دعوني أفكر طائفياً وبصوت عال

ظهر هذا المقال على موقع مدونة الموسوعة السورية في 29 يونيو، 2011

من وحي هذه الأيام لا مفر للإنسان السوري من أن يفكر بالطائفية ولو أخذته الفكرة غدراً كما يقول أهل حمص. الكل يؤكد أننا في سوريا لم نعرف الطائفية أبداً ونعيش بسلام، مسيحيون (بكل طوائفهم الفرعية) وسنيون وعلويون (بكل عشائرهم المختلفة) ودروز وإسماعيليون (بكل تصنيفاتهم القديمة والحديثة) وغيرهم ممن نسيت ذكرهم. طبعاً هذا محتمل لأننا في أغلب الأحيان لا نعيش في نفس الأحياء، وعندما يسكن أحد “الغرباء” في البناية لا نسميه إلا بجارنا المسيحي أو جارنا السني، لأنه في النهاية أليس مسيحياً أو سنياً (ولا شيء آخر)؟!!! عشت في سوريا عشرين عاماً وأمضيت العشرين الأخريات في فترة نقاهة أحاول أن أنسى كيف كنا نعيش بسلام. طبعاً أنا لم أسمع في حياتي تعابير مثل نصراني مشرك، نصيري كافر، سمعولي عبّاد الفرج، أو سني متخلف يحجب نساءه ويقترف الموبقات. هذا غير الكلمات الدالة على شخص من الآخرين لايعرفها إلا أبناء الطائفة الذين اخترعوا هذه الكلمات. “تحريم التشبه بالنصارى” ليست قاعدة شرعية مبنية على حديث منسوب للنبي محمد، وجرائم الشرف لا تحصل إلا عند المسلمين لأنهم لا يعترفون بإنسانية المرأة. لا يوجد متعصب مسيحي أو علوي مثلاً لأن التعصب صفة خاصة بالسنة. وهذه المسألة واضحة للعيان وغاية في السهولة فالمسيحي المتعصب قد يدمن الذهاب إلى الكنيسة لا أكثر ولا أقل أما السني المتعصب فنعرفه من نقاب زوجته وأخته وأمه. السني الذي يحجّب ابنته منذ سن السابعة متشدد وسلفي وجهادي، أما المسيحي الذي يصطحب عائلته وابنته الطفلة إلى الكنيسة كل أسبوع فما ذهابه إلا ضرورة إجتماعية ولقراءة بعض القصص من الكتاب المقدس التي لا تؤذي أحداً، والكل يعرف أن المسيحية دين أوروبا المتحضرة فكيف يكون ديناً دموياً مثل الإسلام؟!!! أما العلويون أو الإسماعيليون فلا أعرف كيف يكون متعصبهم أو ماذا يقولون عن الآخرين لأن ديانتهم سرية، ولكني أحياناً أقول لنفسي لو أنهم يقولون عنا نصف ما نقوله عنهم لكنا قتلنا بعضنا البعض في الشوارع. والحمد لله هذا لا يحصل ولن يحصل في سوريا، أليس كذلك؟ وبالمقابل وحين تسأل أحد السنيين المؤمنين بشعار الإسلام السياسي القائل بأن “الإسلام هو الحل” عن وضع المسيحيين في الدولة الإسلامية التي يريدها ينفي تماماً انهم مواطنون من الدرجة الثالثة ويدفعون ضريبة على الفرد تسمى الجزية ويسمون أهل الذمة لأنهم في ذمتنا وكأنهم أطفال قصّر. والمسألة واضحة لأن الرسول أوصى المسلمين خيراً بأهل الذمة، طبعاً هو لم يسمهم مواطنين بل أصر على أنهم في ذمة المسلمين المفترض فيهم أن يكونوا حكام البلاد. اللبنانيون طائفيون أما السوريون فهم أهل القومية العربية ولا انتماء لهم غيرها، هذا طبعاً بعد أن نتخلص من الأكراد والآشوريين والسريان والتركمان والشراكسة، وأحياناً المسيحيين إلا من كان من الغساسنة، وبعض من العلويين لأنهم في الحقيقة أتراك  أو فرس متخفين. وأتذكر مرة أن بعض الشباب المسيحيين ضربوا مسلماً ماراً في أحد أحيائهم، وقد عرفوه ليس من الزبيبة التي على جبينه من كثرة الركوع وليس لأنه يلبس جلباباً أو لأن زوجته تمشي وراءه بعشرة أمتار ولكن لأنه غريب. عرفوه لأنه لا يسكن في حيهم، وبما أن حيهم ذو غالبية مسيحية فلا بد أن يكون الغريب مسلماً وهذا يوجب الضرب. طبعاً المسيحي الذي يسكن أو يمر في حي أغلبيته مسلمة قد يتعرض لنفس المضايقات. كيف وصلت الحالة بأن يكون حي كامل في القسم الحديث من المدينة من طائفة واحدة؟ لا بد أنها الصدف الطيبة التي تجمع الأحباب، أليس كذلك؟!!!!

وطبعاً الدولة لا تعترف بالطائفية أبداً وتعامل المواطنين بالتساوي، اللهم إلا في حالات الزواج والطلاق والإرث والموت وتغيير الدين والتبني وتحديد دين الوليد فهنا يتوقف قانون الدولة ونعود جميعاً إلى قانون الرب. ولهذا السبب البسيط يُكتب الدين في قيد نفوس أي سوري أو سورية. ولله الحمد فقد حذفوا الدين من الهوية الشخصية حتى لا ينفضح جورج في حي محمد أو أن نقتل بعضنا على الهوية فهذا التصرف ماركة لبنانية مسجلة ولا علاقة لنا به. وقد وصلنا أخيراً إلى الدولة التي ما هي إلا مؤسسات تخدم الجميع بالتساوي. طبعاً المؤسسات عبارة عن وظائف وكراسي يتعاقب عليها الاشخاص، أي عبارة عن لوائح قواعد لتسيير أمور المجتمع والدولة ولا يمكن أن يكون لها دين، فالدين للأشخاص وليس للوظائف. وطبعاً الدستور السوري غير الطائفي لا يقول أبداً في مادته الثالثة أن “دين رئيس الجمهورية الإسلام وأن الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع.” ولو خانتني الذاكرة وأخطأت في ذكر نص هذه المادة فهي في جميع الأحوال لا تتناقض مع المادة الخامسة والعشرين والتي تكفل الدولة فيها “تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين.” طيب، الدستور طائفي لكن ما المشكلة فالمسيحيون في سورية لاتتعدى نسبتهم العشرة بالمئة، أي أنهم أقلية ولن ينجح مسيحي أبداً في الإنتخابات لأن الناس تصوت لأبناء طائفتها فقط، وهذا ليس طائفية طبعاً  بل جزء من طبيعة الحياة إذ هكذا خلقنا الله!!!! طبعاً التسعون بالمئة كلهم يتمتعون باحتمال انتخابهم للرئاسة لأنهم كلهم مسلمون ومسألة فتوى ابن تيمية بتكفير العلويين من الماضي الغابر، ولا أحد حتى يتذكر إسم هذا الرجل أو أين عاش، لا بد أنه كان أحد المصريين أو المغاربة الجاهلين بالخصوصية السورية وبالروح السمحة للشريعة الإسلامية (ولا أقصد هنا الشريعة السنية فقط!!!!). وبالتأكيد العلويون لا يكفّرون أهل السنة أبداً، والحمد لله أن ديانتهم سرية بعض الشيء لأني لا أريد أن أعرف ما يقولون عن أهل السنة، لأنهم لو قالوا عنهم عُشر ما قاله ويقوله الشيعة الجعفرية لكنا قتلنا بعضنا في الشوارع والعياذ بالله.

ثم يأتي القائمون على الدولة من الرئيس وغيره. وللدلالة على تميز السوريين عن غيرهم وعدم طائفيتهم نذكر أنهم لا يزالون يصوتون بنسبة تتراوح بين 97% و99% لرئيس علوي مع أن الغالبية من السنة. وهو نفس الرئيس في كل مرة منذ عام 1970 وحتى عام 2000، وبعده صاروا ينتخبون ابنه من حبهم لأبيه. طبعاً من المستحيل أن أتهم كل العلويين بالطائفية فأنا أحتاج لأن أعرفهم واحداً واحداً، ولا أمزح هنا. بينما تقلقني بعض قرارات الرئيسين الأب والإبن إذ يبدو أنهما يحيطان نفسيهما ببطانة أغلبها من أسرتهما، وطبعاً الدين ينتقل عن طريق الأب ولذلك فمعظمهم علوين، اللهم إلا ابن خالة الإبن عاطف نجيب فهذا الأخير سني لأن اباه سني وأمه علوية، باعتبار أنها خالة الرئيس الحالي. ويقولون أن أغلب الرتب العالية في الجيش من العلويين وكذلك في المخابرات، وفي كثير من مؤسسات الدولة، والله أعلم. فإن كان هذا صحيحاً (وليس عندي إحصائيات) فليست النتيجة أن كل العلويين طائفيين وينتمون إلى النظام الحاكم، بل النتيجة المنطقية هي أن الرئيس نفسه طائفي، لا بل طائفي خطير.

وبعد هذا الحديث الطويل لابد لي أن أشرح معنى الطائفية كما أستخدمها هنا لأننا بدأنا نتطاول على المحرمات ونتخطى الخطوط الحمراء (مع أن إشارات الوقوف هي الحمراء والخطوط على الطرقات غالباً بيضاء). إذا لسعتك حية وكادت تودي بحياتك بسبب سمها فهل نلومك إن خفت من رؤية حية أخرى واعتقدت أنها سامة ومن ثم أقدمت على سحق رأسها؟ بالطبع لا نلومك فأنت دافعت عن نفسك استباقياً وقبل أن تهاجمك والحية وقبل حتى أن تتأكد من سميتها. طيب، إذا تعدى علي مرة شخص أسمر بالضرب وكاد يودي بحياتي فهل يلومني أحد لو خفت من أي شخص أسمر غيره أو حتى لو سحقت رأسه في دفاع إستباقي مرة أخرى؟ هنا نتوقف للتفكير، هل أسمح بالظن كمبرر لقتل إنسان؟ لا، هذه عنصرية وليست دفاعاً عن النفس. وهنا أسوق مثال الحية إذ لا فرق بين الحالتين من ناحية منطق اتخاذ القرار. سيقول الجميع، للإنسان روح والحية لا روح لها، أو أن الله سلط الإنسان على بقية المخلوقات لكن لم يسلطه على أخيه الإنسان (رفع بعضهم درجات لكن لم يسلطهم). طيب طيب، أنا أكره الثعابين وسأجاريكم في منطقكم بجواز قتل الحية على الظن وعدم جواز قتل الإنسان بقرار مماثل قائم على الظن فقط. وهنا لا بد لي من ذكر إخوان الصفا الذي أقاموا محاججة مماثلة في إحدى رسائلهم أثبتوا فيها أن الحيوان أذكى من الإنسان وأشرف، لكننا لا نزال ننعت محاججتهم تلك بالسفسطة!!! إذن العنصرية تحصل حين نعمم صفة ما على جميع أفراد مجموعة ما لأن شخصاً على الأقل من هذه المجموعة يمتلك تلك الصفة. والفرق بين العنصرية والطائفية هو أن المجموعة في الأولى معرفة عرقياً وفي الثانية معرفة دينياً. ويجب أن نُبقي في ذاكرتنا أن العنصرية ليست إلا طريقة إنسانية بالتفكير تسمح للإنسان باتخاذ قرارات هامة اعتماداً على معلومات ضئيلة كما في قصة الحية. ومن هذه القرارات الهامة مثلاً التعارف والإجتماع فنحن نقصر علاقاتنا الإجتماعية على أفراد مجموعة معينة بعد أن نعمم على هذه المجموعة صفات محببة، ونبتعد عن أفراد مجموعة أخرى بعد أن نعمم عليهم صفات منفرة. ومن قرار التعارف تنتج قرارات أخرى مثل الثقة والولاء وتوزيع الأعمال والثروات والهدايا والزيجات وغيرها من العلاقات الهامة التي تحتاج كثيراً من التروي والحذر في جو تنقصنا فيها المعلومات المفصلة عن شخصية الفرد الذي نتعامل معه.

إذن في الحقيقة كلنا طائفيون بشكل أو بآخر. فأنا عندما أقابل مسيحياً بخيلاً فاستنتج أن كل المسيحيين بخلاء أكون طائفياً. وعندما أقابل علوياً فظاً يعمل في فرع أمن الدولة فأستنتج أن كل العلويين أفظاظ أو أنهم كلهم يعملون في أمن الدولة أكون طائفياً. وعندما يقول مسيحي أو علوي أن كل السنيين فيهم بذرة تخلف وعنف بسبب دينهم فهو طائفي طبعاً. في الحقيقة، هذه الأفكار والتعميمات موجودة في جميع المجتمعات، وفكرة أن سوريا طائفية أكثر من بقية البلدان لأن مجتمعها فسيفسائي فكرة خاطئة لأن كل المجتمعات فسيفسائية بطرق مختلفة، ولأن العنصرية أو الطائفية طبيعة بشرية. طيب، متى تصبح الطائفية ممجوجة وخطرة؟ الجواب ببساطة هو حين تمتلك القوة والسلطة فتتخذ قراراً يعتمد على فكرتك الطائفية بحيث تؤذي آخرين في أنفسهم أو أجسادهم أو أرزاقهم أو أملاكهم أو أهلهم، كأن تدينهم دون دليل أو أن تمنع عنهم فرص الكسب أو أن تقصيهم من مراكز القرار في الدولة أو أن تسجنهم دون محاكمة أو أن تقتلهم على الهوية، وهذا غيض من فيض من الأمثلة الممكنة. يعني بصراحة حين يحيط الرئيس نفسه ببطانة مختارة على أساس الطائفة فهو طائفي خطر. وحين يُعتمد على أفراد طائفة أهل الحكم في الجيش والمخابرات والوزارات ومراكز القرار في الدولة فهذه طائفية خطرة. وحين يُتهم المتظاهرون المطالبون (كلهم دون تمييز) بأنهم متآمرون سلفيون يحاولون إقامة إمارة إسلامية فهذه طائفية. وحين يُوظف حصراً علويون للقيام بأعمال القمع والإعتقال والضرب ويُلقمون رواية الثوار السلفيين الكارهين للعلويين تلقيماً فهذه طائفية تقترب من التصفية العرقية على الطريقة النازية.

فهكذا، وبعد أربعين عاماً من طائفية النظام الحاكم المتعمدة نلوم بعض الاشخاص على النطق بهتافات طائفية حين تظاهرهم، فنكون بذلك قد خلقنا الخطأ وبررنا لأنفسنا القضاء عليه بدعوى أنه طائفي مقيت. في بلد المخبر الذي يعتقلك علوي والضابط الذي يحقق معك علوي والسجان الذي يعذبك علوي والقاضي الذي يحكم عليك ظلماً علوي ورئيس اتحاد الطلبة في جامعتك الذي يهينك علوي، ومعظم رؤساء أجهزة القمع في سوريا علويون، والشخص الذي يتخطاك في دور الفرن وفاتورة الكهرباء يتكلم اللهجة العلوية، وزميلك في الجامعة الذي يكتب فيك التقرير بدعو أنك ابن مدينة وبرجوازي عفن علوي، وزميلك في الدراسة الذي لم تتعرف عليه بعد وينظر إليك باحتقار لأنك سني علوي أيضاً، وصديقك الذي يُسكتك في أي نقاش حين يغضب بأن يضع علويته في وجهك لا بل ويتمتع بفعل ذلك علوي، فهل تكون فعلاً طائفياً إذا اعتمدت على كل هذه المعلومات لتخاف علوياً لم تعرفه بعد معرفة حقيقية أو حتى لتكرهه؟ الحقيقة هي أنك طائفي. لكن إحصائياً، إحتمال خطأ قرارك أقل بكثير من احتمال خطأ قرارات كل هؤلاء العلويين الذي أذلوك. وعندما نمتلك السلطة والقوة وخاصة تلك التي تمكننا من قتل الآخرين أو تحطيم حيواتهم فلا مجال للإحصاء، لأن كل إنسان هو الإنسانية جمعاء وكل حياة هي الحياة في جوهرها وكليتها. ولكن أيضاً لا يمكنني أن ألوم طرفاً على طائفيته إذا كان الطرف الآخر يفوقه بالطائفية بمراحل شاسعة. ولهذا أقول تباً لهذا الحكم الذي جعل الطائفية والتعصب والتفرقة أسلوباً في الحياة، وتباً لكل من أعانه مهما كان، فالفرق بين الإنسان والحية السابقة الذكر هو أن الإنسان صاحب خيار وليست الحية إلا مسيّرة بغريزتها. تباً لجميع الطائفيين ولجميع من يقتل معتقداً بأنه يحمي طائفته، لكم عقولكم وبها تتخذون قراراتكم وسيحاسبكم الله عليها إن لم نحاسبكم نحن، نحن الذين نريد الحياة معاً معترفين بان الإنسان عنصري أو طائفي طبعاً لكن عقله يمنعه أو يجب أن يمنعه من إيذاء الآخرين بسبب عرقهم أو طائفتهم أو جنسهم أو قوميتهم أو أو … كل أسسس التعميم الخاطئ.

لا تساعدوا القاتل ولا تلوموا الضحية. هل يجب أن أكون المسيح في محبتي وتسامحي وتفانيًّ حتى تصدقوني؟

تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

You may also like...

shares