نحو تمثيل حقيقي للثورة السورية

ظهر المقال على موقع المجلة الدولية لدراسات الثورة السورية (مغلق) في 26 ديسمبر، 2011

تمهيد – هل هناك أزمة؟ وهل نريد حلاً؟

 بدأت الثورة السورية في 15 آذار، 2011. وبدأت نشاطات السياسيين الباحثين عن طريقة لدعم الثورة أو اللحاق بها بعد أكثر من شهر من بداية الثورة وذلك في “لقاء اسطنبول من أجل سوريا” الذي انعقد في 26 نيسان، 2011، والذي نظمته في الحقيقة منظمات تركية. أما المؤتمر الأول الذي نظمه سوريون فكان “المؤتمر السوري للتغيير” والذي انعقد في أنطاليا في الأول من حزيران، أي بعد أكثر من شهرين على بدء الثورة. ولم يكن مؤتمر أنطاليا بأفضل حظاً من لقاء اسطنبول من ناحية الإتهامات الموجهة إليه والنتائج التي تمخض عنها. اتُهِم هذا المؤتمر أيضاً بتسلط الإسلاميين عليه، كما ظهر من خلاله دور بعض رجال الأعمال السوريين في الخارج في تحريك دفة المعارضة. وفيه ظهرت علائم المشاكل التي ستُنهِك وتعرقل كل فعاليات المعارضة السياسية التقليدية في محاولاتها للحاق بالثورة وتقديم بعض العون لها، وهو الطلب الذي دعت إليه بشدة قوى الحراك الثوري في الداخل. هذه المشاكل هي نفسها الأمراض القديمة التي عانت منها المعارضة السورية منذ خمسينيات القرن الماضي إلى أن صفّاها نظام الأسد الأب وشتتها بين السجون والمنافي والمقابر؛ وأعني المناحرات الأيديولوجية، وانعدام الثقة، وغلبة التكتلات الإلتفافية الإقصائية، وبطء العمل وضعف التنظيم، وبروز الزعامات الفردية والمحسوبيات، وانعدام الرؤى المستقبلية الإقتصادية والسياسية الواضحة، والإقتصار على المماحكات السياسية والبيانات الخشبية. ولا أقول بأن الداخل الثوري أو السياسي المعارض خالٍ من هذه الأمراض إلا أن ثورتنا اليوم ثورة شباب تطمح للتغيير على كل الأصعدة وتفصلهم عن المعارضة السياسية التقليدية عقود من الزمن، واختلاف في التجربة التي عاشوها في ظل البعث، ونفور من العمل السياسي على طريقة الآباء، وملايين من الشباب الذين ولدوا في الثمانينات أو بعدها، والمعاناة الشديدة من خصخصة الإقتصاد على الطريقة المخلوفية، والتحديات الهائلة في تأمين عمل وإعالة أسرة.

هذه الثورة الشبابية، وبسبب ضعف خبرتها السياسية والتنظيمية في البداية، لجأت إلى معارضي الأمس المتفرقين بين الداخل والخارج وطلبت منهم العون فيما سُمي “تأسيس واجهة سياسية للثورة” في الخارج تنقل مطالب الثورة للرأي العام العالمي وتطلب النصرة منه من خلال هذه الواجهة. وهنا نشأت الأزمة الرئيسية التي نعاني منها اليوم، ويحمل الجميع وزر الوقوع فيها. وتتمثل هذه الأزمة في أن الثورة قد أعطت تفويضاً عاماً وغائماً لأشخاص لم يشتركوا في الحراك الثوري، تفويضاً أن يمثلوا هذا الحراك ويتكلموا باسمه؛ أي أن الثورة وبالتعبير الدارج “سلمت دقنها” للمعارضة التقليدية المختلفة عنها إختلافاً كبيراً “ووقعت شيكاً تفويضياً على بياض”. لقد فوضت الثورة أمرها إلى أشخاص لا يشكلون جماعة متجانسة، ولا يملكون تنظيماً يضبط عملهم، ولا يعيشون تحديات العمل الثوري في الداخل، ولم يتخطوا تجاربهم القديمة وأساليب عملهم، فكان أن بدؤوا بالافعال التي يجيدونها، وعلى طريقتهم القديمة التي وصفناها أعلاه. لقد بدؤوا بمشاورات طويلة مضنية من أجل تشكيل إئتلاف سياسي يجمع كتلهم القديمة ظناً منهم بأن ما طلبه الحراك في الداخل هو مجلس تمثيلي يجمع أطياف المعارضة كلها من أجل تمثيل الشعب السورية برمته والتحدث باسمه في المحافل الدولية، ومن ثم قيادة المرحلة الإنتقالية بعد أن ينجح ثوار الداخل في إسقاط النظام وحدهم وبطريقة ما لا تعرفها “أطياف المعارضة” ولم يطلب منهم أحد أن يعرفوها. وطالت المفاوضات أربعة أشهر، من أول حزيران إلى الثاني من تشرين الأول موعد إعلان تأسيس المجلس الوطني، مرت خلالها المعارضة في مطبات كثيرة ظهر فيها تفككها، وتعددت فيها محاولات الإلتفاف على الآخرين أو وضعهم أمام أمر واقع لا بد أن يقبلوا به، وتنوعت فيها الإتهامات وأشكال “الحرد” والتعنت في المواقف من أجل كسب اليد العليا في أي إئتلاف قادم. وفي النهاية برز مجلس هو عبارة عن إئتلاف سبع كتل سياسية تقاسمت فيه عضوية المجلس بنسب متفق عليها ما كان نصيب شباب الحراك الثوري فيها إلا 30%، وهي نسبة بعيدة كل البعد عن الـ 51% أو الـ 60% التي طالما سمعنا عنها والتي وعدت بأن يكون المجلس ممثلاً حقيقياً للثورة وليس مجرد إئتلاف سياسيين يدّعون تمثيل الثورة. وهذه الكتل المتحالفة هي: إعلان دمشق، المستقلون الليبراليون المسمون أحياناً بكتلة برهان غليون، والكتلة الوطنية المسماة أحياناً بجماعة اسطنبول، وتحالف الإخوان المسلمين والعشائر، والكتلة الوطنية الكردية، وكتلة شباب الثورة. وتركوا مقاعد فارغة لهيئة التنسيق التي أحجمت في النهاية عن الإنضمام وعقدت مؤتمرها الخاص في سوريا وتبنت رؤى مخالفة لرؤى المجلس.

ومنذ الثاني من تشرين الأول إلى السابع عشر من كانون الأول، موعد انعقاد المؤتمر الأول للمجلس الوطني، كنا أمام مجلس مؤلف من 220 عضواً لم تُسمِ الكتل المختلفة أسماء 26% من ممثليها فيه، ولم تُنشر أسماء إلا عدد محدود من الأعضاء المعروفين. وحتى الأسماء المشهرة كانت مجرد أسماء لأشخاص لم نعرف عنهم شيئاً، لا كفاءاتهم ولا ميولهم السياسية ولا دورهم في المجلس. وبرزت إلى السطح اتهامات متبادلة “بديكتاتورية غليون” و”إقصائية العلمانيين ” و”إلتفاف الإسلاميين” و”استيلاء العلمانيين على ثورة إسلامية” او “تسلط الإسلاميين على ثورة شعبية”. لكن الواضح كان انعدام الشفافية، والإنفصال عن الشارع، وبطء العمل وسريّته، وضعف الأداء، وفقدان الهيكلية الواضحة وأي نظام داخلي ينظم عمل الأعضاء. وأكثر ما برز هو المكتب التنفيذي الذي بدأ مباشرة بسلسلة جولات عالمية بقيادة برهان غليون لم نعرف معظمها ولا ما تمخض عنها. وفي الدرجة الثانية علمنا عن بعض اجتماعات الأمانة العامة التي دائماً ما كانت تعدنا بوضع هيكلية ونظام داخلي. أما بقية أعضاء المجلس فكانوا يتململون من الإقصاء والبطالة وينتقدون المجلس أكثر من غيرهم. لا المكتب الإعلامي للمجلس أنشأ موقعاً على الشبكة (في الحقيقة له موقع شبه فارغ، وهناك صفحة على الفيس بوك فيها أخبار منقولة ومقالات مقتبسة) ولا أعطى بياناً، ولا مكتب الإغاثة بدأ الإغاثة. حتى الهيئات مثل الهيئة العامة والأمانة العامة والمكتب التنفيذي والمكاتب الفنية لم تكن واضحة المعالم إذ لم يكن هناك أي نظام داخلي معلن يشرح وظائفها. والحقيقة هي أن عدد أعضاء المجلس الوطني بعد اجتماع تونس (حوالي 260) يفوق عدد أعضاء مجلس الشعبي الحالي في سوريا (250 عضواً). هؤلاء الأعضاء موزعون على عدة قارات، يتنقلون على حسابهم الخاص، وليس لمعظمهم أي دور معلن يلعبه غير انتظار المؤتمر الأول ولا نعلم أدوارهم بعده. ولم تكن هيئات المجلس معبّرة عن حاجات الثورة بل عن صراع القوى ضمن المجلس إذ تمثل الأمانة العامة مجلساً مصغراً بنفس نسب التكتلات المؤلفة للمجلس، ويمثل المكتب التنفيذي أمانة عامة مصغرة لكل كتلة ممثل واحد فيها، مما يعني انخفاض تمثيل شباب الثورة إلى أقل من 15%. في الحقيقة فإن الأساس في هيكلية المجلس هو تركيز السلطة في مجموعات أصغر مع المحافظة على الإئتلاف.

فهل علينا أن نستغرب هذا التطور في الأحداث؟ لا، كان علينا أن نراه منذ البداية. وقد كان واضحاً في الإعلان التأسيسي للمجلس الذي ألقاه برهان غليون، والذي نصت بنوده الثلاثة الاولي على ما يلي:

  1. يشكل [المجلس] العنوان الرئيس للثورة السورية ويمثلها في الداخل والخارج
  2. يشكل إطارا موحدا لقوى المعارضة في مواجهة المجازر اليومية التي يرتكبها النظام بحق المدنيين العزل
  3. يوفر الدعم اللازم لتحقيق تطلعات الشعب السوري بإسقاط النظام القائم بكل أركانه بما فيه رأس النظام، وإقامة دولة مدنية دون تمييز على أساس القومية أو الجنس أو المعتقد الديني أو السياسي

فهل تكون “الواجهة السياسية” هي نفسها “العنوان الرئيس للثورة”؟ وهل يكون “ممثل الثورة في الداخل والخارج” هو نفسه “إطاراً موحداً لقوى المعارضة” التي لا تشارك كلها في الثورة؟ إن تحوّل المجلس إلى ممثل للمعارضة أدى إلى المحاصصة، وإن اعتبار المجلسِ نفسَه قائداً للمرحلة الإنتقالية أدى إلى التصارع على المناصب وكأن سوريا “مال داشر” يكسبه السباقون إليه. اعتاد السوريون أن لا يثقوا ببعضهم البعض، واعتادوا أن من يصل إلى الحكم منهم يبقى فيه إلى الأبد، فنراهم الآن يتسابقون إليه معيدين بذلك ما فعله حزب البعث في الستينات من القرن الماضي. لقد نسي الجميع الثورة وانغمسوا في السياسة. وبينما يعقد السياسيون مؤتمراتهم في الخارج يقتل النظام من شعبنا العشرات كل يوم. ليس لدينا خطة واضحة لتحقيق النصر، والعالم يريد مساعدتنا لكن بشروطه وليس بشروطنا، وواجهتنا السياسية تدعي تمثيل الجميع، الميدانيين والسياسيين، لكن سياسياً فقط وتضع نفسها قائدة للمرحلة الإنتقالية دون أن تكون قائدة للثورة. الآن لا نريد إلا وقف القتل وإسقاط النظام فهل المجلس هو طريقنا إلى هذه الهدف الذي لا وجود لأهداف أخرى غيره؟ هذه هي أزمتنا الحالية ولا بد من حلها وإلا قتلنا النظام ببطء عشرين أو ثلاثين كل يوم حتى لا يبقى منا واحد في الشارع، ولا يبقى إلا السياسيون يتكلمون عن ثورة لم تعد موجودة ويحللون أسباب فشلها.

تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

You may also like...

shares