التدين الإسلامي والثورة السورية من منظور نفسي-اجتماعي 1-2: التدين الإسلامي في سوريا (1)

ظهر المقال على موقع معهد العالم للدراسات في 2 أكتوبر، 2017

مقدمة – علم النفس الاجتماعي

المقالات والسجالات السياسية والأيديولوجية التي تستخدم مصطلحات مثل إسلام وثورة وسورية تعطي انطباعاً وكأن الجميع متفقون على معناها. لكنها في الحقيقة مفاهيم ومصطلحات إشكالية ومربكة. من وظائف الدراسة المنهجية أن تفكك هذه المصطلحات المألوفة إلى معانيها المختلفة حسب اختلاف السياق الذي تستخدَم فيه، وأن تعطيها معاني محددة، يمكن من خلالها معالجة قضايا شائكة مثل الإسلام والثورة معالجة منهجية تبدأ بالمفاهيم وتنتهي بالنظرية الشارحة. يضاف إلى ذلك أننا نعاني في المنطقة العربية من قلة الاختصاصات الجامعية في مجالات العلوم النفسية والاجتماعية، وقلة الأبحاث الأكاديمية والمنهجية، وبالتالي فإننا نعاني من ضعف المصطلحات سوآءاً المنحوتة محلياً أو المعربة أو المترجمة. لذلك سنبدأ في هذه المقدمة بتوضيح المصطلحات والمفاهيم المتعلقة بعلم النفس الاجتماعي ثم ننتقل إلى توضيح ما نعنيه بالتدين الإسلامي في سوريا ومن ثم بالثورة السورية وعلاقتها بالإسلام. أما الأقسام اللاحقة فنسلسلها زمنياً حسب مراحل تطور الثورة: البداية، الأسلمة، الحرب. وفي كل مرحلة نحاول دراسة أثر التدين كأيديولوجيا جمعية تساهم في صنع أفعال جمعية.

مواضيع ومفاهيم (2)

يمكن القول بأن علم النفس الاجتماعي يهتم بتكوين وتبادل المعارف اجتماعياً من أجل الوصول إلى الفعل الجمعي. أي أنه يهتم بثلاثة محاور تكتلت حولها مواضيع هذا العلم: أولاً، القيم والمعتقدات والآراء (attitudes, opinions, beliefs) كيف تتشكل ضمن الجماعة وكيف تصبح متشابهة ومشترَكة وكيف تتغير أو تتصلب؛ ما هو دور هذه المفاهيم ضمن الجماعة وفي علاقاتها مع الجماعات الأخرى؛ ما هي الأبعاد الواعية وغير الواعية لهذه المفاهيم وكيف تحكم تصرفات الأفراد والجماعات؛ كيف تتجمع بعض القيم والآراء والمعتقدات لتشكل تكتلات فكرية أكبر مثل الأيديولوجيات. ثانياً، الهوية وتصور الفرد لنفسه وتصور الجماعة له (social and self-perception, identity) أي ما هي الصورة التي يكونها الفرد عن نفسه ضمن الجماعة وكيف؛ وما هي الصورة التي تكونها الجماعة عنه وعن نفسها وكيف؛ ما هو دور هذه التصورات في الفعل الفردي والجمعي. ثالثاً، العلاقات ضمن الجماعة وبين الجماعات أو ديناميكية التفاعل (dynamics, inter and intra group processes) أي لماذا يتصرف ويفكر الفرد ضمن الجماعة بطريقة لا يمكن أن يعتمدها لو عاش وحيداً، كيف تفعّله الجماعة وتعطيه هذه الطاقة؛ كيف ولماذا تتكون الجماعات؛ كيف ولماذا يتعاون أو يتصارع الأفراد ضمن الجماعة الواحدة؛ كيف ولماذا تتعاون أو تتصارع الجماعات المختلفة.

ويجدر بالذكر أنه تاريخياً كان هناك تأكيد على البرهان التجريبي في علم النفس الاجتماعي وليس فقط الملاحظة (experimental demonstration). وذلك ليس من أجل إضفاء صفة العلمية على البحث وإنما من أجل إثبات السببية (causality) والحفاظ على الموضوعية أي محاكاة المفاهيم للواقع (objectivity) بدل محاكاتها فقط لأفكار الباحث الذاتية. لكن، رغم أن العلوم الاجتماعية والنفسية تطرح نفسها كعلوم تجريبية موضوعية منفصلة عن ثقافة الأفراد المنتجين لها، إلا أنها في النهاية تواجه تحديات كبيرة في سمتين من سماتها ونعني “التجريبية” و”الموضوعية”. لا يمكن للعلوم الاجتماعية، وفي أحيان كثيرة النفسية، القيام بتجارب مخبرية تتحكم بشكل كامل بالوسط المحيط بحيث تضبط المتغيِّر المستقل وتسجل المتغير التابع مع الإبقاء على جميع العوامل الأخرى ثابتة من أجل إنتاج سببية واضحة. كما أن الباحث كإنسان يشبه مواضيع بحثه، أي الأشخاص الآخرين، وبالتالي فالباحث محكوم بدرجات متفاوتة بوجهات نظره وانتماءاته.

في هاتين الحلقتين لا نزعم بأننا قمنا بعمل تجريبي. فقد اقتصرنا على الملاحظة وعلى مقابلات مع مشتركين في الحدث الجمعي. كما لا نزعم السببية أو الواقعية، فجهدنا ينحصر في محاولة تطبيق بعض نظريات علم النفس الاجتماعي على فعل جمعي بامتياز مثل الثورة السورية. إنه عمل تفسيري (interpretive)، وبالتالي فهو محكوم بالذاتية (subjective) مهما حاولنا التخلص منها. وكل ما نأمله هو التعريف بعلم مثير مثل علم النفس الاجتماعي وبقدرته التحليلية العالية. هذه القدرة التي يحتاجها كل من يحاول فهم حدث جلل مثل الثورة السورية، وكل من يحاول التعامل مع أسبابها وسيرورتها ونتائجها من منظور قريب إلى الأرض يركز على الأفراد والجماعات الصغيرة كبشر وليس كروبوتات. ولا نحاول التطرق لكل جوانب الثورة كفعل جمعي، ونقتصر على محاولة شرح العلاقة بين هذا الفعل وبين أيديولوجية جمعية بامتياز هي الدين. لا نزعم أن الدين هو المسبب والمتحكم الأوحد، فهذا خطئ فادح، لكنه عامل شديد الأهمية لا يمكن إغفاله، بل لا بد من فهم دوره. نبدأ دراستنا فيما يلي بالمفاهيم الأساسية لعلم النفس الاجتماعي ثم نبني عليها إلى أن نصل إلى مفاهيم أكثر تعقيداً مثل الأيديولوجيا والدين والثورة. في القسم التالي نستخدم هذه المفاهيم للتخصيص، أي لتوضيح ما نقصده بالإسلام السوري والثورة السورية وعلاقتهما ببعضهما البعض. ا

في هاتين الحلقتين لا نزعم بأننا قمنا بعمل تجريبي. فقد اقتصرنا على الملاحظة وعلى مقابلات مع مشتركين في الحدث الجمعي. كما لا نزعم السببية أو الواقعية، فجهدنا ينحصر في محاولة تطبيق بعض نظريات علم النفس الاجتماعي على فعل جمعي بامتياز مثل الثورة السورية. إنه عمل تفسيري (interpretive)، وبالتالي فهو محكوم بالذاتية (subjective) مهما حاولنا التخلص منها. وكل ما نأمله هو التعريف بعلم مثير مثل علم النفس الاجتماعي وبقدرته التحليلية العالية. هذه القدرة التي يحتاجها كل من يحاول فهم حدث جلل مثل الثورة السورية، وكل من يحاول التعامل مع أسبابها وسيرورتها ونتائجها من منظور قريب إلى الأرض يركز على الأفراد والجماعات الصغيرة كبشر وليس كروبوتات. ولا نحاول التطرق لكل جوانب الثورة كفعل جمعي، ونقتصر على محاولة شرح العلاقة بين هذا الفعل وبين أيديولوجية جمعية بامتياز هي الدين. لا نزعم أن الدين هو المسبب والمتحكم الأوحد، فهذا خطئ فادح، لكنه عامل شديد الأهمية لا يمكن إغفاله، بل لا بد من فهم دوره. نبدأ دراستنا فيما يلي بالمفاهيم الأساسية لعلم النفس الاجتماعي ثم نبني عليها إلى أن نصل إلى مفاهيم أكثر تعقيداً مثل الأيديولوجيا والدين والثورة. في القسم التالي نستخدم هذه المفاهيم للتخصيص، أي لتوضيح ما نقصده بالإسلام السوري والثورة السورية وعلاقتهما ببعضهما البعض.

التدين الإسلامي في سوريا

بما أننا أمام نسق اجتماعي سلوكي، أي الثورة السورية، فلن نستخدم مصطلح الدين وإنما التدين، أي سنبتعد عن الأيديولوجيا (خاصة المعيار والدوغما) ونتجه باتجاه الممارسة. حسب التعريف الشرعي فإن التديّن الإسلامي يشمل الإيمان بمعتقدات محدَّدة والمشاركة في شعائر وعبادات محددة، ونعني نطق الشهادتين والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر والحساب والثواب والعقاب في الدنيا والآخرة، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج إلى بيت الله عند الاستطاعة. التدين الإسلامي السني يضيف إلى ما سبق الإيمان بالقدر خيره وشره، وعذاب القبر، والالتزام بالشريعة التي تقوم على نصوص القرآن المنزل والسنة الصحيحة. وأما التمييز بين درجات من التدين فهو تمييز في طلب العلم، فكلما تقدم الفرد في طلب العلوم الإسلامية بأنواعها ازداد ارتقاؤه في سلم التدين.

أما التعريف السوسيولوجي للتديّن فيقوم على أساس العلاقات البشرية والاستخدام اليومي المتغير للأيديولوجيا، ولذلك فقد يحتوي عناصر قد تعتبرها الأديان ثانوية أو غير “قويمة”. لذلك فإن تعريف التدين لا يقوم على التمييز بين مستويات من الالتزام بالأيديولوجيا المعيارية (الدين القويم) وإنما على أساس اشتراك أفراد مجموعة ما بأفكار وأفعال معينة تميزهم عن غيرهم. من منظور نفسي اجتماعي يمكن أن نعتبر أن للتدين ثلاثة محاور أساسية: الأول محور شعوري (affective)، والثاني محور معرفي (cognitive)، والثالث محور سلوكي (behavioral). الأول، أي الشعوري، يختص بالمشاعر التي تتولد عند الفرد عند ممارسة الشعائر الدينية الفردية أو الجماعية، عند الإحساس بوجود الإله واستجابته للدعاء وتدخله في حياة الفرد والجماعة، أو عند الإحساس بالانتماء للجماعة الدينية والتأكيد على هويتها والدفاع عن مقدساتها. الثاني، أي المعرفي، ليس فقط ما نتعلمه عن الدين “القويم” من المرجعيات، لكن أيضاً ما نتعلمه عن الدين والجماعة الدينية بالملاحظة والتقليد والتجربة والجدال، وما نتعلمه من الإعلام والخطب واللقاءات الاجتماعية. البعد المعرفي هو أيضاَ التصوّر الشخصي للإله، فهم معنى العبادة ودور الدين في المجتمع، التاريخ الديني للجماعة، وقصص المعجزات والكرامات؛ وهذه المعرفة اجتماعية بامتياز. المحور الثالث، أي السلوكي، يشمل الشعائر والعبادات والاحتفالات الدينية والدروس والخطب والمعسكرات وزيارة المشايخ والأضرحة والحضرات الصوفية. ولكل من هذه المحاور نمطان: شخصي ومؤسساتي. النمط الشخصي لا يعني الفردي ولا يناقض الجمعي وإنما هو العام والمشترك الذي يحمله كل فرد في الجماعة. أما المؤسساتي فهو الخاص بجماعة معينة منظمة داخل النسق الديني العام. يمكن القول بأن الشخصي في التدين الإسلامي هو أسس الدين، والمؤسساتي هو التدين الصوفي أو المسيس أو الجهادي. الجمع بين المحاور والنمطين يعطينا أبعاداً سته للتدين: البُعد المعرفي الشخصي، المعرفي المؤسساتي؛ الشعوري الشخصي، الشعوري المؤسساتي؛ السلوكي الشخصي، والسلوكي المؤسساتي.

هذه الأبعاد تساعدنا على دراسة وتحليل التدين كظاهرة اجتماعية، لكنها لا تدل على أنساق التدين، أي ما يميز المجموعات داخل النسق الديني العام. إذا جمعنا قائمة بكل التجارب الشعورية والمعارف والممارسات، الشخصية والمؤسساتية، المرتبطة بالمجتمع السوري المسلم السني (أي حسب الأبعاد الستة) وصغناها على شكل أسئلة يمكن أن نطرحها على الناس فإننا سنحصل على استبيان إحصائي شامل لكل نواحي التدين الإسلامي السوري السني. عندما نطرح هذه الأسئلة على فرد ما من هذه الجماعة فإن الأجوبة ستعبّر عن التدين الذي يحمله هذا الفرد. فإذا طرحنا هذه الأسئلة على عينة تمثيلية من المجتمع السوري المسلم السني فإننا سنحصل على صورة كاملة لما يعنيه هذا التدين. هناك تحليل رياضي يسمى “تحليل العوامل” (factor analysis) يمكن أن نُخضع له كل الأجوبة ليميز لنا بين حزم مترابطة من الأجوبة. أساس التمييز بين الحزم هو التشابه والتكرار في العينة والتزامن في الحدوث. مثلاً جواب “نعم أداوم على صلاة الجمعة” قد يحصل عند خمسين بالمئة من العينة، وجواب “نعم أصوم رمضان” عند ستين بالمئة من العينة، ويتزامن الجوابان في تسعين بالمئة من إجمالي الإجابتين في العينة. هذا يعني أن الدوام على صلاة الجمعة وصوم رمضان مرتبطان ويدلان على نمط منتشر بكثرة من التدين الإسلامي السني في سوريا. كل حزمة من الأجوبة التي ينتجها تحليل العوامل ستعبّر عن نمط معين ومحدد من التدين الإسلامي السوري السني. لم نقم بهذا المسح الإحصائي بعد، لكن ملاحظاتنا الأولية تشير إلى الأنماط الستة التالية من التدين السني: الشعبي، الملتزم، السياسي، الجهادي، الليبرالي، والثقافي أو الهوياتي. إنها أنساق اجتماعية أيديولوجية ويمكن أن نشرح سماتها وفق الأبعاد الستة التحليلية السابقة الذكر.

التدين الشعبي هو الأكثر انتشاراً. جذوره صوفية ويصعب تمييزه عن العادات التقاليد. الجانب المؤسساتي في هذا النمط ضعيف، إذ حتى الجماعات الصوفية رغم اختلافها الظاهري وتميزها فإنها تشترك في المعارف والشعائر ولا تفرض على أعضائها معارف وممارسات معينة. المعرفة الدينية في هذا النمط تتأتى من العائلة والحارة ومسجد الحارة والمشايخ المحليين. وهي بديهيات العقيدة الإسلامية، بالإضافة إلى معارف بسيطة تخلط بين الأقوال المأثورة والأحاديث النبوية وبين التقاليد وأحكام الشريعة وبين الخرافات والتقوى. البعد الشعوري مصدره ومسرحه العائلة والحارة ومسجد الحارة، وكذلك الالتزام بالعادات والتقاليد، وحماية العرض والشرف، والمشاركة في الشعائر الجماعية والمناسبات الدينية. الممارسات في هذا النمط هي خليط من الشعائر الأساسية في الدين والتقاليد المحلية، مثل صلاة الجمعة في المسجد الكبير، الاستماع إلى خطبة الجمعة من خطيب مشهور، صوم رمضان وتبربر الغضب السريع في رمضان بالصوم، الاستماع إلى تلاوة القرآن في أماكن العمل، حضور الموالد والحضرات، حفظ أدعية خاصة بكل حركة، ترديد آية الكرسي ودعاء اللطيفية للتبرك وإبعاد الشرور، الاستماع إلى تسجيلات مشاهير المشايخ، تبجيل المشايخ المحليين وزيارتهم، زيارة القبور والأضرحة، واستخدام الرقى والإيمان بكرامات الأولياء والتبرك بهم وبأضرحتهم وطلب شفاعتهم. هذا النمط من التدين عرضة للتلاعب والتجييش الشعوري وتحريض الغوغاء. يعتقد البعض أن هذا النمط من التدين يكوّن أساس هوية سنية سورية تجمع بين أفراد أغلبية سكانية. في الحقيقة فإن قوة الهويات المحلية (المنطقة والمدينة والقرية والحارة والعشيرة) تجعل من الصعب نشوء هوية وطنية جامعية سوآءاً دينية أو قومية. الثورة السورية والحرب التي تبعتها بلورت انتماءات دينية وطائفية؛ لكن لا نرى إلى اليوم هوية سنية تجمع الحلبي مع الدمشقي والديري مع الدرعاوي، بل هي هويات محلية قد يكون لها عناصر طائفية.

التدين السني الملتزم ظاهرة حديثة ظهرت في أوائل القرن العشرين مع بروز الطبقة الوسطى السورية المتعلمة المدينية(3). المشيخة ليست جديدة على الإسلام السوري وهي أساس الصوفية، لكن وجود الشيخ المعلم مؤسس المدرسة الإعدادية أو الثانوية الشرعية وصاحب حلقة التدريس في مسجد الحي لم يكن ممكناً إلا مع صعود التعليم العمومي. كان لهؤلاء المعلمين دور في محاربة التعليم المفرنس تحت الانتداب وفي إنشاء المدارس الشرعية بعد الاستقلال. علاقة الطلاب بالشيخ المعلم هرمية ومبنية على مثال العلاقة بين المعلم الصوفي والمريد، مما يشي بالأصول الصوفية لهؤلاء المعلمين. يحيط بالمعلم مجموعة من الأساتذة، يساعدهم طلاب علم متقدمون. هؤلاء بدورهم يتلقون الطلاب الجدد ويدخِلونهم في الجماعة عن طريق التعليم والمعاشرة. من الجماعات المشيخية المعروفة جماعة مسجد زيد في دمشق (4). فعّاليات الشيخ لا تقتصر على التعليم وإن كان التعليم أساسياً لبناء مشروعيته ومصداقيته. وتشمل هذه الفعاليات العمل الخيري وبناء شبكة من المريدين والمتبرعين والمتطوعين والطلاب، وأحياناً التوسع من خلال تعيين أئمة وخطباء من الجماعة في مساجد المدينة.

الشخصي هنا يضمحل أمام المؤسساتي، فهذه الجماعات منظمة وهرمية تعطي المنتمين إليها إحساساً بالانتماء إلى مجموعة اجتماعية ذات هوية متميزة، يتداعى ضمنها الأعضاء لخدمة ومساعدة بعضهم البعض. قد يخصص الشيخ المعلم لمريديه من المتبرعين الميسورين دروساً خاصة، لكن عماد الجماعة هم طلاب العلم الذين يخضعون لمنهاج تعليمي ينتقيه المعلم بعناية، ويستمر لعدة سنوات، ويتدرج في الصعوبة والعمق، ويشمل معظم جوانب العبادات والعقيدة والفقه واللغة العربية والتاريخ الإسلامي. هناك أيضاً معارف تختص بها الجماعة مثل اجتهادات الشيخ الخاصة وتوصياته. البعد الشعوري مرتبط بالمسجد والمعاشرة ضمن المسجد، والقرب أو البعد عن الشيخ المعلم، وبعلاقة التكافل بين الأعضاء ومنافستهم للجماعات الأخرى من أجل جذب الطلاب والمريدين والمتبرعين والسيطرة على مزيد من المساجد. البعد السلوكي يشمل بالإضافة إلى العبادات والشعائر المعروفة في التدين الشعبي، عبادات إضافية مثل صلاة السنن القبلية والبعدية وقيام الليل والصوم خارج رمضان والدروس الدينية وزيارة المعلم والطلعات الترفيهية والمعسكرات. يعتقد البعض ان الإسلام السياسي هو من أنتج هذا النمط من التدين ويسمونه تعسفاً بالنمط الإخواني (نسبة إلى الإخوان المسلمين)، لكننا نعتقد بأن الإسلام السياسي خرج من رحم هذه الجماعات وليس العكس. هذا لا يجعلها سياسية خالصة، لأن دور الشيخ التعليمي والخيري والاجتماعي والدعوي ينتفي بالانغماس بالسياسة ومشاكلها وفضائحها ويعرض مثاليات الشيخ لخطر الممارسة. قد يدعم الشيخ مرشحاً أو يتحالف مع سياسي، لكن الشيخ لا يترشح ولا يؤسس حزباً ولا يدخل في المعارك السياسية. لكن لا يجب أن نهمل حقيقة أن التعليم الديني السني يحتوي مكوناً سياسياً منذ العصور الوسطى وظهور نظريات الخلافة والسياسة الشرعية.

تنمّي هذه الجماعات بين أعضائها هوية سنية ظاهرة وقوية تقوم على الالتزام بالإسلام “السني الصحيح”، حسب نظرتهم، وعلى الانتماء إلى أمة إسلامية تتخطى الحدود الوطنية، وعلى ما يسمونه الوسطية (وهو ما تدّعيه كل الجماعات الإسلامية المنظمة)، أو بعبارات أخرى “لا صوفية تشطح ولا سلفية تنطح”. لكن وكما أسلفنا فإن الهويات السورية غالباً محلية، والتنافس بين المشايخ وجماعاتهم يفتت أية هوية وطنية جامعة؛ كما أن هذه الجماعات مدينية بامتياز ولا تتوسع إلا في الأرياف التي تلتحق كأحياء في المدينة أو في الأرياف التي تتضخم لتصبح مدناً. هذا التنافس لا يهدأ إلا إذا قرر المعلمون خوض معركة ضد خصوم علمانيين، فعندها يزعمون بأنهم يمثلون هوية الأغلبية وينطقون باسمها ويعبرون عن ثقافتها “الأزلية” (روح الشعب). لكن هذه الهوية، إذا تمكنوا من تفعيلها، فإنها طائفية بامتياز لأنها تماهي بين الأمة الدينية والأمة السياسية (مواطني الدولة) ولا ترى في الأقليات الدينية إلا ضيوفاً على أرض الإسلام وأمة الإسلام.

نمط التدين السياسي ظهر في سوريا في الأربعينيات مع تأسيس جماعة الإخوان المسلمين. هذا النمط مؤسساتي بحت. المعارف فيه تشبه معارف النمط الملتزم لكن تتخطاها فيما يخص العمل السياسي (الحركية كما يسمونها) والاعتقاد بنظام سياسي متميز عن الأنظمة المعروفة والمسمى بالنظام الإسلامي أو الدولة الإسلامية. يجذب هذا النمط أعضاءه الجدد من صفوف الجماعات المشيخية والتدين الملتزم؛ وهذا ما يجعل التدين السياسي مدينياً أيضاً. البعد الشعور ينبع من الانتماء إلى جماعة شديدة التنظيم، شبه سرية، نخبوية طليعية، وتطمح إلى الوصول إلى الحكم ليس فقط عن طريق الانتخابات أو أحياناً الثورة ولكن عن طريق انقلاب مجتمعي ثقافي كامل (الصحوة أو العودة إلى الدين كما يحلو للبعض تسميتها). البعد السلوكي ليس غائباً ولا يتماهى كاملاً مع سلوكيات الملتزمين. هنا نجد تسمية “النمط الإخواني” مفيدة لأن هذه الجماعة هي رائدة العمل السياسي الإسلامي في المنطقة. ورغم تفتت هذه الجماعة في سوريا إلى مجموعات مختلفة التماسك ومتباينة في الفلسفة والمطالب، ورغم ظهور جماعات سياسية أخرى مثل حزب التحرير، إلا أن السلوكيات ضمن هذه الجماعات متشابهة. الطريقة الإخوانية لا تبني مجرد حزب سياسي، وإنما تطمح لبناء مجتمع جديد وثقافة جديدة يعتقدون أنها تشبه جوهر ثقافة السلف الصالح (وهذا ما يجعلها سلفية)، لكن بمظهر حديث وأدوات حديثة ومؤسسات حديثة. الانضباط مهم جداً وكذلك الانصياع للأوامر؛ اللباس عصري والدراسة الجامعية العلمية محبذة؛ اللحية مشذبة والكلمات محسوبة؛ والحجاب للنساء متشابه كاللباس العسكري؛ وهناك كثير من التقية السياسية والتحزب والتماهي التام مع الجماعة. عندما يدخل الفرد في الجماعة (يبدأ التأطير والجذب من سن المراهقة) فإنه سيمضي معظم أوقاته مع أعضاء آخرين في الجماعة وقد يعمل مهنياً معهم ويتزوج من بناتهم. اليوم، هذا النمط من التدين يحاول محاكاة نجاحات حزب العدالة في تركيا من حيث الاهتمام بمنظمات المجتمع المدني، التركيز على الحكم المحلي، والاختراق البطيء لمؤسسات الدولة المركزية، والالتزام بشكل ومؤسسات الدولة الحديثة بما فيها الدستور والبرلمان وفصل السلطات، وبناء شبكات اجتماعية ومصلحية ضخمة. يزعم هذا النمط من التدين، على غرار النمط الملتزم، بوجود أمة إسلامية عابرة للحدود، وهوية سنية هي هوية الأغلبية، وثقافة وطنية متماهية مع الإسلام السني، إنها فعلاً أيديولوجية قومية دينية.

التدين الجهادي يجمع بين السلفية الوهابية (أقدم من التدين الملتزم)، والطفرة الجهادية المتحوِّلة عن التدين السياسي، والنزعة العالمية التي ظهرت مع الجهاد الأفغاني. وهذه السلفية مختلفة عن السلفية الإصلاحية المسماة بالشامية. هذه الأخيرة ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وكان هدفها مواجهة التحدي الثقافي الغربي؛ ومن أعلامها الأوائل طاهر الجزائري ورشيد رضا. أم السلفية الجهادية دخلت سوريا بشكل ملموس مع الجهاد العراقي ضد الغزو الأمريكي بعد 2003. شجع النظام في سوريا على تجنيد وإرسال متطوعين سوريين للحرب في العراق ضمن مجموعات جهادية عالمية ومحلية؛ وألقاهم في السجون عند عودتهم. أخذ هؤلاء أثناء وجودهم في العراق، وأحياناً أثناء وجودهم للعمل في دول الخليج، الأفكار السلفية الوهابية التي طورتها المؤسسة الدينية السعودية والأفكار الجهادية العالمية التي طورها فلسطينيون وأردنيون ومصريون أثناء الجهاد الأفغاني. بعد تراجع الثورة السلمية وانتشار العنف في سوريا في أواخر 2011، وجد الجهاديون لأنفسهم فسحة جديدة وموضع قدم فقدوه في العراق، فظهرت جبهة النصرة القاعدية والدولة الإسلامية العراقية. كما ظهرت فصائل جهادية أسسها سلفيون جهاديون سوريون خرجوا من سجن صيدنايا الشهير في حزيران من عام 2011.

التدين الجهادي مؤسساتي بامتياز، ويصعب على الشخص منفرداً أن يتحول إلى السلفية الجهادية. البعد المعرفي بسيط ويقوم على المكفرات العشرة التي صاغها مؤسس الوهابية السعودية محمد بن عبد الوهاب. وكما قال أحد المراقبين للثورة السورية، “يصبح المرء شيخاً من شيوخ السلفية الجهادية في سوريا في أسبوعين، وبعدها يمكنه أن يحاجج ويفحم أي خصم بأن يكفره”. وقد أظهرت دراسات عن الهجمات الإرهابية في أوروبا وأمريكا أن المتحولين إلى الجهادية السلفية كثيراً ما يكونون مجرمين صغار ومتمردين معزولين اجتماعيا. تؤمن السلفية الجهادية بإعادة الخلافة الإسلامية “على منهاج النبوة” وذلك بالفهم والتطبيق الحرفيين للسنة النبوية والقرآن، وتركّز على تطبيق الحدود (خاصة العنيفة)، وعلى استمرارية الجهاد حتى تتحول البشرية كلها إلى الإسلام أو تدخل تحت سيطرة الشريعة الإسلامية على طريقتهم. الإمارة والخلافة التي ينادون بهما كمنظومة سياسية تقومان على بيعة لقائد، وإنشاء بعض الدواوين الإدارية التي تستخدم الأدوات القمعية للدولة الحديثة. من الناحية السلوكية، تركز الجهادية على التميّز بالمظهر واللباس والحديث عن بقية المجتمع لتمييز الفرقة الناجية من المؤمنين (أي هم) عن الفرق الضالة والكفار (أي بقية الناس). الشعر الطويل المنفوش واللحية الطويلة الشعثة واللباس الأفغاني والكلام بالفصحى والسواك ومجابهة المجتمع بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتكفير والانعزال، كلها سلوكيات سلفية جهادية. العنف كسلوك شخصي وممارسة مؤسساتية أساسي في هذا النمط من التدين لأن له مفعول تطهيري للفرد وللمجتمع. أما التجربة الشعورية فتتكون ضمن الجماعة الجهادية المنعزلة من خلال الجهاد الدائم والعنف التطهيري وادعاء الفوقية الأخلاقية واحتقار الآخرين لأنهم أدنى درجة في الإيمان والإنسانية. المشكلة في الجهادية هي أن التدين الملتزم لا يستطيع أن يفنّدها تماماً لأنها تدعو إلى أساسيات في التدين السني الملتزم مثل الخلافة وحكم الله من خلال الشريعة والواجب الجهادي، ولأنها تجابه أعداء الأمة من حكام طغاة وإمبريالية أمريكية وطغيان ثقافي غربي. ورغم أن التدين الملتزم السوري جذوره صوفية وعقيدته أشعرية إلا أنه لا يمتلك الفلسفة السياسية والثيولوجيا الكافية والعميقة ليصوغ الأساسيات نفسها بطريقة مختلفة عن السلفية الجهادية. ولذلك فأقصى ما يمكن للتدين الملتزم أن يفعله هو اتهام الجهاديين بالخروج (خوارج) عن إجماع الأمة المتخيّل، والإفراط في العنف وهو إفراط في الدرجة وليس في الجوهر والمقاصد. أما التدين السياسي فهو أكثر عملية ومرونة، وقدرته التبريرية لعداء السلفية الجهادية أو للتحالف معها كبيرة لأنه نمط نخبوي يهتم بالممارسة والأدوات أكثر من اهتمامه بالفلسفة والثيولوجيا.

التدين الليبرالي لا يهمه المعرفة العميقة للدين بقدر ما يهمه التشابه الثقافي الذي يمكن على أساسه بناء تحالفات اقتصادية. إنه تدين شريحة صغيرة من المجتمع المديني السني السوري هي شريحة رجال الأعمال والتجار الكبار والصناعيين السنة. لا يوجد جانب مؤسساتي لهذا النمط إلا إذا انتمى بعض أفراده إلى جماعة مشيخية ما يصرّ زعيمها على التمايز الفكري والاجتماعي لمريديه. وهنا نتساءل، لماذا يحتاج هؤلاء إلى هوية دينية طائفية؟ في الحقيقة، إن انعزال نخبة الدولة في سوريا عن بقية المجتمع جعل من الصعب إنشاء مؤسسات تكنوقراطية تدير مصالح هذه الشريحة من الناس. الدولة في عهد الأسد تحكمها نخبة ضيقة عشائرية وعسكرية، تتفرع منها مجموعات ولاء ومحسوبية أهمها مخابراتي ثم عسكري ثم طائفي ثم حزبي. مؤسسات الدولة، رغم تغلغلها في المجتمع، إلا أنها غير متطورة قانونياً وإجرائياً وتقنياً، ولا تسمح للمجتمع المدني بالتطور خشية أن ينافسها. البنوك مرتبطة بالدولة والشركات الكبرى خاضعة لشراكات مع النخبة الحاكمة، ورؤوس الأموال الخاصة لا تستطيع أن تكبر عن حد معين. هذا كله يجعل الشبكات القائمة على الانتماء الطائفي ضرورية للاقتراض وتحويل رؤوس الأموال وضمان السيولة النقدية بالعملة الصعبة وحل الخلافات التجارية وإبرام العقود الملزِمة لأطرافها. رجال الدين يلعبون دور الوسطاء والضامنين لكل هذه المعاملات الاقتصادية والاجتماعية. قد لا يكون للتدين الليبرالي دور في الثورة السورية لكن كان له دور في بعض مراحلها وسيكون له دور في مستقبلها. يعطينا النموذج التركي مثالاً عن كيفية توظيف مثل ها النمط من التدين في السياسة عن طريق تحالف بين رجال الأعمال (رأس المال) والتدين السياسي (الدولة) والتدين الملتزم (الدعاة) من أجل تحويل شكل التدين الشعبي ليصبح ثقافة وطنية تنتخب النخب السياسية الجديدة (الإسلامية) وتستهلك السلع الجديدة (الإسلامية) وتقترض من البنوك الجديدة (الإسلامية).

أخيراً، نمط التدين الهوياتي/الثقافي، قد لا يعتبره المنظور الشرعي المعياري للتدين أنه متدين أصلاً أو متدين كفاية. هذا النمط شخصي وليس له مظهر مؤسساتي. المعارف فيه تقتصر على أساسيات الإسلام، والممارسات على الحد الأدنى الذي يضمن الراحة النفسية أو الانتماء إلى الجماعة المحيطة. ينتمي إلى هذا النمط العلمانيون واللادينيون والملحدون وكثير من المثقفين وأصحاب الشهادات العليا، بالإضافة إلى المسلمين الإسميين الذين يعتبرون أن ثقافتهم إسلامية ويعتزون بها لكنها ثقافة منفتحة على الغرب والعولمة الثقافية. الهوية السنية عند هؤلاء ليست الهوية الأقوى وانتماءاتهم السياسية قومية وطنية غير إسلاموية وأحياناً يسارية. أصحاب هذا النمط من التدين لم يصوغوا اشتراكهم في الثورة السورية ومطالبهم صياغة إسلامية وإنما صياغة تركز على محاربة القمع واحتكار السلطة وعلى إقامة حكم القانون وإنشاء دولة الخدمات الحديثة التي تضمن المساواة في المواطنة والفرص وتوزيع الثروة.

علاقة التدين الإسلامي بالثورة السورية

هنا لا بد من الإشارة بدايةً الى أن أنماط التدين الليبرالية والهوياتية كان لحامليها مشاركة في الثورة، وخاصة السلمية. لكن المعارف والقرارات والممارسات الخاصة بحاملي هذين النمطين من التدين في الثورة السورية ليس لتدينهم أثر كبير فيها وإنما اعتمدوا على أيديولوجيات أخرى مثل القومية أو اليسارية أو الليبرالية الديمقراطية (حقوق الإنسان، الحريات، الدولة الحديثة، البرلمانية) التي أصبحت اليوم أيديولوجيا عالمية يتعامل معها الكثيرون على أنها أمر واقع أو آخر مراحل تطور التاريخ أو أفضل الموجود أو نتاج تطور العلم والتكنولوجيا والعلوم الاجتماعية. ولذلك فإننا سنركز على دور أنماط التدين الشعبية والملتزمة والسياسية والجهادية. ولا يعني اهتمامنا بدور التدين أن الأيديولوجيا الدينية كانت العامل الأهم في قيام الثورة، أو أنها ساهمت في صنع الصياغة الأكثر انتشاراً لسردياتها ومطالبها أو حددت الممارسات الأكثر انتشاراً في كل مراحلها، أو أنها المعبرة عن تطلعات كل السوريين، أو أنها التي ستقرر مصير الأزمة السورية ومستقبل البلد والدولة في سوريا. كان للتدين كأيديولوجيا وممارسات وتجارب شعورية أدوار مختلفة الانتشار والقوة في المراحل المختلفة للثورة، ويمكن أن نصوغ مقاربات نظرية متعددة أخرى لفهم الجوانب الأخرى لهذه الثورة الشعبية والأزمة الدولية التي نتجت عنها.

الثورات من منظار نفسي اجتماعي (5)

لماذا يشارك الإنسان في فعل جمعي مثل الثورة؟ هناك منحيان للتفكير النظري في هذا السؤال: منحى المعضلة الفردية (individual dilemma)، ومنحى المعضلة الجمعية (social dilemma). المنحى الأول يرى أن قرار المشاركة في النهاية قرار فردي تحكمه المنفعة الفردية، وبالتالي فإن الفعل الجمعي هو مجموع ميكانيكي للأفعال الفردية. أما المنحى الثاني فيرى أن المجموعة البشرية تتخذ قرار الفعل جمعياً وتنفذ الفعل جمعياً من أجل تحقيق منفعة جمعية، بغض النظر عن زيادة أو نقصان المنفعة الفردية.

يعتقد المنحى الأول أن كل فرد هو إنسان عاقل يسعى لتحقيق أقصى منفعة فردية ممكنة في أي فعل يقوم به. هذا النموذج النظري للإنسان المتخذ للقرار يسمى النموذج العقلاني النفعي (rational utilitarian). هذا المنحى يعتقد بأن المنفعة الجمعية لا تحصل إلا إذا تحققت المنفعة الفردية لكل فرد مشارك في الفعل الجمعي، أي الثورة. وبالتالي فإن القرار الفردي بالمشاركة يقوم على ضمانات الحصول على منفعة فردية بعد القيام بالفعل. فإذا لم توجد مثل هذه الضمانات فإن الثورة تصبح مستحيلة. هذه هي المعضلة الفردية؛ الإنسان العقلاني النفعي لن يشارك غالباً في أية ثورة إلا في حالات نادرة. فكيف تقوم الثورات إذن، الناجحة منها والفاشلة. الوجه الآخر للمعضلة الفردية هو أن المساهمة الفردية في النجاح المحتمل، حتى ولو كان مضموناً، تبدو صغيرة إلى درجة أن اختفاءها لن يؤثر على الناتج العام. وبالتالي فإن الإنسان العقلاني النفعي لن يتغلب على عطالته الذاتية ولن يحس بأهميته؛ فاستحالة الثورات إذن مضاعفة إذا اعتمدنا النموذج العقلاني النفعي؛ وقيام أية ثورة هو إما بسبب عدم عقلانية الأفراد أو عدم معرفتهم كيفية حساب منفعتهم الفردية. أي أن الأفراد قد يخطئون في تقييمهم لفرص النجاح أوفي تقييمهم لأهميتهم الفردية في زيادة فرص النجاح (أوهام أو خطأ في الحساب العقلاني). وبالتالي فإن قيام أية ثورة حسب النموذج العقلاني النفعي يأتي من أخطاء، وهذا ما يقود إلى الاعتقاد بأن الثورات تقوم على تناقض (paradox). بعيداً عن فرضية الأوهام، إذا أصرينا على عقلانية قرار المشاركة فلابد من حل للخروج من المعضلة. قد يعتقد بعض الأفراد أن الضرر (وليس المنفعة) من عدم قيام الثورة سيكون له تأثير على الجميع وبالتالي فإن الضرر الفردي ينتج عن الضرر الجماعي (عكس المنفعة، حيث المنفعة العامة تحصل من المنفعة الفردية). وكذلك قد يكون بعض الأفراد متفائلين ويعتقدون أن أهمية مساهمتهم ضئيلة لكن ليست معدومة. وبالتالي فمن الممكن وجود كتلة حرجة (عتبة الثورة) من المتفائلين تجعل البدء بالثورة ممكناً. لكن ما هو احتمال أن يكون هناك ما يكفي من المتفائلين حتى نصل إلى عتبة الثورة؟ لا نعرف، وبالتالي فإن قيام أية ثورة هو مسألة حظ لا أكثر ولا أقل.

الوسيلة الوحيدة لتفسير قيام الثورات باستخدام النموذج العقلاني النفعي هو إدخال متحولات جديدة في الحسابات العقلانية؛ على سبيل المثال، الفائدة المحتملة وليس الفائدة الناجزة، والأهمية المحتملة وليس الأهمية الأكيدة. لو نجحت الثورة سنستفيد جميعاً وسيكون لفعلي الفردي أهمية كبيرة جداً. هنا تصبح الخسارة المحتملة في حالة عدم المشاركة الفردية متبوعة بفشل الثورة كبير جداً. لا بل إن مشاركتي الضئيلة ومشاركة الأفراد أمثالي ستزيد من فرص النجاح أو ستقلل من فرص الفشل، وبذلك تصبح أهمية المشاركة الفردية هائلة. كذلك فإن الثورات ليست فعلاً واحداً وإنما أنواع كثيرة من الأفعال، أي أن نوعية مشاركتي قد تكون بالمقارنة مع من يملك مؤهلاتي وليس بالمقارنة مع كل المشاركين في الثورة، وهذا قد يزيد من أهمية مشاركتي، لا بل قد يجعلها ضرورية.

الفرق بين الاعتبارات الأولى التي ترى أن الثورة تناقض، والاعتبارات الثانية التي تحافظ على عقلانية المشاركين لكنها تطرح متغيرات جديدة هو إدخال المصلحة العامة في الحسبان. النموذج العقلاني الأناني الذي ينطلق من الفرد لا يشرح قيام الثورات، ولا يمكن شرح قيام الثورات إلا بإدخال المصلحة العامة (مثل: نجاح الثورة سيزيد منفعتي الفردية؛ أو مشاركتي ستزيد فرص النجاح) ولو كعامل سلبي (فشل الثورة سيضر الجميع ومنهم أنا؛ عدم مشاركتي ستكون كارثية للجميع ومنهم أنا). إذن شرط المنفعة الجمعية ضروري حتى في النموذج العقلاني النفعي الفردي. هذا يشجع على دراسة المنحى الثاني في تفسير مشاركة الناس في الثورات؛ ونعني منحى المعضلة الجمعية الذي يقول بأن قيام الثورة يكون دائماً قراراً جمعياً للقيام بفعل جمعي من أجل تحقيق منفعة جمعية. في هذه الحالة هناك سيناريوهان يمكن تخيّلهما لاتخاذ مثل هذا القرار.

في السيناريو الأول (حلاوة النجاح، تعميم النجاح الجمعي) نجد أنفسنا مهتمين بالمصلحة العامة لأنها متماهية مع المصلحة الفردية، وننتظر ما يجعلنا نعتقد بأن الثورة ستحقق منفعة للجميع لنسارع إلى المشاركة. هنا نجد أنفسنا متفائلين بفرص نجاح الثورة، ومعتقدين بأن ثمن المشاركة الفردية لا يهم مادامت المنفعة الجمعية عالية، لا بل إن التضحية تصبح ممكنة كلما زادت الفائدة الجمعية. كما ولا نقلل من احتمال أن تكون مشاركتنا الفردية أساسية من أجل النجاح. في مثل هذا السيناريو، وحسب علم النفس الاجتماعي، ما هي الشروط التي تحفز الناس على المشاركة؟ يبدو أن هناك أربعة شروط:

● الأول (دوام الحال): يجب أن يؤمن الناس بأن القهر والقمع لن يزولا إلا بالثورة. فإذا كان هناك احتمال بأن الأوضاع ستتغير قريباً، فإن الناس لن تثور لأنها تعتقد بأن وضعها السيء هو وضع مؤقت. ● الثاني (الجدوى الجمعية): يجب أن يؤمن الناس بأنهم معاً قادرون على تغيير الوضع. أي يجب أن يؤمن الناس بوجود موارد بشرية ومادية كافية يمكن تجييشها بنجاح من أجل الانتصار. وكلما كانت فرص النجاح أكبر كلما زادت المشاركة حتى ولو لم يكن الحنق الجماعي عالياً. ● الثالث (الطريق المسدود): يجب أن يتأكد الناس بأن فرص اختراق جدار النخبة الحاكمة فردياً شبه معدوم. معظم الناس يفضلون العمل لوحدهم، فإذا كانت فرص الانتقال من طرف المضطهَدين إلى طرف النخبة المتسلطة ممكنة فإن معظم الأفراد سيفضلون هذا النوع من الفرص على الاستراتيجية الجمعية في تحقيق التغيير. ● الرابع (نحن المضطهَدين): يجب أن يشعر المشاركون بأن هويتهم متماهية تماماً مع الجماعة المضطهَدة (6). يجب أن يحس المشاركون في الثورة بأنهم ينتمون إلى جماعة متماسكة ومضطهَدة. الإحساس الفردي بالعوز النسبي (ما أحصل عليه لا يتناسب مع ما أستحقه) ليس كافياً، يجب أن يكون هناك إحساس مشترك بالاضطهاد وعدم تكافؤ الفرص.
في السيناريو الثاني (حلاوة التضحية، تعميم الفشل الجمعي) نجد أنفسنا مندفعين لتحقيق المنفعة العامة حتى ولو كانت النتيجة ضارة على المستوى الفردي، أو لأن المنفعة الفردية لا تهم أمام احتمال الفشل الجمعي. هنا نجد أنفسنا غيريّين متعففين عن المصلحة الفردية في سبيل المصلحة العامة، وأحياناً غير عقلانيين في غيريتنا. في مثل هذا السيناريو، وحسب علم النفس الاجتماعي، ما هي الشروط التي تحفز الناس على المشاركة؟ إن الشرط الأكثر وضوحاً هو حجم المنفعة الحاصلة من احتمال النجاح بالمقارنة مع حجم الضرر الحاصل من احتمال الفشل. فإذا كان الفرق شاسعاً سيسعى الناس إلى المشاركة بدلاً من التقاعس والهرب. كما أن الإحساس بأن عدم المشاركة سيكون كارثياً على الجميع يدفعنا إلى المشاركة بدل أن يثبطنا عنها. وإذا كانت شخصية الفرد اجتماعية ومحبة للتعاون والعمل الجمعي فإن المشاركة ستكون كبيرة. وكذلك فإن درجة التماهي مع الجماعة المضطهَدة ستحدد درجة المشاركة. المنتمون إلى مجموعات صغيرة متماسكة ضمن المجموعة الكبيرة قد تكون مشاركتهم أقل في هذا السيناريو. كذلك فإن درجة التواصل بين أفراد المجموعة سيزيد من المشاركة لأن التواصل يزيد اللحمة والتماهي مع الهوية الجمعية ويزيد من الوعود التي يعطيها الفرد لجماعته، بالتالي التزامه تجاهها.

التدين الإسلامي وقرار المشاركين الأوائل

إذا اعتمدنا النموذج الفردي العقلاني لاتخاذ قرار المشاركة في التظاهرات الأولى وجب التركيز على المنفعة الفردية التي قد يجنيها المشارِك في الثورة، وعلى أهمية دور الفرد في الفعل الجمعي. وقد وجدنا أن هذا النموذج لا يسمح بمشاركة الفرد إلا إذا مرت المنفعة الفردية من خلال المنفعة الجمعية، وركز المشارك المحتمل على التخصص مما يجعل المشاركة الفردية تبدو مهمة لأن حقل المقارنة أصغر. في هذه الحالة، ما هي الصياغة الإسلامية للمنفعة الجمعية التي قد تتحقق من التظاهر والثورة؟ وما هي الصياغة الإسلامية للتخصصات المختلفة التي يحتاجها المتظاهرون؟ إسلامياً يمكن أن تتحقق المنفعة العامة بإنهاء حكم ظالم ومتجبر، بإعادة حرية العقيدة والممارسة الدينيتين، بالتخلص من حاكم كافر وطغمة كافرة، بانتقاء حاكم مسلم ومؤمن، بإقامة الشريعة الإسلامية، بإعادة الطابع السني التقليدي للبلد وبالتالي جلب الرضى الإلهي، برد الحقوق والكرامة وضمان أمن النفس والدين والعرض، بالقصاص العادل من المسؤولين عن الفساد والسجن والتعذيب، بالثأر لثورة الإخوان المسلمين الموءودة في الثمانينات، بتمكين الفئة الناجية، بالقضاء على حكم علماني، بإقامة الدولة الإسلامية، بإقامة دولة الخلافة، بإعلان الجهاد الفريضة المنسية، أو بإيقاف انتشار التشيع ومظاهره. كما يمكن أن تنتج عن الثورة مضرة عامة بإثارة الفتن، بالخروج على الحاكم صاحب الشوكة، بالتذرع بغياب الأمن من أجل التعدي على الممتلكات والأفراد. ولا نعتمد هنا فقط على محاكمة شرعية قائمة على نصوص وقياس وتجربة السلف الصالح، بل على أفكار وتقييمات وقناعات سائدة تستخدم مصطلحات وأخلاقيات ودوافع إسلامية معروفة للجميع ومتداولة بكثرة. ونذكر هنا بأننا لا نبحث عن دور الإسلام المعياري في الثورة وإنما عن دور التدين الإسلامي حسب أنماطه التي اعتمدناها أعلاه. وإسلامياً يمكن أن نتصور التخصصات التالية: الدعاء المستجاب، حضور صلاة الجمعة، الألفة الناتجة عن ارتياد المسجد الذي ستخرج منه المظاهرة، الخطابة، الصوت الجهوري وتلاوة القرآن، إمامة الصلاة والحس القيادي، استبطان مفهوم التضحية ومفهوم الشهادة ومفهوم الجهاد، والإيمان بالقضاء والقدر.

نمط التدين الإسلامي الشعبي يحتوي معظم الصياغات السابقة الذكر للمنفعة العامة بالإضافة إلى بعض التخصصات. التدين الشعبي قد يرى في الثورة دفاعاً عن الكرامة والعرض والدين، إنهاءً للظلم والجبروت وإحلالاً للعدل، عودةً لحرية ممارسة بعض مظاهر التدين مثل الحجاب والموالد والاستماع لتلاوة القرآن في الأماكن العامة دون خوف، وإحلالاً لحاكم مسلم مؤمن محل حاكم كافر. ويسمح التدين الشعبي بتخصصات مثل حضور الصلوات جماعة وخاصة الجمعة، ألفة المساجدة، واستبطان مفهوم الشهادة، والإيمان بأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. وقد يزيد التدين الشعبي من التفاؤل بفرص النجاح لأن يد الله مع الجماعة، ولأن تحقيق المنفعة الدينية العامة مرضاة لله مما قد يزيد من فرص الاستجابة الإلهية لدعاء المؤمنين، ولأن الإيمان بالقضاء القدر يزيد من شجاعة الأفراد ويساعدهم على كسر حاجز الخوف. كل هذه الاعتبارات قد تدخل في حسابات المشارَكة ضمن أنماط التدين الأخرى وحتى التدين الهوياتي ذي المظهر العلماني. أما صياغات المنفعة العامة مثل إقامة حكم الشريعة الإسلامية وإنجاز القصاص العادل وإيقاف التشيع وتصوّر تخصصات مثل الإمامة والخطابة والجهاد فإنها تتلاءم أكثر مع أنماط التدين الملتزم المؤطر والسياسي الحزبي والجهادي. التدين السياسي الحزبي قد يعتمد صياغات مثل الثأر لثورة الإخوان، إقامة الدولة الإسلامية، إقامة دولة الخلافة، أو تمكين الفئة الناجية؛ وتخصصات مثل التنظيم الحزبي، المعرفة الإسلامية السياسية، والتوجيه العقائدي. أما التدين الجهادي فقد يعتمد صياغات مثل إقامة دولة الخلافة، القضاء على حكم علماني، أو إعلان فريضة الجهاد؛ وتخصصات مثل الجهاد العالمي والمشاركة في ساحاته مثل أفغانستان والبوسنة والعراق، العصبية بموالاة المؤمنين دون غيرهم، التنظيم العابر للحدود، أو معرفة التجربة الأفغانية في إقامة الدولة الإسلامية السلفية.

أما صياغات مثبطة مثل حصول المضرّة العامة بإثارة الفتن، بالخروج على الحاكم صاحب الشوكة، أو بالتذرع بغياب الأمن من أجل التعدي على الممتلكات والأفراد فإنها قد تدخل في حسابات التدين الملتزم المؤطر وربما الحزبي السياسي. التدين الحزبي السياسي حسم أمره منذ زمن طويل من ناحية الخروج على الحاكم ويستطيع أن يحاجج ضد مضرة إثارة الفتن بأن فتنة الحاكم الكافر أعظم من فتنة الحرب. وقد تكون صياغات مثل المنفعة بإقامة الشريعة وحكم الخلافة وتمكين الفئة الناجية وإعلان الجهاد مثبطة للتدين الجهادي في حال أن الثورة اقتصرت على المظاهرات والمطالب السياسية دون اللجوء للعنف. وكما ذكرنا فإن حسابات التدين الهوياتي ستكون أقرب إلى حسابات علمانية منها إلى حسابات دينية. نموذج القرار الجمعي، حسب سيناريو تعميم النجاح الجمعي، قد يعطي دوراً كبيراً للتدين بكل أنماطه، وذلك لأن صياغات التدين للمنفعة أو المضرة هي بعمومها جمعية ومتفائلة بطبعها، وخاصة عند نمطي التدين الملتزم المأطر والحزبي السياسي. ولا يعني هذا أن الثورة السورية بدأت في آذار من عام 2011 لأسباب دينية بحتة. فبالنسبة للتدين الشعبي، وهو النمط الأكثر انتشاراً، المنفعة العامة هي شعورية فيما يخص الدين، أما المنفعة الاقتصادية أو السياسية فصياغتها كانت علمانية غير دينية في الأشهر الأولى للثورة، ولا نرى لها علاقة بالتدين الشعبي. لكننا في هذه الحلقة نركز على دور التدين في الثورة وخاصة بدايتها، ولا ننظر إليه كسبب إذ أن الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كانت قوية جداً؛ كما أننا ننظر إلى التدين كمعطى واقعي قد يدخل في حساب القرار الجمعي ببدء التظاهر وإطلاق الثورة السورية. لا توجد دراسات إحصائية لقياس دور هذين النمطين في إطلاق الثورة، لكن من المعروف أن الحاملين لنمط التدين الحزبي السياسي كان معظمهم يسكن خارج سوريا في البدايات، لكن كان لهم وجود كبير وكثيف كمشجعين وداعمين ومحفزين. أما الحاملين لنمط التدين الملتزم المؤطر فنعتقد أن مشاركتهم كانت كبيرة في إطلاق الثورة وفي المراحل التالية: كما نعتقد أيضاً بأن حسابات المشاركة بالنسبة إلى هؤلاء كانت في جزء لا يستهان به دينية.

أما التدين الجهادي فإنه لا يرى مصلحة الجماعة إلا من منظار نخبوي (بانتصار الفئة الناجية وتمكينها) وعنفي (الجهاد بالقتال)، كما أن خياراته وأدواته محدودة العدد. ولذلك فإن نموذج القرار الجمعي، كما في نموذج القرار الفردي العقلاني، سيقودنا إلى الاستنتاج بوقوف حاملي هذا النمط من التدين على الهامش عند انطلاق المظاهرات وأثناء انتشارها ينتظرون بدء الحرب أو يدفعون باتجاهها.

أما الشروط الضرورية لاتخاذ قرار المشاركة وفق نموذج القرار الجمعي، سيناريو تعميم النجاح الجمعي، فإنها شروط لا يلعب التدين فيها أي دور إلا في شرط الهوية الجمعية، وبدرجة أقل في شرط الجدوى الجمعية. شرطا الاقتناع بدوام الحال وانسداد الأفق تحققا بسبب تعنت النظام الحاكم واحتكاره للثروة والسلطة وتاريخه الحافل بالعنف. قد تقوّي كل أنماط التدين من الإيمان بجدوى العمل الجمعي فيد الله مع الجماعة ولا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. أما شرط الهوية المتجانسة والقوية فقد لعب التدين بكل أشكاله دوراً في التأسيس لها وتحويلها وتقويتها. تثير الهوية الطائفية اليوم جدالاً كبيراً بين السوريين يدور حول دورها في إشعال الثورة، أسلمتها، وتحويلها إلى طريق العنف. إن الشرط الرابع في اتخاذ القرار الجمعي بالخروج للتظاهر من أهم الشروط لأنه المولّد لسمة “الجمعية” في المشاركة في الثورة. في نقاشاتنا السابقة كان من الواضح أن المشاركة في الثورة ليست مجموع قرارات فردية، وإنما قرار يُتخذ ضمن الجماعة ويضع مصلحتها فوق مصلحة الأفراد. والهوية هي الأيديولوجيا التي تجعل الجماعة ممكنة وبالتالي فهي تجعل القرار الجمعي ممكناً. فهل كانت الهوية المشتركة التي أعطت المشاركين الأوائل الإحساس بالانتماء إلى جماعة واحدة هي هوية دينية طائفية؟ فإذا كانت كذلك فما هي أنماط التدين الإسلامية الأكثر مساهمة في تشكيل وصياغة هذه الهوية؟

كل من خرج في تظاهرة الجامع الأموي في دمشق يوم 15 آذار كان يحمل هوية المستضعَفين الذين سدت الدولة الاحتكارية أبواب الفرص في وجوههم. اختيار الجامع الأموي كان قراراً تكتيكياً وليس هوياتياً ولا رمزياً. لم يكن انتقاء الجامع الأموي لأنه أموي سني مقابل النظام العلوي الشيعي، بل لأنه مكان تجمع (الصلاة) قد تردع حرمته النظام من ممارسة العنف تجاه المتظاهرين. يمكن القول أن هذه الحرمة صفة دينية احتمى بها المتظاهرون، لكن هذا لم يمنع عنهم التعرض للضرب المبرح في ساحة المسجد. بالمقابل يمكن القول بأن رمزية المسجد الأموي وطنية أكثر منها دينية، أي أن التعرض للضرب في المسجد الذي ينتمي للبلد جميعاً قد يثير غضب كل سوريين وليس فقط غضب أهالي الأحياء المحيطة بالمسجد أو أهالي دمشق المدينة. لكن اختيار مكان التظاهرة الأولى ليس هو الدليل الوحيد على الهوية الجامعة. لم يكن كل المشاركين مسلمين ولم يكن كلهم من حاملي أنماط التدين الملتزم أو السياسي بل أغلبهم من حاملي نمط التدين الشعبي وبعضهم من حاملي نمط التدين الهوياتي. هذا ما أشارت إليه المقابلات التي أجراها الكاتب. أما الذين خرجوا في تظاهرات درعا يوم 18 آذار فيمكن القول بأن الهوية المحلية الدرعاوية العشائرية جيشتهم أكثر من الهوية الدينية الطائفية. ولا نهمل هنا هوية المستضعَفين الذين اضطرت الخصخصة والاحتكار أغلبهم للعمل في لبنان والأردن ودول الخليج (7). وماذا عن هوية المشاركين في تظاهرات حمص الأولى يوم 25 آذار 2011؟ أول الهتافات الطائفية استخدِمت في حمص، لكنها لم تكن معممة على كل التظاهرات في ذلك اليوم وأيام الجمع التي تلته. كانت الهويات الطائفية في حمص واضحة بسبب وجود الطوائف الثلاثة السنية والعلوية والمسيحية بنسب جيدة في المدينة وفي الريف المحيط، وكذلك بسبب الاحتقان الذي أثاره مشروع حلم حمص الذي روج له المحافظ العلوي إياد غزال والذي هدد الملكيات العقارية في وسط المدينة والتي تعود أغلبها لمالكين سنة. وقد فسر كثيرون هذا المشروع بأنه محاولة علوية لإقصاء السنة عن المجال الاقتصادي في المدينة الذي سيطروا عليه تاريخياً. يمكن أن نعرض حجة مماثلة لتظاهرات مدينة حماة الأولى باعتبار أن المدينة لديها مظلومية تاريخية مع حكم عائلة الأسد في حربها مع الإخوان المسلمين الذين أعلنوها حرباً طائفية في ثمانينات القرن الماضي على ما وصفوه بحكم العلويين. لكن المظاهرات التالية لم تُظهر أية هويات طائفية من خلال الشعارات والمطالب. كذلك فإن المظاهرات الأولى لم تقتصر على المدن بل انتشرت بسرعة في الأرياف المحيطة بهذه المدن والتي لا نعرف عنها تاريخياً تمسّكاً بهوية سنية طائفية تجمع كل السنة في سوريا. الحجة المعاكسة ستأتي بالتأكيد من نجاح أسلمة الثورة في معظم أرجاء سوريا. فإذا كانت هذه الهوية الطائفية موجودة وفاعلة فإن المتظاهرين والمنظمين نجحوا لعدة شهور في إخفائها وتثبيط فعلها. في الأقسام التالية سنحاول أن نشرح كيف يمكن تفسير الأسلمة اللاحقة ليس على أساس هوية مسبقة مخفية وإنما على أساس ديناميكية الثورة، وردود أفعال النظام القمعية ودفعه باتجاه الحرب الطائفية، بالإضافة لحجم الضخ الخارجي من المغتربين السوريين والدول المحيطة. ونستطيع التأكيد هنا على أن الهوية الجامعة (قد لا تكون الوحيدة) لكل المتظاهرين الأوائل هي هوية المستضعَفين؛ كما كانت هناك هويات فاعلة أخرى محلية وطائفية واجتماعية وطبقية وسياسية.

نموذج القرار الجمعي، حسب سيناريو تعميم الفشل الجمعي، قد لا يعطي دوراً كبيراً للتدين الشعبي في اتخاذ قرار المشاركة، فكما ذكرنا، المنفعة الدينية هنا شعورية، والمنفعة غير الدينية ملموسة وضخمة وبالتالي تلعب الدور الحاسم في تحديد المشاركة. التدين الشعبي لا يجزي المشاركين ولا يعاقب الهاربين، وهذا قد يرفع من قيمة مؤشر المشاركة (تناسب عكسي). أما من منظور التدين الملتزم والتدين السياسي فإن المنفعة عظيمة في حال النجاح وصفرية في حال الفشل (مؤشر موجب)، والمضرة صفرية في حال النجاح وعظيمة في حال الفشل (مؤشر موجب) مما يجعل قيمة المؤشر عالية وموجبة، أي أن الحافز للمشاركة كبير. وفيما يخص الجزاء والعقاب فإن الجزاء كبير في حال المشاركة والعقاب كبير في حال الهرب، مما يزيد من قيمة المؤشر الموجبة وبالتالي من حافز المشاركة. ويتأتى ذلك من تنظيم وتلاحم الجماعة الحاملة لهذين النوعين من التدين، وبالتالي زيادة الرقابة على الأفراد وإيلاء الانضباط والانصياع للقيم المعيارية أهمية كبيرة.

أما إذا اعتمد هذان النمطان صياغة الفتنة والخروج على الحاكم فإن المنفعة صفرية في حال النجاح وعالية في حال الفشل (مؤشر سالب)، والمضرة عالية في حال النجاح وصفرية في حال الفشل (مؤشر سالب)؛ أي أن مؤشر المشاركة يشير نحو التثبيط عن المشاركة وهو ما رأيناه في حال سعيد رمضان البوطي ومدرسته ومن شابههم في التفكير. التدين الجهادي هنا أيضاً يدفع نحو الانتظار لأن المنفعة لا تأتي إلا بشكل واحد وبطريقة واحدة لا تمثلها الثورة السلمية. هنا أيضاً الجزاء والعقاب كبيران بسبب التنظيم والانضباط والرقابة، مما يزيد من القيمة السالبة للمؤشر وبالتالي التثبيط.

النقاش السابق يشرح دور التدين بأنماطه المختلفة في صنع قرار المتظاهرين الأوائل في الخروج للتظاهر، أي الأفكار التي دارت في خلد الأشخاص الذين نظروا إلى الخروج يوم الخامس عشر من آذار عام 2011 في دمشق أو يوم الثامن عشر من آذار 2011 في درعا كخيار مطروح ومحتمل. الكاتب وباحثون آخرون أجروا مقابلات مع العديد من المشاركين الأوائل في التظاهرات. خلال هذه المقابلات كان من الواضح أن قرار المشاركة كان قراراً فردياً وجمعياً في الوقت نفسه. القرارات الفردية بالمشاركة نحت منحى النموذج الفردي العقلاني إلى حد كبير مع تضخيم دور التضحية الفردية من أجل تحقيق المنفعة الجمعية أو التقليل من أهمية الضرر الفردي مقابل احتمال النجاح الجمعي. أما القرارات الجمعية بالمشاركة في التظاهرات الأولى فإن سيناريو تعميم النجاح يشرح معظمها. الشروط الأربعة كانت محققة وتصوّر المستقبل بعد النجاح لابد جعل المشاركين سكارى، خاصة بعد نجاح الثورة المصرية والتدخل الدولي في الثورة الليبية مما عزز من احتمالات النجاح في نظر كثير من المشاركين الأوائل.

الليلة السابقة لأول تظاهرة كانت مليئة بالنقاش بين أفراد وجماعات من الأصدقاء وأهل الحارة في طول سوريا وعرضها. المقابلات التي أجريت مع المشاركين تشير إلى أن هذه الاجتماعات كانت عقلانية هادئة حيث تكلم العديد عن احتمالات الفشل وعن الأضرار الفردية الجسيمة التي يمكن أن تنجم عن المشاركة. وحاولت المداخلات الفردية العديدة تثبيط الآخرين عن الخروج مع التأكيد على النية الفردية في الخروج في اليوم التالي، وكذلك التأكيد على الامتناع عن معاقبة الهاربين، أي أن الرسالة كانت “أنا سأشارك غداً ولكني لن ألوم أحداً إذا لم تشاركوا”. رغم الخطاب الفردي والعقلاني إلا أننا نعتقد بأن التجمع والنقاش دفعا باتجاه قرار جمعي، وهذه هي الحقيقة التي رآها الجميع لكن أحد لم يتكلم عنها. الرغبة الفردية بالتضحية من أجل الجماعة كانت واضحة، ومحاولة تثبيط الآخرين كانت لدفع الإحساس بالذنب في حال وقوع ضرر جسدي للآخرين، لكن الضرر الجسدي للنفس كان مهملاً تماماً. وهذا ما أعطى رسالة للجميع بأن الجميع مستعد للتضحية الفردية في سبيل منفعة الجماعة. تلك الليلة لم يكن هناك قرار جمعي معلَن بالمشاركة لكن كان هناك قراراً مبطناً. وفي اليوم التالي التقى كل المشاركين في اجتماع الليلة السابقة في أول مظاهرة. وهذا يدعونا إلى القول بأن القرار كان جمعياً لكن غير معلن، الاجتماع لم يكن لكسر حاجز الخوف وإنما لكسر حاجز الإحساس بالذنب بتوريط الجماعة في مغامرة قد تكون فاشلة وللتأكيد على أن الجماعة لن تعاقب أو تثيب أحداً.

كلما زاد عمر المشاركين المحتملين كلما أصبحت المحاكمة الفردية أكثر عقلانية وطغت المنفعة الفردية أو الضرر الفردي وكانت النتيجة التثبيط والإحجام عن المشاركة ومحاولة إقناع الآخرين بعدم جدوى المشاركة. إضافة إلى ذلك فإن من عايش عقد الثمانينات (أي كان مراهقاً فأكبر وقتها، وناهز الخمسين فأكبر عام 2011) ضخّم من حجم الخسائر في حال الفشل وقلّل من احتمال النجاح بسبب حاجز الخوف الشديد نتيجة معاناة الخوف في الثمانينات. أما الأصغر سناً فكان التفاؤل والتقليل من احتمال الفشل والاستخفاف بحاجز الخزف سمتهم الملحوظة. ولا علاقة لهذا بالتدين وإنما تشرحه الفجوة في تجربة الأجيال.

مع حلول ليل جمعة الخامس والعشرين من آذار كان من الواضح للجميع بأن المظاهرات ستستمر. بين هذا التاريخ وبين الشهر الثامن من عام، حين نجح النظام في محاصرة الأحياء ونشر القناصة والتعرف على القياديين وإلقاء القبض على بعضهم وقتل بعضهم الآخر واختباء أو فرار الآخرين، كيف يمكن تفسير استمرار التظاهرات؟ وهل كان للتدين بأنماطه المختلفة دور في استمرار التظاهرات؟ وما هو هذا الدور؟

التدين واستمرار الثورة السلمية

خلال هذه الفترة السلمية (الأشهر الخمسة الأولى) اقتصر التظاهر على أيام الجمع، خاصة المظاهرات الجماهيرية الحاشدة. كما توطدت سمات وأدوات مثل الخروج من المساجد، استخدام التكبير كهتاف، إطلاق صفة الشهداء على الضحايا، الخطب الحماسية في المساجد، صعود نجم الشيخ عدنان العرعور وخطابه الطائفي، تسريب فيديوهات طائفية لجنود النظام يتكلمون اللهجة العلوية ويهينون المساجد والقرآن، استهداف النظام للمساجد، تأكيد النظام على أن الثورة من عمل مندسين وجماعات مسلحة سلفية جهادية تستهدف الأقليات وخاصة الأقلية العلوية. هذه السمات والتي لها طابع ديني طائفي ليست هي السمات الوحيدة للثورة السلمية، لكنها مؤشرات على وجود نمط أو عدة أنماط من التدين في تجربة الثورة السورية السلمية. فما هو دور التدين في استمرار الثورة السلمية؟ لا نحتاج إلى نماذج جديدة لاتخاذ قرار بالمشاركة في الثورة، فالنماذج السابقة الذكر يمكن أن تبقى ذات قوة تفسيرية في حال مناقشة استمرار المشاركة. لكن متى تعجز هذه النماذج عن تفسير المشاركة ولماذا؟

كان قرار الاستمرار جمعياً (نموذج القرار الجمعي) بامتياز وطغى عليه سيناريو تعميم النجاح الجمعي، لكن مع مرور الزمن وزيادة القمع طغى سيناريو تعميم الفشل الجمعي. جادلنا أعلاه بأن أنماط التدين الشعبي والملتزم والسياسي تدفع باتجاه المشاركة، بينما يلعب التدين الهوياتي دوراً حيادياً (حاملو هذا النمط اعتمدوا على صياغات أخرى غير دينية للمنفعة والمضرة). الصياغة الدينية للمنفعة أو المضرة استمرت على حالها خلال الأشهر الأولى. سيناريو تعميم النجاح الجمعي يؤكد أن التفاؤل بنجاح الثورة وحجم المنفعة الجمعية المتوقعة من هذا النجاح يدفع الناس إلى المشاركة. هذا القرار تم اتخاذه مساء كل يوم سبق خروج المتظاهرين، وتم التحضير له في الاجتماعات والمناقشات والمداولات المتكررة على طول سوريا وعرضها أثناء الأيام الستة السابقة لأي يوم تظاهر (يوم الجمعة). الشروط الأربعة لا تزال محققة، لا بل تعزز الإيمان بها مع كل مظاهرة ومع كل اعتقال ومع كل قمع جماعي مارسه النظام. (دوام الحال) تعنّت النظام وعدم استجابته لأية مطالب عزّز الإيمان بأن الحال ستدوم على ما هي عليه ولن تتغير إلا بثورة عارمة. التأكيد الفردي على التضحية دفع إلى الخروج في اليوم الأول، وفي التظاهرات التالية أصبحت التضحية الفردية والجمعية مشهداً يومياً. أخبرني أحد المشاركين في مظاهرات دمشق الأولى أن قوات الأمن أحاطت به وأخذ ما لا يقل عن ستة جنود وعناصر أمن يضربونه ويركلونه، وعندما نظر حوله رأى حلقات مشابهة في وسطها متظاهرون يتعرضون للضرب. المضروب في إحدى الحلقات نظر إلى صاحبنا وابتسم وهو يتلقى الركلات، فرد صاحبنا الابتسامة. عندها، قال المتظاهر، “بأن إحساسه بالألم توقف وبات يسبح في فضاء شبه حالم لا مكان فيه للخوف”. مادام شريكي في الثورة يضحي ولا يأبه فأقل ما يمكن أن أفعله هو مقابلة التضحية بتضحية مماثلة؛ هذا كان لسان حاله الذي لم يعبر عنه بكلمات. (جدوى الفعل الجمعي) جميع المشاركين الأوائل أكدوا أنه كان لديهم شبهات بأن الثورة قد تخمد، لكن مع كل اجتماع ومع كل احتكاك بمشاركين متحمسين آخرين ومع كل مشاركة جديدة في أماكن أخرى من سوريا تعزّز الإيمان بجدوى التظاهر. الفعل الجمعي، التظاهر والنقاش واجتماعات التحضير، حسب ما وصفه عدد من المشاركين الأوائل كان حالة من النشوة الجماعية؛ نشوة عارمة تجذب الإنسان يوماً بعد يوم إلى الخروج وكأنه مدمن على التظاهر. في هذه الحالة الحساب بسيط جداً، الجماعة مارد خرج من قمقمه ولن يعود إليه وسيحقق كل أهدافه. المنفعة الشعورية التي يستخدمها التدين الشعبي في حساب جدوى المشاركة وفرص النجاح تحققت. (الطريق المسدود) طريق النظام إلى تغيير نفسه مسدود لكن طريق الثورة كان مفتوحاً. هنا الطريق المسدود لم يعد يشير إلى الحالة السابقة للثورة وإنما إلى المستقبل. قمع النظام كان شديداً واختلف حسب المناطق في البداية لكن بعد عدة أسابيع أصبح قمعاً معمماً بوسائله وحجمه. إذا خفف النظام من قمعه استنتج المتظاهرون أنه يتزعزع ويضعف، وإذا زاد من قمعه تأكدوا أن لا مجال للعودة لأن النظام سيكون لهم بالمرصاد. أصبح التظاهر استراتيجية هجومية لزعزعة النظام ودفاعية لردعه عن ملاحقة المتظاهرين في الحاضر ومنعه منعاً كاملاً في المستقبل. لقد أصبح استمرار الثورة ونجاحها ضرورةً وجودية. هذا هو الطريق المسدود الجديد. (الهوية الجمعية) من كان يقف على الهامش متفرجاً متردداً نزل لاحقاً إلى الشارع للتظاهر، ومن كان خائفاً لم يشارك لكن كان مؤيداً للمتظاهرين، ومن عادى التظاهر اختفى أو أعلن ولاءه للنظام. الاستقطاب حصل، والانتماء إلى جماعة المضطهَدين أصبح واضح المعالم وعلنياً.

قبل أن نتكلم عن تطور مفهوم الهوية خلال الأشهر الأولى، لا بد من التوقف عند ممارسة فعل الثورة وذلك لأن هذه الهوية ستتطور من خلال هذه الممارسة. دور التدين في التظاهر، أي الممارسة، أصبح يزداد يوماً بعد يوم. وليس هذا ما يسميه البعض “أسلمة الثورة” (سنتحدث عن هذا لاحقاً)، لكنه نتيجة طبيعية للثقافة العامة السائدة في المجتمع. إن صياغة المطالب، وهي المعبرة عن أهداف ورؤية المتظاهرين للمنفعة الجمعية، لم تتغير وبقيت علمانية بمعنى أنها بقيت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية: وقف الفساد، وقف القمع، إطلاق سراح المعتقلين، تفعيل الحقوق الدستورية، وإقامة انتخابات حرة. لكن الممارسة اليومية لفعل التظاهر والخطاب اليومي المستخدَم لرفع المعنويات وحشد الجهود جمعا معاً الديني والوطني بوتيرة متزايدة. ارتكزت الهتافات في البداية على التكبير وهتاف “الله سوريا حرية وبس”. وفي هذا الهتاف الأخير يجمع الهاتفون بين الإله والوطن وأساس الحياة الاجتماعية أي الحرية. وقد لا يكون الأصل في هذا الهتاف أكثر من مجر رد على هتاف سابق للثورة تفتقت عنه أجهزة دعاية النظام، ألا وهو هتاف “الله سوريا بشار وبس”، لكن الحفاظ على عنصري الإله والوطن في الهتاف له دلالاته. يذكرنا هذا الهتاف بظاهرة أمريكية تسمى بالدين الوطني (أو الوطنية الدينية) حيث يختلط الله بالوطن وتصبح الوطنية طقساً من الطقوس الدينية، ويتحول الدين إلى صلوات تدعو الله إلى مباركة الوطن والدولة. وليس هذا بعيداً عن المفهوم الإسلامي للدولة كمؤسسة بسيطة (حاكم وحاشية وبضعة دواوين بيروقراطية) هدفها تطبيق الشريعة، يرأسها مندوب الإله أو مندوبه على الأرض، أي الخليفة؛ والدعاء للخلفاء والأمراء من على المنابر بعد الصلوات عادة قديمة قدم الإسلام نفسه ولعلها أقدم. إن جمع الله والوطن في مرتكزات الجماعة يدل على وجود مكون سياسي في التدين الشعبي في سوريا. في الحقيقة فإن تصوّر النظام للجماعة على أنها قائمة على ركائز ثلاثة هي الله والوطن والرئيس ليس غريباً تماماً عن التصور الإسلامي للجماعة، والتي ترتكز على الله والوطن (النفس والممتلكات والعرض) والحاكم المسلم. ويمكن التساؤل، هل كانت الثورة ستكون ممكنة لوكان بشار الأسد، الحاكم الظالم، مسلماً سنياً؟!

مع كسر حاجز الخوف وتواتر المظاهرات وتزايد القمع تطورت الهتافات لكنها احتفظت بنسبة معتبرة من المصطلحات والإيحاءات الدينية مثل التشديد على شهادة الضحايا ودخولهم جنات الخلد (مثل “عالجنة رايحين شهداء بالملايين”، “لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله”)، والتركيز على التضحية الجسدية على منوال الشهادة (مثل “بالروح بالدم نفديك يا شهيد”)، والربط بين النظام وأعداء الله (“لا إله إلا الله وبشار عدو الله”، هذا الشعار كان أقل انتشاراً من الشعارات السابقة). الموت كان حاضراً بشدة بسبب قمع النظام، وبالمقابل كانت الصياغة الدينية للموت حاضرة أيضاً، أي التضحية والشهادة. الرمزية هنا قوية جداً، فالموت يصبح حياة لأنه تضحية من أجل الجماعة واستمرارها ولأن ضحية الموت يصبح شهيداً (أي حبيب الله) يعيش في جنة الإله حياة أبدية. لا يعني هذا أن الدين كان المؤثر الوحيد على الهتافات، لكن وجوده، مقترناً أو غير مقترن بالوطنية، مؤشر على الأثر المستقبلي للتدين في تغيير شكل وطبيعة الثورة السورية (8). إن تخلي النظام عن كل الخيارات المتاحة للتعامل مع الثورة واقتصاره على العقاب الجسدي والقتل، قابله عند المتظاهرين اختزال لممارسة الثورة، أي التظاهر، “بمشية نحو الجنة”، ليس كأحياء يسيرون نحو جنة أرضية بل كأموات-أحياء (أي شهداء) يسيرون نحو جنة أخروية. إنه اختزال قاتم يدل على تضحية عظيمة جمعية (بالملايين)، لكنها عدمية لأنها بمليونيتها تعني انتهاء الجماعة الدنيوية واستبدالها بجماعة متخيّلة أخروية من الشهداء الأبرار. إن هذا الهتاف إعادة صياغة لمفهوم نجاح الثورة (المنفعة) وتحويله من نجاح دنيوي أساسه الحياة الرغيدة إلى نجاح أخروي أساسه الحياة الأبدية في الجنة؛ لكن الحساب لا يزال قائماً ويشير باتجاه المشاركة. إن اختزال النظام في آلة للموت، واختزال الثورة بمشية نحو الموت، واختزال المنفعة بنجاح أخروي تزامن مع اختزال لمطالب المظاهرات “بإسقاط النظام”. لاحقاً ومع انتشار العنف، تم اختزال الممارسة الثورية بالقتال، بالتوازي مع تحوّل الهدف والمنفعة إلى هدف ديني بحت وحيد البعد، “ما خرجنا إلا لنصرة هذا الدين”. ولا نقول هنا بأن أسلمة الثورة كانت قدراً لا مهرب منه، على العكس، لكن الجو العام للثورة بعد عدة أشهر من القمع كان يسير باتجاه تزايد دور التدين في تصوّر الثورة كخطاب وممارسة وأهداف وحتى في إعادة تصوّر أسبابها.

كان خيار المساجد في البداية كنقطة لانطلاق التظاهر خياراً تكتيكياً وذلك لأن قانون الطوارئ يحظر كل التجمعات عدا صلاة الجماعة في المسجد وخاصة صلاة الجمعة. إن أي تجمع آخر سيشي بنية المجتمعين بالتظاهر وستتم تفرقته بسرعة. أما صلاة الجمعة فيمكن استخدامها كغطاء للتجمع ثم قلبها لاحقاً عند الخروج إلى تظاهرة. عملية القلب لم تكن مضمونة كل أسبوع فكثير من المصلين كانوا في المسجد للصلاة وليس للتظاهر، ولم يكن من المنطقي والأخلاقي تعريضهم لخطر آلة النظام القمعية. تحويل تجمع الصلاة إلى مظاهرة كان غالباً ما يكون في باحة الجامع وحين يتأكد المحرّضون والمشارِكون من وجود عدد لا بأس به من المشاركين المحتملين يمكن معه تخطي الكتلة الحرجة. لكن مع استمرار الثورة وازدياد قمع النظام أصبح الخروج من المسجد ضرورة. الناس لا تستطيع التظاهر إلا يوم الجمعة بسبب أعمالها وحاجتها للتكسب، وأزلام النظام في كل مكان مما يجعل أي تجمع مستحيلاً. فإما أن يجابه المتظاهرون قوات الأمن ويطردوهم من الحي مفسحين المجال للتجمع عند الرغبة، وإما أن ينتظروا يوم الجمعة ويعتمدوا بشكل رئيسي على الخروج من المسجد. ممارسة فعل الثورة أصبحت مرتبطة أكثر فأكثر بالمسجد. مع كل شهيد يعود المصلون إلى المسجد ويعود معهم المتظاهرون؛ ومع كل إمام وخطيب يلتحق بالثورة بسبب مكانته وتخصصه (القيادة والخطابة) يتجمع المشاركون في المسجد ليتزودوا بالحماسة والإيمان بالنصر (الرضى الإلهي) والحصانة ضد الموت (الشهادة)؛ ومع كل تكبيرة يزداد تعلّق المتظاهرين بالقوة الإلهية كمحرك وصانع للنصر؛ ومع كل ظهور للشيخ العرعور على قناة وصال الفضائية تزداد كثافة المفردات والعبارات والإيحاءات والرموز الدينية ويزداد ظهور رجال الدين كقادة فعليين أو روحيين للمتظاهرين.

إذا حرص الشيخ العرعور في البداية على تجنّب الخطاب الطائفي، فإن النظام أصرّ على التأكيد على أن ظهور العرعور وشعبيته وحدهما دليل على دينية الثورة (الهوية الجمعية). كان النظام بحاجة إلى أن تصبح الثورة دينية من أجل أن يعيد إلى أذهان مناصريه المستهدَفين بدعايته (أي العلويين والمسيحيين) أجواء الثمانينات، وبالتالي القناعة التي لا تقبل الشك بأن الأقليات تواجه وحشاً، أي الأغلبية، حرّضه التدين وأعماه التعصب. في الحقيقة فإن نمو وتبلور الهوية العلوية كهوية اجتماعية-سياسية (حول النظام) ونجاح النظام في تفعيلها عن طريق الخوف هو ما دفع هوية المتظاهرين إلى التبلور حول المكوّن الديني الطائفي أيضاً (الهوية السنية). ولا نزعم بأنه لم يكن هناك عند المتظاهرين الأوائل ومن شجعهم ودعمهم تصوّر لهوية الجماعة المضطهدَة كهوية دينية. لكن الهتافات والمطالب والخطاب العام الأولي للثورة لم يشي بهوية سنية متبلورة. بعد عدة أسابيع من التظاهر والقمع، من كان يقف على الهامش متفرجاً متردداً نزل إلى الشارع للتظاهر، ومن كان خائفاً ولم يشارك أصبح مؤيداً للمتظاهرين، ومن عادى التظاهر اختفى أو أعلن ولاءه للنظام. الانتماء إلى جماعة المضطهَدين أصبح واضح المعالم وعلنياً. المشاركة والمناصرة رسمت حدود الجماعة الثائرة المضطهَدة، والمشاركة في القمع والتشكيك والاتهام بالخيانة رسم حدود الجماعة الظالمة المضطهِدة. الفيديوهات التي تعمّد النظام تسريبها، والتي تظهِر جنوداً يوحون بأنهم علويون يدوسون المصحف ويشتمون الرب ويسخرون من صلاة “العراعير”، وضّحت للمضطهَدين سمات الهوية السنية التي يجب عليهم أن يتمسكوا بها.

إنها هوية بالتضاد، العلوي يشتم الرب ويحتقر القرآن ويدمر المساجد، وبالتالي السني يرفع صوته بالتكبير ويتمسك بالقرآن ويلتزم بالخروج من المساجد. أبنية المخابرات أصبحت مآوي العلويين والمساجد أصبحت مآوي السنة. البندقية أصبحت أداة العلويين والتظاهر أصبح أداة السنة (لاحقاً الجهاد). الخضوع الكامل أصبح مطلب العلويين، وإسقاط النظام بكل أشكاله أصبح مطلب السنة. دور الضحية أصبح الدور السني بامتياز في الحرب اللاحقة، ودور المتسلط الجبار أصبح الدور العلوي بامتياز (الأسد أو نحرق البلد). كان يكفي لأي مجادِل يؤكد طائفية النظام أن يشير إلى أن كل المناطق الثائرة سنية (أصبحت سنية) وأن كل الضحايا من السنة (ضحايا القمع وليس قتلى الجيش والمخابرات) لكي يكسب جولة المناظرة وليؤكد بالتالي على تماهي الجماعة المضطهَدة مع السنة والجماعة المضطهِدة مع العلويين. طبعاً كان من الممكن تفنيد هذه الحجة بالإشارة إلى أن الشبيحة في حلب أغلبهم من السنة، وإلى أن الميسورين في المدن الكبرى، وأغلبيتهم سنة، لم يخرجوا ضد النظام، وأن شريحة كاملة من مشايخ السنة أعلنوا الثورة فتنة وخروجاً على الحاكم. هذه الحجة ضعفت يوماً بعد يوم أمام تدمير المساجد وطغيان مفهوم الشهادة وزيادة عدد المشاركين في العنف المضاد واعتماد هؤلاء لخطاب ديني (طوعاً أم كرهاً، النتيجة لا تتغير). لكن وحتى بعد سبع سنوات من بدأ الثورة السورية لا يتماهى المنتمون إلى الثورة كلهم مع هوية سنية (حتى وإن انتموا إلى الفئة السنية) ولا يمكن إغفال الهوية السنية لكثير من مناصري النظام، ولا يزال بالإمكان المجادلة بأن الحرب في سوريا ليست كلها حرب هويات طائفية.

يجدر الذكر بأن التدين الملتزم دخل في مرحلة شك بسبب حساب المضَرة، وما أدى إليه من تثبيط، الذي تزعمه سعيد رمضان البوطي. الكثير من الملتزمين المشاركين في الثورة لم يستطيعوا شتم البوطي أو الدعاء عليه، واقتصروا بأن دعوا الله بأن يهديه إلى سواء السبيل. فهل يا ترى كان بقاء البوطي ضرورياً ليحاول جذب الملتزمين المشاركين إلى معسكر غير المشاركين، إن لم يكن إلى معسكر الموالي. في الحقيقة جذب مزيد من الموالين من السنة لم يكن حرجاً للنظام لأن معظم الملتزمين ينتمون إلى أوساط مدينية، وهذه الأوساط كانت حذرة من الانخراط الكامل في الثورة (لا بل بقيت فئاتها الميسورة موالية للنظام) التي طغى عليها انخراط الأرياف والمدن التي كانت أريافاً منذ ماض قريب. أما التخلص من البوطي فكان سيقضي على بذرة الشك عند بعض الملتزمين وسيدفعهم بالكامل إلى أحضان الثورة. هؤلاء يشكلون كتلة حرجة في أسلمة الثورة أي أسلمة الخطاب والأهداف والممارسات وهذا بالضبط ما كان النظام بحاجة إليه من أجل سد طريق العودة على العلويين والأقليات الأخرى المتخوفة من ثورة سنية. إن ولاء هؤلاء كجنود عند النظام أعلى قيمة من ولاء ملتزمين سنة لن ينخرطوا في صفوف الجيش والأمن من أجل الدفاع عن النظام. إذن هل قتل النظام البوطي أم قتله الثوار المتأسلمون المشجعون للعنف؟ لا نعرف، لكن نعتقد بأن قتله ساهم في أسلمة الثورة وهذا ما أراده النظام وأطراف أخرى سنفصلها في الحلقة الثانية.

الهوامش:

1- يود الكاتب أن يتوجه بالشكر إلى الدكتور جمال صبح على الدعوة التي وجهها إلى العديد من الباحثين والأخصائيين السوريين إلى الكتابة عن الثورة السورية من منظار نفسي إجتماعي. كانت هذه الدعوة هي المحرض على كتابة هذه المقالة. ونقيم عالياً محاولته إخراج أول كتاب سوري مكرس بأكمله لتحليل الثورة السورية من هذا المنظار العظيم الفائدة والقدرة التحليلية.

2- Lee Ross et al. “History of Social Psychology.”

3- يوهانس رايسنر. الحركات الإسلامية في سوريا. دارس الريس، 2005.

4- Thomas Pierret. Religion and State in Syria: The Sunni Ulama from Coup to Revolution. Cambridhe Press, 2013. توماس بيرييه. الدين والدولة في سوريا: علماء السنة من الإنقلاب إلى الثورة. دار كامبريدج للنشر، 2013.
5- Torbjörn Tännsjö, “Social Psychology and the Paradox of Revolution.”

6- الهوية أيديولوجيا تكوّنها وتحملها الجماعة المترابطة المتماسكة لترسم حدودها وتحدد من ينتمي إليها ومن هو خارجها ولا ينتمي إليها.

7- رايناود ليندرز وستيفن هايدمان. “الحشد الشعبي في سوريا: الفرصة والتهديد، وشبكات الممنتفضين المبكرين الإجتماعية. ترجمة أحمد نظير الأتاسي. ظهرت على موقع معهد العالم للدراسات في 4 نيسان 2017.
8- طبعاً لا يجب أن نغفل مؤثرات أخرى غير الدين في الهتافات مثل الرياضة (“علّي الطير على الطير باي باي يا بشار تصبح على خير”، “بسيطة شو فيها الجمعة منكفيها”) وسجعات ألعاب الأطفال (“يا حج محمد يويا”، “يا بشار ويا قيقة ياصرماية عتيقة”)، خاصة في مدينة حمص المعروفة بهوسها بفريق الكرامة لكرة القدم. هناك أيضاً مؤثر العادات والتقاليد كما في ربط الجبن عن التظاهر بالتشبه بالنساء (كما في نكتة “النساء لا يغطين شعورهن في حلب لأن البلد كلها حريم”) وكما في شعار جمعة الحرائر (“من كرامتنا وأعراضنا سنثور”) الذي لا ذكر فيه للنساء المعتقلات والمستهدفات بالقمع إلا من خلال كرامة رجالهن وأعراضهم. 

تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

You may also like...

shares