استراتيجيات النظام العسكرية والأمنية

ظهر المقال على موقع المجلة الدولية لدراسات الثورة السورية (مغلق) في 6 يناير، 2012
وأعاد موقع مختارات من الثورة السورية نشره في 10 مارس، 2012

لا يستطيع النظام الإعتماد على الجيش وحده لأنه يعرف أن الجيش لا يريد معركة مع الشعب الذي هو أهله. وأعني على مستوى المجندين ومستوى صف الضباط والضباط الذين لا مصلحة لهم في بقاء النظام بل هم متضررون منه بحكم خضوعهم لسلطة المخابرات والمقربين من قيادات النظام (نستثني من هذا الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري وفرق الصاعقة). إن أي حاجز لا يمكن أن يكون كله مشحوناً بمجندين أو ضباط عاديين لأنهم سينشقون أو سيهربون. لذلك فإن الحاجز يتكوّن دائماً من مجندين يقف خلفهم عناصر وضباط من المخابرات لتسييرهم وتخويفهم وحتى قتلهم إذا حاولوا الهرب.هذا يعني أن عدد الجنود على أي حاجز أو في أية عملية عسكرية لا يمكن أن يتجاوز عدد عناصر المخابرات والشبيحة بنسبة معينة (أخمن أنها عنصر مخابرات لكل ثلاثة مجندين). وهذا بالتحديد ما يمنع النظام من إنزال الجيش بأعداد هائلة. هذا يعني أن عدد الجنود المستخدمين محدود بعدد المخابرات والشبيحة. فهل أعداد هؤلاء الجنود بالملايين؟ وهل أعداد هؤلاء المخابرات بالملايين أيضاً؟  هل نستطيع أن نقدر أعداد الجنود والمخابرات التي نشرها النظام في مدن وقرى سوريا؟ وهل نستطيع معرفة إستراتيجية النظام العامة في محاولته القضاء على الثورة السورية؟ من الطبيعي أن تكون الأعداد محدودة لأن عدد السكان متناه، ولا يستطيع أي نظام في العالم أن يزج في أية معركة بأعداد متزايدة من الجنود يجلبهم من مصادر بشرية لا تنضب. لكن من المفيد جداً لنا أن نعرف أي تقع هذه الحدود بالنسبة للنظام في دمشق. وفي الحقيقة فإننا نستطيع أن نحسب تقريبياً أعداد الجنود والعناصر الذين يستخدمهم النظام في قمع الثورة وأن نستخلص من هذه الحساب بعض النتائج التي قد تفيدنا في مواجهة هذا القمع.

سكان سوريا حوالي العشرين مليون إنسان، نصفهم من النساء. وأكثر من نصف الرجال أعمارهم لا تتجاوز الخامسة عشرة. يعني عدد الرجال القادرين على العمل حوالي خمسة ملايين رجل، فما هي نسبة العاملين في الجيش والمخابرات منهم؟ لا يمكن أن تكون هذه النسبة أكثر من العشرة بالمئة، أي نصف مليون إنسان، لأن الإقتصاد سيقف في هذه الحالة لعدم وجود فلاحين وعمال وموظفين وأصحاب أعمال. وفي الحقيقة فإن أعلى التقديرات الموجودة على الإنترنت تقول بأن الجيش النظامي فيه حوالي ربع مليون جندي بين مجند ومتطوع وأن أجهزة المخابرات فيها حوالي ربع مليون عنصر مخابرات.

بالنسبة للجيش: لا يمكن لأي جيش في العالم أن يحرك أكثر من 20 بالمئة من قواته في وقت واحد، لأن البقية يعملون في المكاتب والمخازن والصيانة والإمداد والحراسة ولأنه من المستحيل تحريك كل الأسلحة في نفس الوقت وإلا إنقلبت الحالة إلى فوضى لا يمكن إدارتها. تخيلوا فقط العدد الهائل من الآليات التي ستحتاج إلى وقود وصيانة، والعدد الهائل من الجنود الذين سيحتاجون إلى بطانيات وأكل وإجازات وحمامات. كذلك فإن حركة القطعات العسكرية تكون منظمة، أي أنه لكل قطعة مدرعات توجد قطعة تزويد وخدمات ملحقة بها يتم تفعيلها عند تفعيل القطعة الأولى. وهذا يعني أن القطعات في الجيش لا تتحرك لوحدها وبالتالي فإن تحريك 20 بالمئة من المقاتلين يعني في الحقيقة استنفار حوالي 50 بالمائة من الجيش بعضهم للمساندة وبعضهم للتبديل. يعني حوالي خمسين ألف جندي فقط موجودون في الميادين في أية لحظة. والحقيقة أن هذا العدد قد يكون أقل بكثير مما حسبنا بسبب خشية النظام من إنشقاقات واسعة. أي أن النظام يحتجز الجنود والضباط في القطعات والثكنات منعاً لهم من الهروب وذلك في إنتظار دورهم في النشر. وبهذا سيكون نصيب كل محافظة إذا قسّمهم بالتساوي حوالي خمسة آلاف جندي لكل محافظة. وأنا متأكد أن دمشق وحدها فيها أكثر من عشرين ألف جندي. هذا يعطينا الحد الأعلى لعدد الجنود الذي يمكن نشره في مكان ما دون تخفيف القبضة على الأماكن الأخرى إلى درجة يجعل خروجها عن الطاعة سهلاً. وهذا يعني مثلاً أن مدينة م مثل مدينة حمص لا يمكن أن يكون فيها أكثر من خمسة آلاف جندي. وفي أية لحظة يكون في المدينة أكثر من هذا العدد لسبب ما يمكننا أن نكون متأكدين أن عدد الجنود المنتشرين في مدن أخرى قد خف بشكل ملحوظ. ولذلك فإننا نرى أن عمليات النظام محدودة فهولا يستطيع أن يهاجم عسكرياً أكثر من منطقتين أو ثلاثة معاً دون أن  يُضعف وجوده في عدة مناطق أخرى.

بالنسبة للفرقة الرابعة: الفرقة الرابعة (وهي فرقة مدرعات) والقوات الخاصة (الحرس الجمهوري والصاعقة) تخضع لنفس النسب السابقة. ومصادر الإنترنت تقول بأن أعداد هذه الفرق حوالي خمسين ألف جندي فإذن الجنود الميدانيون من هذه الفرقة حسب النسب السابقة الذكر في أية لحظة سيكونون حوالي عشرة آلاف جندي. هؤلاء الجنود منتقون لقربهم من النظام وولائهم له. وقد يكونون مدربين وشرسين لكن لا يمكن أن يحلوا محل الجنود العاديين لسبب بسيط وهو أن النظام لا يستطيع أن يُعيدهم إلى أسرهم في رتل من التوابيت التي لا تنتهي. إن عددهم محدود ولا يمكن إستبدالهم ويجب الحفاظ عليهم إلى اليوم الاسود حين سيحتاج النظام إلى كل جندي منهم للدفاع عنه حتى النهاية. وغالباً يتوزع هؤلاء الجنود بين دمشق وحلب لأنهما المدينتان الأهم بالنسبة للنظام. لذلك لا يستخدمهم النظام إلا في الحالات القصوى حين يتعرض الجيش النظامي لهجمات عنيفة كما حدث في بابا عمرو والرستن وجبل الزاوية.

بالنسبة للمخابرات: قلنا أن للنظام مخزون من 250 ألف عنصر على الأكثر. لنقل أن عشرين بالمئة منهم سجانون وعناصر تعذيب وموظفون في المكاتب وحراس وسواقون، وهذا يعني أن الميدانيين هم حوالي 200 ألف. إن ضبط حلب ودمشق يحتاج إلى حوالي 100 ألف عنصر (خمسين ألف لكل مدينة)، وبالتالي فإن بقية سورية “تنعم” بحوالي عشرين ألف لكل محافظة. هل هذا العدد يكفي لضبط محافظة حمص مثلاً أو حماة أو اللاذقية؟ بالكاد. وباعتبار أن النظام يحتاج إلى عدد من المخابرات يقابل ثلث عدد الجنود لضبطهم فهذا يؤدي إلى أن ألفين على الأقل من المخابرات ملتزقون بجنود الجيش الخمسة آلاف في المحافظة الواحدة. بالمحصلة يكون لدينا في كل محافظة 5 آلاف جندي، و1500 من المخابرات لمراقبتهم، و 18500 ألفاً للأعمال الأخرى. هؤلاء الـ 18 ألفاً موزعون على عدة فروع لا يقل عددها عن 15 فرعاً، مما يجعل نصيب كل فرع في المحافظة كلها قريباً من 1200 عنصر. وهؤلاء لهم إختصاصات مختلفة ولا يمكن إنزالهم كلهم إلى الشوارع في يوم واحد فهناك عناصر يستريحون -لا أراحهم الله- وهناك عناصر يراقبون ضباط الجيش في مكاتبهم وثكناتهم ويراقبون موظفي الدولة والمؤسسات وهناك المخبرون والعواينية الذين يقومون بأعمال مختلفة للتخفي أثناء مراقبتهم للأحياء والشوارعة كالزبالين وسائقي التكسي والبائعين المتجولين. ولنتذكر بأن هذا النظام القمعي مهووس بمراقبة الناس وحساب أنفاسهم عليهم مما يجبره على نشر عناصره في كل قرية وحي  وفي كل تجمع بشري كبر أو صغر. ببساطة لا يمكن أن يكون جمع العناصرمفروزين لقمع المتظاهرين. طبعاً هذه أعداد هائلة من العناصر يبذر النظام أموال الشعب عليها، لكن على الأقل يمكننا من الحساب السابق أن نفهم سبب إستخدمم النظام الشبيحة وسبب نقله إياهم بالباصات من منطقة ساخنة إلى أخرى. باختصار، ذلك لأنه ليس لديه الأعداد الكافية لقمع مدن ثائرة بأكملها. إن وظيفة المخابرات هي التخويف والإرهاب وهذا يطبقونه على بضعة أفراد “ليعلّموا” به البقية الخائفة من الشعب،ولا يستطيعون أن يجابهوا مدناً بأكملها. إن نظام القمع والإرهاب ليس مصمماً لضبط شعب ثائر لأكمله وإنما لإرهاب المجموع بإنزال أشد العقاب والعذاب على أشخاص قلائل يجعلهم النظام عبرة لمن يعتبر.

حساب عدد الجنود والعناصر بطريقة أخرى: إذا كان متوسط عدد أفراد الأسرة في الشقة الواحدة خمسة أشخاص، ومتوسط عدد الشقق في العمارة الواحدة هو 6 (3 طوابق، شقتان في الطابق الواحد) يكون متوسط عدد الأشخاص في العمارة هو 30 شخصاً. لنأخذ الحي المتوسط على أنه مربع تحده أربعة شوارع رئيسية وفيه 9 شوارع فرعية و9 شوارع متقاطعة معها، وفذا كان كل مربع صغير ضمن الحي والحاصل من تقاطع أربعة شوارع فرعية هو حارة فيكون عدد الحارات 100 حارة في الحي الواحد. وإذا كانت كل حارة مكونة من صفين متقابلين ظهراً لظهر من العمارات في كل صف 10 عمارات يكون عدد العمارات في الحارة الواحدة هو 20 عمارة، ومتوسط عدد سكان الحارة هو 600 شخص. وكذلك يكون متوسط عدد المواطنين في الحي الواحد المكون من 100 حارة هو 60 ألف شخص. مدينة مثل حمص فيها حوالي 25 حياً أي حوالي 1.5 مليون مواطن. وهذا رقم يقارب الواقع.

نصف عدد السكان إناث ونصف عدد الذكور تحت الخامسة عشرة، يكون إذاً العدد الأقصى للمتظاهرين في الحي الواحد هو 15 ألف متظاهر (عدد تقريبي باعتبار أن ليس كل الذكور يخرجون، وليس كل الإناث والأطفال الذكور يبقون في البيت ولا يخرجون). من أجل قمع 15 ألف متظاهر لابد من محاصرة الحي بحواجز عند أطرافه الأربعة، على الحاجز أربعة آليات (إثنتان للحركة واثنتان للحماية). كل آلية من نمط البي إم بي تستوعب 11 عشر جندياً من سائق وقائد ومساعد وجنود، لكن نلاحظ أن العدد المعتمد الآن هو ستة جنود من خلال مشاهدة فيديوهات نقل الآليات. إذن على كل حاجز 24 جندياً. ولنضف إليهم 6 جنود ثابتين فيصبح العدد 30 جندياً للحاجز الواحد. ولنقل أن كل حاجز عليه قناصان موجهان للحي ، يعني أن كل حي يتطلب 8 قناصين. مقدار ثلث عدد الجنود يجب ان يكون من عناصر المخابرات المختصين بمراقبة الجنود أي 10 عناصر للحاجز الواحد. طبعاً هناك المخابرات الجوالون في الشوارع. ولنقل أنه هناك عنصران من أجل كل تقاطع في الحي إذاً لدينا حوالي 81 عنصراً إضافياً. إذن يضبط كل حي 128 جندياً و120 عنصر مخابرات (40 منهم لمراقبط الجنود). ويضبط مدينة مثل حمص 3200 جندي و3000 عنصر مخابرات (1000 منهم لمراقبة الجنود) على الاقل. وهذا عدد قريب من نتائج  الحساب الأول، باعتبار أن الحساب الأول كان على مستوى المحافظة وليس المدينة.

لماذا يستخدمون المدرعات؟ باختصار هذه هي الخطة التي تعلموها في المدارس الحربية وهي الخطة المنطقية من ناحية عسكرية. أولاً المدرعة تحمي الجنود من القتل بالرصاص، ويحتاج تحطيم المدرعة إلى قذيفة آر بي جي أو أكثر وهذه أندر من الرصاص بمئات المرات، يعني مدة صلاحية الجندي في المدرعة أطول إلى حد ما بالنسبة لصلاحيته مكشوفاً. ثانياً، الجندي في المدرعة لا يستطيع الهرب. ثالثاً، المدرعة تسمح للجنود بإطلاق النار العشوائي من الفتحات الجانبية وتسمح لهم بالتحرك في شوارع طويلة مع إطلاق النار لساعات طويلة إذا يمكن للمدرعة حمل ذخيرة تكفيها ليوم كامل. إذن يمكنهم أن يغطوا أية منطقة بمظلة من الرصاص تمنع أي إنسان من الخروج إلى الشارع لساعات طويلة هي في الغالب ساعات مابعد العمل وساعات الليل. وهذا ما نراه فعلاً إذ يبؤون إطلاق النار مثلاً في حمص من الساعة الثانية ظهراً. رابعاً، المدرعة عليها مدفع خفيف العيار، صوته قوي وأثره مخيف دون أن يكون التدمير الذي يسببه كاملاً. المدرعات أدوات للترهيب وترويع الناس أكثر منها أدوات هجومية أو أدوات لكسب المعركة. ولذلك فإنهم يسيرون بالمدرعات ويطلقون النار والقذائف عشوائياً بغرض تخويف الناس ومنعهم من الخروج والتجمع. وبعد عدة أيام من القصف المستمر ستتعب أعصاب الناس، خاصة وانهم مثل طيور على خط الكهرباء يصطادهم الجنود والقناصة بسهولة. وإذا احتاجوا إلى مداهمة الحي فإنهم يطوقونه ويعزلونه تماماً لمنع وصول الإمدادات ويمطرونه بوابل أكثف من الرصاص والقذائف لإضعاف أهل الحي نفسياً مما يجعل اقتحام بيوته أسهل وممانعته أقل. أخيراً، أثر الرصاص وقذائف المدرعات لا يبدو واضحاً على الفيديو، وبالتالي لا يرى المشاهد أبنية مدمَرة بالكامل كما يحصل في القصف المدفعي الثقيل مما يجعله يعتقد بأن الأزمة مرت “على خير” ولا داعي للخوف من خطر مجزرة كبيرة.

المعركة الإعلامية: إن جزءاً كبيرة من معركتنا مع هذا النظام الفاسد هي معركة إعلامية فهم يريدون قتلنا ببطء دون أن يتنبه الرأي العام العالمي إلى أن مجزرة حقيقية تحصل على الأرض لأنها ببساطة تحصل ببطء على مدى شهور عديدة. وكذلك فإن القتل البطيء وبأعداد متصاعدة يجعل المشاهد البعيد عن مكان الحدث متبلد المشاعر ومعتاداً على مشاهد القتل وأعداد القتلى التي تصبح مع الوقت جزءاً من الحياة اليومية لا يعيره اهتماماً. في بداية الثورة كان الناس حول العالم يهبون لسقوط قتيل أو اثنين، واليوم ونراهم اعتادوا على عشرين قتيلاً في اليوم، وبعد عدة أشهر سيعتادون على ثلاثين ومن ثم أربعين ووأيضاً خمسين قتيلاً في اليوم. وكذلك فإن اعتياد الراي العام على هذه الأرقام المتصاعدة يزيد من ثقة النظام بنفسه ويقلل خوفه من تدخل دولي ديبلوماسي أو غيره لحماية المدنيين. ونرى بوضوح هذه الأيام أن النظام قد انتقل من القتل الأسبوعي (أيام الجمع) إلى القتل اليومي، ورفع سقف الضحايا من عشرة في اليوم إلى عشرين او ثلاثين في اليوم، ومن قتل بامواجهة إلى قتل بالقنص والقنابل المسمارية، ومن قصف بمدافع المدرعات الخفيفة العيار إلى قصف بمدافع الهاوين ومدافع الدبابات، ومن نقب لجدران المنازل إلى تهديم لأبنية بكاملها. وشيئاً فشيئاً سيستعمل المدافع الميدانية والحوامات والطائرات الحربية ليمسح أحياءاً أو قرى بكاملها من الوجود دون أن يعترض إنسان. إن الإنسان المتفرج قد يعتاد حتى على مشاهد القتل وكأنها قدر أو ضجة يمكن التغاضي عنها ومتابعة الحياة دون الإلتفات إليها. إن عدد القتلى يتراكم (20 إلى 50 يومياً) وعدد المشردين والمهجرين والمدمرة بيوتهم يزداد باطراد، وكل هذا من خلال خطة بسيطة أوتوماتيكية تعيد نفسها كل يوم وكانها آلة عملاقة ذاتية الدفع. فمن يا ترى يستطيع الصبر والإستمرار إلى مالا نهاية؟ أنحن أم النظام؟ لا بد إذن من تحقيق نقلة نوعية في الثورة فالنظام قد وجد الخطة المناسبة له التي تتيح له “إرخاء الأعصاب” والإلتفات إلى المناورة السياسية على المسرح العالمي والمحلي. أليس حري بالثورة إذن أن تجد لنفسها طريقاً يقيها من هذه الخطة الشيطانية ويحقق أملها بالحرية والكرامة؟

إستراتيجية النظام العسكرية- الإستنزاف: وبناء على ما سبق نرى أن النظام قد وجد روتيناً شيطانياً يسمح له بالإستمرار لفترة طويلة يأمل خلالها أن يستسلم الناس أو أن يفنوا. وباختصار فإن إستراتيجية النظام العسكرية لضبط المدن ومنعها من الثورة هي ما يفعله الآن، أي (1) إقامة حواجز لتقطيع المدينة الواحدة ومنع قيام مظاهرات واعتصامات كبيرة. بما أن المخابرات والشبيحة لا يستطيعون السيطرة على مظاهرة فيها عشرة أضعافهم فإن هدف الحواجز سيكون منع تشكل مسيرات كبيرة. ولهذا نرى الحواجز موزعة على التقاطعات الأساسية بحيث لا يمكن للمظاهرة الواحدة الخروج من الشوارع الفرعية الضيقة والتجمع في الشوارع الرئيسية العريضة أو في الساحات الواسعة عند التقاطعات الهامة، (2) دعم هذه الحواجز بقناصة لتفادي المواجهة مع المتظاهرين ولتفريقهم ولأن القناص قيمته بعشرة جنود على الأرض، (3) نشر الجنود داخل مدرعاتهم على الحواجز لحماية أعدادهم القليلة ولمنعهم من الهرب، (4) تغطية الأحياء بمظلات دائمة من الرصاص الحي لتحطيم الأعصاب ومنع التجمعات وحتى التواصل (5) وضع عناصر مخابرات لمراقبة الجنود على الحواجز وتصفيتهم إذا حاولوا الهرب أو رفضوا تنفيذ الأوامر، (6) سحب جنود وعناصر من مناطق أخرى وجلبهم إلى المنطقة الساخنة وإذا تدهور الوضع، (7) وإذا استمرت الإضطرابات ليوم أو يومين وتعرض الجنود على الحواجز لإطلاق نار بغرض فك الحصار عن الأحياء، فإنهم يأتون بجنود من الفرقة الرابعة لتمشيط المكان وطرد الجنود المنشقين الثائرين أو اعتقالهم أو قتلهم ثم يعيدون جنودهم إلى ثكناتهم.

إستراتيجيات إستنزاف أخرى: وبالإضافة إلى هذه الخطة العسكرية فهناك خطة استنزاف روتينية من نوع آخر تقوم على (1) نشر عناصر مخابرات لمراقبة الأحياء والشوارع أثناء النهار والإبلاغ عن تحركات المتظاهرين، (2) نقل المخابرات والشبيحة بالباصات إلى المناطق الساخنة طوال اليوم من منطقة إلى أخرى للإرهاب والقيام باعتقالات ومداهمات، (3) اعتقال المتظاهرين والمشتبه بهم وتعذيبهم للحصول على أكبر عدد من الأسماء الناشطة، (4) توزيع هذه الاسماء على الحواجز لجعل حركتها شبه مستحيلة  فتكون الحواجز كأنها شبكة صيد لهذه الاسماء، (5) وضع قوائم بالقيادات الميدانية ومن ثم تصفية هذه القيادات بالإعتقال او الإغتيال أو منع الحركة أو الإضطرار إلى الهرب، (6) منع وصول الإمدادات إلى المناطق الساخنة من ماء وكهرباء ووقود وغذاء ودواء، (7) منع خروج المصابين من هذه المناطق لتلقي العلاج، (8) إختطاف الفتيات حتى ينشغل الناشطون بتخليصهن عن الخروج للتظاهر أو التواصل وتنظيم الصفوف، وحتى يردّ الناشطون بأعمال مماثلة مما يسهل استغلال عملهم إعلامياً ضدهم. باختصار فإن النظام يستنزف الثورة من عدة نواح: مادية وتنظيمية وبشرية ونفسية وإعلامية حتى تنشل قدرتها على الحركة وتتوقف من ذاتها.

نصف الكأس الملآن: لكن لا نكتب لتثبيط الهمم وإدخال اليأس إلى النفوس. فما يبدو خطة جهنمية وآلة جبارة لا تُقهر قد يكون ضعفها في كونها جهنمية وجبارة. فلو نظرنا إلى نصف الكأس الملآن سنجد أن (1) خطة النظام الأمنية-العسكرية أصبحت معروفة، (2) استخدام المدرعات يعني أن هناك نقصاً في أعداد الجنود ويعني أن النظام قد وصل إلى الحد الأقصى من قدراته على نشر القوات والمناورة بها، (3) كل آلية أو عنصر مخابرات أو جندي من الفرقة الرابعة أو شبيح يخسره النظام لن يستطيع إستبداله وتعويضه إلا بسحب شخص مماثل من منطقة أخرى، (4) الحالة أصعب من أن يستطيع النظام ضبطها إلا إذا حافظ على أعداده وإلا إذا نجح بالإستمرار في خطته الروتينية القائمة على منع التجمع وتفادى مواجهة الأعداد الكبيرة. إن النظام الذي يطلب الطاعة الكاملة لا يستطيع أن يرى ولو معارضاً واحداً ولذلك فإن عليه احتلال كل مدينة وقرية في طول سوريا وعرضها مما يعني ضرورة نشر أعداد متزايدة من الجنود وإبقائها في الميدان إلى فترات ستطول مما سيستنزف قدراته ويعرضه لتململ الجيش وتهربه من عمله المقيت المناط به، (5) كل جندي يهرب أو ينشق لن يكون حيادياً بل سيصبح عدواً فاعلاً يضرب في أساسات النظام ويفتتها، (6) لكن بالمقابل فإن النظام لا يستطيع نشر الجيش بأعداد كبيرة خوفاً من إنشقاقهم وهربهم بأسلحتهم الثقيلة وانقلابهم ضده. باعتبار أن قوة النظام في مخابراته وليست في جيشه، وباعتبار أن عدد هؤلاء العناصر محدود ولا يمكن تعويضهم، وباعتبار أن استمرار عنف المخابرات سيجعلهم هدفاً للجنود المنشقين الحاقدين عليهم، وهذا سيضطره إلى التعويض عنهم بنشر مزيد من الجنود والضباط مما سيؤدي إلى مزيد من الإنشقاقات ومزيد من الهجمات. وبذلك سيدور النظام في حلقة العنف المفرغة التي خلقها هو نفسه حتى يصل إلى الكتلة الحرجة حين يستطيع الجيش كسر قبضة المخابرات وعندها سيسقط النظام دفعة واحدة. إن الشعب قد يسقط واحداً واحداً لكن النظام متى اختل توازنه وضعف فإنه سيسقط سقطة واحدة مدوية لا قيامة له بعدها وذلك بسبب ضخامة حجم آلته. ومن الناحية الإقتصادية فإن إستنزاف الشعب سيؤدي بالضرورة إلى استنزاف قوى النظام وموارده، فالنظام الذي يقتل شعبه لن يستطيع أن يحصّل منه أية ضرائب او فواتير مقابل خدمات مؤسساته وبالتالي سيقضي على أحد أهم موارده المادية. هذا النظام قد خسر حربه الإعلامية وتحطمت صورته محلياً وعالمياً ولن يستطيع إستعادتها مهما طال به الزمنو وهو بهذا قد فقد أيضاً شرعيته ويخضع الآن لعقوبات إقتصادية دولية هائلة بدأت آثارها بالظهور إذ لا يستطيع الآن تعويض ما يصرفه من أموال طائلة لاستئجار الشبيحة والقتلة. إن الآلة الجهنمية لا تستطيع الإستمرار إلى الأبد وهي لكبر حجمها تصرف من الطاقة ما لا تستطيع تعويضه وتجديده.

تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

You may also like...

shares