلال اللغة من أجل حاجات إجتماعية. ولذلك فإن الميت، وهو لا يتواصل، ليس ضحية إلا إذا كان هناك من يعتبره ضحية ويطالب من خلال هذا المقهوم بتايدل اشياء محددة مثل الحق بقتل الجاني الحي. لذلك فإن مفهوم الضحية (المجدي إجتماعية) لا يملكه الميت ويقوم بمبادلته في علاقاتن إجتماعية وإنما يملكه الحي. أي أنه من الضروري وجود حي يدعي تمثيل الضحية وبالتالي وراثة حق امتلاك مفهوم الضحية. وقد يطالب الحي الممثل للميت بضرورة اعتباره ايضاً ضحية بسبب فقدانه لشخص مقرب له، ومفيد، له إجتماعياً. إذن، بمنطق تواصلي، الحي القريب من المين هو الضحية ويستخدم الميت فقط من أجل امتلاك هذا المفهوم. لا أناقش هنا حالة المجروح (جسدياً او نفسياً) بسبب الإعتداء، لأني أريد الوصول إلى امتلاك حق القتل كرد على الإعتداء.

هذا يبرر الإستنتاج التالي: إن التمثيل هو في أساس مفهوم الضحية. ولا يصبح مفهوم الضحية تواصلياً، أي إجتماعياً، إلا بالتمثيل. اي يجب أن ينتقل دور الضحية من المقتول إلى أحد الأحياء من خلال تمثيل الحي للميت. وأول ما يحصل عليه الحي الممثل هو إرث المقتول، وبالتالي إنتقال مقهوم الضحية. يعتبر الناس علاقة الدم مبرراً للتمثيل، وبالتالي التوريث. فمثلاً عند الرومان القدماء كان التبني، ولو حدث في عمر متأخر، يعطي للإبن بالتبني حق المطالبة بثأر أبيه بالتبني. وحسب تعريف المجتمع لعلاقة القرى أو الإرث، فإن تمثيل الميت يتبع ذلك التعريف. ثم تأتي الجماعة فتقوم العشيرة أو القبيلة التي ينتمي إليها المقتول باعتبار نفسها وارثة للمقتول، أي تمثله، وتطالب بإرثه والذي هو الإنتقام بقتل مماثل. الدولة الحديثة اخترعت مفهوم الحق العام حتى تستطيع أن تمثل المقتول، اي أن تلعب دور الضحية، وبالتالي أن تطالب بالإنتقام كإرث.

ننتقل إلى مفهوم الرد والرد بالمثل. في الحقيقة فإن المجتمعات مختلفة في حق الضحية (هنا ممثل المقتول) بالرد أو الرد بالمثل. في المجتمعات القديمة، إذا كان الجاني حراً والمقتول عبداً فإنه ليس للعبد حق الرد ولا الرد بالمثل. هذا الحق ينتقل إلى مالكه. وهنا للمالك حق الرد ولكن ليس بالمثل، فالعبد يساوي نصف الحر. ولا يستطيع المالك أن يقتل الجاني الحر بل يحصل منه على دية نقدية هي نصف دية الحر. وهنا نجد أن ممثلي المقتول، أو مدعي دور الضحية، قد يقبلون بمال كمقابل للقتل. أي ان الرد بالمثل ليس هو الحالة الوحيدة. فالمجتمعات، التي تعرف التسليع، تعتقد أن للمقتول ثمناً وعلى القاتل أن يؤديه، وهذا ما يعتبر رداً بالمثل، أي يدفع القاتل الثمن الكامل (المقابل المادي) لحياة المقتول. في الحقيقة فإن حق الرد والرد بالمثل خاضع لعادات وقوانين المجتمع. لكن في القوانين الحديثة، وخاصة في الدول الغربية، فإن الدولة تحتكر التمثيل وبالتالي تحتكر حق الرد بالمثل. فهي تعطي نفسها حق قتل الجاني بغض النظر عن مطالب الورثة المعترف به قانونياً. وفي الولايات المتحدة هناك محاكمتان للجاني، واحدة لاستخلاص حق الدولة وثاني لاستخلاص حق الورثة من الجاني.

وهذا يحيلنا إلى مفهوم تمثيل الدولة لمواطنيها. تعتبر الدولة نفسها خارج نطاق توريث المال (إلا من خلال الضريبة)، لكنها الوريث الأوحد للحقوق المعنوية. أي أن الدولة هي الوحيدة التي تقتص من القاتل بالقتل. فالدولة تقسم مفهوم الضحية إلى قسمين، الضحية المادية والضحية المعنوية. وهنا نرى أن الدولة تحتكر لنفسها الحق بأن تكون الضحية المعنوية، بينما تترك للأسرة فقط مفهوم الضحية المادية (ثم تفرض عليهم ضريبة التعويض المادي). في المجتمعات القديمة اختلفت الدول في ادعاء هذا الحق، لكن الدول الحديثة كلها تتبع المثال الغربي وتحتكر حق الضحية المعنوية.

في حالة بين أفراد أو بين عشائر أو في حالة داخل الدولة، فإن الضحية والتمثيل كمفاهيم تواصلية تقوم بوظائف إجتماعية مهمة مثل الردع والعدالة. لكن عندما نستخدم نفس المفاهيم كتواصل بين دول فإنها تفقد وظائفها وتصبح ذرائع عشوائية لقرارات سياسية.

ماذا يحدث حين يكون الجاني من دولة أخرى؟ إذا كان مواطناً في دولة أخرى فإن الدولة الضحية (بالتمثيل) قد تطالب بحق الإقتصاص من القاتل، لكن هذا يتبع الإتفاقيات الدولية. فمثلاً القاتل الإسرائيلي الذي يقتل مواطناً أمريكياً يستطيع أن ينجو من العقاب الأمريكي إذا رفضت إسرائيل تسليمه. وغالباً ما تترك الدول لأهل المواطن المقتول في هذا الحالة مشقة ملاحقة القاتل (أي تتخلى عن دور الضحية المعنوية)، إلا إذا أرادت تسييس القضية كما يحدث في حالات اعتقال مواطنين أمريكيين في إيران.

لكن إذا كان الجاني يتبع للمؤسسة العسكرية في دولة أخرى، فإن دولة الضحية تفعّل حق التمثيل مباشرة وتعطي لنفسها الحق بالرد. لكن المثل هنا موضوع للنقاش والتفاوض والإجبار. وهنا تصبح المسألة معقدة. تعريف المثل يتبع اعتبارات سياسية. يمكن للدولة الضحية (بالتمثيل) ان تقتل الجاني نفسه أو أن تقتل أحداً من جنود دولة الجاني أو أن تقتل مجموعة من الجنود والمدنيين التاابعين لدولة الجاني. ويمكنها أن تعلن الحرب على دولة الجاني وأن تقتل أي عدد تريده من مواطني أو عسكريي دولة الجاني. وباعتبارها لا تزال على قيد الحياة، فإنها تعتبر الرد المناسب نوعاً من الدفاع عن النفس. يصبح المنطق هنا غائماً. ليس كل الناس متساوين في هذه الحالة. المدني لا يساوي العسكري، ومواطن دولة سين لا يساوي مواطن دولة عين.

حماس التي تعتبر نفسها ممثلة للفلسطينيين تعطي نفسها حق قتل عدد غير محدد من المدنيين والعسكريين الإسرائيليين كرد بالمثل على جنايات قديمة لدولة إسرائيل لا تحددها. وهي تدعي أيضاً أنها في مجال الدفاع عن النفس. بالمقابل تعتبر إسرائيل أنها تمثل الضحايا وتجعل نفسها كضحية وتعطي لنفسها الحق بالرد بالمثل وبتعريف هذا المثل كما تراه مناسباً لها. فهي تستطيع أن تقتل عدداً غير محدد من المدنيين والعسكريين الفلسطينيين وأن تدمر بيوتهم وأن تحرمهم من الماء والكهرباء وأن تشن عليهم هجوماً عسكرياً بالاسلحة التي تراها مناسبة وبالقوة التدميرية التي تراها مناسبة.

إن منطق الحقوق والضحية والتمثيل، مثله مثل منطق الأخلاق، لا يمكنه أن يتخطى حدود المجتمع الواحد وحدود الافراد. من الصعب تعريف حقوق إنسان، أي حقوق أفراد، في فضاء المؤسسات (ما بين مؤسسات أو ما بين دول). من الصعب تعريف مفاهيم الضحية والتمثيل والرد والرد بالمثل في فضاء المؤسسات. لقد أثبتت الدول الغربية اليوم أن هذه المفاهيم لا معنى لها ولا تعريف في حالة تبنت الدول في تواصلها كدول مفاهيم فردية مثل الحق والإرث/التمثيل والضحية والرد والعقاب. المنطق الحمساوي لا يختلف عن المنطق الإسرائيلي، ولا يختلفان عن منطق الدول الغربية. إنها خطابات لا تخضع لقانون وتجير لمصلحتها مفاهيم فردية من أجل أن تبرر ما تريده من قتل جماعي وتدمير. إن المنطق الوحيد بين هذه الدول أو المؤسسات هو قانون الحرب والهيمنة والعنف. كل محاولات فرض قوانين (أو أخلاق) لعلاقات الدول من قانون دولي وحقوق إنسان ذهبت أدراج الرياح. وإذا كانت هذه المحاولات غربية في منشئها، فإن هذه الدول اليوم تثبت فشل هذه المحاولات. وإنها فاتحة خطيرة في تعامل الغرب مع روسيا والصين (أو اية دولة في العالم)، لأنها تقول لهؤلاء باننا على استعداد لتجيير منطق القانون في العلاقات الدولية لأغراض مثل الإبادة الجماعية (إننا نفضل الحرب). كل المؤشرات كانت ذاهبة في اتجاه جولة أخرى من الحروب التي لم نشهد مثيلاً لها منذ الحرب العالمية الثانية (حروب الهيمنة العالمية). اليوم أصبح من المؤكد أننا ذاهبون في هذا الإتجاه.

تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

You may also like...

shares