الديني في الإنتفاضة السورية – الجزء الثاني

الشيخ عدنان العرعور

ظهر المقال على موقع مدونة الموسوعة السورية في 14 مايوم، 2011

لا أحد ينكر وجود شرخ كبير في المجتمع السوري من حيث موقف فئاته المختلفة من الإنتفاضة. والمثير للإستغراب في الأمر هو أن الإعتراض على شكل الإنتفاضة وأهدافها المعلنة قد أخذ شكل الموالاة لنظام أمني بامتياز حكمَ المجتمع السوري بقبضة من حديد لأكثر من أربعين عاماً. وبما أن أذى النظام قد طال مختلف فئات المجتمع الطائفية والطبقية والمهنية والثقافية فإنه من المستغرب تخوف العديد من السوريين من الإبتعاد عنه والإنحياز إلى هدف الإنتفاضة المعلن بإسقاطه. وباعتقادي أن هذا الشرخ ليس وليد اللحظة الراهنة وحالة إنعدام الأمن المرافقة لأية انتفاضة، وإنما بدأ من حوالي عشرين عاماً في بداية التسعينات من القرن الماضي حين تغيرت موازين القوى العالمية وبدأ الأسد الأب بتحضير سوريا والسوريين لمرحلة ما بعد موته وما رافق ذلك من إعادة هيكلة للإقتصاد السوري ولمؤسسات النظام من حزب وجيش وأجهزة أمنية وبيروقراطية وقطاع عام. وقد تبع ذلك إعادة هيكلة للمجتمع السوري بأسره.

إننا أمام واحدة من تلك اللحظات التي قد ترسم تاريخ البلد لعقود قادمة. ويحسب القارئ للتاريخ أن التغييرات الجوهرية في أي مجتمع بطيئة بطبيعتها وتأخذ سنين طوال لإتمام مسيرتها. لكن الحقيقة هي أن بعض المنعطفات قد تكون سريعة ومزلزلة وبعيدة الأثر، خاصة إذا قادها نظام سلطوي قمعي مثل النظام السوري الحالي، والذي أعتقد أنه المسؤول الأول والأخير عن هذا التغيير المزلزل باعتبار أن سلطته مطلقة وشاملة لكل مناحي الحياة في المجتمع والدولة (وهذا ما يجعله قادراً على إحداث مثل هذا التغيير السريع). إن الصدفة أدت إلى الإطاحة بنظام بن علي في تونس مما خلق موجة تغيير جارفة وعارمة في المنطقة العربية لن يسلم منها أحد، وأتمنى أن يستفيد منها الجميع، ولن تنتهي بانتهاء الإنتفاضات. إنها موجة مماثلة لموجة الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر والحروب النابليونية أوئل القرن التالي. ونعرف أن تلك الموجة لم تنته إلا بعد حوالي نصف قرن حين قررت الملكيات الأوروبية ركوب موجة الليبرالية والقومية بدل معاداتها. ليس من وقت غير مناسب في التاريخ ولهذا علينا أن نناقش الحدث الجاري ونوجهه اعتماداً على فهمنا للتاريخ وللمجتمع صاحب هذا التاريخ.

لقد بدأت ملامح الشرخ المذكور أعلاه بالظهور مع الجدال الذي دار حول تغيير قانون الأحوال الشخصية عام 2009، وتوطدت مع الجدال الذي تبعه عام 2010 حول نقل 1200 من المعلمات المنقبات إلى وظائف إدارية وتطبيق سياسة غير معلنة بمنع الطالبات المنقبات من دخول الجامعات العامة والخاصة. ثم جاء مسلسل “ما ملكت أيمانكم” ليثير جدالاً فرعياً عن نفوذ القبيسيات والتيار الإسلامي المتشدد في المجتمع والدولة السوريين. وأفضل نقاش باعتقادي لخلفيات هذه الجدالات هو مقالة قصيرة للكاتب بكر صدقي ظهرت على موقع صفحات سورية (22-آب-2010) بعنوان “ملاحظات في العلمانية والنقاب وما يتصل بهما من مسائل”. لم تعرض المقالة تحليلاً مفصلاً ومطولاً لجدال النقاب وإنما قدمت محاور أساسية لتحليل مستقبلي وأعادت الجدال إلى واقعه الحقيقي، وأن السياسي، بدل الفضاءات الثقافية والدينية والفكرية التي وضعته فيها مقالات أخرى اتسمت بالسجال واتخاذ مواقف بدلاً من التحليل. أنا من أنصار فكرة أن ما يجري من نطاق العائلة (الفضاء الخاص) إلى الخارج (الفضاء العام) هو سياسي بالضرورة، ولذلك فإني أعتبر أن النقاب، وحتى الحجاب والزي الإسلامي عامة، مسألة سياسية بامتياز باعتبار أنها تحدد صورة المرأة حال خروجها من البيت إلى الفضاء العام إن بالجسد أو بالفكر، والمرأة كانت ولا تزال ساحة لمعارك الرجال وصراعاتهم بكل أشكالها.

اللبرلة كلمة ثقيلة على النطق لكن لا بد من استخدامها في سياق مقالتنا هذه لأن مصطلحات مثل الإنفتاح الإقتصادي أو التحرر الإقتصادي لا تزال قاصرة عن ضم التاريخ الطويل لليبرالية الأوروبية منذ بدء ظهورها في أواخر القرن الثامن عشر على أيدي مفكرين مثل جون لوك وآدم سميث. اللبرلة مبنية على تقديس الملكية الخاصة وبالتالي النشاط الإقتصادي الخاص وتعميمها كنمط مسيطر، وتحرير التجارة من قيود الدولة وفتح أبواب التنافس، وتسهيل حركة رؤوس الأموال. باختصار، الليبرالية ترى أن رأس المال ملكية خاصة لفرد، وأن كل ما ينتج عنه من قيمة زائدة تعود ملكيتها إلى صاحب رأس المال. وهذا يمكن ذلك الفرد من كنز الثروة بشكلها السلعي أو النقدي حتى يعيد إدخالها في دائرة الإنتاج من جديد لتولد له ثراوت إضافية. في غياب القطب السوفيتي تمكنت الولايات المتحدة من تعميم الليبرالية كنمط إقتصادي (لأن هناك ليبرالية فكرية)، وهذا هو الجزء الإقتصادي من العولمة. دخلت جميع دول العالم نادي الليبرالية من أبواب مختلفة، وأعجب النظام السوري بالمثال الصيني ففضل الليبرالية المقننة والمسيرة، وهو ما أطلق عليه نمط اقتصاد السوق الإجتماعي. لكن نظام الأسد التسلطي الشمولي لا يستطيع أن يتعايش مع الليبرالية الأوروبية لأنها تعني حرية النشاط الإقتصادي وتحويل الدولة إلى ميسرة لهذا النشاط بدل أن تكون مسيرة. الليبرالية تعني فقدان السيطرة المطلقة على الإقتصادي وبالتالي فقدان السيطرة التدريجي على الحكم والمجتمع (ولهذا يربط الغربيون بين الليبرالية والديمقراطية لأن الأخيرة تاريخياً كانت الوجه السياسي للأولى). فعمد النظام إلى حل ليس بالخارق الذكاء، لأن كل الانظمة التسلطية الشمولية العربية عثرت عليه في الوقت نفسه، وأعني احتكار الليبرالية من قبل دائرة صغيرة ومغلقة من الأفراد المرتبطين بنظام الحكم، وخاصة أسرة الحاكم وأقرباءه وأصدقاءه المقربين. وهذا الحل يتمثل ببيع القطاع العام لأفراد هذه الدائرة وربط أغلب شركات القطاع الخاص الكبرى والمؤثرة بهؤلاء الأفراد. وبهذا يتحول القطاع العام، الذي كان يعتبره النظام ملكاً له إلى ملكية خاصة به بالفعل. ويعبر الناس عن هذه السياسة بعبارة تحويل البلد إلى مزرعة خاصة، وسنسميها هنا باللبرلة الإحتكارية. وقلّ ما يعلمون، فإن اللبرلة بأي من أشكالها، تتطلب سلسلة لا تنتهي من القوانين لتنظيم عملها فهي نظام متكامل ومختلف طبعاً عن النظام الإشتراكي ومركزية الإقتصاد. وليس هذا فحسب، إذ إن شبكة الأتباع والموالين الذين كان النظام يطعمهم من القطاع العام (عن طريق تضخيم مؤسسات الدولة وتوسيع شبكات الرعاية والضمان المملوكة من الدولة) أصبح من الضروري إما فطمهم عن آلة الرضاعة هذه أو إطعامهم من القطاع الخاص الإحتكاري الذي تسيطر عليه الدائرة المقربة السابقة الذكر. ولهذا تبعات إجتماعية ضخمة، فمؤسسة الإعالة وتوزيع الغنائم المسماة بحزب البعث أصبحت عالة على النظام وضعف نفوذها، خاصة أن تسيير القطاع الخاص الإحتكاري اعتمد على الأجهزة الأمنية لأنها قوة ضاربة فوق القانون، أي أنها تصنع القوانين بنفسها مما يسهل أعمال هذا القطاع بتفادي بيروقراطية الحزب التي لا تنتج أي ربح أو قيمة زائدة. طبعاً ما غاب عن المخطط الأولي لهذه النقلة النوعية هي أن الحكم التسلطي الشمولي ليس مسؤولاً أمام أحد عن دفاتر حساباته ولا يهمه الربح بقدر ما يهمه الولاء، أما القطاع الخاص وإن كان إحتكارية فهدف توليد الربح وهو مسؤول عن دفاتر حساباته أمام المستثمرين الذي لا تربطهم بالنظام أية روابط مؤسساتية وإنما روابط مادية بحتة تنتهي بانتهاء المنفعة وانعدام الربح.

والانكى من ذلك فإن جشع الرأسمالية سيجري في دماء المحتكرين حتى وإن كان هدفهم تسيير الإقتصاد بدلاً عن النظام ومؤسساته. والزراعة الصناعية مورد رزق سريع (إستثمار ضئيل في وسائل الإنتاج) يسيل له لعاب الإحتكاريين باعتبار أنهم يبحثون عن المردود السريع، ولذلك بدء النظام باحتكار الأراضي الزراعية بعد أن قضى نظام البعث ثلاثين عاماً يشتري ولاء الفلاحين من خلال قوانين إعادة توزيع الأراضي وتحديد الملكية الزراعية وإنشاء التعاونيات ومنح القروض الزراعية الرخيصة من أجل شراء البذور والسماد والآلات. بطل الفلاحين الذي حولهم من مرابعين وعمال زراعيين إلى ملاكين سحب البساط من تحتهم وتحول هو نفسه إلى إقطاعي كبير مدعوم من أجهزة قمعية لا ترحم. إضافة إلى ذلك فإن مؤسسات الدولة التي تضخمت في السبعينات والثمانينات لاستيعاب كل الطالبين للإعانة المادية جذبت الريف إلى المدينة حيث تتمركز هذه المؤسسات وأبعدتهم عن مصدر اكتفاء ذاتي هو الأرض، ومن ثم تركتهم فريسة سهلة للرأسماليين الإحتكاريين. فلا وظيفة الدولة أصبحت مضمونة (وما يتبعها من ضمان صحي وتقاعدي)، ولا وساطة حزب البعث المهمش أصبحت كافية، ولا السلع الإستهلاكية الأساسية باتت مدعومة (مثل الخبز والسكر والوقود). لقد انتقل إقتصاد سوريا خلال عشر سنين من نظام إعالة (عن طريق الدولة والحزب والجيش والمخابرات ووظائفهم) إلى نظام رأسمالي إحتكاري يأكل كل شيء ولا يشارك أحداً في شيء، أي من الأقصى إلى الأقصى. وقد حصل سيناريو مماثل في تونس ومصر (إحتكار العائلة للثروة مدعومة بنظام بوليسي جبار فوق القانون)، ولذلك رأينا اتحاد الشعب في تلك الدول من أجل هدف واحد هو إسقاط الدائرة الصغير المتسلطة القابعة في أعلى الهرم الإقتصادي والسياسي. لكن لماذا لا نرى في سورية الوحدة التي رأيناها في تونس ومصر؟

نعود هنا إلى الشرخ الذي ذكرناه في بداية المقالة. إن نظاماً قمعياً وطائفياً كما النظام السوري الحالي لا بد أن يضمن ولاء المقربين منه بطريقة طائفية أيضاً. إن إعادة هيكلة الإقتصاد التي بدأت بهدف التأقلم مع الوسط المحيط ومن ثم إحداث توريث سلسل للسلطة من الأب إلى الإبن، تحتاج إلى خبرات ورساميل واستثمارات لا يملكها النظام فتسيير مافيا ضخمة مثل النظام السوري لا يحتاج إلى معرفة نظرية وإنما إلى جراية بأمور الولاءات والتحالفات العشائرية والطائفية التي برع بها حافظ الاسد. أما بشار الأسد ونظامه الجديد فبحاجة إلى فئة كانت مغيبة ومهمشة طيلة عقود من الزمن، وأعني فئة أثرياء السنة المتمركزين في المدن الكبرى الذين اقتصر نشاطهم الإقتصادي على القطاع الخاص المهمش والمضبوط بقوانين ضريبية وإجرائية هائلة. وباعتبار طائفية النظام فإن استقطاب هذه الفئة سيمر عبر انتمائهم الطائفي، أو هكذا يعتقد النظام. وللأسف فإن القروي العلوي الذي جنده النظام في أجهزة الأمن بقي مهمشاً إقتصادياً ومجيشاً فكرياً وهو لا يزال في واجهة المجابهة بين النظام وشعبه الثائر وأول الضحايا دفاعاً عن النظام وسيكون أول الضحايا في حال سقوطه مما يزيد من خطر إنشقاق المجتمع السوري إلى طوائف متصارعة في حرب أهلية عقيمة لا نهاية لها. وباعتبار أن لا مجال لإدخال أثرياء السنة في دائرة القرار السياسي لاقتصارها على العائل فقد كان لا بد من إشباع رغباتهم القيادية في مجالات أخرى. وباعتبار أن نظام التسلط والأمن لا يستطيع أن يسمح حتى بإنشاء جمعية خيرية فإن هذه المجالات الأخرى ستكون محددة طائفياً وعشائرياً وهي المجالات الوحيدة التي يفهمها النظام ويسمح بها. وهنا نرى تكاثر المدارس والمعاهد الدينية السنية ومراكز تحفيظ القرآن الجوامع والطرق الصوفية والتي كانت الطريقة التقليدية القديمة لبناء شبكات النفوذ الإجتماعي والإقتصادي في المجتمعات السنية العثمانية. وحسب هذه الطريقة القديمة والحديثة في بناء التحالفات فإن التاجر أو الثري يتبرع ببناء المسجد أو المدرسة أو التكية أو الخانقاه مقابل بناء سمعة طيبة ونفوذ في المجتمع سيعود عليه بالفائدة الإقتصادية والسياسية لاحقاً. لا بل رأينا عودة أسماء قديمة لعائلات قدمت شيوخاً للطرق الصوفية أو ربطت أسماءها بمساجد أو مدارس.

لكن الأمر ليس بهذه البساطة فالمجتمع السوري قد تغير جذريا منذ السبعينيات فعدد السكان قد تضاعف، وتحول المجتمع من ذي أغلبية قروية إلى ذي أغلبية مدينية، وأهملت الزراعة وقلت الأمطار وزحف الناس إلى العشوائيات حول المدن بحثاً عن فرص العمل، وظهرت الفضائيات وخاصة الدينية منها، وتقلصت شبكات التكافل والضمان الإجتماعي التي ارتبطت بالدولة، وترك سوريا معظم شبابها المتعلم بحثاً عن فرص عمل توافق تعليمهم وطموحاتهم التي رفع سقفها التعليم العام المجاني. مملكة الصمت والعزلة التي ضحت بالليمون في الثمانينات حتى تدفع ديونها الخارجية انفتحت على العالم بعض الشيء في وقت غيرت فيه تركيبتها الإقتصادية وبالتالي الإجتماعية حسب ما بينا. التيارات الخارجية كان أغلبها خليجياً وهابياً متزمتاً باعتبار أن الخليج كان مآل أغلب الشباب السوري الباحث عن عمل مجز مادياً. أما الفضائيات فقد بدأت بثورة الجزيرة لتتحول بعدها إلى فضائيات التدين الممولة خليجياً خلال العقد الأخير. وهنا نأتي إلى صلب التحول الأيديولوجي في سوريا والذي هو أساس الشرخ الذي تحدثت عنه. لقد أغلق النظام السوري المجتمع في وجه التأثير الفكري الوهابي لسنوات طويلة لا بل أمد هذا الفكر بمعلميه من الإخوان المسلمين الذي طردهم في السبعينيات والثمانينيات. لكن أحداث أيلول عام 2001 ومن ثم الإجتياح الأمريكي للعراق أجبرت النظام على إعادة حساباته الإقليمية والداخلية. إن اجتياح العراق وانفراط عقد المجتمع هناك في حرب أهلية وحشية غذاها التمييز الطائفي الأمريكي وتحطيم الدولة العراقية قد زلزال النفوس العربية عامة والسورية خاصة لقربها من العراق ولاستقبالها العدد الأكبر من اللاجئين العراقيين. المشروع الأمريكي المسمى بالشرق الأوسط الكبير كان يشمل تغيير الأنظمة في العراق وبعده في سوريا وإيران وبلدان أخرى، مما أرعب النظام في سوريا وأجبره على التقرب من شعبه ذي الغالبية السنية. هذا التقرب كانت أسسه قد أرسيت في عملية هيكلة الإقتصاد وما تبعها من التقرب من أثرياء السنة. بعد عام 2003 دخل التيار السني السلفي في كل مناحي الحياة في سوريا بما فيها الدولة وحزب البعث واطلقت أيدي المشايخ التقليديين ومريديهم في مجالهم التقليدي (خاصة وأنه بعيد عن السياسة ظاهرياً) ألا وهو مجال التعليم (التعليم العام والخاص والتربية الدينية غير المدرسية). أضف إلى ذلك الهزة العنيفة للهوية العربية الإسلامية التي شكلها الغزو الإمريكي وسقوط بغداد المريع والتي أحدثت ردة دينية حتى في تونس التي كانت تتباهى بنظام علماني منيع على حد زعم النظام هناك. هزة الهوية هذه ما كانت لتأخذ الشكل الديني الذي رأيناها لولا تنازل الفكر القومي العربي ذي الطابع الإشتراكي عن علمانية الدولة بتدريسها للدين في المدارس وسيطرتها على الهرمية الدينية وإدخالها للإسلام في الدستور كدين للدولة وكمصد للتشريع، خاصة في قانون الأحوال الشخصية.

وكما هو الحال في كل الدول الإسلامية فإن الصحوة الدينية المزمنة ليست في الحقيقة إلا صحوة سياسية في دول لا مجال فيها للعمل السياسي، فتتحول هذه الصحوة بالتالي إلى معركة سيطرة على العقول والأجساد وخاصة عقول الرجال وأجساد النساء. الصحوة الروحانية المزعومة لا تتكلم في الروحانيات أبداً بل تتحكم بأدق تفاصيل حياة الإنسان في هوس جارف لاستعادة السلطة المفقودة التي سرقتها الدولة القمعية الشمولية. أضف إلى ذلك أزمة ذكورية حادة سببها تحطيم أسس الرجولة الشرقية وأعني حضور الشخصية التنافسية الواثقة من نفسها وامتلاك مقاليد السلطة الإقتصادية والفكرية والجنسية داخل العائلة. الحضور الذكوري التنافسي يعيقه غياب الفضاء العام (خاصة السياسي) والحضور الخانق لعنف السلطة الجسدي والعقلي، والرجل المعيل لايجد مصدراً للرزق، وخروج المرأة من البيت طلباً للعمل أو الدراسة أو حتى التسوق يفضح العرض المستور ويجعل المرأة عرضة للمؤثرات الخارجية التي تعيد بناء تصفيفة شعرها وثيابها وحتى جسدها. ولهذا كانت ولا تزال ساحات التعليم والأخلاق العامة وجسد المرأة ساحات المعارك المفضلة عند الإسلام السياسي. والنظام الباحث عن الشرعية المفقودة والدعم الداخلي اتقاءاً لأخطار خارجية محدقة لا يستطيع إلا أن يفسح المجال لمعينه الجديد، أي الإسلام السني المديني بشكله السلفي الوهابي الجديد الذي تغذيه الفضائيات الخليجية. هذه الإسلام مديني بمنشئه (انتشر الإسلام خارج الجزيرة العربية من المدن) ويتغذى على الطبقات الفقيرة في المدينة (باعتبار التقاليد هي الحاكمة في الريف والتي تشمل نوعاً من الإسلام المهجن البسيط)، ولا نقص في أعداد هذه الطبقات إذ تغذيها هجرة الريف باستمرار. هذه الهجرة تقضي أيضاً على التقاليد والعشائرية الريفية وتضع المهاجر وحيداً في مهب الريح الإقتصادية الرأسمالية وبعيداً عن المجتمع الريفي المغلق البسيط. ويستبدل المهاجر انتماءه العشائري بانتمائه الإسلامي وتقاليده الريفية بتقاليد الإسلام المديني السني المهووس بالتشريع والقانون وضبط حركة النساء. ولهذا أول ما يكون التغيير في ثياب النساء فالمنديل الريفي والثوب الريفي يحل محلهما النقاب والمعطف الإسلامي الثقيل.

أول معارك السيطرة على المجتمع كانت حول قانون الأحوال الشخصية عام 2009. هذه المعركة أظهرت ضعف النظام أمام حليفه السني الجديد الذي تغلغل في مجتمعه الطبيعي، أي مجتمع المدينة السنية. النظام ضعيف لأنه يحتاج إلى حليفة الإقتصادي الجديد ويحتاج إلى سلطة المشايخ لحماية وجوده من التهديدات الخارجية (ولذلك لا يقضي النظام الديكتاتوري على الإسلام السياسي قضاءاً كاملاً فهو سيحتاجه يوماً ما) ويحتاج إلى الفضائيات الخليجية لغرضاء مستثمريه الجدد ويحتاج إلى الإسلام لرأب الصدع في الهوية العربية الذي أحدثه الغزو الأمريكي للعراق. هذه المعركة أظهرت للعيان الشرخ الجديد في بنية المجتمع السوري بين سكان الضواحي من الريفيين المهاجرين (أو بتحول بعض القرى إلى ضواحي) ومن أهل المدينة الذين أفقرهم الرأسمال الإحتكاري ودفع بهم إلى الضواحي نفسها، وبين طبقة من الرأسماليين المحتكرين الذين تقوم ثروتهم على التجارة والإستهلاك المفرط (ونجد هذه الطبقة المعولمة الإستهلاكية في كل بلدان العالم) وأساليب التسويق الغربية القائمة على استخدام الجسد النسائي كأداة لجذب المستهلكين. العولمة بثقافتها الغربية الضحلة واهتمامها بالمظاهر واستغلالها لجسد المرأة كوسيلة للدعاية اصطدمت بالصحوة الإسلامية الجديدة في ساحة معاركها المفضلة، جسد المرأة. أضف إلى ذلك ان الأقليات الدينية في سورية لم تر في الصحوة الإسلامية إلا استفاقة لعدو قديم أخضعها لقانون أهل الذمة وعاملها كضيفة في بلدها الأم. وقد وجدت هذه الأقليات في النظام الطائفي وحليفه الرأسمالي الإحتكاري الإستهلاكي ملاذاً لها من الملتحين جزازي الرؤوس (أو هكذا بدوا لهذه الأقليات من خلال صور أقرانهم في العراق وأفغانستان والسعودية) والحالمين بعودة سطوة الخلافة الإسلامية وإمبراطوريتها المنقرضة (خاصة في نسختها العثمانية العقيمة والعنصرية). هذا الملاذ وجد رمزه في علمانية مزعومة لنظام البعث. البعث لم يكن يوماً علمانياً لأن الفكر القومي العربي (كغيره من الأفكار القومية المنقلبة إلى فاشية) استولى على الرموز الإسلامية ووظفها لأغراضه، والنظام السوري لم يكن يوماً أيديولوجياً لأن أيديولوجيته الوحيدة هي بقاء النظام، ومؤسسة البعث تم تفريغها من وظيفتها الأصلية كمؤسسة لتوزيع الثروة وكسب الولاء من قبل حلقة الرأسماليين الجدد لا بل اخترق الإسلاميون مؤسسة البعث في محاولة منهم لكسب بعض من سلطتها القديمة. وعندما شعر النظام بالمأزق الذي أدخل نفسه فيه عاجل بعقليته القمعية إلى تأكيد سلطته المطلقة فأوعز لمؤسساته بإصدار تعميمات (وليست قوانين) لجس النبض وإرسال رسالة واضحة للقوى الإسلامية الجديدة وهذا ما رأيناه في قضية المعلمات المنقبات ومن ثم في جدال النقاب في الحرم الجامعي. هذه القضية كانت سياسية بحتة لكن تغييب الفضاء السياسي حولها إلى قضية فكرية ظاهرياً. وإن نظرة إلى المعسكرات المتناحرة ترينا انقسام المجتمع السوري بين معسكر المتدينين الجدد (الضواحي والإسلاميين ومشايخهم المدعومين من أثرياء السنة الجدد) وبين معسكر الأقليات والطبقة الرأسمالية الإستهلاكية. الرموز كانت علمانية النظام المزعومة وحرية المرأة. ومن شدة الشرخ دعم المعسكر الثاني قرار الحكومة الذي ليس في الحقيقة قراراً أيديولوجياً وإنما محاولة من النظام لاستعادة سيطرته المطلقة على المجتمع. ثم جاءت الإنتفاضة فثارت الطبقات المهمشة إقتصادياً وسياسياً (أي الضواحي والمدن الصغيرة والقرى التي كانت قاعدة البعث في الماضي القريب) لكن النظام وجد ضالته في الشرخ الحديث العهد حتى يجيش قسماً كبيراً من قاعدته الطائفية ومن الأقليات ومن حلفائه الإقتصاديين الجدد الذين جيشتهم قضية النقاب وقانون الأحوال الشخصية من قبلها، فادعى بأن الإنتفاضة ما هي إلا استمرار لجدال النقاب، أي أنها مؤامرة إسلامية سلفية لقلب النظام وإقامة إمارة إسلامية في الضواحي والقرى الثائرة التي أصبحت في الماضي القريب ملاعب التجييش الإسلامي السابق الذكر أعلاه. والمضحك في الأمر أن النظام عندما أراد أن يتحدث إلى هذه الإنتفاضة توجه إلى المشايخ المدعومين من الأثرياء السنيين الجدد لاعتقاده بنجاح مخططه بقيادة المجتمكع السني من خلال حلافئه السنيين الجدد. هؤلاء المشايخ من أمثال البوطي والنابلسي وغيرهم لم يخذلوا النظام ووقفوا معه مما سبب جلبة كبيرة في صفوف المنتفضين الذين حسبوا أن مشايخ السلطة هم حلفاؤهم الطبيعيون. لا أنكر أن مطالب الثائرين قديمة قدم النظام، وهي تمس في الحقيقية الجدال الأساسي الذي غيبه النظام القمعي، أي الجدال السياسي والمشاركة في سلطة اتخاذ القرار. لكني لا أستطيع أن أنكر التحولات التي حدثت خلال العشرين سنة الماضية والتي غيرت هيكلة وأيديولوجيات المجتمع السوري ودفعتها في طريقي إسلامي يمكن أن يحتل الساحة في أية لحظة. من التوريث إلى الإنتفاضة عشر سنوات قلبت المجتمع السوري رأساً على عقب وأتمنى أن تكون الإنتفاضة على قساوتها إعادة لتوازن المجتمع الفكري بتركيز الإهتمام على القضية الأساسية أي النظام القمعي الشمولي وغياب الحريات بكل أشكالها وليس الدين أو النقاب. وما خوفي إلا من مشايخ السلطة ومموليهم من أثرياء السنة الجدد أن يقلبوا ولاءهم ليضعوا أنفسهم في قيادة المجتمع المديني الجديد من خلال أيديولوجيتهم الإقصائية التكفيرية التي كانوا يغذونها في انتظار معارك مطلبية مع النظام مثل معركة النقاب مثلاً (ولذلك رايناهم يصطادون في الماء العكر بأن يشرحوا الإنتفاضة بانها ثورة ضد نقل المعلمات المنقبات ومنع النقاب في الجامعات).

تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

You may also like...

shares