القاموس الجديد

ظهر المقال على موقع الأوان في 11 ديسمبر، 2010

توطئة – لغة الكتابة ولغة الكلام:

تعرضت في مقالتي المعنونة (ذاكرة الجسد والقومية العربية) إلى قضية العربية المكتوبة والعربيات المحكية وصلاتهما بالقومية العربية. حاولت حينها فصل اللغة عن الأيديولوجية القومية الضيقة من أجل فتح المجال أمام أفكار بنّاءة في مجال اللغة بعيداً عن ضغوط الأيديولوجيا والدوغما. كمعلّم وباحث فإنّي أؤمن أنّ الفكر أعمق وأبعد أثراً من السياسة والأيديولوجيا لكن لا بدّ أن نحرّر الفكر منهما أولاً حتى ينطلق دون عائق. كانت المقالة المشار إليها مقدمة لهذه المقالة التي بين أيديكم الآن والتي لا همّ لها إلا تعزيز قدرات اللغة العربية على التعبير في كافة مجالات الحياة النظرية والعملية. بدل أن نضع لغة الكتابة ولغة الكلام على طرفي نقيض في حلبة صراع الديكة، أودّ اقتراح الجمع بينهما وتقريب المسافة الفاصلة. مع معرفتي أن اللغتين ستبقيان متمايزتين كما هي حالهما في كل الثقافات كما أوضحت في المقالة السابقة.غرض التقريب بين اللغتين هو أن تستفيد كل منهما من قدرات الأخرى وأن تسدّ كل منهما عجز الأخرى؛ لأن التعليم العمومي ووسائل الإعلام (وخاصة الإنترنيت والإيميل والفضائيات) يخلطان كثيراً بين لغة الكلام ولغة الكتابة دون أن يسمحا بولادة تلك اللغة الوسط التي أعتقد أنها ستكون لها آثار تحررية. لقد كانت لغة الكتابة مقصورة على المسجد ونشرة الأخبار وبيروقراطية الدولة، أما لغة الكلام فكانت في البيت والشارع والمدرسة والفنّ. لقد كان التواصل بين الناس مقتصراً على العلاقات الأسرية أو علاقات تبادل السلع والخدمات البسيطة وهذا كانت تؤديه المحكيات بجودة. أما اللغة المكتوبة فقد كانت لغة تواصل محدودة بين الفرد والنص الديني (ومن خلاله الإله) وبين الفرد والدولة المتعالية البعيدة وبين الفرد والفكر في برجه العاجي. أما الآن ومع ثقافة الإستهلاك والدعاية، وانتشار العلوم والتكنولوجيا على المستوى الشعبي، والحاجة إلى التعليم أكثر من أي وقت مضى، وتكثّف الإتصال المكتوب والمحكي بين الناس عبر الوسائل الجديدة، واتساع نطاق مناقشة النص الديني والشأن السياسي فقد تعرضت اللغتان المكتوبة والمحكية لضغوط شديدة. كلتاهما الآن بحاجة لمفردات جديدة كل يوم لا بل كل ساعة، ومجال اللغة الوسط بين المحكية الحميمية والمكتوبة المتعلمة أو الرسمية اتسع أضعافاً مضاعفة. فلا بد إذن من إنهاء مخاضها الطويل وإخراجها إلى النور دون إحساس بالذنب أساسه ربط الهوية القومية بلغة الكتابة فقط.

حال اللغة الوسط اليوم:

خذ على سبيل المثال جرائد الإعلانات المجانية. لقد قرأت في إحداها منذ أسبوعين إعلاناً لشركة صغيرة تنظف البيوت والمحلات والمكاتب وتنقل الأثاث (وهذه نقلة نوعية بالنسبة لمهنة كانت تعتبر عنوان الفقر والذل والخضوع الإجتماعي). يقول الإعلان:

(تعزيل- تنظيف فرش – نقل عفش وأساس منزلي – تنظيف غرفة السيارة – مكافحة صراصير وقوارض- تنسيق حدائق – رعاية مسنين).

كلمة “تعزيل” بالشامية تعني التنظيف (وقد تكون من معنى الفصل) لكنها مخصوصة بتنظيف البيوت وليس الملابس أو الجسد؛ فيمكن أن تقول “عزّلتُ المكتب” أو “عزّلتُ البئر أو الساقية” ولا يمكن أن تقول “عزّلتُ الأواني”. لكنها كلمة لا تظهر في لسان العرب فتُعتبر إذاً كلمة عامية غير فصيحة، لكنها تفي بالغرض وتسدّ الحاجة وهي منتشرة مستعملة فيجب إذاً أن تدخل القاموس (وإن لم تكن عامّة عند كل المتكلمين بالعربية). “الفرش” كلمة قديمة مستقاة من معنى البَسط والمدّ لأن الأثاث العربي القديم لم يكن خشبياً بل كان مجرد سجادات وطنافس تُفرش. وقد امتدت حديثاً لتشمل كل أثاث منزلي بما فيه الأثاث الخشبي أو المعدني. فيجب إذاً أن يشرح القاموس المعنى الجديد وأن يوضح أوجه الشبه والإختلاف بين الفرش والأثاث مما يفسح مجالات أخرى للتخصيص أو التعميم قد تكون مفيدة في حالة سلعة أثاثية جديدة أو في حالة التمييز بين أنماط من الأثاث. وهنا أستخدم الأثاث كلمة ًجامعة لأن معناها المعجمي هو المال والمتاع بكل أنواعه (من لباس أو فرش أو دثار). أما كلمة “عفش” فتشترك بها الشامية والمصرية وربما محكيات أخرى وهي تعني الفرش والملابس أيضاً وكل حاجيات الإنسان بما فيها فرشاة أسنانه. لكنها أيضاً غير موجودة في القاموس رغم تضمنها معاني الفرش والأثاث ومتفرقات الأدوات اليومية.

والمضحك في الأمر أن كلمة “أساس” في الإعلان هي نفسها كلمة “أثاث” لكن مكتوبة كما تلفظ في المحكية المدنية الشامية. دخلت “أثاث” المحكية من خلال التعليم، ومن الواضح في الإعلان أن كاتبه لا يعرف الفرق بين الفرش والعفش والأثاث فذكرها كلها. لما كانت المحكية الشامية المدنية (أي غير القروية أو البدوية) لا تلفظ حرف الثاء فقد حولته إلى أقرب حرف مشابه تلفظه وهو السين هنا. تاريخياً حرف الثاء يتحول إلى تاء في المحكيات المدنية الشامية لكن القلق من تحقير الكلمة الفصحى الموقرة “أثاث” بلفظ عامي شديد الشعبية أدّى إلى حال وسط ومضحك بين الفصحى والعامية، أي “أساس”. فلماذا لا يكون لدينا قاموس جديد ليعين كتّاب الإعلانات هذه على استخدام كل الكلمات المتوفرة وبصورة دقيقة ومختصرة، أي مثلاً (تنظيف ونقل عفش منزلي). أما غرفة السيارة فقد احترت في أمرها وسألت الأهل والأصحاب عنها وقررنا أنها “الكراج”. طبعاً الكاف هنا تمثيل قاصر لحرف g وهو حرف موجود في اللغات السامية (في الحقيقة العربية هي الوحيدة التي تلفظ الـg جيماً، إلا في مصر واليمن) وتُقلب القاف إلى g في بعض اللهجات. وقد دخل هذا الحرف أيضاً عن طريق كلمات أجنبية عديدة وأرى أن على العربية أن تضيف إلى أبجديتها أحرفاً تقابل الـ g v p ch والأحرف الصوتية الطويلة o e ورموز للأحرف الصوتية القصيرة المقابلة والتي هي ضرورية لكتابة الكلمات الأجنبية ولفظها لفظاً صحيحاً. ونعرف أن الفارسية تحوي بعض هذه الأحرف وهي گ(g) ݒ(p) ڨ(v) ݘ(ch). أليست كلمة گراج معبرة أكثر من غرفة السيارة.

المكافحة في القاموس هي الملاقاة وجهاً لوجه، فمتى يا ترى حملت معنى النضال (الكفاح المسلح مثلاً) والملاحقة والقضاء على المؤذيات (مثل مكافحة الجريمة أو مكافحة الحشرات)؟ هذا ما نسميه التأصيل في اللغة وهو مفيد في تتبع تطورمفرداتها وكيفية استنباط المعاني الجديدة أو الكلمات الجديدة. وقد يفيد أحياناً في الابحاث التاريخية. إن استعمال كلمة “قوارض” للدلالة على الفئران والجرذان وكافة أفراد جنسها حديث ولا أعتقد أنه أقدم من القرن التاسع عشر. وهذا الإستعمال يدلّ على أن المستخدم قد حصل على قسط من التعليم ليعرف أن الحيوانات تصنف في أجناس وأن الفئران والجرذان المنزلية هي من جنس القوارض. لكن الكلمة قد انتقلت (بسبب التعليم والحاجة) إلى المحكية وأصبحت جزءاً منها. ولهذا فإن الفصل بين المحكية والمكتوبة قرار غير واضح ولا بدّ أن تدعمه الأيديولوجيا حتى يصبح حقيقة. إذن والأمر على ما نرى من إمكان التغيير والإبعاد والتقريب، فلم لا نقرّب الإثنتين ونجد لغة وسطى تصلح لعصرنا الحديث وما يميزه من كثافة التواصل وضخامة المعلومات المتبادلة وتعقيدها. نأتي إلى “تنسيق” وهو لغة التتابع وفق نظام واحد، وهي تستخدم اليوم للتعبير عن النظام والترتيب فنقول (نسّق بين اللجان المختلفة، ونسّق الأزهار في المزهرية، ونسق إجتماعي). أما “تنسيق الحدائق” فهي ترجمة لكلمة أحدث أصبحت الآن مهنة وحتى اختصاصاً جامعياً ويقال لها بالإنكليزية Landscaping وبالفرنسية aménagement paysager. وفي الحقيقة هذه هي المرة الأولى التي تعترضني فيها هذه العبارة.كان في مدينتنا دار واحدة يترك فيها الفقراء أقاربهم عندما يكبرون ويفقدون حركتهم ونشاطهم وكانت تسمى “مأوى العجزة”. وهذه العبارة تثير القشعريرة في نفسي لأنها تعبر وبجدارة عن حالة العجز عندما يتلاقى الفقر وكبر السن. ولله الحمد فقد ذهبت هذه العبارة إلى غير رجعة وتكاثرت الدور (وليست المآوي) التي ترعى المسنين (وليس العجزة) ويعتمد عليها الأغنياء والفقراء على حد سواء وتسمى “دور المسنين”. لا بل أصبح بإمكان البعض كما يدل الإعلان البقاء في منازلهم والاعتماد على خدمات مختصين لرعايتهم عندما يطعن بهم السن (لا نزال ننظر للسن نظرة سلبية فهو يطعن ويرد إلى أرذل العمر). ما يهمنا هنا أن العبارتين الأخيرتين ليستا في أي قاموس وهما تدلان على أن الناس تدفع باللغة لمواكبة العصر دون انتظار الخبراء والمعاجم ليمنوا عليهم بالكلمات المعينة. والعبارتان كلتاهما خرجتا من رحم “الفصحى” ودخلتا عالم العامية والإستخدام اليومي، لا بل يلفظهما الناس على الطريقة الفصيحة دلالة على منشئهما (فمثلاً في اللهجة الشامية المدنية لن تتحول القاف في تنسيق إلى همزة).

عرض مشروع القاموس الجدي

عذراً على هذا المثال الطويل لكني أردت أن آتي بمثال من الحياة اليومية بدل أن أدخل في جدال نظري أو أيديولوجي حول ضرورة إنشاء قاموس جديد للغة العربية يشمل العربية المكتوبة (القديمة والحديثة) والعربيات المحكية بغرض الوصول إلى تلك اللغة الوسط التي وصفتها أعلاه والتي يمكن استخدامها في الكتابة الرسمية والرسائل التليفونية والمخاطبة المتعلمة أو التي تريد الارتفاع إلى مستويات أعلى من التعبير عن الذات والوسط المحيط. وقد عنّت لي الفكرة منذ سنوات خاصة وأن الأبحاث التاريخية كثيراً ما تتحول إلى أبحاث في التاريخ اللغة، فقررت البدء بتجميع الأفكار والمهارات التقنية لإظهار هذا المشروع إلى الحياة. لقد أردت استخدام تقنيات الكمبيوتر الحديثة لبناء بنك من المعلومات يحتوي الكلمات العربية “الفصحى والعامية”. أردته أن يكون في متناول الجميع، أي على الشبكة، وأن يتاح للجميع إمكانية المشاركة والإسهام في بنائه. لم يكن الأمر سهلاً لأني أعمل وحيداً ولا أملك من المال ما يمكنني من استخدام أخصائيين في بناء مواقع الإنترنيت وبنوك المعلومات (خاصة التي تستخدم العربية) وبرمجة الواجهة التي ينطلق منها المستخدم لإدخال كلمة أو البحث عن كلمة. فبدأت مسيرة البحث والتعلّم منذ عدة سنوات ثم بدأت مسيرة البناء منذ سنة تقريباً. وقد حان الوقت لأن أعرض المشروع على الجميع وأدعوهم للمشاركة بقدر ما يستطيعون. لم يكتمل بناء الإطار البرمجي، ولن يكتمل لأنه عملية متواصلة. أما بنك المعلومات ومحرك البحث وواجهة المستخدم فهي في حالة تسمح ببدء إدخال المعلومات. أسميت المشروع “مشروع قاموس اللغة العربية المؤصّل”. وعنوان الموقع هو: www.qamusjadid.org (هذا العنوان قديم، العنوان الجديد موجود هنا)

التفاصيل المملة موجودة في الموقع، لكن اسمحوا لي، بعد أن دعوتكم للزيارة والمشاركة، أن أقدّم عرضاً موجزاً للمشروع. يتألف المشروع من ثلاثة أقسام رئيسية. القسم الأول هو قاموس للعربية (أي القاموس الجديد) يمكن للجميع المشاركة فيه بعد بعض التأهيل والإلتزام. القسم الثاني هو بنك لاستقبال وتجميع كلمات وتعابير من المحكيات العربية من أجل دمجها بالقاموس. أمّا القسم الثالث فهو حاضنة لأبحاث لغوية ومعجمية تساعد في بناء القاموس وفهم فقه اللغة العربية واستنباط الكلمات الجديدة وبناء اللغة الوسط المشار إليها أعلاه. القاموس الجديد يستخدم بنية الويكيميديا (ولذلك أسمي البنية الويكي قاموس). الويكي قاموس هو عبارة عن بنك معلومات وواجهة لتخاطب المستخدم مع هذا البنك. هذه البنية طرحها مصمموها كبرنامج مجاني يمكن لأي إنسان أن يملكه وأن يملأه بالمعلومات التي تهمه، وأصبح من أكثر البنيات استخداماً لحفظ واستجلاب والبحث ضمن معلومات لكل جزء منها حجم وشكل المقالة. وقد كانت الويكيبيديا أول وأكبر استخدام لهذه البنية. وقد حقق هذا المشروع الرائد نجاحاً هائلاً في جمع ونشر كل صنوف المعرفة لأنه يقوم على مبدأ ديمقراطية المعرفة التي ينتجها الجميع ويستفيد منها الجميع. فما كان سابقاً حكراً على المختصين أصبح اليوم متاحاً لأي قارئ أو قارئة مع وصلة إلى الشبكة. وما كان سابقاً مشروعاً موسوعياً يحتاج إلى سنوات وأموال وأخصائيين متفرغين أصبح اليوم عملاً تراكمياً يسهم فيه مئات آلاف الناس. فلذلك لا داعي اليوم للاتكال على الدول أو المنظمات لتأمين ما نحتاجه من معرفة وأدوات، إذ يمكننا جماعياً بناء هذه المعرفة وهذه الأدوات تراكمياً، من كلٍ بضعة أسطر وبضعة دقائق. أدعو الراغبين في المشاركة إلى قراءة صفحة الإستقبال والإطلاع على لوحة الخيارات على صفحة الويكي قاموس من أجل الخطوات الواجب اتباعها.

تدوين العربية بين الماضي والحاضر:

طبعاً عندما ندوّن لغة فإننا ندونها سماعاً عن أهلها. فمن هم أهل “عربيتنا الجديدة”؟ وهل يختلفون عن أهل “العربية القديمة”؟ وعندما أدعو الناس إلى بناء “قاموس جديد” نتسائل عن معنى “الجدة” في هذا “الجديد” وكيف تختلف عمّا هو “قديم”. الأساس الذي بُني عليه التدوين الأول للعربية كان التمييز بين العربية “الفصيحة” ونسختها “الركيكة”، وكذلك التمييز بين “الأصيل” و”الدخيل”. لذلك نجد كتب القواعد ومعاجم العربية القديمة مليئة بـ”قالت العرب” و”سمعت أعرابياً” و”هذه لغة في بني قيس” و”تلك لغة هذيل” و”جاء في الحديث” و”قال تعالى في كتابه” و”تقول العوام” و”هذا أفصح”. فنستنتج من هذا أن مصدر اللغة “الفصيحة” كان قبائل الأعراب والحديث المنسوب للنبي وآيات القرآن. لقد ابتعد النحويون قدر الإمكان عن الحضر من العرب وعن القبائل التي نزلت قريباً من المدن اعتقاداً منهم أن العزلة مصدر للأصالة والفصاحة. لكنهم منحوا القرآن والحديث استثناءً باعتبارهما كلام الربّ ورسوله العربي. فإذا كان الله قد أرسل عربياً وأرسل معه رسالته بلغة العرب فلا بد من أن يكون القرآن والحديث مصاغين بلغة عربية فصيحة وأصيلة. إذن اعتبر القدماء أن للفصاحة والأصالة مصدرين هما عزلة الأعراب واصطفاء الله للرسول وأصحابه من قريش. لكن محمد لم يكن أعرابياً ولم يكن معزولاً عن العالم المحيط به، فهل هناك تتناقض الفصاحة والأصالة عند المدونين الأوائل؟ بالنسبة لي هناك تناقض صارخ، وقد حاول التراثيون تلافيه فمنهم من قال إنّ محمداً تعلم العربية في بادية بني سعد ومنهم من قال إنّ قريشاً كانت أفصح العرب ومنهم من حاول التوفيق بين المعروف عن القرآن والحديث وبين المعروف عن الأعراب. لكني أعتقد أيضاً أن هذا الجدال عقيم لأنه يفرض أن هناك لغة عربية أصلية خلقها الله في زمن معين وأحكم خلقها ليضع فيها رسالته لاحقاً. ولا بد أن القارئ قد سمع بنظرية بلبلة الألسن عن العبرية في بابل ومن ثم كلام إسماعيل أبي العرب باللسان العربي (هكذا فجأة) على عكس أبيه الذي تكلم باللسان الآرامي. هذه نظرية ممكنة إذا آمنا بفرضية خلق العربية، فالذي خلقها قادر أن يجعل لسان إسماعيل ينطق بها. اللغة طيف يمتد في المكان وفي الزمان. الملاحظ واقعياً أن اللغات كألوان قوس قزح، نعرف أنها متمايزة لكننا لا نعرف أين تنتهي الواحدة وتبدأ الأخرى. إذ أن أية لغة في العالم هي مجموعة من اللهجات، والإقرار بفصاحة إحداها و”ركاكة” الأخريات ما هو إلا خيار، لا بل خيار أيديولوجي في الغالب. أما الامتداد الزماني فهو امتداد تغير وتطور وتفاعل، لذلك لا معنى للحديث عن أصالة، قديمة أو حديثة. فما هي العربية؟ وكيف ندونها؟ وإلى أين تسير؟

تعتمد اللغات السامية كلها مبدأ الجذر (الثلاثي غالباً) والتفعيلة. فالإختلافات الصرفية بين هذه اللغات لاتعدو كونها اختلافات في الجذور أو في بعض حروف الجذر الواحد أو اختلافات في التفعيلات التي تؤدي المعاني المختلفة (وهناك طبعاً الإستعارات من لغات مجاورة). أما القواعد فهي متشابهة في تصريف الأفعال واستخدام الضمائر المتصلة والمنفصلة ومختلفة في ترتيب عناصر الجملة. المحكيات العربية تشترك في هذه الخصائص مع كل اللغات السامية لكنها تشبه العربية أكثر في جذورها وتفعيلاتها وقواعدها. فهي إذن لغات من أسرة العربية أو هي لهجات من اللغة العربية. ولما كانت العربية القديمة نفسها نتيجة لاجتماع عدد من اللهجات (نتيجة الاحتكاك والتدوين) فيمكننا أن ننظر إلى العربية المكتوبة والعربيات المحكية اليوم على أنها سليلة اللهجات التي كوّنت اللغة العربية القديمة. هذا بالإضافة إلى تأثر المحكيات باللغات واللهجات المحلية التي سبقتها، سواء كانت سامية أو مصرية أو أمازيغية أو فارسية. لاحقاً، رفدت لغات أخرى العربية المكتوبة والمحكية مثل التركية والإيطالية والفرنسية والإنكليزية. وأعطي هنا مثالاً استقيته من أحد طلابي السعوديين. قال لي هذا الطالب مرة (سأدَردِب المادة)، ولما طلبت إيضاحاً لعدم معرفتي هذا الفعل (لكني عرفت أنه فعل مضارع من حرف المضارع وقبوله حرف الإستقبال) قال أنه فعل مشتق من الفعل الإنكليزي (to drop) ويعني إسقاط المادة من جدول الطالب. فهل يا ترى نعتبر هذا الفعل عربياً أم إنكليزياً أم وليداً ممسوخاً من احتكاك اللغتين؟ بالنسبة لمن يؤمن بالأصالة والفصاحة، (دردب) فعل إنكليزي دخيل على العربية، أو فعل مولّد (ونستخدم هنا المفردات العرقية العنصرية التي اعتاد الفاتحون العرب استخدامها)، يجب الإبتعاد عنه كأنه الطاعون. إنه إبن غير شرعي لعلاقة غير شرعية لا يمكن قبوله في لغة “الخاصة” فيبقى في عداد “العامة” الذين اعتاد الفاتحون العرب على تسميتهم بالأخلاط والمولّدين. ولهذا قلت إنّ الفرق بين اللهجات قرار أيديولوجي أحياناً. أما بالنسبة لمن يرفض خطاب الفصاحة والأصالة فإن الفعل عربي لأن مستخدميه يقولون بهوية عربية يحملونها ولأن صيغته تشبه صيغة أفعال أخرى يستخدمونها (هذا الفعل رباعي منحوت على صيغة فعفل كما في هلهل وبلبل). في النهاية تم إقصاء أو إدخال الفعل بقرار وليس بسمة “طبيعية” يحملها (الإيمان بخلق الإله للغة يقودنا إلى الإعتقاد بوجود مادي طبيعي لها خارج العقل الإنساني) أو لاعتبارات لغوية بحتة.

إذن، عندما يصل الزائر لموقع مشروع القاموس الجديد إلى صفحة إدخال كلمة جديدة (ضمن مشروع تدوين المحكيات) فلا داعي لأن يتساءل ما إذا كانت الكلمة التي يفكر بإرسالها عربية أصيلة أو فصيحة، عليه فقط أن يكتبها ويضغط زرّ الإرسال. لأنه في اعتقادنا أن أية كلمة يستخدمها إنسان يعتبر نفسه عربياً في تواصل مع أناس يعتبرون أنفسهم عرباً (لا تهم تفاصيل وأسس التعريف) هي كلمة عربية. وعندما نتأكد من لفظها ونقرّ كتابتها فإنها ستدخل الويكي قاموس، وهنا سيقوم آخرون بدراسة أصل الكلمة (إن كانت مستعارة مثلاً) وتاريخها، وتغير لفظها ومعناها بتغير الزمن والموقع الجغرافي (وهو ما نسميه التأصيل). طبعاً التدوين هو تجميد للغة في صيرورتها المستمرة (الصورة الفوتوغرافية هي المثال المعتاد هنا)، وهو بالتالي سيؤثر في تطورها. لكن اللغة كائن إجتماعي متبدل بالتفاعل والإحتكاك ولن يكون القاموس الجديد إلا عاملاً من عوامل هذا التبدل، الذي نرجو أن يكون في اتجاه يتيح للناطقين بهذه اللغة إمكانية أكبر للتعبير والتواصل والخلق.

تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

You may also like...

shares