تمرين: إبحث عن الطائفي أو الطائفية في هذه المقالة!

ظهر هذا المقال على موقع مدونة الموسوعة السورية في 19 مايو، 2011.

“يا ربي من أين جاء هذا الحقد؟ من أين أتت هذه الطائفية؟ والله لم نكن نعرفها في بلادنا ولم نرها في حياتنا!” إذا سمعت أحداً ينطق بمثل هذه العبارات فاعرف أنه إما أعمى أو أنه يكذب أو أنه ساذج أو أنه عاش كل حياته ضمن طائفته ولم يتعرف على أحد من طائفة مختلفة. خلال المئة سنة الأخيرة، وأعني منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية، فإننا والغرب معنا، أو نحن معهم، لم نتوقف عن تحليل الإسلام والمسلمين للحظة ولم نتوقف عن انتقادهم أو نصيحتهم أوالهجوم عليهم أو توعيتهم أو دعوتهم إلى النقد الذاتي باعتبار أن الإسلام أصبح العدو اللدود للحداثة الغربية وما تمثله من ديمقراطية وحقوق إنسان وحريات فردية وسلطة القانون. مذاك ما فتئنا نردد أن الإسلام دين صحراوي، دين من القرون الوسطى، دين عنيف، دين متسلط، دين أبوي، دين قائم على الخوف والطاعة العمياء، إلى آخر هذه الآراء السلبية التي لا تنتهي. لذلك أود الآن أن آخذ بضعة سطور للحديث عن الأديان الأخرى وأتباعها طلباً لبعض التوازن فيما يسقط على أسماعنا. أولاً أود أن أوضح أن الأديان عندي سواسية وعندما أجد لي مأخذاً على أحدها غالباً ما أجد المأخذ ذاته في بقيتها. وعندما أجد ما أمدح به أحدها أيضاً أجد ذات الشيء في بقية الأديات أو ما يشابهه. وهناك أيضاً ما يميز هذا الدين عن ذاك، لكن الأديان التي جائتنا من الشرق الأوسط تتشابه فيما بينها إلى حد كبير وهذا ما يجعلني واثقاً بأن ما أقوله عن واحد منها سينطبق على الدينين الآخرين.

قرأت لتوي مقالة على موقع رويترز (18-5-2011 بقلم بقلم مريم قاروني) بعنوان “المسيحيون السوريون يتخوفون من الحرية الدينية”. المقالة تعتمد على الأخبار المتناقلة في الصحف ووسائل الإعلام بالإضافة إلى مقابلات مع يوحنا إبراهيم (بطريرك السريان الأرثوذوكس في حلب)، حبيب أفرام (رئيس الرابطة السريانية)، مصدر كنسي مجهول، وسامر اللحام (من بطريركية الروم الأرثوذوكس في دمشق). والآن وبعد أكثر من خمسة أسابيع من الجدل والقراءة والإنفعال والغضب واللامبالاة والملل والحماس شيء من داخلي يدفعني دفعاً للرد على هذه المقالة. أولاً المقالة تبدأ بمقولة بالخط العريض مفادها أن المسيحيين في سوريا ينظرون إلى التظاهرات هناك متخوفين من ضياع حريتهم الدينية تحت حكم بشار الأسد، الذي تصفه المقالة بأنه متسلط وإن كان علمانياً. الكلام ليس هنا لأحد من المصادر التي اعتمدت عليها المقالة وإنما لكاتبة المقالة نفسها. فإذا ذكّرنا أنفسنا، وزلا تدعونا المقالة لذلك، بأن أهل سوريا جميعهم يخافون من شيء ما ستفضي إله هذه التظاهرات، فقد نقبل بتمييز المسيحيين عن غيرهم من السوريين باعتبار أن لهم الحق بأن تكون لهم مخاوف مختلفة عن مخاوف غيرهم من أبناء سوريا. لكن الزعم هنا أنهم يخافون من فقدان حريتهم الدينية التي ينعمون بها تحت حكم بشار الأسد العلماني. وهذا زعم لا بد لي أن أتوقف عنده بعض الشيء، فهل ليس للمسيحيين أية مخاوف غير حريتهم الدينية؟ فقدان الأمان تحت حكم ديكتاتورية بوليسية سطرت شهرتها الآفاق ليس مهماً أمام الحرية الدينية، والمسيحيون  يختزلون ببساطة إلى هذه الكلمة أي مسيحيون. أي أن دينهم يعرّفهم ولا يزيدون على هذا التعريف شيئاً ولا ينقصون. تماماً كما يعتقد الغرب أن الإسلام يعرّف المسلمين ولا حاجة لأية معلوماة إضافية بعد ذكر الدين، فهم لا أقل ولا أكثر روبوتات مبرمجة ببرنامج واحد إسمه الدين: قل الل أكبر فيتحركون وقل الحمد الله فيتوقفون. ولا أعرف ما هي الكلمات السحرية التي تعمل بها روبوتات المسيحيين السوريين، فللأسف ليس للمسيحيين السورية من صفة أخرى بالنسبة للغرب غير كونهم رهائن في ذمة المسلمين يتباكى عليهم بين الحين والحين ويدعي حمايتهم متى أراد التدخل. الزعم الآخر هو أن بشار الأسد أمّن فعلاً الحرية الدينية للمسيحيين بعد أن كانوا محرومين منها أو أنه أعطاهم حرية إضافية لم يكونوا يتمتعون بها. لا أدعي أن الحرية الدينية متوفرة في سورية وهذه هي النقطة الأهم، إذ لا حرية دينية في سوريا لا للمسلمين ولا للمسيحيين ولا لليهود وإن تكرم النظام على طائفة أو أخرى بفتات الحرية فليس لأنه يهتم بالحرية الدينية نفسها بل لأنها تخدم مصالحه. أما الوضع الديني في سوريا بين الطوائف المتعددة فهو على حاله منذ بداية القرن الفائت ويشبه الوضع في كثير من الدول العربية : تعايش على مضض، أنت في زاويتك وأنا في زاويتي، ولا فائض من الثقة بيننا.

الزعم الأخير هو أن بشار الأسد، ونظام البعث على حد زعم الكثيرين، نظام علماني. وكلمة علماني بحد ذاتها كلمة دينية أخذناها من الكنيسة المسيحية (والكلمة بالأصل سريانية، ومعناها الدنيوي والزمني، أي عكس الديني والكنسي بالأخص) لنترجم بها كلمة فرنسية أو إنكليزية لها تاريخ ديني وفلسفي وسياسي أطول وأغنى بكثير من كلمة العلمانية تلك. وإنه من السذاجة محاولة تعريف كلمة هي في صميم الجدال والصراع المجتمعي محاولين سحبها من واقعها الجدلي وإدخالها في فضاء أكاديمي رصين يحدد معالمها ويعرّفها. الكلمات الأيديولوجية الجدلية غائمة دائمة لأنها ساحة صراع كل يحاول تعريفها بما يخدم مصالحه هي تصبح في النهاية ذات معنى ثنائي للتمييز بين من هم معنا ومن هم ضدنا. ولذلك فقد نجد للكلمة على ساحة الصراع والجدال تعريفات متناقضة وبأعداد لا حصر لها. لكن غرضي هنا هو الجدال فعليّ أن أحاول فهم معنى عبارة (بشار الأسد علماني). أتعني أنه يعمل خارج نطاق الدين ولذلك فهو لا يميز بين الطوائف والأديان في المعاملة؟ أم تعني أنه كرئيس للدولة السورية فهو لا يخلط الدين بالدولة باعتبار أن الدولة لا دين لها؟ أم تعني أنه غير متدين ولذلك فهو لا يهتم لانتماء الإنسان الطائفي ولا يرى فيه إلا مواطنته السورية؟ المؤسف أننا في معمعة الأخذ والرد نسينا أن كاتبة المقالة اختزلت الدولة كلها بشخص رئيسها لا بل بشخص بشار الأسد. ونحن لم ننتبه لهذا الإختزال لأننا في الحقيقة متعودون عليه ونقبله دون مناقشة: سوريا هي بشار الأسد، ألم نسمع بمقولة سوريا الأسد أو بشعار الله سوريا بشار وبس؟ المهم خلينا في المهم فشخص بشار الأسد كالإله، لا يمكن المساس به. لا أجد في أي من هذه التعريفات ما يمت لبشار الأسد بصلة لا من قريب ولا من بعيد، فالدستور السوري يفرض أن يكون الرئيس مسلماً ويفرض بأن يكون التشريع الإسلامي مصدراً رئيساً للتشريع في الدولة وهذا دحض لأي زعم بانفصال الدولة السورية عن الدين. أما أن يكون بشار الاسد خارج الدين فهذا ما يدحضه اعتماده على أهل طائفته الدينية في أكثر المناصب الحساسة. أما تدين هذا الشخص فمن الصعب الحكم عليه لأن العقيدة العلوية سرية. فنحن نعرف السني المتدين ونعرف المسيحي المتدين ولا نعرف العلوي المتدين. مما يضع العلويين خارج نطاق الإتهام بالتدين وهذا ما يثير حنق الكثيرين لأن تهمة التعصب الأعمى سهلة حين نوجهها للسني أو للشعي الجعفري، وأصعب قليلاً حين نوجهها للمسيحي (باعتبار ارتباط المسيحية بالديمقراطية الغربية وسنأتي إلى هذا لاحقاً)، أما العلوي فكيف يكون متعصباً؟ وحين أرى لحية طويلة وجلباباً أتياً نحوي، وحين أرى صليباً كبيراً على الصدر وإنجيلاً باليد أعرف ماذا يمكن أن أتوقعه، لكن كيف أستطيع أن أكون طائفياً تجاه علوي؟ إنهم يحرموننا من الطائفية السهلة. أما حزب البعث فلم أسمع في حياتي وصف العلماني مقروناً بالبعث إلا عند الغربيين لأنهم لا يستطيعون إلا أن يصنفونا في قوالبهم الجاهزة المنحوتة على قد أفكارهم وأيديولوجياتهم. البعث يحارب الإخوان المسلمين، الإخوان المسلمون متعصبون دينيون بالفطرة، إذن البعث حزب علماني. هذا قياس أسطوطاليسي لا غبار عليه، أليس كذلك؟ ويتشدق آخرون بأن منظر البعث هو المسيحي ميشيل عفلق، وبما أن غالبية أعضاء البعث من المسلمين، إذن البعث حزب علماني. قياس جميل آخر. أما أن يكون الإسلام رمز العروبة عند عفلق فهذه رمزية علمانية إذ لا يتطرق عفلق إلى الدين باعتباره عقائد وشعائر وإنما باعتباره ممثلاً لروح الأمة العربية (حتى المسيحيين بينهم أليس كذلك؟). أعجز فعلاً عن فهم الأيديولوجيات القومية أينما كانت فهي أقرب إلى الخزعبلات التي إذا ارتفعت أصبحت أسطورة وإذا انحطت أصبحت شوفينية عنصرية. الفكر البعثي، وأي فكر قومي، لا علاقة له أصلاً بمفاهيم ناضجة مثل فصل الدين عن الدولة، ولا أقول علمانية، أو أي فكر يسعى لإيجاد مؤسسات تحترم الفرد لأن القومية أيديولوجية لا ترى الفرد وإنما الجماعة فقط، فهي أقرب إلى الدين منها إلى الفكر التحليلي. ولذلك يمكن قولبتها كيفما شئنا، والحزب القومي يستطيع أن يتحول إلى أي نوع آخر من الأحزاب وغالباً ما يتحول إلى أحزاب ديكتاتورية إقصائية.

كل هذا الكلام ولم أتعد مقدمة المقالة. يبدو أنني معجب بها جداً. تؤكد الكاتبة في بداية المقالة أن الحرب الطائفية التي جرت في العراق، ولا تزال تجري، تثير الخوف عند مسيحيي سوريا من مستقبل يشبه مستقبل إخوتهم المسيحيين في العراق. طبعاً الفرضية الغائبة هنا هي أن ما يحصل في سوريا، أو مهما يحصل في سوريا من حراك مجتمعي أو سياسي، سيؤدي بالضرورة إلى حرب طائفية. ونعود هنا إلى الروبوتات الدينية التي تسكن الشرق الأوسط. لا مفر الدين من أمامك ومن ورائك من يمينك ومن شمالك، لا مفر. سيومئ الكثير من القراء مؤكدين على صحة هذا الزعم، ولذلك أقول لهم: أخرجوا من قوقعتكم الدينية فما تخافون منه في الآخرين هو فيكم أنفسكم لكنكم لا ترون أنفسكم، وتخدعةن أنفسكم قائلين في سركم “نحن لسنا طائفين، فقط الآخرون طائفيون”. ما جرى على مسيحيي العراق جرى على كل العراقيين ولا داعي لتمييز المسيحيين عن غيرهم من أهل العراق بدعوى أنهم نوع مهدد بالإنقراض. صديقي العراقي من عائلة سنية من عشرة أشخاص لم يبق في العراق منهم أحد حتى الأب والأم العجوزان. أليست عائلته أيضاً نوعاً منقرضاً فعلاً كمواطنين عراقيين؟ أم أن هذه العائلة غير مهمة إحصائياً باعتبار أنه لا يزال هناك سنيون في العراق؟ وما يهم صديقي من أمر أهل السنة في العراق إذا انقطع وجود عائلته في ذلك البلد؟ لا شيء، لا شيء البتة. فهل نستطيع ولو للحظة أن نركز على الإنسان دون دينه؟ أم تعتقدون أني مثالي؟ طبعاً الدين واقع لا فرار منه، أما التعامل على أساس قاعدة مشتركة من الإنسانية فهذه مثالية حمقاء.

ثم يقول يوحنا إبراهيم (بطريرك السريان الأرثوذوكس في حلب): “بالتأكيد المسيحيون في سوريا يؤيدون بشار الأسد. إنهم يأملون بأن لا تنتشر هذه العاصفة”. عفواً سيدي هل أدعو سماحة أو غبطة البطريرك؟ عفواً، سماحة لمشايخ السنة فقط؟ طبعاً كل ألقاب رجالات الدين تعبر عن السعادة والغبطة والتسامح. أنت تتحدث باسم المسيحيين في سوريا، أليس كذلك؟ كلهم أم السريان الأرثوذوكس فقط؟ هل أستطيع أن أعرفك بنفسي أنا الدكتور نظير، سني حنفي، أقصد أجدادي، أما الدكتوراة فحصلت عليها بجهدي ومساعدة أهلي واساتذتي. فإذا أردتني أن أدعوك بغبطة بطريرك السريان الأرثوذوكس فأرجو أن تدعوني بدورك بسيادة الدكتور السني الحنفي. سيدي، القرضاوي أيضاً يتحدث باسم المسلمين جميعاً وفي العالم كله، وكذلك بن لادن. هل أنت أو القرضاوي قمتما باستطلاع رأي أو دراسة ميدانية؟ طبعاً لا فالإحصاء ليس من مقررات الدراسة الدينية، وليته كان، ليته كان. المشكلة أن كلمة “بالتأكيد” أرقتني بعض الشيء، يمكن لأنه عندي حساسية من رجال الدين الذين يتحدثون باسم أهل دينهم ويعتقدون أن اهل دينهم إما يطيعونهم، وهذا هو العشم، أو أنهم روبوتات دينية. ونعود إلى نفس الموضوع. طيب، ألا تريد أن تترك للمسيحيين في سوريا من خيار غير تأييد بشار الأسد إذا كانوا يعارضون التظاهر وما يطالب به المتظاهرون؟ يعني إما أن أعشق المتظاهرين أو أن أؤيد بشار الأسد، أليس هناك خيار آخر؟ دعني أقترح بعض الخيارات الأخرى: المسيحيون السوريون مع سلطة القانون في الدولة السورية، المسيحيون السوريون مع الديمقراطية حتى وإن عنت دخول المتشددين السنيين في اللعبة السياسية، المسيحيون السوريون مع المواطنة وليس التمييز بين الطوائف، المسيحيون السوريون سيعبرون عن آرائهم ببيانات لا تمر عن طريق غبطتكم، بعض المسيحيين السوريين (أو كثير منهم) مع المتظاهرين، المسيحيون السوريون لا يريد أن يعبروا عن رأيهم كمسيحيين فقط بل كمواطنين وشركاء في الوطن، بعض المسيحيين السوريين (كغيرهم) يؤيدون بشار الأسد، بعض المواطنين من الطائفة المسيحية يفضلون الإنتخابات الحرة على الحكم الأبدي لبشار الاسد، بعض السوريين من الطائفة المسيحية يريدون أن يرشحوا أنفسهم لرئاسة الجمهورية السورية، المسيحيون السوريون ضد الدستور السوري الحالي لأنه دستور طائفي، المسيحيون السوريون يريدون قانون أحوال شخصية مدني لا يمر عن طريق غبطتكم وفي محاكم غبطتكم، المسيحيون السوريون لا يريدون حكماً طائفياً آخر سنياً كان أو علوياً أو حتى مسيحياً، المسيحيون السوريون يرفضون الذمية كما يرفضون وصاية الكنيسة …. هل حقيقة لا يستطيع غبطتكن التفكير بخيارات أخرى عدا خيار تأييد بشار الأسد؟ أم أنكم فعلاً تعتقدون بأن بشار الأسد علماني (مهما كان تعريف هذه الكلمة)، وأن العلمانية هو ضمانة حرية الإعتقاد للمسيحيين؟ يا سيدي، لو كان بشار الأسد علمانياً فعلاً لما سمح لكم بالتحكم برقاب البشر عبر قانون الأحوال الشخصية. بشار الأسد ليس علمانياً، أم أن العلمانية في سوريا حكر على الأقليات لأن السنيين بالتعريف غير علمانيين؟ ألا تعتقد بوجود علمانية خارج حضن بشار الأسد؟ أم أنك تحسب أن كل السنيين هم من أصحاب جز الرؤوس وفرض الجزية على أهل الذمة؟ وإن كنت متخوفاً من هذه الإنتفاضة بالذات، فهل يمكنك أن تصف لي إنتفاضة أخرى ضد الحكم القمعي والطائفي لبشار الأسد وأبيه من قبله قد تحظى بتأييدكم. وهنا أود الإيضاح بأن أكثرية الشعب السوري من السنيين وأكثر هؤلاء من المتمسكين بدينهم على علاته كما تتمسك أنت بدينك على علاته (أم دينك ليس له علات؟) ولذلك لا أعتقد أن أية إنتفاضة ستكون خالية تماماً من الشعارات الدينية السنية. وإذا حدثت هكذا إنتفاضة فهل ستشارك؟ ومن أين ستنطلق؟ أمن الكنيسة أم من الجامع؟ لأنك إذا انطلقت من الكنيسة فقد يثير هذا حساسيتي ومخاوفي من تكون الإنتفاضة مؤامرة لتحويل سوريا إلى إمارة مسيحية متطرفة باعتبار أنك تشارك فيها وباعتبار أن خطبتك، إن أعطيت خطبة، ستبدأ باسم الله والصلاة والسلام على يسوع المسيح. وإذا قسنا طول لحيتك فقد تكون أطول من لحية أكبر ملتح سني وكما تعرف فاللحية علامة تعصب أعمى.

أيضاً قد يدعوني البعض بالمثالية لأن الإنتفاضة السورية إسلامية تكفيرية بوضوح. لا أعرف من أين يأتي الوضوح في أحوال كهذه، لكن إذا أرتم أن أستمع للإعلام السوري فأنا آسف فهذا لن يحصل، ولا يلدغ الإنسان اللبيب من جحره مرتين، أو ثلاث مرات، أو ألف مرة. طيب أنا أجهل ما يجري في درعا ونواحيها، وفي دوما ونواحيها، وفي بانياس ونواحيها وفي حماة وجبلة ودير الزور وريف إدلب واللاذقية، وريف حمص حتى، لكني أعرف ما يجري في حمص، مدينتي التي ولدت فيها. لا توجد في حمص ثورة مسلحة ولا إمارة إسلامية ولا أمير بطائرة خاصة. ما يوجد في حمص هو عشرات الدبابات والمدرعات وآلاف من عناصر الأمن ومعاونيهم. وتوجد مظاهرات كل يوم، صباح مساء، وفي كل الأحياء، وإضراب عام، وأغلب المظاهرات لا تخرج من أي مسجد. وأنا متأكد أن شعارات طائفية تطلق في المظاهرات، لكن أليس الحكم طائفياً؟ أليست العقلية الإقصائية نفسها هي التي تملي على الموالين للحكم تخوين المتظاهرين وكأن سوريا حكر عليهم وتملي عليهم مطالبة النظام بالضرب بيد من حديد مؤكدين بذلك غياب القانون وتأييدهم لهذا الغياب أو التغييب؟

ثم تأكد الكاتبة أن المسيحيين التي اتصلت بهم عبروا عن رغبة في الإصلاح لكن رفضوا تغيير النظام الذي قد يؤدي إلى استلام الإسلاميين للسلطة وبالتالي فقدان المسيحيين للحرية الدينية التي يتمتعون بها الآن. طيب الكثير من الناس عرضوا مبادرات للتغيير خلال الأسابيع الماضية وعرضوا تصوراتهم للحكم المستقبلي في سوريا فهل يستطيع هؤلاء الراغبون بالإصلاح دون إسقاط النظام أن يعطونا فكرة عن رؤيتهم لهذا الإصلاح. مبادرة ميشيل كيلو، أهذا ما تقترحون؟ جيد مباشرة ميشيل كيلو تتضمن نفس المطالب التي نادى بها المتظاهرون دون التطرق لإسقاط النظام فكيف سيستطيع السيد ميشيل أن يضمن حرية التظاهر والتعبير عن الرأي وإطلاق سراح المعتقلين وتحكيم القانون وعودة الجيش إلى ثكناته وعناصر الأمن إلى فروعهم ومحاسبة المتسببين بالعنف في محاكم حيادية ووقف الفساد ومحاكمة رموزه دون أن يمس بالنظام القائم؟ إذا اعترف هو نفسه في مبادرته بطغيان الأمن على النظام وبغياب القضاء المستقل وبوجود معتقلين سياسيين وبوجود الفساد واستفحاله أفليس بالأحرى تغيير النظام؟ إن السيد ميشيل يريد من الفاسدين أن يحاكموا أنفسهم ومن فروع الأمن التي لا حصر لها أن تردع نفسها من القضاة الفاسدين أن يتنحوا عن كرسي القضاء ومن دولة اللا قانون أن تكون دولة قانون بيم ليلة وضحاها. هل هذه مثالية أم تجاهل للواقع؟ لماذا الخوف من بشار الاسد إذا كان بشار الأسد مجرد رئيس جمهورية يمكن إنتخابه أو عزله. أليس الأفضل أن يطلب من بشار الاسد التعهد بأن لا يرشح نفسه ثانيةً وأن يسمح البعث لغير أعضائه بالترشح للرئاسة وأن تعود فروع الأمن إلى وظائفها التي خلقت من أجلها؟ واقعية ميشيل كيلو تقول: إقبلوا بأن الحكم ديكتاتوري قمعي ووحشي وتمنوا أن يغير نفسه بنفسه، أعطوه فرصة ثانية (أو ثالثة أو عاشرة). حسناً الفرص الثانية في الجمهويات إسمها الإنتخابات فإذا نجحت فهذه فرصتك الثانية وإذا خسرت فإلى يوم آخر. أما حرية المسيحيين الدينية الآن التي سيقضي عليها الإسلاميون فهي إدعاء مهين في الحقيقة. المسلمون وهم الأكثرية يرون أن لا حرية دينية في سورية، والبطريرك يرى أن المسيحيين يتمتعون بحرية لا تتمتع بها بقية الشعب، ألا يعبر هذا عن أنانية وعدم اهتمام بأحوال الأشقاء في البلد الذي نشترك فيه؟ ما دامت عندي حريتي الدينية فأنا مبسوط ولا علاقة لي بالآخرين. هذا ما إغفال نقطة أن الحرية الوحيدة التي نتكلم عنها هي الحرية الدينية وكأن لا حرية أخرى للإنسان. سامحني يا غبطة البطريرك إن قلت أن هذه العقلية هي عقلية ذمية بامتياز. قد تحسب أن هناك تناقضاً في الجملة فهل يعتقد المسيحي بأنه فعلاً ذمي؟ هذا ممكن. الأغلبية تعتبرني قاصراً وبحاجة للإعالة والحماية أو تعتبرني ضيفاً لا حقوق أساسية له إلا حق الضيافة ولا يمكنه المشاركة في أمور المجتمع والدولة. ثم بعد حين أبدأ باعتبار نفسي قاصراً أو ضيفاً وأنعزل عن الآخرين وأتعامل معهم كأهل البيت لا يهمني ما يحدث لهم ما دامت حقوق الضيافة مكفولة. إني بهذا أرضى باختزال نفسي وحقوقي إلى حق الإعالة والحماية، وإني بذلك أصبح قاصراً فعلاً. إذا كنت تريد أن تكون مواطناً يتمتع بجميع حقوق المواطنة التي لا حامي لها إلا الدستور المدني والقضاء المستقل ودولة القانون فيجب أن تتحدث كمواطن وأن تتصرف كمواطن وأن تطالب بحقوقك التي لا تنفصل عن حقوق الآخرين كمواطن. الدولة المدنية هي التي لا ترى فيك إلا المواطنة وتترك كل هوية أخرى دينية أو غيرها لفضائك الفردي. إذا أردت أن ينظر القانون إليك كمسيحي وأن ينظر إلي كمسلم فأنت طائفي وتؤيد الحكم الطائفي ويجب أن تتحمل تبعات هكذا نظام فيوم لك ويوم عليك، أليس كذلك؟ أما أن سقوط نظام بشار الأسد سيؤدي بالضرورة إلى حكم إسلامي فهذا هراء سمعناه من مبارك وبن علي والقذافي. فإما الديكتاتورية أو الثيوقراطية؟ ألا نستطيع أن نحلم بشيء آخر أم أن هذه الواقعية المزعومة تطل برأسها مرة أخرى؟ عندما تعطي هؤلاء السنة المتوحشين الحرية فإنهم يختارون الإسلام ديناً ودولة، أليس هذا ما يعتقده الكثيرون؟ طيب ماذا عن المسيحيين وماذا عن العلويين أسيفعلون الشيء نفسه لو آلت الأمور إليهم؟ يعني هم أيضاً طائفيون وديكتاتوريون وروبوتات دينية مثلما هم السنيون، الفارق الوحيد الآن أن اليوم لهم وليس عليهم. أليس هذا ما نحاول الإبقاء عليه؟ عقلية كهذه ستؤدي حتماً إلى ثورة دينية يقوم بها المستضعفون الدينيون ضد قاهريهم من الأديان الأخرى. أما آن الأوان لأن نخرج من هذه الحلقة المفرغة؟

“التغيير الذي جلبه الأمريكان إلى العراق والتغيير الذي جلبته الثورة في مصر لم يغيرا من أوضاع المسيحيين في هذين البلدين” يزعم مصدر آخر مجهول من مصادر الكاتبة. طيب المقياس هو دائماً أوضاع المسيحيين، هذه فهمناها، لكن أليس في هذه المقاربة سوء فهم لا بل غباء سياسي، وعذراً على التطاول؟ أي تغيير جلبه الأمريكان في العراق الذي يتكلمون عليه؟ الأمريكان جاؤوا بدباباتهم وجنودهم وميزوا الناس على أساس دينهم معتبرين أنه طالما كانت الأغلبية شيعية فيجب أن يكون الحكم شيعياً. الحكم الأمريكي في العراق عزز الطائفية التي قام عليها نظام صدام في السنوات العشرة التي سبقت سقوطه. لماذا لا يكون في بلاد العرب غير أغلبية وأقلية من نوع واحد هو النوع الديني؟ ألا نستحق أن تقسم أنفسنا على أساس أفكارنا التي تتبدل مع تبدل أعمارنا وموقعنا في المجتمع ومع الزمن الذي يجري بنا جميعاً. لماذا نثق بالغربيين أن تكون لهم أغلبيات متغيرة حسب القضية المطروحة وتنحصر أغلبيتنا بالدين والطائفة؟ الغربيون ينظرون إلينا بهذه الطريقة، لكن يبدو أننا نظر إلى أنفسنا بالطريقة نفسها. الذي لا يرى في نفسه إلا دينه لا يستحق برأيي إلا حكماً طائفياً ويوم لك ويوم عليك، وويل لك يوم يدور الدولاب. لكن هناك حل آخر: دولة القانون والمواطنة وفصل سلطة الدين عن سلطة الدولة (ولا أقول علمانية) والقضاء المستقل. أما ثورة مصر فهي لا تزال مشروع ثورة ولم يتحقق من مطالبها دستورياً وقانونياً ومؤسساتياً إلا الشيء اليسير. الجيش لا يزال يحكم، وألاعيب مبارك الطائفية التي كشفت عنها الثورة لا يزال الجيش يمارسها. يم يتغير شيء في مصر ويجب أن تقوم ثورة أخرى لتحقيق مطالب الثورة الأولى. طيب يا أخي المسيحيون يريدون حقوقهم على طبق من فضة دون أن يكونوا عاملاً من عوامل التغيير؟ أي منطق هذا اللهم إلا منطق الضيوف وأهل الذمة. البلد بلدهم كما هي بلد المسلمين ولهم إمكانية المشاركة كما لدى المسلمين فليسارعوا إلى العمل وهناك كثير من المسلمين الذين يشاركونهم الرأي والمطالب. هذا إذا فرضنا طبعاً أن مطالب المسيحيين محدودة بحرية العبادة، وهنا نعود إلى الروبوتات الدينية.

أخيراً سامر اللحام (من بطريركية الروم الأرثوذوكس في دمشق) يتكلم عن المخطط الخفي وغير المعلن عنه للمظاهرات ويعني قلب النظام وتحويل سورية إلى إمارة إسلامية، بافتراض أن كل الإمارات الإسلامية متشابهة. يبدو أن سامر اللحام يرى ما لا يراه الكثيرون، وهذا حقه. ولذلك فأنا أقترح عليه أن يذهب إلى ركن الدين ودوما ودرعا وقراها وحمص وقراها وجبلة وبانياس واللاذقية وأن يشارك بالمظاهرات وأن يأتينا بالخبر اليقين، فأنا من جهتي تعبت من العنعنة (عن صديق ابن خالي الذي سمع جاره). وباعتبار أني أحب الصراحة ومواجهة الناس فإني أقول: يا أهالي المظاهرات أرجوكم أعلنوا عن مطالبكم الآنية والمستقبلية، قولوا لنا أي نظام حكم تريدون حتى لا نضطر للحدس والتخمين، واعطونا الضمانات أنكم لا تكذبون علينا وأن ليس عندكم مخطط خفي لإقامة إمارات إسلامية، وإن كنتم تريدون توحيد هذه الإمارات تحت سلطة خليفة واحد أن أنكم ستستقلون بمدنكم وقراكم. وأرجوكم أن تعلنوا عن قياداتكم الخفية ومصادر تمويلكم لأنني إن اكتشفت يوماً أنكم تكذبون فسأحقد عليكم إلى أبد الآبدين وسأقوم بمظاهرات ضدكم وسأطالب بإسقاط نظامكم. وإذا كان نظامكم قمعياً عسكرياً مثل نظام بشار الاسد فلا تعتدوا بقوتكم لأن سر الأنظمة القمعية قد انكشف وإن استطعنا تغيير نظام الأسد فسنعرف كيف نغير نظامكم. أما إذا ثبت أن الأغلبية السنية تؤيد حكم الدولة الإسلامية ولن أستطيع بهذا أن أقنع الناس بمظاهرات ضد قمع الأغلبية فطز فيكم وبهالجيرة المنشحة وخاطركم. طبعاً الفرضية القائمة هي أن أغلبية السنيين تريد حكماً إسلامياً قمعياً لأن هذا هو الشيء الوحيد الذي يعرفه أهل السنة، ونعود هنا إلى الروبوتات الدينية.  ويبدو أن الخيار هو بين روبوتاتنا وروبوتاتهم ولا شيء آخر. كيف يستطيع هؤلاء السنيون “المتوحشون” أن يسيطروا على مقاليد الحكم دون معونة الجيش. والفرضية مرة أخرى هي أن الإنتخابات النزيهة لن تؤدي إلا إلى نجاح الإسلاميين لأن أغلبية السنيين ستصوت لهم، روبوتاتهم ضد روبوتاتنا، والله المعين. ويقول المثل كل مين على دينه الله يعينه.

تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

You may also like...

shares