الطائفية – متى تصبح خطرة؟

ظهر المقال على موقع مدونة الموسوعة السورية في 22 أبريل، 2012

من المؤسف هذه الأيام أن تتوجه جهودنا للكتابة عن الطائفية ومحاربتها في سوريا بدل أن تتوجه لمعالجة المشكلة الأساسية، وأعني عنف الدولة ضد شعبها، ومن ثم الفساد المستشري في جميع أنحاء الدولة والمجتمع. لكن وبعد سنين من الإنغلاق وكبت الحريات وتراكم الضغائن التي تعفن السريرة والروح، لا بد أن نبدأ من مكان ما، أي مكان. بدايةً أقول بأن هذه المقالة يجب أن تُفهم في إطار حوار وطني شامل وطويل الأمد في المجتمع السوري، بدل أن نفهمها على أنها وصفة سحرية أو تحليل أكاديمي موضوعي. هذا رأيي الشخصي الذي أطرحه على طاولة النقاش ولا مانع حتى أن تشتموني طالما نتحاور ولا نقتل بعضنا البعض.

لا تقتصر الطائفية على الإنقسامات الدينية بل هي صفة إنسانية بنيوية يمكن أن نرى ما يشبهها في كل مناحي الحياة والمجتمع الإنساني. كل مجموعة بشرية مهما كبرت أو صغرت ستنقسم إلى مجموعات أصغر وفقاً لمعتقد أو رأي أو ثروة. الإنقسام إلى هذه المجموعات الأصغر، والتي نسميها الطوائف والتي تتصارع فيما بينها وتتنافس، يختلف عن حالة الإنقسام الذي تؤدي إلى نشوء جماعات مستقلة إحداها عن الأخرى. إن من أهم خصائص الطائفية التي لا ينتبه إليها الأفراد الممارسون لها هي أن الفئات المتنافسة أو المتصارعة تتعايش مع بعضها ولا تتحول إلى جماعات مستقلة إلا في حالات قصوى من العنف والإقصاء. التعايش والتنافر هما السمتان المميزتان للإنقسام الطائفي في أي مجتمع. هذا الإتحاد قد يكون تسلطياً أو تعاونياً. في الحالة الأولي تتلسط فئة على الأخريات أوتستغلها جسدياً أو مادياً أو معنوياً بغرض تأمين احتياجاتها المختلفة، فتنتفي المساواة ويقع الظلم. وفي الحالة الثانية تحتفظ كل الفئات المتعايشة بحريتها وتتساوى فيها هذه في الحقوق والواجبات. وفي الحالتين فإن النقيضين، أي المساواة أو الظلم، لا يتحققان إلا بالعيش المشترك.
قد تنقسم الجماعة على أساس الثروة أو الدين أو الرأي السياسي أو العرق أو الجنس أو المهنة أو حتى الإهتمامات والإنتماءات الرياضية.  وفي كل حالة قد يصل الأمر إلى الإعتقاد بأن شيئاً عضوياً مادياً يحول دون إلتقاء الجماعات رغم تعايشها الظاهري. وإننا نبني على أسس الإنقسام المزعومة هويات نعتقد أنه لا يمكننا العيش دونها، وأننا نفضل الموت على فقدها أو تغييرها. والحقيقة هي أن هوياتنا دائمة التغير والتحول لكننا في حالات التنافس الشديد نتصرف وكأنها هويات أزلية منحوتة في الصخر. على هذا لا يمكن أن نحلم بتغيير الإنسان والقضاء نهائياً على غريزة الإنقسام، لأن غريزية الإنقسام في الحقيقة تنبع من اختلاف الناس واختلاف حاجاتهم ورغباتهم. فمتى إذاً تصبح غريزة الإنقسام هذه خطرة توجب التدخل والإصلاح؟ لا شيء بالطبع يمنع الناس من العيش المنفصل لكننا بحاجة إلى بعضنا البعض وإلى اجتماعنا. وهذه الإختلافات تتغير من وقت إلى آخر ولا يمكن بناء أي مجتمع إنساني إذا انتصرت غريزة الإنقسام. هذا يعني أنه في بعض الحالات يجب أن نغلب غريزة التجمع على غريزة الإنقسام وعوامل الجذب على عوامل النبذ. ونعتقد أحياناً أننا نقوي عنصراً للجذب وآخر للنبذ بغرض الوصول إلى المجموعة المثالية المتناغمة المتآلفة. لكن في الحقيقة هذه المجموعة المثالية لن توجد أبداً لأن عوامل الإختلاف أو التقارب ستتغير. فإذا قربنا العرق ستبعدنا المعتقدات. وإذا قربنا الدين ستبعدنا الثروة. إذاً لا بد من الحفاظ على توازن ما يسمح بوجود التعددية ويقبل التغيير حتى لا نقع في الجمود والإقصاء والتعصب وانفراط الجماعة بعد ذلك.

برأيي تصبح الطائفية خطرة عندما تفرض معياراً واحداً للإختلاف أو التلاقي لا يتغير، كالدين مثلاً. يعتقد الناس أن الدين لا يتغير وأنهم على أساسه سيبنون تلك الجماعة المتآلفة المثالية الآنفة الذكر. لكنه في الحقيقة يتغير. قد لا يتغير الإله لكن الدين يتغير بالفعل كما يتغير الناس وتتغير الطبيعة ويتغير المجتمع. ونستطيع أن نمنع جماعتنا من الوصول إلى تلك المرحلة المتحجرة الإستقطابية بأن نقبل ولو باحتمال واحد بالألف أن الطوائف الأخرى على حق، أو الأفضل أن نعتقد بحقهم في الوجود والإختلاف مهما اعتقدنا بخطئهم. وأذكّر هنا أن الطائفية لا توجد إلا مع التعايش رغم أنها تعمل ضده. ولهذا يجب علينا تقوية العوامل المشجعة على والمسهلة للتعايش عند احتدام التنافس وتشنج الآراء والتمترس خلف المطلقات والحقائق الأزلية. وهذا ممكن. لأن أقوى وسائل الإقصاء هو التسلط وتفاوت القوى بين الفئات والطوائف. فإذا ساوينا بين الفئات منعنا التسلط وحمينا أنفسنا من آثاره. ولاأدعو هنا إلى منطق المحاصصة، لأن المحاصصة تفترض أن أساس الإختلاف دائم لا يزول وثابت لا يتغير. في مجال السياسة، الديمقراطية هي وسيلة لمنع تشكيل أغلبية لا تتغير. ليست الديمقراطية ديكتاتورية لأغلبية دينية أو عرقية، إنها العملية السياسية التي تسمح بتشكيل أغلبية مؤقتة تبعاً للقضية المطروحة. الأغلبية التي تنتخب مندوباً في مجلس الشعب تنتهي بانتهاء مدته. والأغلبية التي سمحت بإقرار قانون يزول مفعولها بأغلبية أخرى تنقض هذا القانون. وكل هذا يتبع قواعد متفقاً عليها لاستطلاع الرأي والتفاوض والوصول إلى الأغلبية المرجوة. إن الديمقراطية في السياسة تشرعن الإختلاف المستمر وتضع له قواعد تمنع تسلط فئة على أخرى مهما كان أساسها وتعريفها. المواطنة وسيلة أخرى لشرعنة الإختلاف على مستوى القانون لأنها تساوي بين أفراد الجماعة في الحقوق والواجبات والمعاملة.

فإذا كنت تكره جارك لاختلافه في المعتقد أو الدين أو العرق فأنت طائفي لكنك لا تصبح طائفياً خطراً حتى تتحصل على قوة تسمح لك بالتسلط على جارك المختلف عنك فتميزه بالمعاملة والحقوق والواجبات متذرعاً باختلافه. في المجتمعات الحديثة هذه القوة هي قوة الدولة وقوة القانون المفروض بقوة الدولة. وكل شرعية تعطي للإنسان سلطة ما على إخوانه أفراد الجماعة هي شرعية خطرة وتجب مراقبتها دائماً. وأحد أهم هذه الشرعيات هي تلك التي تتكلم بالمطلقات التي لا تقبل الجدل. وليست كل الأفكار الدينية أفكاراً إقصائية رغم تعاملها مع المطلقات، لكنها عندما تصبح إقصائية فإنها تتحول إلى خطر على لحمة الجماعة. ولا تنفرد الأديان بهذا إذ تستطيع أية أيديولوجية أن تتغير في منحى إقصائي، كما رأينا في حالة الأيديولوجيا الشيوعية وفي بعض حالات الأيديولوجيا القومية. ولا نستطيع أن نسن قانوناً يعاقب على البغض أو نبذ الإختلاف لكننا نستطيع أن نمنع التسلط واستخدام قوة الدولة أو الدين لتشريع الإقصاء.

وأخيراً، وفيما يخص الطائفية القائمة على الإنتماء الديني العقدي، أقول: إذا كنت تعتقد أنك لست طائفياً وأن الطائفية دائمة في الطرف الآخر، فأنت مخطئ فكلنا طائفيون. وإذا كنت تعتبر نفسك في طائفة وتنظر إلى الآخرين على أنهم أيضاً ينتمون إلى طوائف، فأنت طائفي، وهذا طبيعي. وإذا كنت تستعمل تصنيفات مثل السنيين والعلويين والمسيحيين فأن طائفي، وهذا طبيعي. وإذا كنت تعتقد أن بعض الناس يتصرفون بطريقة ما لأنهم ينتمون إلى جماعة ما فأنت طائفي، وهذا طبيعي. وإذا كنت تكره بعض الناس لأنهم ينتمون إلى طائفة معينة، فأنت طائفي، وهذا طبيعي. وإن كنت تنتقي أصدقاءك ومعارفك على أساس إنتمائهم، فأنت طائفي، وهذا طبيعي. وإن كنت تعتقد أنك أفضل منهم بسبب انتمائك الطائفي، فأنت طائفي، وهذا طبيعي. وإذا كنت تتكلم مع الناس وتستعمل نعتاً مثل “هؤلاء المسيحيين أو السنة” فأنت طائفي، وهذا طبيعي. وإذا كنت تملك شركة خاصة ولا تستعمل إلا أشخاصاً من أفراد طائفتك، فأنت طائفي جداً، وهذا طبيعي. أما إن كنت ذا منصب في الدولة وفضلت ابن أو ابنة طائفتك بغير حق فأنت طائفي خطر ويجب إيقافك عند حدك. الإختلاف هنا في امتلاك السلطة، سلطة الدولة، وهذا ما يجعل طائفيتك خطرة علينا جميعاً.

ولاتخف ممن يقول أنا سني أو علوي أو مسيحي أو غيره. ولا تخف ممن يقول أنا كذا ولذلك فانا أفضل منك. ولا تخف ممن يكرهك على أساس طائفتك دون أن يعرفك. لكن يجب أن تمنع أي إنسان يستخدم سلطة ما للتسلط عليك بدعوى اختلافك. ولا تخف من وجود الطائفيين في الساحة السياسية فهم دائماً موجودون، ولا تخف من تجمعهم وتنظيمهم طالما أن هناك إطاراً قانونياً يمنعهم من التسلط عليك واستحواذ القوة وإقصائك عنها وبالتالي عن حقوقك. لكن في غياب القانون ووجود الطائفيين في الدولة، يجب علينا جميعاً أن نخاف ونناضل من أجل إعادة سيادة القانون وإعادة المساواة في الحقوق والواجبات وهذا ما سميناه المواطنة.

تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

You may also like...

shares