الديني في الإنتفاضة السورية – الجزء الأول

ظهر المقال على موقع مدونة الموسوعة السورية في 13 مايو، 2011

أكد لي صديق وجود حالات هجوم مسلح على قوات الأمن في درعا وبانياس وحالات إطلاق شعارات دينية وطائفية خلال بعض المظاهرات. كما أكد هيثم المناع في مقالته الأخير على الجزيرة بتاريخ 13-5-2011 حدوث حالات ثأر وسماع شعارات طائفية في الجنوب. وكتب أحد الحمصيين في رده على البيان الثاني للكاتب فراس السواح الذي استنكر فيه الشعارات الطائفية لبعض المظاهرات ودعا إلى تهدئة الوضع بأنه لم يسمع مثل هذه الشعارات في حمص، ونوه إلى تمسك المتظاهرين بالسلمية والبعد عن إثارة الطائفية . لكنه أضاف بأن حدوث مثل هذه الأفعال إن حدثت يجب أن يؤخذ في سياق أربعين سنة من التفرقة الطائفية الممنهجة التي اتبعها النظام السوري وفي سياق خمسة أسابيع من القمع الوحشي الذي نجح النظام في إظهاره بصورة طائفية من خلال وصف جميع المتظاهرين بأنهم سلفيون تكفيريون هدفهم قتل الأقليات الدينية وإقامة إمارات إسلامية طالبانية. طبعاً وحتى لو كانت ادعاءات النظام صحيحة فإن وقوع مئات الجرحى واعتقال آلاف المواطنين يضع كثيرات من علامات الإستفهام والتعجب على معالجته للوضع التي اتسمت باستخدام مفرط وعشوائي للخيار الأمني وتجنيد وتسليح مواطنين مدنيين في لجان شعبية بدعوى حماية الممتلكات والأرواح. إن زج المدنيين في المعركة المزعومة لا يدل على شعبية النظام وإنما يدل على استهتار هذا النظام بحياة مواطنيه حتى المؤيدين منهم. لو لم يكن الفصل الواضح بين المدنيين والعسكريين لما أنشأت الدول جيوشاً بثياب مميزة وعزلتهم عن بقية الشعب في ثكنات خاصة وقاضتهم في محاكم عسكرية خاصة تحت سلطة قانون مخصص للعسكريين. وهنا نرى أن طمس الحدود الفاصلة بين المدنيين والعسكريين أو عناصر الأمن بإلباس هؤلاء ملابس مدنية دون شعارات تميزهم عن المدنيين يدعم رؤيتنا بأن هذا الطمس متعمد يهدف من خلاله النظام إلى تقسيم الشعب إلى فريقين واحد مؤيد وآخر معارض وإظهار الأحداث الأخيرة وكأنها معركة بين هذين الفريقين لا دخل للنظام فيها. كان لا بد لي من هذا التوضيح قبل أن أدخل في الموضوع المشار إليه بالعنوان حتى لا يخلط القارئ بين قضية الصحوة الدينية في سوريا وقضية قمع التظاهرات بوحشية لا داعي لها ولا شرعية لها في أي عرف من الأعراف، فنحنا لا نعيش في صحراء الجاهلية ولسنا منقسمين إلى قبيلتي عبس وذبيان ولا تدور بيننا رحى حروب داحس والغبراء.

أثناء مشاهدتي لمئات من فيديوهات الإنتفاضة السورية لم أسمع إلا شتيمة طائفية وحيدة في الأسبوع الأول من الأحداث. لكنني لم أستغربها وتوقعت أكثر منها بسبب معرفتي بوجود الطائفية في المجتمع السورية وباستخدام النظام لها على كل المستويات وفي كل مناحي الحياة. ثم جاءت خطبة الشيخ عبد السلام الخليلي في إحدى قرى درعا التي اتهم فيها نساءاً درزيات بتهم فاحشة لتزيد الطين بلة وتصب النار على الزيت. قال البعض بأن قرى ريف دمشق معاقل تقليدية للتعصب السني، واستغرب آخرون بدء أغلب المظاهرات في المساجد والجوامع واستلام المشايخ وأئمة الجوامع والملتحين وظائف الخطابة الحماسية كما حصل في اعتصام مدينة حمص. لكن الدين لم يكن أبداً غائباً عن المظاهرات منذ بدايتها فالهتافات ارتكزت في البداية على التكبير وهتاف “الله سوريا حرية وبس”. وفي هذا الهتاف الأخير يجمع الهاتفون بين الإله والوطن واساس الحياة الإنسانية بطريقة غريبة، وقد لا يكون الأصل في هذا الهتاف أكثر من مجر رد على هتاف سابق للمظاهرات تفتقت عنه أجهزة دعاية النظام، ألا وهو هتاف “الله سوريا بشار وبس”. لكن الهتاف في الحالتين يذكرني بما يسمى في أمريكا بالدين الوطني (أو الوطنية الدينية) حيث يختلط الله بالوطن وتصبح الوطنية طقساً من الطقوس الدينية ويتحول الدين إلى صلوات تدعو الله إلى مباركة الوطن والدولة ككل وكأن الله لا شغل له إلا حماية مؤسسات ومباركة جماعات بالجملة مهما كانت أعمال أفرادها. ثم تطورت الهتافات مع كسر حاجز الخوف وتواتر المظاهرات لكنها احتفظت بنسبة من الهتافات التي يختلط فيها الديني بالوطني مثل التشديد على شهادة الضحايا ودخولهم جنات الخلد مع أسلافهم من شهداء بدايات الإسلام والربط بين النظام وأعداء الله. ونذكر هنا هتافات مثل “عالجنة رايحين شهداء بالملايين”، “لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله”، “بالروح بالدم نفديك يا شهيد”، “لا إله إلا الله وبشار عدو الله” (الأخير سمعته في إحدى مظاهرات حمص). طبعاً لا يجب أن نغفل عن مؤثرات أخرى غير الدين في الهتافات مثل الرياضة (“علّي الطير علي الطير باي باي يا بشار تصبح على خير”، “بسيطة شو فيها الجمعة منكفيها”) وسجعات ألعاب الأطفال (“يا حج محمد يويا”، “يا بشار ويا قيقة ياصرماية عتيقة”)، خاصة في مدينة حمص المعروفة بهوسها بفريق الكرامة لكرة القدم وبخفة دم أهلها. هناك أيضاً مؤثر العادات والتقاليد كما في ربط الجبن عن التظاهر بالتشبه بالنساء (كما في نكتة “النساء لا يغطين شعورهن في حلب لأن البلد كلها حريم”) وكما في شعار جمعة الحرائر (“من كرامتنا وأعراضنا سنثور”) الذي لا ذكر فيه للنساء المعتقلات والمستهدفات بالقمع إلا من خلال كرامة رجالهن وأعراضهم.

لكن الطائفية وتديّن المشاركين وانطلاقهم من المساجد واختلاط الدين بالوطنية في هتافاتهم لا يعني أننا إزاء إنتفاضة دينية في شكلها وجوهرها وأهدافها، فالإنتفاضة السورية تشترك مع مثيلاتها في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين بانها ثورات كرامة، هذا العامل التقليدي الأساسي الذي يعطي العربي معنى لحياته ويعبر تعبيراً صادقاً عن مدى الإذلال والقهر الذي تمارسه الأنظمة العربية ضد مواطنيها. قد يرتبط مفهوم الكرامة بالدين من خلال ارتباطه بمفهوم الشرف والعرض لكن الكرامة رمز إنساني أصلاً يقيس إنسانية الحياة التي يحياها الفرد. ويجب أن نتذكر هنا بأن تهمة السلفية والتطرف الديني لم تكن التهمة الأولى أو الوحيدة التي وجهها النظام للمتظاهرين وإنما الأخيرة في سلسلة طويلة من الإتهامات بدأت بالعمالة لبندر بن سلطان وفيلدمان ومرت بالعمالة لسعد الحريري وقوى الرابع عشر من آذار اللبنانية وانعطفت على الخيانة والعمالة لإسرائيل وأمريكا قبل أن تنتهي بتهمة التآمر من أجل إقامة إمارة سلفية، زادوا إليها أخيراً الطائفية والرغبة بقتل الاقليات الدينية. تجييش الأقليات بإرسال جماعات من البلطجية تصرخ شعارات طائفية مهددة وإطلاق النار العشوائي في أواخر الليل لم تفلح في البداية. لكن يبدو أن السر في التكرار، فما إن حل الأسبوع الرابع حتى بدا واضحاً ذعر كثير من المسيحيين وتشبثهم ببشار الأسد كرمز للعلمانية وكسد في وجه الإمارات الطالبانية المزعومة التي تقتل الجنود وتمثل بجثثهم وتتهجم على المسيحيين وتجبرهم على المشاركة في التظاهر وتهددهم بالقتل إن لم يفعلوا. وقد وصل الوضع من التأزم إلى حد عودة العزف على وتر إفناء الأقليات المسيحية في الشرق الذي عزف عليه بابا روما بعد تفجير كنائس في العراق ومن ثم في مصر قبل الإنتفاضة المصرية. وقد كتبت صحيفة إلكترونية أمريكية تبشيرية (International Christian Concern ICC)  مؤخراً مقالة نقلت فيها مخاوف مسيحيين تواصلت معهم في سورية على حد زعمها من الحقيقة الدينية للتظاهرات. طبعاً أكدت الصحيفة في رد على أحد التعليقات أن مصدر معلوماتها هو رجل دين بروتستانتي في سوريا، وقد وددت لو خرجت هذه الصحيفة عن حدود مهمتها التبشيرية وسألت مسيحيين من بقية الطوائف حتى تتدعم مصداقيتها. على العموم، فإن قضية إفناء الاقليات المسيحية في الشرق عن طريق التمييز والتهديد والقتل والتهجير قضية قديمة جديدة لم يزل الغربيون يثيرونها من أيام الحروب الصليبية (التي راح ضحيتها مسيحيون أيضاً) مروراً باتفاقية الملك الفرنسي فرانسوا الأول مع العثمانيين في القرن السادس عشر ضد ملوك ألمانيا ومن ثم بامتيازات فرنسا بحماية المسيحيين الكاثوليك وامتيازات روسيا بحماية المسيحيين الأرثوذوكس في القرن التاسع عشر وانتهاءاً بالإنتداب الفرنسي وفصل متصرفية جبل لبنان عن سوريا ضمن دولة لبنان الحديثة. لا انكر تعرض المسيحيين للتفرقة والضغوط (مثل جدال الذمية ومنع بناء الكنائس إلا بتصريح في مصر) لكن هجرة المسيحيين من البلدان العربية منذ السبيعنات تماثل هجرة المسلمين وتحصل نتيجة لنفس الأسباب وأعني قمع الدولة الذي لا يفرق بين مسلم ومسيحي إن كانا من المعارضين. اما الهجرة المسيحية من سوريا ولبنان في بدايات القرن العشرين فلا تزال موضعاً للجدل بين الباحثين وتحيط بها ادعاءات مشابهة لهجرتهم اليوم وينزع المرخون اليوم إلى مقارنتها بغيرها من الهجرات إلى أمريكا التي غذتها أحلام بالعيش الكريم ودعاية قوية من شركات التوظيف وشركات النقل ورسائل مضللة من الأهل والأصدقاء الذين سبقوا بهجرتهم. والحقيقة أن الضرائب والتجنيد العثمانيين، السببين الاساسيين المقترحين لشرح الهجرة، كانا أقسى على المسلمين منهما على المسيحيين في تلك الفترة.

وننتقل أخيراً إلى الصحوة الدينية التي تشهدها المنطقة العربية منذ بداية الألفية الثالثة والتي طغى عليها الإسلام الوهابي والتكفيري الكاره للمختلفين والأجانب. هل لهذه الصحوة من دور في الإنتفاضة السورية؟ على حد زعم إعلام النظام السوري لها الدور كله لأن المتظاهرين على زعمهم لا يريدون إلا قتل الأقليات الدينية وإقامة إمارات إسلامية على نمط دولة العراق الإسلامية وإمارة الطالبان قبلها في أفغانستان. هذه الأخيرة كانت وليدة الحرب السوفيتية الأفغانية التي سلحتها الولايات المتحدة وأدارتها الإستخبارات الباكستانية وزودتها دول الخليج بأموال الصدقات وِشارك فيها أربعون ألفاً من المتطوعين العرب. وبعد إنتهاء هذه الحرب وتحولها إلى حرب أهلية بين المجاهدين من أجل السلطة تفرقت جموع الأفغان العرب بين سجون بلدانهم الأم ومعسكرات القاعدة وجهادات البوسنة والشيشان والجزائر. هذه الجموع من الشباب الهائم على وجهه في أقاصي الأرض وجدت في الولايات المتحدة ضالتها بعد فشلها في تثوير بلدانها الأصلية وانتهت بأن استدرجها بوش طائعة إلى العراق بعد اجتياحه عام 2003. حكاية أفغانستان قد تشرح بعض فصول الحرب الأهلية في الجزائر وقد تشرح تفجيرات أيلول في نيويورك لكنها لا تشرح الردة الدينية في العقد الأول من الألفية الثالثة والتي عصفت بكل الدول العربية بما فيها تونس، حصن العلمانية المزعوم. الحقيقة باعتقادي هي أننا أما حالة مزمنة من الصحو الديني ما فتئ العالم العربي يتعرض لها منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. ويمكن أن نشرح هذه الحالة المزمنة 1. بنشوء أيديولوجية الإسلام السياسي 2. وسقوط المشاريع القومية التنموية العربية في مستنقعات الديكتاتورية والعنف 3. وظهور إسرائيل الحديثة كنسخة من إسرائيل التوراتية وإحياء لها خاصة بعد حرب حزيران 1967م 4. وصعود الإمبراطورية الأمريكية التي هي في أساس نشاتها إمبراطورية دينية تبشيرية، وإن لم تكن ثيوقراطية في نظام حكمها، أدارت صراعها الأيديولوجي مع الإتحاد السوفياتي من منظور ديني لم ير في الشيوعية إلا إلحادها (رغم تفهمها الواقعي للخطر السوفيتي الإقتصادي والإستراتيجي). وسأفرد لهذه المواضيع مقالة خاصة.

تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

You may also like...

shares