حديث “من بدّل دينه” – تحليل نصّيّ (2)

ظهر المقال على موقع الأوان في 29 يوليو، 2010. لكن بعد تجديد الموقع، أعطيت كل المقالات تاريخ التجديد، أي 8 ديسمبر، 2013.

تلخيص نتائج تحليل رواية حماد بن زيد:

في الحلقة الأولى من سلسلة تحليل حديث “من بدّل دينه” بدأت التحليل النصّيّ للحديث وسأتابعه في المقالة أدناه وفي مقالات لاحقة. وكما أسلفت في المقالة السابقة فإنّي أفصل التحليل النصّيّ عن سواه من مناهج التحليل وأعتمده مدخلاً لتحليل الحديث. لقد لاحظت أولاً انقسام الحديث إلى ستّة عناصر سردية هي : حكم علي على المتهمين بالإرتداد أو الزندقة؛ مداخلة ابن عباس المختصة بوجوب قتل المرتدين (رأي فقهي، دليل الوجوب)؛ شاهد الوجوب أو القسم الأوّل من لبّ الحديث «من بدّل دينه فاقتلوه»؛ مداخلة ابن عباس المختصة بالنهي عن التعذيب بالتحريق (رأي فقهي، دليل النهي)؛ شاهد النهي أو القسم الثاني من لبّ الحديث (لا تعذّبوا بعذاب الله)؛ ردّ عليّ على مداخلة ابن عباس. ولاحظت ثانياً بعض الاضطراب في العناصر المذكورة من ناحية التفصيل والتسلسل والحشو القصصي : فمثلاً نلاحظ حكم عليّ  يختزل أحياناً إلى ذكر سريع لإحراقه المتّهمين؛ وأنّ بعض الرواة شكّ بهوية الموقوفين الدينية لكنهم أجمعوا على أنّ الموقوفين مرتدّون؛ وأنّ عناصر مداخلتي ابن عباس لا تأتي دائماً بنفس التسلسل؛ وأن الصلة السببية بين مداخلة النهي وشاهد النهي ليست دائماً مذكورة؛ وأن زوائد الحوار ومتطلبات الصيغة القصصية للأثر تختلف من راو إلى آخر. يشير هذا كله إلى هامش من الحرية في السرد عمل في نطاقه رواة الحديث المختلفون، لا بل سمحوا لأنفسهم ببعض الشك بهوية الموقوفين الدينية، لكنهم أتوا دائماً بالشواهد حرفياً ودون تغيير. هذه الاضطرابات ستكون بالنسبة لي الصفات المميزة لرواية حماد بن زيد. سنتابع أدناه  نفس المنهاج تحليل رواية أخرى لنسخة أيوب هادفين إلى استخلاص صفات مميزة لها بغرض مقارنتها مع رواية حماد بن زيد. ثالثاً لاحظت الغياب المقلق لأي سياق تاريخي يحدد زمان الحدث ومكانه وتفاصيله، وكأنّ العالم حسب الحديث يقتصر على عليّ وابن عباس وكلمات تذكّرها الأخير عن النبيّ محمد. وقد ألمحت للطريقة الفقهية في سرد القصة (حدث، رأي فقهي، شاهد)، وإلى أغراض سياسية ممكنة (من وجهة نظر عباسية ضدّ العلويين) قد تكون السبب في نشر الحديث.

لقد عرضت سبع صياغات لنسخة أيوب من الحديث برواية حماد بن زيد. وسأعرض هنا ستّ صياغات لنسخة أيوب برواية سفيان بن عيينة مرتبة حسب تاريخ وفاة أصحاب المصنفات حيث وجدت الصياغات المختلفة. وابن عيينة (107-198) مولى لبني هلال ولد في الكوفة ونشأ وسكن مكة. ويعد من كبار محدثي القرن الثاني ومصدراً أساسياً لتراث الحجاز مع مالك بن أنس (1).

صياغة الشافعي ت 204:

(الشافعي، الأمّ، 1/257) (قال الشافعي) أخبرنا سفيان بن عيينة عن أيوب بن أبي تميمة عن عكرمة قال لما بلغ بن عباس أنّ عليّا رضي الله تعالى عنه حرق المرتدين أو الزنادقة قال لو كنت أنا لم أحرقهم ولقتلتهم لقول رسول الله (ص) «من بدّل دينه فاقتلوه» ولم أحرقهم لقول رسول الله (ص): (لا ينبغي لأحد أن يعذّب بعذاب الله).

من السهل أن نبدأ بمخطط صياغة الشافعي فقد خبرنا الأثر جيداً وتعرفنا على مكوّناته. هذا المخطط هو كالتالي : حكم عليّ (مختصر جدّاً)، رأي النهي، مداخلة الوجوب (رأي، دليل)، شاهد الوجوب، مداخلة النهي (إعادة لرأي النهي، دليل النهي)، شاهد النهي (مختلف عما سبق). حكم عليّ يُختزل هنا ليصبح جزءاً من قصة مداخلة ابن عباس (“لمّا بلغ ابن عباس أنّ عليّاً”).

لم ير الراوي هنا أية ضرورة للحديث عن توقيف المتهمين وتفتيشهم وتأجيج النار ومن ثم إحراقهم، وكأنّ مستمعيه كانوا على معرفة بالحادثة وتفاصيلها أو كان همهم المجادلة الفقهية وليس الإستماع إلى حكايات الأجداد.  هذا النفس الفقهي الموجود في كل الصياغات يجعلني أميل إلى اعتبار أنّ الأثر جرى تداوله حين وقع خلاف فقهي حول عقوبة الزنادقة أو المرتدين (القتل أو التحريق) ولم يكن تداوله بقصد إيجاد نص يتدبرون به أمر الزنادقة، أهم مرتدّون أم لا؟ وماذا يجب أن يكون جزاؤهم؟. ومرّة أخرى يجب أن نعود إلى تاريخ الزندقة وردود الفعل عليها. وهذا ليس بالأمر السهل لأنّ تهمة الزندقة كانت تطلق على أصناف كثيرة من الخصوم السياسيين أو الدينيين. لكن ما أميل إليه حالياً -وهذا استباق لنتائج البحث- هو أن جيل حماد وسفيان هو المسؤول عن تداول هذا الأثر، لكن لا يمكننا بما لدينا الآن من معلومات أن نجزم أنهم اخترعوه ليبرّروا موقف السلطة العباسية من الزنادقة، فلنتابع.

في هذه الصياغة لم يعد عليّ شخصية من شخصيات الحدث الدرامي، وتحوّل فعله إلى خبر بلغ مسامع ابن عباس. عليّ لم يعد مهمّاً بالنسبة للرواية والتركيز الكلّيّ هنا على ردود فعل ابن عباس. هذا يدعم فرضيتي بأنّ الجدل الأهمّ في هذا الأثر هو جدل القتل أو التحريق وليس جدل ما يجب فعله بالمرتدّين. ونلاحظ هنا أنّ الراوي (غير محدّد) نجح في إيجاد حلّ لمشكلة ربط المداخلة بالشاهد ولمشكلة الإنفصال القواعدي بين مداخلة النهي وشاهدها. لكنّ الثمن كان تكراراً لرأي النهي (“ولم أحرقهم”)؛ لكننا نرى بوضوح أنّ الشاهد يتبع المداخلة في حالتي الوجوب والنهي كلتيهما، وأنّ الشاهد يرتبط بالمداخلة بلام السببية في الحالتين كلتيهما (“لقول رسول الله). ولا بدّ أنّ الراوي أراد التأكيد على أنّ أول خاطر خطر لابن عباس هو التنبيه إلى الخطأ الذي وقع فيه عليّ باستخدامه النار كعقاب. زفي هذا تسليط إضافي للضوء على ابن عباس

إضافة إلى ما سبق، نلاحظ هنا ذات الشك في هوية الموقوفين (أكانوا زنادقة أم مرتدين) الذي رأيناه في صياغتي ابن حبان والطحاوي لرواية حماد بن زيد. هذا الشك، في صياغتي الطحاوي والشافعي (“حرق المرتدّين أو الزنادقة”)، منسوب إلى عكرمة. إلا أنه في صياغة ابن حبان منسوب إلى أيوب (“عن أيوب عن عكرمة : أن عليا أتي بقوم قد ارتدّوا عن الإسلام أو قال : زنادقة”). “قال” هنا فاعلها يعود على عكرمة ومعناه أنّ أيوب لم يتذكّر ما إذا كان عكرمة قد قال “قد ارتدّوا عن الإسلام” أو قال “زنادقة”. أما في بقية الحالات فنرى عكرمة يقول (“أنّ عليّا رضي الله عنه أتي بقوم زنادقة أو ارتدّوا عن الإسلام”)، أي أنّ الذي احتار في هوية الموقوفين هو عكرمة. نلخص فنقول : أغلب الصياغات تجزم أن الموقوفين زنادقة بينما ثلاث صياغات تُدخل بعض الشكّ في هويتهم الدينية، وهذا الشك إما نتيجة لضعف في ذاكرة عكرمة أو لضعف في ذاكرة أيوب. ونرى هنا حالة أخرى من تصرف الرواة بصياغة الأثر قد تغيّر تخيلنا للسياق التاريخي لنشره. فلو شك عكرمة لأمكن استنتاج أنّ المطابقة بين الزندقة والإرتداد لم تكن موجودة زمنه. ولو شك أيوب لأمكن استنتاج أنّ المطابقة لم تكن موجودة زمن أيوب. إن هذه المطابقة عامل مهمّ في تحديد تاريخ تداول هذا الأثر.

وأضع بين معترضتين هنا ملاحظتي لجملة ابن عباس المعبّرة عن ردّة فعله أي “لو كنت أنا” (ومعناها لو كنت أنا الحكم، أو لو كنت أنا مكانه) وقربها الشديد من اللغة المحكية اليوم. فلو أردت مثلاً أن أكتب في رواية حواراً فصيحاً بين شخصيتين تاريختين لارتبكت ولتحيّرت في الحكم على جملة مثل “لو كنت أنا” أهي عامية أم فصيحة؟ لو كانت لدينا أيّة معرفة بما كان شائعاً استخدامه في لغة الخطاب في كل عصر لحددنا مباشرة زمن تداول هذا الأثر وصياغته الصياغة الاولى.

أخيراً نلاحظ أن شاهد النهي تغيّر جذرياً في انتقاء كلماته وفي صيغته. فـ(“لا تعذّبوا بعذاب الله”) تستخدم صيغة المخاطبة الآمرة للجمع، أمّا (“لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله”) فهي صيغة نهي مخففة وغير موجّهة لشخص أو جماعة معينة. إضافة إلى ذلك، فإننا لا نعرف إن كانت كلمة (يعذّب) بصيغة المبني للمجهول (يُعذَّب) أم بصيغة المبنيّ للمعلوم (يُعذِّب)، فالصيغة الأولى تجعل النهي مختصاً بمتلقي العذاب (أي أيّ إنسان) أمّا الصيغة الثانية فتجعل النهي مختصاً بمانح العذاب (أي القائم على الحدود). هذه حالة مثالية لما يسمّونه الحديث بالمعنى، أي أن الراوي لا يتذكر أو لا يعرف المفردات الحقيقية التي استخدمها المؤلف الأوّل (والزعم هنا أنه الرسول) في قوله، وإنما يتذّكر المعنى العام فيصوغه بمفرداته الخاصة. وليس هذا بمستحب لأنّ من ينسى الكلمات قد ينسى هوية القائل. ولا نعرف هنا أيّ النسخ أصدق في نقل الحديث الأصلي، أهي نسخة حماد بن زيد أم نسخة سفيان بن عيينة؟ ثم هناك التصرّف بتسلسل عناصر الحديث وبعض مفردات هذه العناصر. وهناك الشك بهوية الموقوفين الدينية أهم مرتدّون أم زنادقة أم أن كلهم سواء؟ ومن هو صاحب الشك أهو أيوب أم عكرمة؟ وهناك الرابطة القواعدية المضطربة بين مداخلة النهي وشاهد النهي. وأخيراً هناك ردّ عليّ الذي سنرى تأرجحه بين معان متناقضة. هذه الإختلافات النصية تضعضع ثقتنا بأمانة الرواة في نقل الأثر. وإضافة إلى هذه الإختلافات، رأينا التوتّر بين شخصية علي وشخصية ابن عباس كما يقدمهما النص، ممّا يدفعنا في اتجاه التفكير بخلافات أيديولوجيا متأخرة بين العباسيين والعلويين. وسنرى فيما يلي أنّ التلاحم النصي (العناصر والرابطة السردية والمفردات) سيتزعزع أكثر ممّا سيخلف انطباعاً أن الأثر ما هو إلا توليف سردي مستحدث لمقولتين (لبّ الحديث) متعارف عليهما بين الفقهاء لكنهما موضع جدل فقهي استمر عدّة عقود، ثم نقلته الأجيال اللاحقة في هذه المستحاثات النصية المتحجرة.

صياغة الحميدي:

إن صياغة الحميدي لا تختلف كثيراً عن صياغة الشافعي لرواية سفيان، فكلتاهما تبدأن بصياغة مختزلة لحكم عليّ عند لحظة وصول الخبر إلى أذني ابن عباس وكأنّهما تركّزان على ردّة فعل ابن عباس أكثر من حكم عليّ في قضية الموقوفين. لكن صياغة الحميدي تحتوي على زيادة مهمة على نسخة أيوب تضيف بعض التعقيد الدرامي، وهي زيادة عمار الدهني.

(الحميدي ت 219، مسند 1/244) 533 – حدثنا الحميدي قال ثنا سفيان قال ثنا أيوب عن عكرمة قال لما بلغ بن عباس أن عليا أحرق المرتدين يعني الزنادقة قال ابن عباس : لو كنت أنا لقتلتهم لقول رسول الله (ص) «من بدّل دينه فاقتلوه» ولم أحرقهم لقول رسول الله (ص) لا ينبغي لأحد أن يعذّب بعذاب الله قال سفيان فقال عمّار الدهني وهو في المجلس مجلس عمرو بن دينار وأيوب يحدّث بهذا الحديث أن عليّا لم يحرقهم إنّما حفر لهم أسرابا وكان يدخّن عليهم منها حتى قتلهم. فقال عمرو بن دينار أما سمعت قائلهم وهو يقول لترم بي المنايا حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحفرتين إذا ما قربوا حطبا ونارا هناك الموت نقدا غير دين (السَّرَب ج أسراب الحفرة تحت الأرض، الجحر؛ لسان العرب، مادة سرب).

قبل الحديث عن زيادة الدهني لا بدّ من ذكر نقطتين هامّتين نلاحظهما في صياغة الحميدي. النقطة الأولى تخص هويّة الموقوفين. فهنا نرى عكرمة متأكداً من أن الموقوفين كانوا من المرتدّين. وقد تمّ تحديد هويتهم بكونهم زنادقة (“المرتدين يعني الزنادقة”). كلمة “يعني” تتكرّر في الأحاديث والأخبار وليس من الضروري أن يكون صاحبها الراوي الأصلي بل قد يكون أيّ راو في سلسلة الإسناد أراد شرح كلمة غامضة. بعض الرواة المتحرّين يحدّدون هوية الشارح وآخرون يهملون هذا التحديد. وليس هذا الإهمال من باب السهو وإنما يجب أن نفهمه على أنه تدخل واضح يحاول من خلاله الراوي (عن وعي أو عن غير وعي) تأكيد معنى ما للكلمة الملتبسة دون معاني أخرى. ففي حالتنا هنا يجب أن نفهم أن الحميدي أو سفيان أراد أن يزيل الشكّ من عقول سامعيه حول هوية الموقوفين، إنهم زنادقة، وبالنسبة له هذا يعني أوتوماتيكياً أنهم مرتدون. ولا نزال نلاحظ هنا إعادة الترتيب المستمرّة لعناصر الأثر. فمخطط الحميدي لا يحتوي رأي النهي المكرر الذي رأيناه في صياغة الشافعي. لكن الرابطة القواعدية (لام السببية) أخذت أخيراً مكانها “المنطقيّ” في النص موثّقة الصلة بين المداخلة وشاهدها. وتخلص الرواة أيضاً من كلمة “لنهي الرسول” واستبدلوها بـ”لقول الرسول” ممّا يعين في تمتين الرابطة القواعدية المذكورة. مخطط صياغة الحميدي هو التالي : حكم عليّ المختصر، مداخلة الوجوب (رأي، دليل)، شاهد الوجوب، مداخلة النهي (رأي، دليل)، شاهد النهي. وهو مخطط مشابه جداً لمخطط صياغة الشافعي.

أما زيادة الدهني فهي قصة متكاملة بعناصرها السردية وروابطها ومغزاها وتتفرع من الأثر لتضيف إلى حكم عليّ معاني درامية وأيديولوجية مختلفة. فلا بد من التوقف عندها لبعض الوقت. إنّ عملية الزرع هذه التي تراكم عناصر سردية إلى الأثر “الأصلي” قد تكون هي العملية الأساسية لبناء أيّ أثر من جملة معروفة كانت موضع مجادلات فقهية في زمن متقدم. إن اكتفاء أيّ عنصر بذاته يجعل الأخبار الإسلامية مشابهة في بنيتها للشعر العربي القائم على مراكمة الأبيات حيث كل بيت هو وحدة لغوية ومعنوية قائمة بذاتها. وكلّ مجموعة أبيات تكوّن قطعة، وكلّ مجموعة من المقطوعات تكوّن قصيدة.

المكان هو مجلس عمرو بن دينار. وعمرو هذا من طبقة التابعين، أفتى بمكة مدّة طويلة. المجلس يضمّ إلى عمرو بن دينار أيوب السختياني وعمار الدهني (محدث كوفي ت 133). أيوب السختياني يحدّث فيعترض الدهني على الإتهام المبطن لعليّ بجهله بنهي الرسول عن القتل حرقاً موضحاً أن القتل كان بالدخان. ويزعم الدهني أن عليّاً حفر حفراً متصلة بعضها ببعض وأضرم النار في واحدة وترك الدخان يتسرّب إلى الحفر الأخرى حيث يقبع المتّهمون بالزندقة أو الردّة. وقد دعم عمرو بن دينار قصة الدهني بشاهد من الشعر غير معروف المنشأ يتحدّث عن موت محتم في حفرتين متصلتين في إحداهما حطب ونار. وليست القصة فريدة في موضوعها أو في تفاصيلها إذ إن مسألة القتل حرقاً بالنار كانت مثار جدل بين الفقهاء في القرن الثاني، وهناك آثار أخرى تعرض آراءً متناقضة حول هذه المسألة أبطالها الرسول أو أبو بكر أو خالد بن الوليد أو علي. ولن نتوسّع في هذا الموضوع الآن بل سنتركه إلى مقالة أخرى خاصة وأن الجدل تحول في بعض تشعّباته إلى جدل بين أهل السنة والشيعة هدفه نفي تهمة مخالفة تعاليم الرسول عن عليّ. ما يهمنا الآن هو أن زيادة الدهني تؤكد قولنا في تراكم العناصر السردية حول أثر أولي لا سياق سردي له. إن مسألتي قتل المرتدين والقتل حرقاً مسألتان منفصلتان -حسب ما أرى- تم جمعهما في قصة حرق عليّ للزنادقة لغرض الجدل الأيديولوجي بين أنصار العباسيين وأنصار العلويين أو لغرض الجدل الفقهي بين أنصار القتل وأنصار التحريق، أو للغرضين معاً. وسنرى لاحقاً كيف يتمّ فصلهما وكأنهما لم تجتمعا يوماً. إضافة إلى ذلك فإن البنية السردية المكوّنة من مقولة (أو زعم أو رأي) وشاهد تعاود ظهورها هنا أيضاً إذ هي البنية المفضلة للجدل الفقهي والأيديولوجي. الزعم هنا أن عليّا لم يقتل الزنادقة حرقاً وإنما قتلهم خنقاً بالدخان (أليس هذا تعذيباً أيضاً ويدخل في نطاق نهي نبويّ آخر عن التعذيب والمثلة). أمّا الشاهد فهو أقل وزناً لأنه شاهد شعري يحاول أن يؤكد الحقيقة التاريخية لفعل عليّ لكنه لا يزيد في مشروعيته إذ ليس الشاهد حديثاً نبوياً. وسنرى في مقالة أخرى كيف تتحول هذه الزيادة إلى قصة مستقلة يكون فيها المتهمون زطاً أو من أنصار عبد الله بن سبأ أو من غلاة الشيعة الذين يقولون بألوهية عليّ.

صياغة ابن أبي شيبة ت 235:

وها هو ابن عيينة (أو ابن أبي شيبة) يصوغ حديثه صياغتين أخريين:
(ابن أبي شيبة، مصنف ابن أبي شيبة) 29614- حدّثنا ابن عيينة، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أنه بلغه أن عليا أخذ زنادقة فأحرقهم، قال : فقال : أما أنا فلو كنت لم أعذّبهم بعذاب الله، ولو كنت أنا لقتلتهم، لقول النبي (ص) : «من بدّل دينه فاقتلوه».
(ابن أبي شيبة، مصنّف ابن أبي شيبة) 33815- حدثنا ابن عيينة، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه ذكر ناسا أحرقهم عليّ، فقال : لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار لقول رسول الله (ص) (لا تعذبوا بعذاب الله)، ولو كنت أنا لقتلتهم لقول رسول الله (ص) «من بدّل دينه فاقتلوه».

اختزال حكم عليّ ونبذ شخصية عليّ من الرواية يشتدّ في الرواية الثانية. فهنا لم يبلغ خبر أحراق عليّ للمرتدّين مسامع ابن عباس وإنّما نرى الأخير يتذكّر قصة عليّ في سياق حديث ما لا نعرفه. وابن عباس لا يذكر عليّاً وإنما يذكر من أحرقهم عليّ. وهؤلاء تنمسخ ملامحهم وهويتهم الدينية ليصبحوا مجرد “ناس”  أحرقهم عليّ”. إنّ غياب أيّ سياق تاريخيّ لحادثة التحريق ينشل من المحكومين إنسانيتهم ليصبحوا مجرد إحصائيات كما نقول في العصر الحديث. إن قتل إنسان (أو حرقه) لا يثير في نفس شخصيات الحادثة أو رواتها أيّ شعور بالعطف أو الاستنكار أو حتى الفضول لمعرفة حيثيات القضية. ولماذا يتعب الراوي نفسه بهذه الأسئلة فنحن في حضرة عليّ -الخليفة الرابع- وابن عباس -أشهر صغار الصحابة (مفهوم غريب بحد ذاته)- والإثنان أولاد عمّ لمحمد. نحن في حضرة المعصومين. وحكمهم هو حكم الله ولا يصحّ لنا أن نتساءل إلا عن تفاصيل مثل القتل بالسيف أو التحريق. حتى المساءلة تتمّ على لسان أحدهم ولأغراض فقهية أو سياسية بحتة، أي ليست إنسانية.

لكن هل يعقل أن ينسى ابن عيينة في رواية أنّ المحروقين كانوا زنادقة فيقول “أناساً” بينما يتذكر هويتهم الدينية في رواية أخرى؟ وهل يعقل أن يختصر مداخلة ابن عباس المختصة بالنهي إلى جملة سريعة غير واضحة المعاني (“لم أعذّبهم بعذاب الله”) وغير منسوبة إلى الرسول لتفقد بذلك أثرها التشريعي وتتحوّل إلى مجرد رأي لابن عباس؟ لا بدّ أنّ ابن أبي شيبة تصرّف بحرية كبيرة (وبغير تدبير) برواية ابن عيينة. فيجب إذن أن ننسب الاختلافات في هذه الصياغة إلى ابن أبي شيبة، وهي المرّة الأولى التي نستطيع فيها تحديد التغييرات التي أدخلها راو من القرن الثالث ويعود ذلك إلى إيراده لروايتين مختلفتين للحديث نفسه.

من المهم أن نلاحظ أنّ ابن عباس تحوّل من شخصية درامية إلى مجرّد الراوي الأول في السلسلة. ونرى هنا بوضوح الرغبة (رغبة ابن أبي شيبة) في تحويل الأثر إلى النموذج المثالي للحديث (أي سلسلة إسناد ومتن لا يتضمّن إلا لبّ الموضوع). سنرى هذه القولبة في أقصى حالاتها عندما نناقش في مقالة لاحقة النسخ المختصرة  للحديث حيث لا نجد إلا المتن وكلمات «من بدّل دينه فاقتلوه». حتى ما اعتبرناه سياقاً مبتسراً نراه يغيب أمام أعيننا كرمل في كف اليد. هذا هو “علم الحديث” في حركته التاريخية يختزل مستحاثات نصية إلى قوانين وقواعد فقهية. آخر ملاحظاتنا على صياغة ابن أبي شيبة هي أنّ ردّة فعل ابن عباس المبتدئة بـ(لو كنت أنا) حافظت على البداية نفسها منذ صياغة الشافعي مروراً بصياغة الحميدي. أمّا (لا ينبغي لأحد أن يعذّب بعذاب الله) فقد عادت في صياغة ابن أبي شيبة الثانية إلى الجملة الأكثر حدوثاً في مختلف الصياغات، أي (لا تعذّبوا بعذاب الله).

صياغة البخاري ت 256:

إن الرواية بالمعنى (بكل ما تحمله من تلاعب باللفظ والسرد والمعنى الموحى) لم تقتصر على المتقدمين من أمثال ابن عيينة أو حماد بن زيد وإنما استمرت إلى بداية القرن الثالث كما رأينا في صياغة ابن أبي شيبة. والصياغتان التاليتان (البخاري والطحاوي) أدلة إضافية على ما ذهبت إليه.
(البخاري ت 256، صحيح البخاري، 10/211) 2794 – حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن أيوب عن عكرمة أنّ عليّا رضي الله عنه حرق قوما فبلغ ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم لأنّ النبيّ (ص) قال (لا تعذّبوا بعذاب الله) ولقتلتهم كما قال النبيّ (ص) «من بدّل دينه فاقتلوه»

لا بدّ من التنويه هنا إلى أنّ الراوية قبل البخاري هو عليّ بن عبد الله المعروف بابن المديني، أحد أشهر المحدثين والمهتمين بالجرح والتعديل، وثالث أقطاب الثلاثي الديناميتي (ابن حنبل، يحيى بن معين، وابن المديني) الذين سيطروا على مسرح الحديث في بغداد بعد محنة المأمون والمعتصم. هذا الراوي “الثقة” يقول لشيخ المحدثين البخاري أنّ “عليّاً حرق قوماً”. لقد طوى النسيان الزنادقة والمرتدّين. إن أحداً لم يعرهم أي اهتمام فلم نعد في أيام المهدي وديوان الزنادقة، وكل ما يهمّ محدثي منتصف القرن الثالث هو الخلاف الفقهي بين القتل والتحريق. على الأقلّ هذا ما يهم ابن المديني أو البخاري فقد رأينا في صياغة ابن حنبل لرواية حماد بن زيد أنه ذكر الزنادقة (دون ذكر المرتدين).

في هذه الصياغة يعود عكرمة إلى سدّة الراوي الأساسي لكنّ حكم عليّ لا يزال مختصرا بشدّة إلى “عليّ حرق قوماً” (لكن لا ينسى الراوي “رضي الله عنه” وإن نسي حيثيات القضية وهوية المحروقين). ردّ فعل ابن عباس ثابت “لو كنت أنا” كما مرّ معنا. الرابط بين مداخلة النهي وشاهد النهي يتحوّل من لام السببية إلى “لأن النبي”، والرابط بين مداخلة الوجوب وشاهد الجوب يتحوّل من لام السبية إلى “كما قال النبي”. أم القفز بين “النبي” ورسول الله” فهذا ما تعوّدنا على نخله من وعينا فهما شخص واحد ويؤديان وظيفة واحدة، أليس كذلك؟

ويكون مخطط صياغة البخاري كالتالي : حكم عليّ (مختصر جداً)، مداخلة النهي (رأي، دليل)، شاهد النهي، مداخلة الوجوب (رأي، دليل)، شاهد الوجوب. يبدو أن الأثر قد بدأ يستقرّ على صياغة واحدة (مسألة، رأي، شاهد) ومغزى واحد (لا يجوز التحريق). راح التقلقل بين مرتدّين وزنادقة، راحت حيثيات القضية، وأصبح الأثر مقولباً قولبة فقهية باردة : سؤال – جواب – شاهد.

صياغة الطحاوي ت 321:

صياغة الطحاوي نسخة أخرى من الأثر مقولب قولبة فقهية، مع ردّ لعليٍّ مختلف عما رأيناه في المقالة السابقة.
(الطحاوي ت 321، مشكل الآثار، 6/357) 2404 – حدثنا عبد الغني بن أبي عقيل قال : حدثنا سفيان بن عيينة، عن أيوب، عن عكرمة قال : ذكر عند ابن عباس قوم أحرقهم عليّ، فقال : لو كنت لقتلتهم لقول رسول الله (ص) : «من بدّل دينه فاقتلوه»، ولم أكن لأحرقهم بالنار لقول رسول الله (ص) : «لا يعذّب بعذاب الله أحد» فبلغ ذلك عليّا رضي الله عنه، فكأنه لم يشتهه

الراوي عكرمة والمشهد مشهد مجلس يتجاذب فيه المتحدثون أطراف الحديث، فذكر أحدهم (بصيغة المبني للمجهول “ذُكِر عند ابن عباس”. لم يعد للخبر إحساس العجالة أو الخطورة كما اعتدنا في السابق حين “بلغ ابن عباس أن علياً”. ويفقد رأي ابن عباس جزءأً كبيراً من وزنه فهو الآن مجرد دردشة في مجلس. اللهم إلا إذا فهمنا المجلس على أنه مجلس حديث كما عوّدنا المحدثون فهم لا يلتقون إلا ليتمّموا المهمة التي أوكلهم بها الله ورسوله وأجيال متعاقبة من حملة الرسالة السماوية. فإذا كانت هذه المجالس مجال مذاكرة أو تعليم أليس حرياً بالمستمعين (مع ألواحهم وأوراقهم) أن يكتبوا القصة كما جرت دون تصرّف لا نزال نتتبّعه من منتصف القرن الثاني إلى منتصف الثالث والآن إلى منتصف أوائل الرابع.

هذه الصياغة تتابع الصياغات السابقة لرواية سفيان في إهمالها لهوية المحكومين وتركيزها على رد فعل ابن عباس على مصيرهم الجهنمي. ردّ فعل ابن عباس لا يزال كما هو “لوكنت. لام السببية “لقول رسول الله” تعود إلى مكانها المعهود. أما شاهد النهي المعدل فيعاود ظهوره للمرة الثالثة لكن بصياغة جديدة (“لا يعذّب بعذاب الله أحد) بدلاً عن (” لاينبغي لأحد …”) أو (“لا تعذّبوا …”). وللمرة الثانية لا نعرف إذا كان المضارع (يعذّب) مبنياً للمعلوم أو مبنياً للمجهول). المبني للمعلوم ينهى الناس عن التشبّه بالله باستخدام تعذيبه، أما المبني للمجهول فينهى عن أن يخضع إنسان لعذاب مشابه لعذاب الله وهو لا يزال في الحياة الدنيا.

ويزيد سفيان (أو عبد الغني، أو الطحاوي) هنا رداً آخر لعليّ غير ما شاهدناه في صياغة الدارمي لرواية حماد بن زيد لفظاً وإن ماثله بالمعنى (أليس هذا ما تعوّدنا عليه). ليس الراوي بحاجة إلى الجواب الملغّز الذي رأيناه في صياغة الدارمي حيث يمتزج حنق عليّ (“ويح ابن أمّ الفضل”)  بإقراره بحقيقة خطئه (“الهنات”) بمديح جافّ لابن عباس (غواص على الهنات). لا أعرف لماذا حذف الراوي (أحد الرواة) هذا الجواب الذكيّ بكلمات مختصرة توضّح مشاعر عليّ دون كيل للمديح لابن عباس. عليّ هنا فهم قصد ابن عباس و”لم يشتهه”، وكأنّ الراوي كان على معرفة بالنسخة الأخرى للجواب لكن اختصره عمداً بما خيّل إليه أنّه إحساس عليّ ومهّد له بـ”فكأنه” التي تدلّ على أنّ الراوي شكّ في تحليله للموقف لكنّه مع ذلك آثر النسخة المختصرة لجواب عليّ.

تبدّل صياغة الطحاوي مواضع مداخلتي النهي والوجوب قيكون مخططها كالتالي : حكم علي (ذكر عابر)، مداخلة الوجوب (رأي، دليل)، شاهد الوجوب مداخلة النهي (رأي، دليل)، شاهد النهي، جواب عليّ (مختصر).

صياغة البيهقي ت 458:

صياغة البيهقي لرواية سفيان بن عيينة تأخذ زيادة الدهني (التي رأيناها في صياغة الحميدي) وتجعلها أساس القصة.
(البيهقي ت 458، السنن الكبرى 9/71) 18523- أخبرنا أبو عمرو : محمد بن عبد الله البسطامى أخبرنا أبو بكر الإسماعيلى حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوى حدثنا محمد بن عباد حدثنا سفيان قال : رأيت عمرو بن دينار وأيوب وعمار الدهنى اجتمعوا فتذاكروا الذين حرّقهم علىّ رضى الله عنه فحدّث أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه بلغه قال : لو كنت أنا ما حرقتهم لقول رسول الله -(ص)- :«لا تعذّبوا بعذاب الله». ولقتلتهم لقول رسول الله -(ص)- :«من بدّل دينه فاقتلوه». فقال عمار : لم يحرقهم ولكن حفر لهم حفائر وخرق بعضها إلى بعض ثم دخن عليهم حتى ماتوا فقال عمرو قال الشاعر لترم بى المنايا حيث شاءت إذا لم ترم بى فى الحفرتين إذا ما أجّجوا حطبا ونارا هناك الموت نقدا غير دين رواه البخارى فى الصحيح عن علىّ بن عبد الله عن سفيان دون قول عمار وعمرو.

طبعاً الراوي ليس الحميدي وإلا لكانت الصياغة مطابقة لصياغة الحميدي المذكورة أعلاه، لكن الراوي عن سفيان هو محمد بن عباد (مكي آخر توفّي 234 هـ). تبدأ صياغة البيهقي بمشهد مجلس فيه عمرو بن دينار وأيوب والدهني يتذاكرون قصة الذين حرقهم علي. لا يحدّد الراوي هنا صاحب المجلس وإن كانت صياغة الحميدي قد حددته بعمرو بن دينار. الحميدي لم يخبرنا أنّ المجتمعين تذاكروا القصة وإنما أخبرنا أن أيوب حدّثهم بها فأجابه الدهني. الحضور “يتذاكرون الذين أحرقهم علي” دون تحديد لتهمتهم. الهدف كما رأينا انتقل من مناقشة كيفية عقاب المرتدين أو الزنادقة إلى المقارنة من وجهة نظر فقهية بين القتل والتحريق. أما تحويل زيادة الدهني إلى نقطة بداية فهدفه أن نسرع الخطى خلال حديث أيوب المعروف إلى دفاع عمار عن عليّ. عليّ لم يخطئ وهذا هو مغزى هذه الصياغة. الجميع يقرّ في زمان البيهقي أنّ القتل هو العقاب الأمثل، لسنا بحاجة إلى إعادة جدال القرن الثاني وبعض الثالث. نحن الآن بصدد نفي تهمة الخطأ عن عليّ. الحوار ليس بين عليّ وابن عباس، الحوار الآن هو بين أيوب وعمار. أيوب يذكر الحديث المعروف بصياغته الجديدة المقولبة فقهياً، ليردّ عليه عمار مدافعاً عن عليّ، وليُدلي عمرو بدلوه المتمثل ببيتي الشعر الذين ينتصبان كدليل تاريخي على صحة زعم عمار (وأي دليل). إن استخدام الشعر في التراث الإخباري العربي قد حيّر المستشرقين: أهو جزء من ممارسة الرواية هدفه التسلية؟ أهو شاهد تاريخي أو لغوي؟ أم هو نقل للمستمع إلى فضاء سردي آخر له آثاره الخاصة التي لا تزال غامضة؟ (لا يحضرني هنا أيّ مرجع أحيل إليه القارئ، فعذراً).

زيادة الدهني هنا ما هي إلا حديث بالمعنى أيضاً حيث تغيب كلمة “أسراب” الغريبة لتحلّ محلّها جملة “حفائر وخرق بعضها إلى بعض”. هذه الجملة هي شرح صحيح لكلمة “أسراب” التي قد لا يألفها المستمع. أما الشاهد الشعري فيستبدل “قربوا” بكلمة “أججوا”. مرة أخرى نشاهد حرية التصرف الكبيرة للرواة في تركيب القصة مع المحافظة على اللبّ النصي (أي الشاهد). لكن التركيب السردي يلعب دوراً هاماً في الجدال الفقهي والأيديولوجي إذ هو يوحي إلينا بموقف الراوي (أحد الرواة) من حكم عليّ ومداخلة ابن عباس. ليس الغرض من الأثر سوق المقولتين (“من بدل دينه” و”لا تعذّبوا”) فهما مقولتان معروفتان للمشاركين في الجدل، وإنما الغرض هو زج المقولتين (الخارجتين عن أي سياق) في سياق مختلق بغرض المحاججة بخصوص موقف فقهي أو أيديولوجي.

مع ملاحظة أن الرواية تعود إلى (“لا تعذّبوا عذاب الله”) المعتادة (والمخالفة لما ورد في صياغة الحميدي)، نستطيع أن نرسم المخطط التالي لصياغة البيهقي : مجلس عمار وعمر وأيوب، حديث أيوب المقولب فقهياً (حكم عليّ مختصر، مداخلة …)، زيادة الدهني. ويوضح هذا المخطط تغير الحبكة الروائية  الدال على تغير اهتمام الرواة.

إعادة متأخرة لصياغة الشافعي:

تجدر الإشارة إلى أنّ مصنّفين متأخّرين نقلا عن الشافعي الأثر حرفياً ودون أي تغيير، وهما البيهقي (ت 458) والبغوي (ت 516هـ).
(البيهقي ت 458، السنن الصغير، 7/77، السنن الكبرى 8/195) 2544 – وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وآخرون نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا الربيع بن سليمان، نا الشافعي، نا ابن عيينة، عن أيوب بن أبي تميمة، عن عكرمة قال لما بلغ بن عباس أنّ عليّا رضي الله تعالى عنه حرق المرتدين أو الزنادقة قال لو كنت أنا لم أحرقهم ولقتلتهم لقول رسول الله (ص) (من بدّل دينه فاقتلوه) ولم أحرقهم لقول رسول الله (ص) (لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله)
(البغوي ت 516، شرح السنة، باب قتل المرثد، 5/240)  أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، ومحمد بن أحمد العارف، قالا : أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، حدثنا أبو العباس الأصم ح
ونا عبد الوهاب بن محمد الكسائي، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا ابن عيينة، عن أيوب بن أبي تميمة، عن عكرمة، قال (الحديث)

والمصنّفان كلاهما نقلا الأثر عن طريق أبي العباس الأصم عن الربيع بن سليمان. هذا المثال يُظهر أن النقل الحرفي الأمين كان ممكناً لكنه لم يكن بالضرورة محتماً ومؤكداً، خاصة إذا كان النقل عن كتاب أصبح من أهمّ كتب التعليم ولا يمكن النقل عنه مع تغيير. وقد شاهدت الظاهرة نفسها في تتبّعي لتاريخ نقل كتاب الطبقات الكبير لمحمد بن سعد. فقد لاحظت أنّ حرفية النقل تزداد مع تقدم الزمن وتقل معها ضرورة السماع والتزام الطلاب به، حتى نصل في القرنين السابع والثامن إلى مرحلة “الكتاب المدرسي”؛ وأعني به أن النقل والنسخ أصبحا موثوقين إلى درجة أن الطالب يستطيع شراء الكتاب من السوق دون خوف من اضطراب محتواه. القرن الثاني الهجري (أي زمن حماد بن زيد وسفيان بن عيينة وغيرهما من أوائل المدونين) كان مرحلة أولى في التدوين والنقل لم يتقيد فيها المحدثون والإخباريون بمعايير حازمة للنقل، فكانوا غالباً ينقلون بالمعنى. ونلاحظ أيضاً أن بعض كبار الرواة، كسفيان بن عيينة،  في هذه المرحلة قد اتهم بالتدليس (2) دون أن يكون للتهمة كبير أثر في الشك بثقتهم، وذلك على عكس رواة أواخر الثاني وأوائل الثالث الذين كانت تهمة التدليس نهاية لسمعتهم كمحدثين. وسنعود إلى هذه الملاحظة حين تحليل الأسانيد. أما المراحل السابقة، أي القرن الأول وبدايات الثاني، فهي مراحل غامضة لا يمكن سبرها لاقتصار شجرة النقل خلالها غالباً على سلسلة واحدة، كسلسلة (الرسول-ابن عباس-عكرمة-أيوب) التي بين أيدينا. ولا تتفرع هذه الشجرة كما يجدر بها أن تفعل (في حالة نقل للمعرفة من معلم إلى طلاب) إلا في القرن الثاني عند من اتفقنا على تسميته بصلة الوصل (الصلة المشتركة)، وهو أيوب بن أبي تميمة السختياني في الحالة المعتبرة هنا.

مقارنة وخلاصة:

جمعت نسخ رواية أيوب في مجموعات عنونتها باسم الراوي الذي يعقب أيوب. ورأينا إلى الآن رواية حمّاد بن زيد ورواية سفيان بن عيينة. وقد اتخذت الإضطرابات النصية ضمن كل مجموعة من أجل الوصول إلى استراتيجية لتمييز هذه المجموعة عن غيرها. لكن الروايتين تملكان العديد من النقاط المشتركة مما يجعل نسبتها إلى أيوب ممكنة. أما الإختلافات ضمن كل مجموعة فإنها تجعل نسبتها إلى الراوي اللاحق لأيوب ممكنة أيضاً. وقد بدا لي أن رواية حماد بن زيد تتميز بحكم مفصّل بعض الشيء لعليّ؛ وغياب للرابط القواعدي بين مداخلة النهي وشاهدها ومحاولة رواة متعددين حلّ هذه المشكلة؛ ثم هناك الشك بهوية الموقوفين الدينية؛ وتسليط الأضواء على مداخلة ابن عباس (جدل القتل أو التحريق). أما ما يميز رواية سفيان فهو اختصار حكم عليّ إلى حدّ غياب عليّ وتحوّل ابن عباس إلى راو مع إهمال هوية المتهمين أو التأكيد على زندقتهم؛ حل مشكلة ربط المداخلة بشاهدها؛اضطراب في صياغة شاهد النهي؛ زيادة الدهني وقولبة الأثر في قالب حديث نموذجي هدفه الجدل الفقهي بين عقوبة التحريق وعقوبة القتل. في الحلقة القادمة سنناقش رواية إسماعيل بن علية لنسخة أيوب.

 المراجع:
(1)  انظر ترجمة سفيان في سير أعلام النبلاء (8/455)، المكتبة الشاملة.
(2) المصدر نفسه.

تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

You may also like...

shares