حوار حول الإسلاموية وحرية الرأي

عندما أردّ على منشور يحتوي على مجموعة كبيرة من الآراء، فإني أقوم أولا بتلخيص تلك الآراء تحت عنواين كبرى، ثم أقوم بمناقشة هذه العناوين. قد يكون هذا التصنيف اختزالاً مجحفا لكن لا يمكن الرد على كل كلمة، ولا بد للمحاورين من الدخول في عملية أخذ ورد لبلورة الآراء والمقولات. لقد وجدت في منشور الصديقة ريم الحاج مجموعتين من المقولات: الأولى مجموعة نظرية تحاول فهم الظواهر التي بين أيدينا والتي نختلف على تحليلها وعلى الموقف منها؛ والثانية مجموعة مقولات عملية أو استراتيجيات للعمل. ولذلك سأقسم ردي إلى قسمين، قسم يحاور كل مجموعة على حدة. وفي كل قسم يسأعطي رقماً لكل مقولة وسأحاورها تحت المقولة مباشرة.

القسم النظري

1- “الحقيقة انو اليوم اللي مستعد يدبحنى بسبب صوتي هم اسلامويين وليسوا متطرفيين يمينيين.”

نعم هذا صحيح في سوريا لكنه ليس صحيحاً في فرنسا. لا يمكن أن نُسقط مشاكلنا المحلية على مشاكل في مناطق أخرى، وإلا فإننا ننتهي مع فكرة صراع بين الخير والشر، وهذا ما أراك تتجهين نحوه. لكني لا ألومك لأن المسلمين والإسلامويين والغربيين يفعلون الشيء ذاته. وإني أرى خطورة بالغة في ذلك لأنه يقودنا إلى صراع الحضارات ومن ثم إلى صراع كوني بين الخير والشر.وحتى لو حاول المرء الإنتباه إلى المحلية وعدم خلط المستويات، فإنه يصطدم بدول وجماعات سياسية لهم مصلحة في دفع الصراع المحلي نحو مستويات أعلى (وقد وضحت ذلك في بوست سابق). إنهم يستفيدون محلياً من قضية صراع الحضارات. وهذا ينطبق على اليمين الأوروبي كما ينطبق على اليمين الإسلاموي. ومن هنا سأنطلق لاحقاً في نقاش الأولويات العملية.

تحدثت يوماً عن استخدام الغوغاء في الصراع السياسي. ويكون ذلك بصياغة الصراع من خلال رموز ثقافية ومقدسات. وهذا ما نشهده اليوم سواءاً من طرف اليمين الأوروبي أو مثيله الإسلاموي. وبالنسبة لأمثالنا من المعادين للعنف فإننا نتعلم من خلال تجارب مريرة بأن نتفادى الوقوع وسط الغوغاء عندما يتم استنفارها كالقطيع. وكناقدين اجتماعيين في سوريا فإننا تعرضنا لتنمر الغوغاء، ونعرف تماما متى يتم استنفارهم وتجييشهم. وهذا ما يحصل معك الآن. صفارات الإنذار الداخلية تصرخ “الغوغاء قادمون”. لكن الغوغاء التي نتحدث عنها ليست في سوريا أو حيث تسكنين ولكن في فرنسا. وهنا لا أرى خطراً عليك أو عليّ إلا إذا اعتبرنا أن ما يجري في فرنسا مرتبط بما يجري في كل أنحاء العالم وأن الغوغاء المحلية حيث نسكن ستتحمس وستخرج باحثة عن كبش فداء قد يكون أنا. وهذا يقودني إلى مقولتك التالية.

وقبل أن أنتقل إلى النقطة التالية أود من كل الإسلامويين والمسلمين المجيشين للدفاع عن رسولهم أن ينتبهوا إلى سياسة الغوغاء. إن هذه السياسة هي ما يجعل الناس تخاف منكم وتعتبركم وحوشاً. وعندما تحدثت عن صياغة المطالب وعن الأدوات المؤسساتية وعن دخول غمار السياسة فإني أقصد تماماً الإبتعاد عن سياسة الغوغاء. لا يهم أن الغربيين يستخدمون القنابل، فهذا متروك لساحة الحرب. أما أن يحمل المرء سكينة ويصرخ وهو يلوح بها ويتهدد ويتوعد فهذا خلط بين ساحة المعركة وساحة السياسة. وهو بالضبط ما يحتاجه السياسيون، أي التخويف بذرع فكرة أن كل مكان هو ساحة معركة. هذا هو الإرهاب. وهو مؤثر حتى في من يمتلك قنبلة. لكن النتيجة هي أن الخائف الذي يمتلك قنبلة وقوة مؤسساتية سيستخدمها بينما تظل الغوغاء تحمل سكينا وتصرخ في الشوارع. “سياسة الغوغاء” التي يعشقها الإسلامويون وكثير من اليمين والعديد من المسلمين من مجتمعات النخوة والفزعة والشرف ليست إلا مناوشة كلامية ونفخ أوداج لا تنفع؛ لا بل تأتي بالنتيجة المعاكسة. لا تنفخ أوداجك وتشهر سكينك أمام من يملك سلاحاً أجدى، وأعني القلم والمعلومة والقنبلة والمؤسسة، ففي النهاية أنت الخاسر.

2- “ظواهر الاسلاموية منظومات اجرام منتشرة حول العالم”.

نعم الاسلاموية او الاسلام السياسي هي ظواهر موجودة في كل البلدان التي فيها أغلبيات او أقليات مسلمة. الاسلاموية، او الاسلام السياسي، ليس كتلة واحدة، ولا استطيع ان اتهمهم كلهم بالاجرام. ولا استطيع حتى ان ازعم انهم متشابكون في شبكة واحدة. لقد بينت في بوست سابق التيارات الاسلاموية التي اعتبرها عالمية. واكدت هناك على ان معظمها محلي جدا. الاسلام دين عالمي، وكغيره من الاديان العالمية فانه يمكن تسييسه. وقد عمل مفكرون منذ نهاية القرن التاسع عشر على صياغة ايديولوجيا سياسية يزعمون انها اسلامية اي من صلب الاسلام. فخرجوا علينا بمفهوم الدولة الاسلامية وبمفهوم الجهاد المستمر. وهما مفهومان متضادان فالجهاد المستمر لا يريد الاستقرار، والدولة الاسلامية تريد استغلال الجهاد لكن تحت ضوابضها وتحت تحكمها. بالطبع روّج هؤلاء لمفهوم “الاسلام هو الحل” وجعلوا ايديولوجيتهم شمولية تشمل كل نواحي الحياة، فهي سياسية واخلاقية واجتماعية في الوقت نفسه، ثم زعموا انها اقتصادية. المفهوم الوحيد الذي لا يزال واقفا هو الديمقراطية الاسلامية او الشورى والدولة الاخلاقية. لكن يبدو لي ان ريم لا تتحدث عن هذه الافكار النظرية بل تتحدث عن ممارسات اجتماعية يحاول الاسلامويون من خلالها فرض سيطرتهم على المجتمع حتى من دون وجود دولة. انا ادخِل ذلك في باب الثقافة الذكورية وليس في باب الايديولوجيا السياسية. وهنا تعترضنا الفكرة المضمَنة في مقولة ريم، وهي ان ممارسات الضبط الاجتماعي هذه هي ممارسات اسلامية معممة، ثم اصبحت جزءا من خطاب الاسلامويين. وهذا ما يجعل كل المسلمين اسلامويين او مؤهلين لان يكونوا كذلك.

فهل الضبط الاجتماعي موجود عند كل المسلمين؟ وهل هذا يجعل منهم اسلامويين؟ وهل هو اجرام؟ نعم، اعتقد ان ممارسات الضبط الاجتماعي موجودة عند كل المسلمين بدرجات مختلفة. وليس هذا لان الاسلام يأمر “بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر”، بل لان كل المجتمعات لديها ممارسات للضبط الاجتماعي، ولان المجتمعات الذكورية بالتحديد تتمادى في الضبط الاجتماعي. ثم يدخل هذا الضبط في الدين ويصبح من الصعب فصله عنه. الثقافة العامة في المجتمعات التقليدية هي الدين. لكننا نعرف بالمقارنة ان الاديان تختلف بينما تبقى ممارسات الضبط. هل هذه الممارسات تجعل من كل المسلمين اسلامويين؟ انهم بالطبع يحلمون بذلك لكن ليس كل المسلمين اسلامويين، وفرنسا نفسها ستثبت لك هذا. عدا عن ان الحرب في سوريا اثبتت ذلك. تعميم اية ممارسة واستخدامها في لحظة معينة كما في حادثة باريس هو دليل على تنظيم. وهذا التنظيم يحاول دائما ان يبدو من الأسفل وشعبيا لكنه في الحقيقة منظم. هناك من يموّل وهناك من يخطط وهناك من يجيش وهناك من يفعل. وكذلك فان الحرب في سوريا اثبتت ذلك. المجتمعات الاهلية اعجز من ان تنظم مظاهرات عالمية وتقوم بحملة مقاطعة. لا بل انها عجزت عن تنظيم ثورة منظمة في سوريا. هل ممارسات الضبط اجرام؟ بعضها نعم مثل جرائم الشرف والتنمر بسبب الاختلاف في العقيدة ومثل استخدام الغوغاء. لكن ليست كلها عنيفة وليست كلها اجرامية. تعنيف الاطفال، تعنيف النساء، التهجم على اللادينيين، التنمر على المثليين، التنمر على المفطرين في رمضان ليست جرائم. لكن هناك مع وهناك ضد، وبالضرورة فان كل منهما يريد ان يستخدم القانون كأداة اجبار او ردع. هذا هو الجدال السياسي واتمنى ان يستمر دون تجريمه. تسييسه لا محالة منه، لكن تجريمه يعتمد على الطرفين والى اي مدى يمكن ان يذهبا في اقصاء الطرف الاخر.

وموقفي وتقييمي يعتمدان على الحالة التي امامي وليس لدي موقف محدد مسبق من هذه الممارسات. عارضنا المحاكم الشرعية في الثورة السورية لكن لم تكن جميعها سيئة. عارضنا الشرعيين وفتاويهم وهذا شأن محلي. اعتراض الناس في الشوارع لارشادهم الى طريق الصواب هو ممارسة محلية. والاعتداء بالضرب كذلك. لكن دعوة شخص من مدينة اخرى لارتكاب جريمة فهذا عمل منظم. لم تعطنا الدولة الفرنسية اية قرائن على انخراط مجموعات غير محلية او دول. ولا ازال اعتبر الجريمة فرنسية وليست عالمية. عمليات ايلول كانت عالمية ومنظمة، لكن خطف فرنسية في السنغال فهو محلي من اجل اجبار فرنسا على الضغط على الحكومة المحلية. ورغم وجود الغوغاء ورغم خوفنا منها الا انها ليست ذاتية الفعل او انية. تجييش الغوغاء يحتاج الى تنظيم. مجازر ١٨٥٠ و١٨٦٠ لم تحدث لان مسلماً في الشارع غضب فتبعته الغوغاء لقتل المسيحيين. هناك ادلة كثيرة تشير الى نخب محلية واقليمبة وعالمية. الغوغاء التي تخيف العلمانيين والاقليات والغرب ليست تعبيرا عن وحشية الاسلام بل هي تعبير عن عقلية القطيع التي يسهل استغلالها. وهل ليست ذاتية التحريك وليست آنية.

3- “جذور مشكلة الاسلاموية نابعة من عقيدة الاسلامويين التوتاليتارية وليست ببساطة ردة فعل من شباب ضائع”.

افضّل عند الحديث عن الجذور ان ألتفت الى التحليل البنيوي او المنظوماتي. هذا يعني انني ابحث عن فواعل وعلاقات تبادل. الايديولوجيا هي احدى الفواعل. ولذلك لا يمكنني ان اقول بأن مشكلة الاسلاموية هي في فكرها الشمولي والديكتاتوري. هذا الفكر مشكلة بالتأكيد لانه يوفر تبريرا لممارسات عنفية، لكن الفكر وحده ليس المحرّك. هناك عوامل كثيرة. الحركات اليمينية موجودة في جميع انحاء العالم، بعضها قومي وبعضها ديني وبعضها طائفي لكن كلها شعبوية، وكلها تبسيطية وطهرانية، وتدعو الى العنف التطهيري. وهي تظهر مع الازمات وتتبناها فئات محددة في المجتمع. عندما أجابه مثل هذه المجموعات فاني لا اركز على الافكار وانما على الاسباب الاقتصادية والاجتماعية. لكن اغلب الناس واغلب اعداء وغرماء هؤلاء اليمينيين يركزون على الخطاب ويحاولون دحضه عقلانيا. الجواب يأتي دائما كردة فعل عاطفية غير عقلانية مصحوبة بنوع من البارانويا وحتى العنف او التهديد بالعنف.انا لا اشتغل بالتوعية. واكثر ما يخيفني هو المؤسسة. اغلب هؤلاء اليمينيين اذا تُركوا لغبائهم فانهم ينظمون مجموعات تنمر واحيانا ارهاب. لكن عندما تتبناهم نخبة سياسية كما يحصل في اليمين الفرنسي فاني يصبحون خطرين جدا. والمِثل يمكن ان يقال عن المتطرفين المسلمين الذين تتبناهم نخب سياسية في الدولة او خارجها. واذا حصل ذلك فانه سبب اكبر باعتقادي لمواجهتهم بنيويا بدل مواجهتهم بالخطاب والتوعية. لو كانت هناك حريات سياسية في سوريا لشهدنا تحالفات سياسية من الطرفين. لكن المصيبة هي ان الدولة نفسها تدعم الاسلامويين في الخفاء لانها تستخدمهم كغوغاء مخيفة ضد معارضاتها، ولانه من السهل اتهامهم بالارهاب والزج بهم في السجون. لكن الدولة الديكتاتورية دائما ترعى بعضهم في زريبة خلفية.

5- “الصدام الحالي هو بين معسكرين ثقافيين وهو شأن دولي وليس فقط فرنسي. وله علاقة بالاخلاق الانسانية”.

بعد كل هذا الشرح والتفصيل، فإنه من الواضح أني أرفض نظرية صراع الحضارات والثقافات. لا بل وأعتبرها خطيرة جداً لأنها تنقل المشكلة من المحلية إلى العالمية، وبالتالي فإنها تنقل الحلول الممكنة من المجتمع الأهلي إلى الدولي والمؤسسات. هذا النقل يعني اختلاف الأدوات، فالدولة لا تستخدم المصالحة المجتمعية وإنما تستخدم العقلية والأدوات الأمنية ، وتعتبر كل مشكلة مساساً بوجودها وأمنها القومي، مما يعني تفعيل مؤسسات الشرطة والجيش.

إذا كنا نتعامل مع الجهادية العالمية، فمن الطبيعي تفعيل الأدوات العالمية (وهي أدوات أمنية). لكننا لا نعرف إلى الآن من يقف وراء هذه الجرائم. وحتى لو سمعنا عن داعش هنا وتطرف هناك فإنه ليس واضحاً أن التنظيم تم بتفعيل أدوات الجهاد العالمي. يبدو لي أن أحد أولياء الطلاب كان يبحث عمن يعلم الأستاذ درسا بضربه خارج المدرسة. لكنه وقع في النهاية على قاطع رؤوس مجنون. وربما لم يحسب والي الطالب هذا الحساب.

نعم بالتأكيد فإن الحادثة لها علاقة بالأخلاق والإنسانية. لكن الأخلاق والإنسانية لا تفرض بالضرورة دخول الإنسانية جمعاء على الخط، ولا تقتضي تحويل المشكلة إلى صراع حضارات. يجب أن نعطي تقييم خاص بكل حادثة يأخذ الحيثيات بعين الإعتبار. إن تفعيل الجهادية العالمية ليس سهلا فهي أدوات مؤسساتية ذات عطالة. ولا يمكن تفعيلها لمجرج قتل أستاذ في مدرسة صغيرة. إذا كنا جميعاً مشتركين بمعيار أخلاقي واحد فإن هذا لا يعني أن نستخدمه لتجييش من لا علاقة لهم بالمشكلة. كل حادثة إعتداء هي أذية للأخلاق لكن لا نجيش الناس في سوريا مثلاً من أجل حادثة اعتداء وقعت في أمريكا إلا إذا كان لدينا أجندة خاصة.

6- “بدون حرية التعبير (اي التفكير بصوت عالي بدون خوف) نخسر اي امل بالخروج من مستنقع التوتاليتارية اسدية كانت او دينية”.

بالطبع، لكن بدون حرية التعبير في سوريا وليس في فرنسا أو في أي بلد آخر. معارك حرية التعبير ليست معارك كونية بين الخير والشر. وأعود هنا إلى فكرة المستويات، وما هي المستويات المناسب تفعيلها في كل حادثة. ومثلما نفكر بأن اعتداء إسلاموي في فرنسا على حرية التعبير هناك هو اعتداء على حرية التعبير في سوريا، فإن الإسلامويين يعتقدون بأن أية إساءة للرسول في فرنسا هي إساءة للرسول في سوريا وفي كل أنحاء العالم. لا يجب أن نستخدم أساليبهم، لأنها بالتحديد تلك الأساليب التي نبغضها. إنها صناعة الغوغاء وإدخال الأيدي الخارجية، إن باختصار صناعة الفوضى.

قسم الاستراتيجية العملية

1- “مواجهة المجرمين وتخطى الخوف منهم، والدفاع عن اهم قيمي العليا وهي حرية التعبير”.

لقد وصلنا إلى لب المشكلة باعتقادي وهي “التعامل مع الخوف” ومن ثم “التعامل مع التهديد”. المشكلة مع الخوف هي أننا نستبطنه ونحمله معنا أينما حللنا. أنا أخاف الغوغاء في سوريا وسأخافها في فرنسا وفي أمريكا. أنا أخاف غوغاء الإسلامويين في سوريا وسأحمل هذا الخوف بحيث لو جدت مجموعة من الملتحين في شارع في شيكاغو فإني سأشعر بنفس الخوف الذي شعرته يوماً ما في سوريا. هذه آليات بقاء ودفاع عن النفس، لكنها نفس الآليات التي تعطينا العنصرية. نعم، وبكل بساطة. العنصرية هي أداة دفاع عن النفس بحيث أن الخوف الذي نتعلمه في حادثة محدودة مكانيا وزمانيا يصبح خوفا منفلتا من الزمان والمكان، أي تعميما مجحفاً. لكن يمكن القول أيضاً بأن التعصب الديني يعمل بنفس الطريقة. المتعصب في سوريا سيحمل تعصبه وأدواته إلى فرنسا وألمانيا. إنه يستخدم نفس العقلية الأولى التي وصفتها لأن تعصبه من الأصل هو عملية حماية. المتنمر والمتعصب هو إنسان خائف لكن بردّة فعل عنفية بدل ردة الفعل الإنطوائية. وهذا ما يجعل مشاكل المهاجرين معقدة لأنها ردود أفعال في غير سياقاتها. فما العمل إذن؟

من الضروري أن نستخدم الأدوات البشرية المتاحة لنا لحماية أنفسنا (الجسد والثقافة والممتلكات والأهل). لكن من الضروري أن نأخذ حيثيات السياق بعين الإعتبار. الإٍسلاموي الفرنسي أو حتى الإسلاموي المهاجر في فرنسا، ليس نفسه الإسلاموي السوري في سوريا أو المصري في مصر. وكذلك فإن الخائف أيضاً لا يشعر بخوفه في سوريا وإنما في فرنسا أو أمريكا. الجماعة المحيطة مختلفة والقوانين مختلفة والحريات مختلفة واللغة مختلفة والإعلام مختلف. ممارسة التعصب في فرنسا مختلفة عن ممارسته في سوريا، وممارسة الخوف كذلك. هذا ما يجب أن ننتبه له وأن نستفيد منه. إذا كنا أمام تنمر إسلاموي في فرنسا فإن هناك أدوات أخرى للتعامل معه. وكذلك بالنسبة للإسلاموي الذي يحس بالحاجة إلى التنمر والضبط الإجتماعي، فإنه يجب أن يعي أنه في مكان مختلف.

ولذلك أرى أن نستفيد مما يتيحه لنا الغرب، وأعني منظمات المجتمع المدني، الصوت السياسي المنظم، القانون والمحاكم، الشرطة، الأحزاب السياسية، الصحافة الحرة، وحتى وسائل التواصل. وهذا ما يفعله معظم المسلمين. لكن عندما نجد نظاماً مثل نظام مكرون يعطل هذا الحريات التي تتيحها الدولة الفرنسية بأن يهاجم المؤسسات المسلمة أو الحقوقية أو المدارس أو المساجد فإنه يجبر كثير من المسلمين على الإعتماد على الأدوات التي يعرفونها جيدا وأعني شبكات المجتمع الأهلي. هذه الشبكات تقوم على عصبيات القبيلة والطائفة والدين. وهي إن لم تجد حلفاء محليين فإنها ستبحث عن حلفاء في السفارات والمؤسسات الإسلاموية العالمية والإمتدادات العالمية للعصبيات المحلية، وهذه هي الطامة الكبرى. ومن هذا المنطلق فإننا ننتقد الدولة الفرنسية رغم أنها مستهدفة إلا أنها القادرة على حل المشكلة بأن توفر الصوت لمن لا صوت له، لا أن تعامله كمجرم لمجرد انها معادي لأفكار الدولة وايديولوجيتها.

2- “التركيز على اليمين المتطرف الفرنسي يمنعنا من تسليط الضوء على الاسلامويين كمجموعات متقاتلة بين بعضها ومع العالم”.

لماذا؟ إننا أمام حادثة محلية في بلدة صغيرة في مدرسة صغيرة، فكيف أصبحت حادثة عالمية تتدخل فيها دول ووزارات وجيوش. إن تفعيل الإسلاموية العالمية لا يختلف عن تفعيل اليمين المتطرف. لقد تحولت المشكلة إلى صراع ثقافي بين الإسلامويين والمجتمع الفرنسي، ونصّب اليمينيون أنفسهم ممثلين عن ذلك المجتمع كما ينصّب الإسلامويون أنفسهم ممثلين عن كل المسلمين. في هذه الحالة يجب التركيز على الطرفين. لكن هناك عامل واحد غيّر المعادلة كلها وهو اختيار الرئيس الفرنسي للخطاب اليميني. أي أنه وظف مؤسسات الدولة لدعم هذا الخطاب. فأصبحت المعادلة غير متوازنة: الإسلامويين مقابل الدولة الفرنسية، أو المجتمع الفرنسي المسلم مقابل الدولة. واليوم نجد المعادلة: تركيا كممثل للإسلامويين والسملمين مقابل فرنسا كممثل للحريات الليبرالية والغرب. هذه معركة دونكيشوتية لا رابح فيها بل مجموعة كبيرة من الخاسرين. ولذلك فإنني ركزت على اليمين المتطرف الفرنسي كما هو ممثَّل بنظام ماكرون، فهو العامل الذي كسر التوازن الممكن الحل وجعل المعادلة صعبة لا بل مستيحلة الحل.

إذا أردتِ فعلاً التركيز على الإسلاموية العالمية، فيجب التأكد من أننا نتعامل فعلاً معها. هل الحادثة منظمة وتدخل فيها عناصر عالمية غير فرنسية، أم أنها جريمة “فرنسية”؟ أما أن نستغل الحادثة لنعلن اصطفافاتنا ونصفي حسابات في ساحات متعددة تقفز دون حاجز من العالمي إلى المحلي من المحلي إلى العالمي، فكيف نكون مختلفين عن ماكرون أو أردوغان أو الجهادية العالمية.

3- “لا أعتبر المسلمين مجرد ضحايا، مسلوبي الهوية، ومنهكين من اليمين المتطرف، وهذا اعتراف بقدرتهم على الفعل”.

هل المجتمعات المسلمة الفرنسية فعلاً قادرة على الفعل؟ أم أنها خاضعة قاصرة مسلوبة الإرادة والفعل؟ المجتمعات المسلمة في فرنسا ليست كتلة واحدة. وهذا موضوع لم نتطرق إليه. وهو أن أكثر من المهاجرين بأجيالهم المتعددة لا ينظرون إلى أنفسهم داخل المجتمع الفرنسي على أنهم مسلمون وحسب. وكثير منهم جزء لا يتجزء من المجتمع الفرنسي والمؤسسات الفرنسية والأحزاب الفرنسية. وهذا يتركنا أمام قسمين: الفرنسيون الذي يرون أنفسهم أولاً كمسلمين وثانياً كفرنسيين، والفرنسيون الذين يعيشون في الضواحي المقيتة والأحياء الفقيرة. إن من خطأ اليمين الفرنسي والأوروبي بشكل عام، ومن خطأ ماكرون بشكل خاص، أنه لا يفرق بين هذه الأقسام، وبالتالي فإنه يجبر كل الفرنسيين المسلمين على التماهي مع صورة نمطية واحدة هي صورة المتعصب الإسلاموي من الضواحي.

في هذه الحالة فإن ماكرون يحرم 10% من الفرنسيون من أن يكون لهم صوت مجتمعي وصوت سياسي باستخدام الأدوات المتاحة مثل المجتمع المدني والأحزاب وحتى القانون. لقد سمعت عن الإندماج منذ كنت في فرنسا منذ ثلاثين سنة. وكنت أعرف يومها أن ذلك الخطاب كان مطروحاً بقوة منذ الستينات. هذا يعني خمسين أو ستين سنة من خطاب لا يتغير. هل هذا يدل على تعنت مجتمعي (أي كتلة مسلمين واحدة صلبة لا تغير مواقفها عبر ثلاثة أجيال) أم أنه يدل على أزمة بنيوية في الدولة نفسها وفي النخب السياسية التي تحلب نفس الموضوع لمدة ستين سنة. مشكلة الأمريكيين من أصل إفريقي، مشكلة الإستعمار، مشكلة إسرائيل، مشكلة التمييز العنصري، هذه كلها مشاكل طويلة الأمد لكنها أيضاً مشاكل بنيوية. المشاكل البنيوية ليست وحيدة الطرف بل تدخل فيها أطراف وعوامل متعددة. إنها مشاكل تفاعلية. فإذا قررنا رمي التهم فيجب أن نرميها على الأطراف كلها. وفي تحليلي، فإن الإندماج ليس مشكلة مهاجرين وإنما مشكلة عنصرية نخب سياسية تجذب الأصوات من خلال الضرب على وتر الخوف. الإندماج ليس حقيقة مطلوبة وممكنة بل مجرد أيديولوجيا عنصرية تطلب ما ليس موجوداً لتتهم الآخر بالفشل.

ونعود هنا إلى التركيز على الأحياء الفقيرة حسب الصورة النمطية. هل الفقر هو نتيجة الكسل أم الفقر هو نتيجة الصراع الطبقي، أم أنه بنيوي بحيث لا يمكن التخلص منه؟ ضمن القومية الواحدة هناك صراع طبقي. لكني وجدت أن هذا الصراع يتحول إلى صراع هويات في حالة تطابق الفقر مع هوية أخرى. وهذا يجعل التعامل مع الصراع الطبقي أسهل بكثير بالنسبة للنخب الحاكمة. “هؤلاء فقراء لأنهم من هوية تشجع الفقر والتواكل والعنف”، نقطة انتهى. المصيبة الكبرى هي أن التواكل والعنف يأتيان دائماً مع الفقر. ولذلك فإني لا ألتفت للحالات الفردية عندما أحلل المشكلة بنيوياً. وهنا لا أبرر أية تصرفات فردية، وإنما أقول أنها مفهومة وإن كانت غير مبررة. بالنسبة لي هذه المسألة محسومة: التعامل الفردي مع الفقر يكون عبر الشرطة والعمل الخيري (وهو أسوأ أنواع التعامل)، والتعامل البنيوي يكون عبر تدخل الدولة والمؤسسات (وهو أفضل أنواع التعامل). كل قاضي يوزع أحكام بالسجن لمئات السنين كل يوم على أفراد نعرف تماما أنه لا سبيل لإصلاحهم، هذا جنون. لا يمكن أن نتخلص من الفقر لكن يمكن أن نتخلص من إلتصاق الفقر بأجيال متعددة من العائلة الواحدة والإثنية الواحدة والهوية الواحدة. كما يتم تداول الغنى فإنه من الضروري تداول الفقر. ولا يكون هذا إلا ببرامج الضمان الإجتماعي (ليست بالضرورة عبر الدولة، لكن لا بد لها من حصة من الضرائب) والتعليم والتخطيط (يمكن أن يكون على مستوى الحكم المحلي).

4- “المسلمين يقولون الاسلام بريء من الاجرام، ولهيك لازم يدافعو عن هيك ادعاء بالفعل وليس فقط القول”.

أنا لا أمثل أحداً غير نفسي، ولا أعتبر أن الإنسان الذي أمامي ممثلاً لغير نفسه. فلماذا أطلب من المسلمين أن يكونوا سفراء للإسلام يتحملون وزر كل مجنون أراد أن يقتل باسم الإسلام. التعميم من العنصرية، هذه هي قاعدتي.

تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

shares