نظام الأسد فاقد للشرعية -1

ظهر المقال على موقع مدونة الموسوهة السورية في 19 ديسمبر، 2011

بدأ الشعب السوري ثورته المجيدة منذ الخامس عشر من آذار عام 2011 مصمماً على انتزاع حريته من مستعبديه بالطرق السلمية. وهو يدفع الآن ثمن هذه الحرية التي سينالها إن عاجلاً أم آجلاً من دماء أبنائه شيباً وشباناً وحتى أطفالاً. لكن حتى هذه اللحظة وبعد ثمانية أشهر لم نقرأ لأي كاتب من كتاب الثورة محاولة لتأسيس هذه الثورة على أسس من القانون المحلي والدولي والإنساني العام. كلنا يعرف في نفسه وبأي منطق إستخدم أن نظام الأسد فاقد للشرعية ولم يمتلكها في يوم من الأيام. فعلى أي أساس قانوني يحكمنا هذا النظام وعلى أي أساس قانوني سنتخلص من استبداده. وسأحاول في سلسلة المقالات التي أبدؤها بهذه المقالة أن أصوغ مجموعة من الحجج القانونية لإثبات فقدان النظام لشرعيته ولإقرار ضرورة إزاحته ولاقتراح بعض الأسس القانونية التي قد تقوم عليها وسائلنا لإزاحته سلمياً.

حين كانت سوريا جزءاً من الإمبراطورية العثمانية خضعت للدستور العثماني الذي أُقر في عام 1876 ليعطله السلطان عبد الحمدي الثاني عام 1878. وبعد إنقلاب حزب الإتحاد والترقي أُعيد العمل بالدستور السابق عام 1908 حتى سقطت سوريا بيد الجيش البريطاني وجيش الشريف حسين بقيادة إبنه فيصل عام 1918. وقد عم سوريا حينها حراك شعبي سياسي عارم حاول التخلص من تقسيم الولايات العثمانية العربية إلى دويلات ووضعها تحت حكم فرنسا وبريطانيا. وقد انتخب الشعب مجلساً يمثله اجتمع في دمشق من حزيران 1919 إلى تموز 1920 تحت إسم المؤتمر السوري العام. وكان هذا المجلس بمثابة مجلس تأسيسي (أول) أعلن إستقلال سوريا الكبرى ورفض الوصاية الأجنبية وعين الأمير فيصل ملكاً على سوريا يحكم بالإشتراك مع برلمان. “وانبثقت عن المؤتمر لجنة وضعت مشروعاً لأول دستور سوري يضمن الحريات المدنية والدينية والشخصية” (*) للسوريين. وقد أقر المؤتمر بعضاً من مواد هذا الدستور لكن دخول الفرنسيين إلى دمشق في 24 تموز 1920 أوقف العمل بتوصيات وقرارات المؤتمر وحل الحكومة السورية. “وفي عام 1928 جرت أول انتخابات عامة , حيث تم انتخاب جمعية تأسيسية (ثانية) انتخبت بدورها لجنة دستورية قامت بوضع مشروع دستور للبلاد” (*) أسس لنظام جمهوري. لكن العمل بهذا الدستور لم يبدأ إلا عام 1936 ليعطله الفرنسيون عام 1939. وعاد العمل بهذا الدستور عام 1943 إلى أن عطله حسني الزعيم قائد أول إنقلاب عسكري في تاريخ سوريا الحديثة في 30 آذار 1949. وقد حاول الزعيم تغيير الدستور إلا أن انقلاب الحناوي عاجله في 14 آب 1949. وفي عهده جرى “انتخاب جمعية تأسيسية (ثالثة) أصدرت أحكاماً دستورية مؤقتة, وانتخبت رئيساً للدولة يتمتع بصلاحيات رئيس الجمهورية وفق دستور 1930 لحين وضع الدستور الجديد”(*). ورغم إنقلاب أديب الشيشكلي الأول في 19 كانون الأول عام 1949 فقد استمرت الجمعية التأسيسية بالعمل بالدستور تحت سيطرة الشيشكلي, وأقرت الدستور الجديد في 5 أيلول 1950 الذي أسس لنظام جمهوري نيابي يفصل بين السلطات ويضمن استقلال القضاء .وفي 2 كانون الأول من عام 1951 قام الشيشكلي بانقلابه الثاني وحكم البلاد حكما ديكتاتوريا بعد أن وضع دستوراً جديداً للبلاد حكمها إلى عام 1954 حين اضطر لمغادرة البلاد نتيجة المعارضة الشعبية. وحينها أُعيد العمل بدستور 1950 إلى حين حصول الوحدة مع مصر عام 1958.

وبعد الوحدة بشهرين أي في آذار عام 1958 أعلن عبد الناصر دستوراً مؤقتاً أقام نظاماً ديكتاتورياً إلى حين الإنفصال في 28 أيلول 1961. وبعد الإنفصال تم “تكليف حكومة مدنية قامت بوضع دستور مؤقت وافق عليه الشعب السوري باستفتاء انتخب فيه أيضاً المجلس التأسيسي والنيابي (رابع)  لوضع دستور دائم حيث أقر في النهاية إعادة تطبيق دستور 1950 مع بعض التعديلات” (*) حفظت للرئيس صلاحيات واسعة. وفي في الثامن من آذار من عام 1963 قام ضباط بعثيون من أعضاء  اللجنة العسكرية السرية بانقلاب “وضع السلطة بيد المجلس الوطني لقيادة الثورة  الذي أعلن حالة الطوارئ والأحكام العرفية والتي ألغاها بشار الأسد بعد 45 سنة بجرة قلم لم تقدم ولم تؤخر . وفي عام 1964 وبعد أحداث دامية في حماة في نيسان أعد المجلس الثوري دستوراً جديداً للبلاد. وبعد إنقلاب 23 شباط 1966 الذي قامت به القيادة القطرية لحزب البعث “تم إيقاف العمل بالدستور السابق بقرار من القيادة القطرية رقم /1/ . أما قرار القيادة القطرية رقم /2/ فقد كان بمثابة الدستور” (*).في أواخر آذار 1969 قرر المؤتمر القطري الرابع الاستثنائي لحزب البعث إصدار دستور. وقد صدر الدستور المؤقت في أيار عام 1969 .وبعد إنقلاب حافظ الأسد في تشرين الثاني تم إقرار الدستور المؤقت لعام 1969 مع تعديلات صدرت بمرسوم عام 1971. كلف الأسد لجنة من أعضاء مجلس الشعب انتقاها بوضع الدستور الدائم. وعُرض ذلك “الدستور على الإستفتاء الشعبي في 12 آذار عام 1973 وقد جاء مشابهاً لدستور 1971” (*) المشابه لدستور 1969 البعثي.  وآخر تعديل للدستور جرى في عام 2000 لتخفيض السن الأدنى للرئيس من 40 عاماً إلى 34 عاماً.

ففي هذه المتاهة من الإنقلابات والدساتير والتعديلات، أين هو الدستور الذي أقره الشعب فعلاً عن طريق إنتخاب جمعية تأسيسة أو مجلس تأسيسي. وقد أوضحت بالخط العريض أن تاريخ سوريا الحديث عرف أربع جمعيات تأسيسية منتخبة أقرت دساتري أعوام 1919، 1936، 1950، و1961. والثاني هو الثالث مع بعض التعديلات. ورغم كل علامات الإستفهام التي قد يثيرها المؤرخون أو المهتمون بتاريخ سوريا الحديث حول هذه الدساتير وخاصة دستور 1950 الذي أثر فيه الشيشكلي، إلا أنها حصلت على بعض الشرعية الشعبية بمعايير تلك الأيام. وما عدا هذه الدساتير فالبقية هي مجرد وثائق فرضها الإنقلابيون على الناس بسلطة القمع والسلاح وبحجة الشرعية الثورية التي هي وجه آخر من وجوه “حق المنتصر”. إن نظام البعث منذ جاء إلى الحكم في 1963 قائم على وصاية “الطليعة الثورية” (ومن ورائها الطليعة العسكرية) على الدولة والمجتمع وهذا ما نجده في المادة الثامنة من الدستور الحالي التي تنص على أن “حزب البعث هو الحزب القائد في المجتمع والدولة”. هذه المادة شرعت لعبودية الشعب بأكمله وتحويله إلى مواطنين من الدرجة الثالثة حيث البعث وأعضاؤه في القيادة (قيادة المجتمع والدولة) والجبهة الوطنية في الدرجة الثانية والشعب وأحزابه وجمعياته وأفراده في المرتبة الثالثة. لا يوجد حزب في العالم يقود المجتمع إلا في الإتحاد السوفيتي البائد وهذه الفكرة مأخوذة من دستور حزبه الشيوعي. قد تنجح بعض الأحزاب بأغلبية في الإنتخابات البرلمانية وقد تجمع معها منصب الرئاسة لكنها بهذه الحالة تقود الدولة ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقود المجتمع بأكمله. طبعاً حزب البعث حقق المستحيل وأخضع الشعب بأكمله وجعلهم عبيداً له “يقودهم” أينما شاء ويسومهم أصناف العذاب والعسف كيفما شاء. حكم كهذا فاقد للشرعية منذ لحظة قيامه. لا بل تنطبق عليه، حسب الدستور الشرعي الأخير لعام 1950 (أو 1961)، تهمة الخيانة العظمى. إننا اليوم في سوريا ومنذ عام 1963 لا نعيش تحت حكم شرعي بل تحت حكم عصابة من العسكر وضع يدعم على مقاليد السلطة كما يفعل كل المحتلين والمستعمرين.

وقد جاء في المادة الأولى من دستور 1950 أن “سورية جمهورية عربية ديمقراطية نيابية ذات سيادة تامة. وهي وحدة سياسية لا تتجزأ ولا يجوز التخلي عن جزء من أراضيها “. وجاء في المادة الثانية  أن “السيادة للشعب، لا يجوز لفرد أو جماعة ادعاؤها. تقوم السيادة على مبدأ حكم الشعب بالشعب وللشعب”. وأخيراً جاء في المادة السادسة والثمانين أن “رئيس الجمهورية مسؤول في حالتي خرق الدستور والخيانة العظمى. وهو مسؤول ايضاً عن الجرائم العادية”. فأين نعيش الآن؟ في ملكية مطلقة غير نيابية تخلى فيها الأسد الأول عن الجولان والأسد الثاني عن لواء اسكندرونة وأكرها الشعب على العبودية وسلباه أفراداً ومع جماعاتهم سيادته وادعياها لنفسيهما. والحكم في هذه الملكية ليس للشعب وإنما للعائلة المالكة وليس بالشعب وإنما بعصابة العائلة المالكة. فحسب دستور 1950 لا سيادة لهذا الحكم والسيادة تبقى للشعب الذي لم يجد من هو كفؤ ليعطيه مقاليد الحكم. وبهذا فإن مدعيي رئاسة الجمهورية الأسد الأب والأسد الإبن قد خرقا الدستور وأقترفا الخيانة العظى بخرق الدستور واستعبادهما الشعب وسلبه سيادته والتفريض بأرضه وهما بذلك مسؤولان أمامه عن جرائمهما. هذا بالإضافة إلى مسؤوليتها عن جرائمهما “العادية” التي تبدأ بسرقة الأموال العامة والخاصة وتنتهي بقتل الأنفس دون حق. وإن كان الدستور قد نص على أن “لا يحاكم رئيس الجمهورية إلا أمام المحكمة العليا” فإن الاسد ليس رئيساً وإنما مدعي رئاسة، كما ليس من محكمة عليا مستقلة وشريفة في ظل حكمه فتعود صلاحياتها إلى الشعب صاحب السيادة أولاً وآخراً.

وهنا لا بد من الفصل بين النظام والدولة فالدولة ليست الرئيس فقط ولا الوزراء ورئيسهم فقط ولا مجلس الشعب فقط بل هي المؤسسات التي تدير شؤون الناس. طبعاً الفساد مستشرِ في هذه الدولة لكن المؤسسات تبقى والشعب صاحب السيادة يبقى والبروقراطيون يبقون. أما النظام فهو مدعو الرئاسة هؤلاء ومن لف لفهم من أعوانهم الذين تطفلوا على الدولة فسرقوا مقدراتها وشلوا قدرتها. هؤلاء الأعوان هم حزب البعث والأجهزة الأمنية التي تشكلت بعد إنقلاب 1963 والتي يحميها دستور البعث وقانونه من أية ملاحقة قضائية لأية جريمة تقوم بها أثناء “أداء عملها” في قمع الشعب وتعذيبه وقتله. وإن كان جزء من الجيش السوري فاسداً فإنه ذلك الجزء الذي لا يخضع لهرمية القيادة وإنما يخضع مباشرة لرؤوس النظام من مدعي الرئاسة وأخيه وبقية رؤساء فروع مخابراته. إن هدف الثورة المعلن والمعلن بقوة ووضوح هو إسقاط هذا النظام وليس إسقاط الدولة. الدولة طبعاً بحاجة إلى إعادة تأهيل لكن مؤسساتها بما فيها الجيش هى ملك للشعب وسيستردها الشعب من هؤلاء المحتلين. وباعتبار فقدان هذا النظام وحزبه ومخابراته وحرسه لأية شرعية سوى ما صنعت أيديهم من “شرعية” القهر والتسلط، فإنه لا طاعة لهذا النظام ولا لرؤوسه ولا لقانونه ولا لمخابراته ولا لحرسه. وهذا هو العصيان المدني الذي نريد الوصول إليه وقد أعلنته الثورة منذ البداية بأن خرجت للتظاهر وتجاهلت النظام وأعوانه وقانونهم وأجهزتهم وطالبت محقة بإسقاطهم ومحاكمتهم كمجرمين قتلة وكخونة لهذا الشعب وهذا الوطن. وإن لجأ بعض المتظاهرين إلى حمل السلح فهو للدفاع عن أنفسهم في حالة غياب أية سلطة شرعية تحميهم ولا يجوز أن يسلموه لمن لا شرعية لهم. لا بل على هؤلاء المواطنين أن يدافعوا عن إخوتهم وأخواتهم في المواطنة وأن يقبضوا على مجرمي النظام ويجردوهم من أسلحة التي يقتلون بها الشعب ويسلبون بها سيادته وحياة أبنائه. وأما جيش سوريا الحر من الضباط والجنود الذي رفضوا الإنضمام إلى عصابة النظام فإنهم يمثلون جيش الشعب الحامي لدستوره ويخول لهم الدستور (الشرعي) حق حماية أرواح الناس وممتلكاته من أعداء الشعب وقتلته من مجرمي النظام ومعاونيهم.

(*) هذه المعلومات مستقاة من تقرير كتبه جـان حبـش لمركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية بعنوان “قراءة في الدستور السوري” (موجود على الإنترنت)

تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

You may also like...

shares