السبيل للخروج من الأزمة

ظهر المقال على موقع المجلة الدولية لدراسات الثورة السورية في 17 أغسطس، 2013

لقد وصلت الأزمة السورية إلى حالة كارثية لا بد معها من التفكير بكل الوسائل الممكنة لوقف إزهاق الأرواح. الإحصاءات الأخيرة الصادرة عن الأمم المتحدة تحدثت عن مليوني لاجئ مسجل وضعفهم من النازحين داخل سوريا. التقديرات غير الرسمية للنازحين في الداخل واللاجئين في الخارج تتراوح بين ستة ملايين وعشرة ملايين إنسان. إن الصورة الجوية لمخيم الزعتري في الأردن يجعل النكبة الفلسطينية عام 1948 تبدو جرحاً صغيراً. مخيم الزعتري المكون في معظمه من خيام هو يشكل ثاني أكبر مدينة في الأردن. ضحايا القتال الدائر منذ سنتين من طرفي النظام والمعارضة يفوق المئة ألف قتيل وعشرات الآلاف من المفقودين والمعتقلين لا أحد يعرف عددهم الحقيقي. أما الجرحى والمعاقين الذين يحتاجون إلى رعاية طبية دائمة فيشكلون جيشاً من المحتاجين سيلتهمون موارد أية دولة سورية مقبلة. ولا نتحدث هنا عن جيل كلمل من الأطفال بسن الخامسة والخامسة عشر كم العمر الذين يعانون أو سيعانون يوماً من صعوبات نفسية لا حصر لها ستجعل بعضهم في عداد المعوقين. آلاف من الشباب أضاعوا سنتين أو أكثر من تعليمهم ومع مضي الوقت تضمحل فرص عودتهم إلى التحصل العلمي وبالتالي فرص حصولهم على التأهيل المناسب لإعادة دمجهم في مجتمع منتج.

حجم المأساة واضح للعيان لكن الكثيرين من السوريين في الداخل والخارج ومن طرفي خط النار لا يزالون في حالة مضحكة مبكية من الإنكار. كثيرون يعتقدون أن النصر على الآخر قادم وكثيرون يعتقدون أن هذا النصر قريب.  الدولة السورية شبه منهارة، رغم أنها مفلسة، إلا أنها لا تزال واقفة بفضل ضخ الأموال والمعونات الإيرانية والروسية. الشعب السوري يعيش معظمه على المعونات الدولية وعلى شبكات التكافل أو الدعم الإغاثي. أصحاب السلاح من طرف المعارضة ليسوا أحسن حالاً فهم قلة منظمة وكثرة مشتتة تتحول تدريجياً إلى عصابات مسلحة يقودها أمراء حرب تمرسوا في التعايش مع حالة الحرب الدائمة، لا بل يسعون لاستمراها لما تدره عليهم من أرباح مكانة إجتماعية. الطائفية تسيطر على عقول مؤيدي النظام، ونسخة من الجهاد العبثي تسيطر على عقول العديد من مقاتلي المعارضة، هذا إذا كان لديهم بالأصل عقيدة يؤمنون بها ويقاتلون من أجلها. النموذج الاسدي للدولة فشل فشلاً ذريعاً ولن يستطيع أن يعود إلى الحكم المطلق والشمولي الذي اعتاد عليه طيلة أربعين عاماً. أما مقاتلو المعارضة فليس لديهم أي نموذج للدولة، اللهم إلا نموذج إمارة المؤمنين التي تنادي بها جبهة النصرة و دولة العراق والشام. الغالبية العظمى من النشطاء متعلقون بمثاليات عن أيام الصحابة الخوالي التي إن شكلت نموذجاً أخلاقياً للمجتمع فإنها لا تشكل نموذجاً متكاملاً للدولة. أما الطبقة الوسطى التي تشكل عماد أية دولة حديثة بسبب تعليمها وحماستها للعمل الماجور كموظفين إما لا تزال تنتظر رواتبها الحكومية في آخر شهر من العطالة والصمت خوفاً من المستقبل المجهول أو تحولت إلى مشردين في مصر ولبنان وتركيا ودول الخليج. المسيطرون على المعرضة السياسية والعسكرية أغلبهم من غير الموظفين وبالتالي فهم من التجار وأصحاب الأعمال الحرة. وهؤلاء للأسف ليس لديهم أي فهم لكيفية بناء أو تسيير الدولة، كما يفتقدون للمؤهلات اللازمة للبناء والتشغيل. وهم بالتالية قوة مهدمة أكثر منها بناءة لعدم قدرتها على استيعاب تعقيد الدولة الحديثة وتعلقها بالنموذج التاريخي الخيالي الذي لا يتعدى كونه نسخة من إدارة العائلة أو الدكان أو الحارة.

إن الخطب جلل والمأساة أكبر مما تعتقد العيون أنها تراه وأكبر مما يريد العقل أن يقبله. ولابد لنا من صيحة قوية لتوقظنا من غيبوبة الإنكار وبساطة القرية أو باب الحارة. لقد عاشت سوريا خلال القرن الماضي كقربة أو كحارة وصل حجمها إلى 23 مليون إنسان وثلاث مدن مليونية وأحزمة من الفقر وريف ضخم من القرى والبلدات المهمشة. عندما أنظر إلى من هم بين الخامسة والثلاثين والخامسة والأربعين وقد فقدوا ممتلكاتهم وصرفوا مدخراتهم يسوحون في بلاد الله الواسعة مع أولادهم الذين في سن المراهقة فإني أرى كارثة أكبر. هؤلاء لا يملكون الموارد الكافية ليبدؤوا من جديد ولايملكون حتى الأوراق الرسمية التي تسمح لهم بالإستقرار في بلد جديد هم وعائلاتهم. أولادهم سيصلون إلى سن الجامعة والبحث عن عمل خلال خمس سنوات. أين سيدرس أولادهم، وبأية مدخرات، وأين سيعمل الأولاد ويدخر الأهل لسني التقاعد القادمة. يعتقدون أن الأزمة ستنتهي اليوم أو غداً ليتابعوا حياتهم المعتادة في بلدهم الأم. لمن لا يزال يحلم أريد أن أقول: لا أريد أن أكون غراب الشؤم لكن الأزمة كما نراها اليوم قد تستمر لعشر سنوات أو أكثر ولا أستبعد أن تمتد إلى خمس عشرة أو عشرين سنة. من النادر جداً أن ينتهي الحروب الأهلية بانتصار ساحق، ومن الطبيعي أن تستمر لعقود تتبعها عقود أخرى من تضميد الجروح وإعادة البناء والقلاقل والإجرام والمجاعات والأزمات الإقتصادية والإجتماعية. فما السبيل إذن للخروج من الأزمة، والأزمة لا تعني فقط أزمة الحرب الحاضرة وإنما أزمة المستقبل المظلم.

لنبدأ بجرد ما لدينا قبل أن نعدد ما نحتاجه. لدينا أجيال لا تعرف غير الإنتهازية والحكم الديكتاتوري. لدينا مجموعات سياسية متناحرة وعاجزة حتى عن تشكيل جبهة موحدة، تفتقر إلى البرنامج السياسي كما تفتقر إلى المعرفة بفن السياسة وفن الإدارة فكبف تستطيع أن تبني دولة أو أن تدير دولة جاهزة الصنع قد يأتي بها المجتمع الدولي. لدينا نوعان عقيمان من الأيديولوجيا: الأول هو تتبناه قلة ويتمثل بعلمانية (هذا إذا كانت العلمانية فعلاً أيديولوجيا) لا تعرف من فصل الدين عن الدولة إلى فصل الإسلاميين عن الدولة وليس لديها أي برنامج سياسي غير فصل الإسلاميين عن الدولة؛ أما النوع الثاني فتتبناه أكثرية (لا نعرف حجمها) ويتمثل بشعارات مثالية عن تحكيم شرع الله لا تعدو كونها نسخ أخرى عن الملكية بالإضافة إلى ولاية الفقيه أو رقابة رجال الدين أو وصاية الكهنوت. لدينا عدد هائل من المقاتلين بتسليح خفيف موزعين على كتائب وألوية منظمة بشكل يشبه القبيلة أو العصابة او أسرة المافيا أكثر منه بشكل مؤسسة قتالية محترفة. لدينا تمويل خارجي من أطراف لا تعرف غير الحكم الملكي المطلق الذي يقف على رأسه زعيم القبيلة مع عشريته الاقربين. لدينا جهاديون من مختلف أنحاء العالم لا يعرفون من الإسلام إلا “اقتلوهم حيث ثقفتموهم” ودع ربك “هو يفصل بينهم يوم القيامة” (بمعنى اقتلوا الصالح والطالح ويميزهم الله يوم القيامة). لدينا دولة تهدم بنياتها التحتية وتقتل خيرة شباب بلدها. لدينا عشائر وطوائف لا تريد أن تكون شعباً واحداً. لدينا ناشطون ثوريون لا يستطيعون أن يميزوا بين ديكتاتورية الاسد وديكتاتوريتهم الشخصية ولا يستطيعون أن يكتبوا مقالة تحليلة منقحة من الأخطاء الإملائية بعد سنتين من الثورة المزعومة. لدينا “ثوار” يريدون أن يعرفوا إذا كنا إسلامياً ام علمانية قبل أن يعرفوا إذا كنت تحب بلدك وتريد ان تبنيه أم لا. لدينا طبقة من مدعي الثورة يعتقدون أن السياسة هي إما أن تكون في الحكم أو تكون في السجن ولا يحتملون أن يروا لأنفسهم منافسين لأن المنافس هو من سيضعك في السجن إذا لم تصل قبله إلى الرئاسة. إننا في حالة يرثى لها. فماذا نحتاج؟

نحتاج في البداية لأن نعرف تماماً وبوضوح ماذا نريد. هل نريد الإنتصار باي ثمن أم نريد وقف حمام الدم؟ هل نريد الإنتصار على نظام الأسد أم نريد الإنتصار على الطائفة العلوية؟ هل نريد الحرية أم نريد فرض نموذج معين للدولة دون النظر إلى آراء الآخرين؟ هل نريد أن تطغى الأغلبية (بأية طريقة عرفناها) أم نريد أن نتعايش بسلام؟ هل نريد أن نتخالف مع الغرب للإنتصار على الأسد وحلفائه أم نريد مساعدة الغرب المادية والجهاد ضدهم في عقر دارهم؟ هل نريد العودة إلى بلدنا في أقرب فرصة أم التشتت في أرجاء العالم في انتظار أن تنحل الأزمة من نفسها أو ينتصر أحد الطرفين؟ هل نريد صراع أمراء الحروب أم نريد دولة موحدة؟ لكل خيار سبيل لتحقيقه، ولكل خيار نتائج يجب أن نعيها تماماً وأن لاننكرها ونغيبها عن عقولها. تخيل سوريا التي تريدها بعد خمس سنوات، تصورها في خيالك جيداً، ثم أرسم معالمها على ورقة ثم قارنها بسوريا اليوم. ما هو الفرق؟ وهل لدينا القدرات والموارد اللازمة لعبور هذا الفرق. أترك الشعارات والأيديولوجيا، فقط فكر بحسابات باردة، هل لدينا القدرات والموارد، وهل نعرف السبيل للعبور من ضفة الآن إلى ضفة سوريا التي تريدها؟ أربعة أسئلة أساسية: ماذا نريد؟ هل لدينا القدرات؟ هل لدينا الموارد؟ هل نعرف السبيل؟ أطرح هذا التحدي على الجميع وأسال الله أن يوجد من يستطيع الإجابة على هذه الاسئلة إجابة عقلانية. هذا هو التحدي الذي يطرحه هذا العبد الفقير على أبناء شعبه السائرين إلى حافة الجرف باعين معصوبة وإني أنتظر الجواب قبل أن أعطيكنم محاولتي على الإجابة.

تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

You may also like...

shares