اليسار الجديد 2 – مبادئ أساسية

ظهر المقال على موقع المجلة الدولية لدراسات الثورة السورية (مغلق) في 3 أبريل 2012

هذه المقالة هي الحلقة الثانية في سلسلة مقالات تنظّر لتيار سياسي أسميه اليسار الجديد. وقد نشرت المقالة الأولى من هذه السلسلة وعنوانها “اليسار الجديد 1 – أسس نظرية” على موقع الرأي الذي يشرف عليه حزب الشعب الديمقراطي السوري. طبعاً كان الموقع يفضل مقالة عن الطائفية في سوريا مثلاً بدل مقالة تنظيرية. لكن اختياري لذلك الموقع كان رمزياً وذا دلالات بالنسبة لمشروعي، أي اليسار الجديد. حزب الشعب هو المسمى الجديد للحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي، الذي انشق عن الحزب الشيوعي السوري عام 1970. هذا المسمى الجديد جاء بعد مراجعة لتاريخ الحزب متبوعة بوضع نظام داخلي وانتخاب قيادات جديدة. ولم أنشرها على موقع ذلك الحزب لإيماني بأفكاره، مع احترامي لها طبعاً، أو لأني عضو فيه، فانا لست عضواً فيه، وإنما لأن أهم أساس من أسس مشروعي هو التغيير المستمر أولاً، ولوجوب الإعتراف بصبغة المشروع الأيديولوجية وبإرثه اليساري. فكان أن اخترت حزباً ايديولوجياً يسارياً حاول إعادة إنتاج ذاته، وهي محاولة أعتبرها رائدة دون الخوض في تفاصيل نجاحها أو عدمه.

في تلك المقالة بررت الحاجة إلى يسار جديد، ودافعت عن اختياري لهذه التسمية، واقترحت ثلاثة أسس نظرية سأعتمدها كأدوات في صياغة مشروع اليسار الجديد. لن تتضح كل معالم هذا المشروع إلا باكتمال سلسلة المقالات. لكن لابد لي هنا من التذكير بتلك الأسس النظرية الثلاثة. أولها هو تعريف لمصطلح الأيديولوجيا بأنها “مجموعة من الأفكار التي تشرح حالة إجتماعية ما، وتعطي رؤية مستقبلية لهذه الحالة، وتحدد طريقاً لتحقيق هذه الرؤية”. هذا التعريف يجعل ما أقوم به داخلاً في العمل الأيديولوجي وإن اشتمل على فرضيات يمكن المحاججة على وجودها في الواقع الإجتماعي خارج نطاق الفكر الذي تتموضع فيه الايديولوجيا. وثانيها هو الجمع بين المحافظة والتغيير، وبين الثوري والتقليدي، في أي فكر أو فعل يهدف إلى التأثير في المجتمع وتوجيهه في وجهة معينة. إن هذه الثنائية تجعل المجتمعات الإنسانية مرنة قادرة على التأقلم تارة بالتقليد وتارة بالتغيير الثوري وتارة بالإثنين معاً في وقت واحد. وثالثها هو المحرك الذي يجعل ثنائية التغيير والمحافظة قادرة على نقل المجتمع من مرحلة مأزومة إلى مرحلة أخرى محلحلة أو أقل تأزماً. وأعني الحرية بمعنييها الفرداني والجمعي. الحرية الفردانية أراها حرية وجود وكون وتحقيق للذات وأجمعها مع ما يسمى حقوق الإنسان؛ والحرية الجمعية أراها حرية قدرة على وإمكانية تحقيق التغيير (أي الإنتقال السابق الذكر) بالفعل الجماعي، وأجمعها مع مايسمى بحقوق المواطنة من حرية للتجمع والمشاركة السياسية والمساواة أمام القانون وتكافؤ الفرص والتكافل الإجتماعي. باختصار لابد للمجتمع من وجود أضداد أيديولوجية تتصارع بحرية دون أن يُقصي أحدُها الآخر ويقضي عليه جسدياً، لكن دون أن يعني التعايش قبوله –أي الآخر- قيمياً وفكرياً. فمادام الضدان يتعاركان ويختلفان ويتفقان ليعودا فيختلفان بأشكال أخرى فإن سنة الحياة في التغيير والمحافظة تستمر. أي أن التغيير بحاجة إلى تعايش بين أضداد متصارعة فكرياً وسياسياً.

وهنا لا بد أوضّح عدة أمور ليست مترابطة بالضرورة. أولاً نحن لسنا بصدد وصف واقع كما هو هو كائن وإنما بصدد بناء واقع كما نحب له أن يكون. أي أننا لسنا بصدد إنشاء علم يكتشف قوانين ظاهرة واقعية وإنما بصدد خلق الأدوات والأفكار والنماذج المثالية التي ستساعد في تغيير الواقع. هذه هي الأيديولوجيا وهذا هو الفرق بينها وبين العلم. الأيديولوجيا قد تستخدم العلم لكن هدفها يبقى تغيير العالم وليس مجرد وصفه، إنها من بنات الأفكار تبدأ منها وتحاول أن تصير حقيقة. وعندما تصير حقيقة لا تتحول الأيديولوجيا إلى علم ووصف لواقع قائم لأن الواقع يبقى أعقد من أية أفكار ولأن الواقع له عناصره وشبكات تفاعله، ولا تكوّن الأفكار إلا أحد عناصرالواقع الفاعلة وقد لا تكون حتى العنصر الأهم أو المسيطر. ثانياً، تتحول الأيديولوجيا إلى خطر عندما تفرض نفسها كعلم للمستقبل أو كوصف للواقع كما يجب أن يكون، أي تفرض نفسها كحقيقة مطلقة لا يكون الواقع “صحيحاً” إلا إذا تطابق معها. أريد للأيديولوجيا أن تكون سيلاً من الأفكار الدافعة لعملية التغيير، لا أن تتحول إلى “واجب إلهي” أو “مدينة فاضلة” او “وصفة سحرية” صالحة لكل زمان ومكان. إن وصفات الليبرالية أو الحداثة أو الإشتراكية أو القومية أو الإسلامية ليست إلا أيديولوجيات اعتبرت نفسها الحقيقة المطلقة وذروة سيرورة التاريخ ونهاية تطور الحضارة الإنسانية وفرضت على الواقع أن يصير مثلها فلم تقبل منافساً ونسيت أن الأيديولوجيا في جوهرها مجرد مقترحات وتوجيهات. إن أيديولوجية اليسار الجديد القائمة على التعايش بين الأضداد تقترح سيرورة تسعى نحو تغيير دون أن تصل إلى تغيير مطلق لا تغيير بعده. ثالثاً، قد يبدو من نظرة أولى سريعة أن مشروعنا لا يهتم بالفرد. إن الفرد هامٌ بحد ذاته لكن مشروعنا يضع الفرد دائماً في سياق الجماعة ولا يرى الفرد إلا جزءاً منها تؤثر به ويؤثر بها. الفرد دائماً محرك هام من محركات التغيير لكن التغيير لا يكون إلا بتفاعل كل الأفراد ضمن شبكات الجماعة. لا أدعو إلى إذابة الفرد في الجماعة وتسخيره لعملية التغيير الجماعية وإنما أعترف بواقع التأثير المتبادل بين الفرد والجماعة. ولذلك لا أدعو إلى حريات مطلقة وإنما إلى حريات نسبية تجعل الفعل التغييري ممكناً. إن الحريات المطلقة فردية بالتعريف إذ لا يمكن الإطلاق ضمن شبكة الحدود التي نسميها الجماعة أو المجتمع. رابعاً، لا توجد أية أيديولوجيا لا تملك معياراً قيمياً، وأعني بهذا “الأخلاق” التي تنظم العلاقات والمعاملات ضمن الجماعة. تقدّم أية أيديولوجيا نفسها على أنها مجموعة من القيم والاخلاق الهادفة إلى إنتاج إنسان جديد ومجتمع جديد، ولن يشذّ اليسار الجديد عن هذه القاعدة. إن أخلاق اليسار الجديد يختزلها مفهوما التعايش والحرية، التعايش هو قوة الجذب والحرية هي قوة النبذ، التعايش هو نزعة المحافظة والإستمرار والحرية هي نزعة التغيير والقطيعة. إن أخلاق اليسار الجديد عقد إجتماعي بين الأفراد وليس بين الافراد والمؤسسة الممثلة بالدولة. ولا يجب أن يكون هذا العقد حدياً مانعاً مكبلاً إذ عليه أن يسمح بالشطحات والقفزات والطفرات والعمل “التهديمي” الذي هو جزء من التغيير. إن اهتمامي الآن ينصبّ على إنشاء الجماعة ومؤسساتها وأهمها مؤسسة الدولة، وسأعود لاحقاً إلى موضوع الأخلاق لاني أخاف أن يمتصنا هذا الموضوع الذي أراه تعبيراً عن نزعة الإطلاق في الإنسان والإنفلات من قيود الزمان والمكان بتصوّر قواعد أزلية ثابتة نسميها الأخلاق. وقد انتهيت تواً من التعبير عن ريبتي من المطلق وخوفي من سيطرته على الايديولوجيات عادة.

في هذه المقالة أسمي ستة مبادئ عملية (ولا أشدد على أية طبيعة أخلاقية لها وإن كانت الأخلاق والمعايير مضمَّنة فيها) تنبع من الأسس النظرية السابقة الذكر. هذه المبادئ ستقود سعينا إلى تحديد مواقفنا من مشاكل العصر، وسترسم ملامح المجتمع الذي نرغب العيش فيه. وليست التسمية جزافاً لأن المبادئ أسس مفروضة، إنها نقطة البداية في أي مشروع مستقبلي؛ لكنها ليست قوانين طبيعية موجودة خارج إرادة الإنسان، لا بل إنها التعبير عن إرادته وسيادته على حياته. إنها أسس التجمع ومكونات العقد الإجتماعي السالف الذكر. باعتبار أن هذه المبادئ مفروضة إنسانياً فهي ستؤدي بالضرورة إلى رغبات ومطالب تكون هدف العمل السياسي لليسار الجديد. هذه المبادئ الستة هي:

المبدأ الأول – مبدأ الحرية: توفير الحرية بمعنييها الفردي والجمعي.

المبدأ الثاني – مبدأ التعايش: تشجيع التعددية وتأمين تعايش القوى وضرورة سلمية التغيير.

المبدا الثالث – مبدأ التكافؤ: ضرورة توزيع الثروة وتوفير تكافؤ الفرص.

المبدأ الرابع – مبدأ القانون أو المؤسسة: ضرورة وجود دولة تقوم على تداول السلطة وسيادة القانون والمساواة أمام القانون.

المبدأ الخامس – مبدأ الوضعية: ضرورة نزع أية قدسية إلهية عن قانون الدولة وعن العمل السياسي.

المبدأ السادس – مبدأ المرونة: يمكن أن نبدأ من أي منظومة (سياسية، إقتصادية، إجتماعية، إلخ) وأن نسير بأي اتجاه. مبدأا الحرية والتعايش يُؤسسان الجماعة، ومبدأا التكافؤ والقانون يُؤسسان الدولة، ومبدأا الوضعية والمرونة يحرسان ضد نزعة المطلق ويمنعان تحوّل الأيديولوجيا إلى “فريضة إلهية” ثابتة وخارجة عن سياقي المكان والزمان. إن المبادئ تتحول في “الواقع المرغوب به” إلى ضرورات لا يمكن ان يقوم هذا “الواقع” (اي ان يصبح واقعاً وحقيقة) دونها. هذه المبادئ هي “قوانين” الواقع المرغوب به، نستخلصها بالتحري في الرؤى المستقبلية والأحلام وبقياس اختلاف الواقع المعاش عنها والتقصي عن أسباب هذا الإختلاف. ومن أين تأتي هذه الأحلام والرؤى المستقبلية؟ إنها تأتي من تعايش وصراع أيديولوجيات سابقة؛ وتستمر بذلك عملية التوليد بتعايش الأضداد وتصارعها إلى مالانهاية دون أن تصل البشرية إلى غاية قصوى لا غاية بعدها، فكل غاية هي قصوى الآن وياتي الغد بغايات أخرى لتستمر حركة التاريخ دون توقف. سأشرح في مقالاتقادمة المبادئ السابقة الذكر، وستكون بعدها مقالات موجهة لتحديد ملامح أيديولوجيا اليسار الجديد (بمكوناتها الثلاثة: شرح، مستقبل، طريقة) فيما يخص أهم قضايا العصر مثل اختيار النظام السياسي أو النظام الإقتصادي أو مواجهة مشاكل الفقر وتدهور البيئة وقلة الموارد وصراع الدول والجماعات.

تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

You may also like...

shares