أفكار من أجل رسم علاقة الدين بالدولة

ظهر المقال على موقع المجلة الدولية لدراسات الثورة السورية في 4 مايو، 2012

إن الفقدان الثقة وصولاً إلى الصراع بين العلمانية (على اختلاف تظاهراتها من إبعاد رجال الدين عن الدولة إلى إبعاد الدين نفسه عن الدولة والساحة العامو) والإسلاموية (الإسلام السياسي وهو ما أسمية الخلافتلية لأن سمته الأهم هو المطالب بالخلافة كنظام للحكم) كان له أسوأ الأثر على الثورة السورية. هذه الثورة الشعبية ضد الذل والإستبداد والعبودية والإجرام والمطالبة بالكرامة والحرية وتكافؤ الفرص وسلطة القانون، أصبحت ساحة صراع بين ايديولوجيات سياسية تريد جذب البلد إلى هذا النظام السياسي أو ذاك، وساحة صراع بين قوى إقليمية، وساحة صراع بين قوى دولية. هل هذا فعلاً ما نريده؟ هل نريد أن نفقد هذه الثورة التي علمت العالم أجمع الصمود والعزة والكرامة ومعنى “الموت ولا المذلة”؟ بالنسبة لي الجواب واضح ودون تردد أو مواربة. سالت أحد الأصدقاء مازحاً إن كان يقبل أن ينتسب إلى حزب أنا واضع أيديولوجيته أو أحد منظميه، فصدمني بإجابته الصريحة أن لا. هذا الصديق لا اعتراض عنده على ممارسة العمل الحزبي والذي يخاف منه أغلب السوريين وإنما الإعتراض على أفكاري التي يراها علمانية متطرفة لا تحترم الإسلام والمسلمين. عييت أحاول أن أشرح لقرائي وأصدقائي الفرق بين المسلم والإسلامي (ولذلك اخترعت صفة الخلافتلي وهي مؤلفة من خلافة وزائد الصفة في اللغة التركية كما في عصمانلي أو شبابلي). ولذلك، وحرصاً مني على رأب الصدع الأيديولوجي الذي صدع رؤوسنا جميعاً فإني أقترح الافكارالتالية ليس في فصل الدين عن الدولة وإنما في إدخال الدين في الدولة.

حاكمية الشعب (سيادة الشعب – وهي تعبيير عن التخيير): إن الشعب هو أساس الدولة ومصدر سلطتها وشرعيتها يجتمع أفرادُه في عقد جامع يقرّون فيه بقبولهم بالتعايش السلمي المشترك تحت سلطة دولة تنفذ الشرائع التي يقرّها الشعب من خلال ممثليه. ونوضح فيما يلي معنى حاكمية الشعب كما نراها:

  1. إستخلاف أو إمامة الجماعة: إستخلف الله الإنسان على الأرض ليعمرها ويحافظ عليها. واستخلف الله الأنبياء إنتهاءاً بنبي الإسلام محمد (ص). لكن كثيرين يعتقدون بأن محمداً (ص) استخلف أبا بكر من بعده بإقراره على إمامة الصلاة أثناء مرضه، ثم استخلف ابو بكر عمر، ثم استُخلف عثمان بحكم مجلس للشورى عينه عمر، واعقب قتلَه دخولُ الأمة الإسلامية في حرب أهلية انتهت بحكم الأمويين الذين إدّعوا إمارة المؤمنين وخلافة رسول الله، وجاء بعدهم العباسيون عقب حرب طاحنة وأسسوا شرعية حكمهم على استخلاف الرضا من آل محمد ليجعلوها وراثية في عشيرتهم. وادّعى بعدَهم الخلافة عديدٌ من حكام الإمارات الإسلامية شرقاً وغرباً إنتهاءاً بالعثمانيين الذين لم يهتموا بلقب الخليفة إلا في عهد السلطان عبد الحميد الثاني الذي نادى بالجامعة الإسلامية تحت قيادته كخليفة للمسلمين. ثم ألغت الجمهورية التركية الحديثة لقب الخلافة عام 1923. إن الخلافة والتي تسمّى حالياً بالنظام الإسلامي في الحكم تقوم على اجتهاد الصحابة ومن جاء بعدهم وكانت في أغلب تاريخها مجرد لقب يُسبِغه الحاكم الملك على نفسه ويُقرّه عليه من والاه من علماء الدين. لقد حان الوقت للخروج من حكم الفرد تحت أي لقب كان إلى حكم الجماعة وهذا ما نسميه هنا بإمامة الجماعة أو حاكمية الشعب. ولذلك لا يمكن فرض اي حكم دون إقرار الجماعة من خلال ممثليها.
  2. شريعة الله وقانون البشر (الحرية أساس العدالة): إن الله يحكم بالعدل، ولا يكون هذا العدل إلا بالتخيير إذ “لا تزر وازرة وزر أخرى”، وإن أيّ إكراه هو نقض لمبدأ الوزارة هذا. ولا تكون الوزارة أو المسؤولية كاملة على عاتق الفرد الوازِر إلا بالإختيار الكامل دون إكراه. ولما كان الدين هو الشريعة التي يسير عليها الفرد نحو الحياة الابدية ويُحاسب عليها أمام الله يوم الدين وجب أن يسير الفرد الوازِر على هذا الدرب باختياره لا كرهاً ولا إجباراً إذ “لا إكراه في الدين” (أي لا إكراه في الشريعة). لذلك لا يجب على أي فرد او جماعة أو مؤسسة أو دولة فرضَ شريعة الله على عباده من مسلمين وغيرهم إلا باختيارهم وإقرارهم من خلال ممثليهم. لكن البشر يحيون بالقانون الذي يجعل تعايشهم المشترك ممكنا ولهذا وضعوا القوانين وأقاموا الدول لتفرِض بأجهزتها ومؤسساتها هذه القوانين ولتعاقِب المخالفين لها الخارجين عن الإجماع وعقد الجماعة. هذه عدالة بشرية وتلك عدالة إلهية، ويحيا البشر بقانون البشر ويتحملون قضاء البشر فيما بينهم في محكمة البشر التي تعتمد على قوة الدولة. ويحيا البشر أيضاً بشريعة الله ويتحملون مسؤوليتهم أمام حكم الله وقضائه في محكمة الله يوم الدين (أي يوم المحكمة) التي تعتمد على جبروت الله المطلقة. وباعتبار إمامة الشعب لا يمكن للدولة أن تقيم الحدود إلا أن يقرّها ممثلو الشعب في مجلسهم.
  3. المقاصد والحدود (“ومن لم يحكم بما أنزل الله”): هل سجْن السارق دون قطع يد حكمٌ بما لم يُنزل الله؟ إذا أقرّت الجماعة حد القطع من خلال مجلسها فالقطع هو الحكم، وإذا أقرّت الجماعة بعقوبة أقل من قطع اليد فإنها لا تلغي حدود الله وإنما تسعى إليها وتؤجل الوصول إليها طالما بقيت ضمن مقاصد الشريعة (“جزاءاً بما كسبا نكالاً من الله”). وللجماعة أن تقرّر حالةً حالة الأخذ بعمومية المقاصد أو بخصوصية الحدود.
  4. حاكمية الشعب وحاكمية الله: إن سيادة الشعب المتمثلة بسيادة الدستور والقانون الذي يضعه المجلس التشريعي لا تتعارض مع السيادة الإلهية أو تلغيها أو تتعالى عليها فمجالا السيادتين منفصلان كما بيّنا. إن الخروج عن القانون الوضعي تعاقِب عليه الجماعة من خلال الدولة وأجهزتها، والخروج عن الشرع الإلهي يعاقِب عليه الإله بوسائله التي يختارها والتي تتجلى فيها عدالته. ولا يحق لأحدٍ أن يزعم أنه يتكلم باسم الإله أو القانون الإلهي أو أن يستخدم الدولة وأجهزتها الرادعة لتكون يدَ الإله التي يعاقِب بها الخارجين عن طاعته.
  5. الحرية والعبودية: إن عدالة البشر تقوم على حرية الإختيار، كما تقوم عدالة الله سبحانه على حرية الإختيار. عدالة البشر معجّلة وعدالة الله مؤجّلة إلا ما شاء الله. ولا تتناقض حرية الإختيار مع عبودية الإنسان لخالقه ولكن تنتفي قدرةُ الله المطلقة لو احتاج لدولة لتحقيق عدالته وفرض عبودية مخلوقاته. وإنما تتحقق العبودية في كل لحظة فهو قادر على إنفاذ قضائه أنّما شاء وأينما شاء وكيفما شاء، “فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون”.

تحديد العلاقة بين الدين والدولة

إن الأديان شرائع سماوية يحاسب عليها الإله، وهي كذلك تختزن الخبرة البشرية الطويلة في الإرتقاء بالأخلاق وتحقيق السِلم الإجتماعي.  إننا لا نؤمن بإمكانية إبعاد الدين عن حياة الناس وأفكارهم وقراراتهم وأخلاقهم مهما كانت وظائفهم وأدوارهم سواء كانوا مواطنين عاديين أم جزءاً من الدولة. لكن خبرة الشعوب والأمم (ومن بينها أمة الإسلام) تقول بأن ولاية من يدّعي الحكم باسم الإله تمنع المساءلة وتؤدي بالضرورة إلى الإستبداد. وكما بيّنا سابقاً فإن عدالة الله لا تقتضي حكم رجال الدين أو فرض الشريعة الإلهية فرضاً أو حكم الفقهاء. لكن لكل دين فقهاؤه الذين يأخذون على عاتقهم مهمة دراسة الكتب السماوية وتراث الرسل وتفسيرها والإجتهاد في وضع شرائع وأحكام ترسم الطريق القويم لتحقيق مرضاة الله والفوز بمحبته وثوابه. فكيف نوفّق بين هذه المرتبة العليا في العلم والمعرفة وبين سن القوانين البشرية وفرضها على المجتمع؟ إننا نرى فصل المهام الدينية عن جبروت الدولة (السلطة التنفيذية) وتفويضها (بناءاً على إمامة الشعب) لمنظمات أهلية وطنية (على مستوى الوطن كله) غير ربحية تراقبها الدولة من خلال مصلحة الضرائب فقط ويشرف عليها علماء الدين أو المذهب (من خلال مجالس الإفتاء). وتحقيقاً لهذا الهدف نقترح الخطوات التالية:

  1. مجالس إفتاء: يحق لكل دين او مذهب تأسيس مجلس وطني للإفتاء (جمعية أهلية غير تابعة للدولة وغير ربحية). يضع هذا المجلس شروط إنتماء الشخص إلى فئة العلماء والفقهاء ويكون بمثابة نقابة لعلماء الدين أو المذهب. ويتم انتخاب رئاسته من قِبل أعضائه. ويشترك مجلس الإفتاء في ترشيح أعضاء مجلس الشورى. يهتم مجلس الإفتاء بشرائع الدين والمذهب ويكون الإلتزام بفتاويه وأحكامه طوعياً ولا تلتزِم الدولة بفرضها على المجتمع كقانون إلى بعد إقرارها من قبل البرلمان وتكون لها عند إقرارها صفةُ القانون الوضعي فقط. لا تُصدر المجلس فتاوى في الجنايات (يختص بها القانون) والتكفير وتحليل الدماء والممتلكات. ولا تُفتي المجالس بالجهاد (الذي يُعتبر دعوة للتعبئة العامة) إلا بتفويض خاص من الجهاز التفيذي يُقرّه الجهاز التشريعي. ويختص الجهاز التنفيذي بالإعلان عن الجهاد أمام الشعب وليس كل إعلان للحرب إعلاناً للجهاد. يمكن لمجالس الإفتاء فتح فروع أو تعيين مندوبين في المحافظات أو المدن أو من أمهات المدن. ويمكن لمجالس الإفتاء الإشراف على تنظيم المسابقات الوطنية لحفظ الكتب المقدسة أو التجويد والإنشاد.
  2. مراكز دراسات شريعة (الإسلامية والمسيحية): تساهم الدولة بتمويل مناسب لمدة عشر سنوات من أجل تأسيس مراكز لتحديث الشرائع الدينية أصولاً ومقاصد وأحكام (جمعيات وطنية غير ربحية تابعة لمجالس الإفتاء) وصياغتها بلغة قانونية عصرية تسهيلاً لطرحها قانوناً قانوناً على المجلس التشريعي. لا تطرح مراكز الدراسات أو مجالس الإفتاء على المجلس التشريعي مشاريع قوانين لضبط الشعائر أو فرضها من خلال أجهزة الدولة. بعد السنوات العشرة المذكورة تعتمد المراكز على الصدقات أو الزكاة أو التبرعات او الأوقاف.
  3. هيئات وطنية للزكاة والصدقات: إن الصدقة والزكاة كفارة للمؤمنين عن ذنوبهم لا يجوز صرفها إلا في الطرق الشرعية، فلذلك وتحقيقاً للمقصد من فرضها ودرءاً لخطر إساءة استخدامها يفوّض المؤمنون (كجزء من صلاحيات إمامة الجماعة) منظمة أهلية غير ربحية منفصلة عن الدولة مهمة جمعِ أموال الزكاة والصدقات وصرفِها في الطرق الشرعية بمشورة من مجالس الإفتاء وتحت رقابة مصلحة الضرائب. ولا تفرض الدولة ضريبة على هذه الأموال لا من معطيها ولا من جامعها.
  4. تحويل الاوقاف إلى جمعيات خيرية: يتم إلغاء وزارة الأوقاف والشؤون الدينية ويتم إنشاء جمعية خيرية أهلية غير ربحية لإدارة الأوقاف الخاصة بكل مؤسسة (مسجد أو كنيسة أو مدرسة). إذا كان الوقف للمؤمنين عامة ( من أتباع دين ما أو مذهب ما) فتُشرف عليه الهيئات الوطنية للزكاة والصدقات. أوقاف العوائل تُردّ إلى العوائل لتأسيس وإدارة جمعيات مماثلة. تُشرف مجالس الإفتاء على تعيين المسؤولين عن جمعيات الأوقاف الدينية وتشرف الدولة من خلال مصلحة الضرائب على جميع هذه الجمعيات. تشترك مديرية الآثار والمتاحف مع الجمعيات الوقفية من أجل العناية بتلك الأبنية (حسب ضوابط يضعها مختصون بالآثار وحمايتها) حسب عقد مبرم بين الطرفين. الأوقاف العقارية (أبنية وأراضي) يُصار إلى إعادتها إلى السوق من خلال بيعها أو استثمارها.
  5. القائمون على بيوت الله: أماكن العبادة (بيوت الله) تقوم على إدارتها جمعيات خيرية مرخص لها بجمع التبرعات كما يمكنها أن تطلب العون من هيئات الزكاة. وتقوم هذه الجمعيات بتعيين القائمين على الشعائر وتحديد رواتبهم وصرفها.
  6. قانون الأحوال الشخصية (زواج مدني و/أو زواج ديني): تمنح الدولة ممثلة بالبلديات رخص زواج بعد التحقق من استكمال الطرفين للشروط القانونية المطلوبة، وتسجّل الدولة عقود الزواج الموقعة إما من مجالس الإفتاء أو مندوبين محليين عنهم أو من قاض مكلف (زواج مدني). لا تتدخل الدولة في الشروط التي تضعها مجالس الإفتاء لصحة الزواج دينياً او مذهبياً لكن يكون للدولة شروطها الخاصة لاستكمال عقد الزواج وتسجيله إذا كان الموقع عليه قاضياً مكلفاً. بالنسبة للدولة عقد الزواج هو كأي عقد آخر أي هو شريعة المتعاقدين. لا عصمة في عقد الزواج المدني إلا ان يذكر الطرفان ذلك في نص العقد صراحةَ. الطلاق في الزواج المدني يكون بموافقة الطرفين وحكم قاض مختص أما الطلاق في حال الزواج الديني فيتبع شرائع الدين أو المذهب المذكور في العقد. يحدد القانون شروط الحضانة في الزواج المدني فقط. يختار المواطن في وصية صريحة مكتوبة طريقة توزيع ميراثه وتعتبر الوصية عقداً بين المواطن والدولة. وإذا اراد الموطن توزيع إرثه على غير شرائع دينه او مذهبه فعليه أن يذكر ذلك صراحة في وصيته.

التربية الدينية: يرى البعض أن التربية الدينية وظيفة من وظائف الدولة (على أساس أن نشر الدين من وظائف الدولة أو على أساس أن الدين جزء من الثقافة الوطنية) عليها أن تقوم بها من خلال دروس الدين في المدارس العمومية ومن خلال تعيين الخطباء والمدرسين في المساجد والكنائس. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو أي تعليم ديني نحب أن تفرض الدولة على أولادنا؟ أي مذهب؟ أية أفكار؟ أية أسس فلسفية؟ أية أديان؟ لا بأس أن تكون هناك حصة للدين مرة في الاسبوع تكون الحصة الاخيرة ولا تكون إلزامية ويستطيع التلميذ أن يتوجه في ذلك الوقت إلى مسجده أو كنيسته أو مكتنه المفضل لتلقي التعليم الديني الذي يرغب به او يطلبه أهله.  تسمح الدولة بتخصيص غرفة في المدارس العمومية واحدة كمصلى إسلامي وأخرى كمصلى مسيحي. كما تسمح الدولة في مدارسها بإنشاء منظمات زأندية طلابية بعضها على أساس تعليمي ديني. تصدر الدولة القوانين المناسبة الناظمة لتأسيس الجمعيات الأهلية وخاصة الدينية والتعليمية مما يسمح بإنشاء مدارس تابعة لجوامع وكنائس الأحياء من أجل تحفيظ الكتب المقدسة والتراث الديني وتعليم الشعائر. وتسمح الدولة بإنشاء مدارس خاصة تعطي اهتماماً خاصاً للتعليم الديني. تكون في المدارس الحكومة مادة علوم إجتماعية تهتم بتعليم الفلسفة والسوسيولوجيا والأديان المقارنة. تُعتبر الكتب المقدسة جزءاً من التراث الأدبي الوطني ويمكن تدريس أجزاء منها في حصص الأدب واللغة.

تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

You may also like...

shares