في حلم الدستور وبناء الدولة


اولا – احلام النص الذي يصبح حقيقة

يتحدث السوريون اليوم عن كتابة الدستور. والكل يعتقد ان نهاية كل المشاكل الموجودة تكون بكتابة دستور يتفق عليه الجميع.

  • – البعض يعتقد ان الدستور هو اعظم تبويس شوارب في التاريخ. انا انسى انت تنسى، انا لا اقتل انت لا تقتل، ونتعايش بسلام.
  • – البعض يعتقد ان الدستور هو الضمانة العظمى للحقوق. اذا اقر الدستور بحقوق الانسان فستكون هناك حقوق انسان. واذا اقر الدستور بحقوق المرأة فستكون هناك حقوق للمرأة. واذا اقر الدستور بوجود قوميات متعددة وحقوقها فستكون هناك قوميات متعددة وحقوق لها. واذا اقر الدستور بوجود الاقليات وحقوقها فستكون هناك اقليات وحقوق لها.
  • – البعض يعتقد ان ضمانة سيطرة الاغلبية وثقافتها ستأتي من دستور يقول بأن الاسلام مصدر للتشريع او المصدر الوحيد للتشريع.
  • – وبالعكس، البعض يعتقد بانه اذا لم يذكر الدستور شيئا فسيغيب ويصبح مهدورا. اذا لم يذكر الدستور الاكراد فسيكون هناك قمع للاكراد. واذا لم يذكر الدستور العلويين فسيكون هناك قمع العلويين. واذا لم يذكر الدستور الحجاب فسيخلعون حجاب النساء في الشوارع.

باختصار، الناس تتخيل ان الدستور هو نص عظيم يجب ان يفصّل كل شيء، فاذا ذكر الشيء تحقق واذا لم يذكر الشيء غاب واهدر. اي ان الدستور هو ذلك النص المقدس الذي تنبع منه كل السلطات والحقوق. شيء يشبه الكتب السماوية ذات السلطة الغيبية. هذا اذا افترضنا ان سلطة القرآن تنبع من القرآن نفسه. وبالتالي فالفرضية هنا هي ان نص الدستور يعطي السلطة وليس العكس، اي السلطة تعطي الدستور قوته. انا مع الفرضية الاخيرة. النص مجرد نص ليس لديه اية سلطة. السلطة تأتي من الافراد الذي يملكون ادوات العنف او المال او اي شيء يجلب ويضمن اذعان الناس لاوامرهم (اصحاب الاذعان). اذا صدر نص تأسيسي مثل الدستور وكانت هناك جماعة من اصحاب الاذعان لا توافق عليه فان النص لاغي ولا يمكن تطبيقه. اذن سلطة النص لا تأتي منه واحيانا لا تأتي من محتواه حتى، وانما من اتفاق اصحاب الاذعان عليه. لم اذكر الشعب ومكونات وانما ذكرت اصحاب الاذعان وهذا يحتاج الى شرح.

ثانيا – اصحاب الاذعان

يتحدث البعض عن النخبة. بالنسبة لي النخبة ليست المميزين، فمثلا المثقفون يعتقدون انهم نخبة، وعلماء الدين يعتقدون انهم نخبة. او الدكاترة يعتقدون انهم نخبة او المهندسون او المحامون. ملهم ايسوا نخبا. النخبة هي بالضبط اصحاب الاذعان. اية اداة تجعل الناس تسمع وتطيع الاوامر فهي اداة اذعان، ومن يملكها فهو صاحب اذعان.

  • (الاقرار) اذا اجتمع بعض الناس على شخص ليمثلهم ويقودهم، فهم يطيعون اوامره ويسمعون كلامه فقط لانهم قرروا ان يطيعوه، فهو صاحب اذعان، واداة اذعانه هي الاتفاق على طاعته. ضمن هذه الجماعة، الاعضاء انفسهم يقومون بتأديب اي شخص يرفض الطاعة بأن يذكّروه بأنه وافق واتفق معهم، وبأن يهددوه بالطرد خارج الجماعة لانه رجع في كلامه وخرج عن الاجماع الذي كان جزءا منه. مثلا القبيلة التي تنتخب زعيما لها. والمؤسسة التي تنتخب مديرا لها. والحزب الذي ينتخب رئيسا له.
  • (العنف) اذا امتلك شخص اداوت عنف يستطيع باستخدامها ان يفرض على الناس طاعته فهو صاحب اذعان واداة اذعانه هي العنف. رئيس العصابة القوي والذي يتحكم بمجموعة بلطجية يستطيع ان يفرض من خلالهم طاعته على بقية افراد العصابة، قبضاي الحي كذلك، المخابرات في عهد الاسد كذلك، الاسد نفسه كبلطجي هو كذلك، كلهم اصحاب اذعان.
  • (الثروة) اذا امتلك شخص ثروة يستطيع ان يستخدمها لشراء العنف وفرضه على مجموعة من الناس، هو ايضا صاحب اذعان واداة اذعانه هي الثروة التي تشتري العنف. وقد يستخدم صاحب الثروة ثروته لتأمين حاجات الجماعة من مأوى وطعام وملبس، عندها قد يطيعه الناس في شؤونهم طمعا في استمرار اعطياته او خوفا من توقفها.
  • (المؤسسة والمنصب) اذا وصل شخص الى قيادة مؤسسة، فله الصلاحية لأن يستخدم المؤسسة من اجل تحقيق اذعان الموظفين والعمال. وادواته هي مقدرات المؤسسة من ثروة وتقاليد واقرار وتوظيف وربما عنف. هذا القيادي هو صاحب اذعان واداته هي البنية والمؤسسة التي تنظم الناس واعمالهم وثرواتهم وكفاءاتهم وتحظى باقرارهم واحترامهم.
  • (الخدمة) بعض الاشخاص او المؤسسات يقدمون خدمة للجماعة. وبالتالي الجماعة تعطيهم صفة تمثيلية وتخضع لقراراتهم طمعا في استمرار الخدمة او خوفا من توقفها، او حتى اعترافا بالجميل. مقدم الخدمة هو صاحب اذعان واداته الخدمة التي يحتاجها الناس.
  • (التمثيل والتفويض) احيانا هناك اشخاص قادرون على التعبير عن رغبات اعضاء جماعة. الناس فعلا ليسوا بسوية واحدة في القدرة على تنظيم الافكار والتعبير عنها. وعندها قد تقوم الجماعة بتعيين هؤلاء كمممثلين عنها ينطقون باسمها. واحيانا يفوضونهم لتمثيل الجماعة والتفاوض باسمها. صاحب التفويض هو صاحب اذعان واداته الاقرار له بالتمثيل.
  • (الدين) في الجماعات التي تعرّف نفسها عن طريق الدين يكون هناك عادة معلم الدين، المتخصص بمعرفة الدين من افكار وشرائع وفروض. هذا المتخصص سواءا كان من كهنوت منظم او من اصحاب علم ديني يقومون عادة بتمثيل الجماعة والتفاوض باسمها ولهم عند الجماعة حظوة وطاعة. هؤلاء ايضا اصحاب اذعان واداتهم الاقرار النابع من مكانتهم الدينية.

نلاحظ ان الدولة تحاول دائما امتلاك كل ادوات الاذعان هذه. فهي تحتكر العنف، وتقدم خدمات، وتدعي التمثيل والاقرار والتفويض بالانتخاب، وهي مؤسسة كبيرة، وتمتلك الثروة العامة وتجمع الضرائب وتصرفها وتوظف الناس، وهي في كثير من الاحيان تستخدم الدين لدعم شرعيتها وتأمين طاعة الناس لها. وبالتالي فان اي صاحب اذعان هو سياسي، وستتحركش به الدولة ان عاجلا ام آجلا وستحاول ان تمتصه فان لم تستطع فستعاديه وتتهمه بالخروج عن القانون والاجماع والشرعية. وهذا يعني ان اي مشروع لاقامة دولة ودعم احتكارها للاذعان وادواته يجب ان يبدأ من اصحاب الاذعان. فمن هم وكيف نجمعهم؟

ثالثا- معضلة التمثيل الحقيقي

بالطبع الاذعان لا يعني التمثيل الحقيقي لرغبة كل انسان. لكن المذعنين يقومون بتفويض اصحاب الاذعان (او مندوبين عنهم) ليقوموا بتمثيلهم والتفاوض باسمهم ومن ثم يقرون ما اقره هؤلاء الممثلون. انها وصفة جيدة للوصول الى الاستقرار من خلال الاقرار والاذعان لقرارات الممثلين الذين هم اصحاب الاذعان او مندوبين عنهم. هذا الاقرار لا يعني اننا سنصل الى تمثيل حقيقي لرغبات كل الناس، فهذا مستحيل. هناك ملايين الناس وملايين الرغبات. في الديمقراطيات الحالية يزعمون بأن الناس دائما تتفق على نقاط محدودة العدد يسمونها الرأي العام. لكن هذا الرأي غير موجود وسأشرح ذلك في قسم ديمقراطية السؤال وديمقراطية الجواب. فلنفرض هنا ان الناس قبلت باصحاب الاذعان او مندوبين عنهم ويريدون فقط ان يعرفوا مدى تمثيل هؤلاء الممثلين لهم. هناك حواجز بين الناس والممثلين يمنع الأخيرين من عكس كل الاراء والرغبات الموجودة.

  • الحاجز الاول هو حاجز التمثيل والتفويض. في النهاية انت كسياسي او مختص او صاحب مهارة ستفتح دكان سياسة. وستحاول ان تقنع الناس ان يعطوك التمثيل والتفويض (من خلال وجودك في القنوات السابقة الذكر). وعندها ستدخل اللعبة السياسية. وعندها ستفاوض كما يحلو لك. الوسيلة الوحيدة لضبطك هي امكانية سحب التفويض. كل سنتين او اربع او خمس سنوات، ستكون هناك سوق عرض وطلب لدكاكين السياسة يسمونها الانتخابات. ويجب ان تثبت انك مؤهل للتمثيل وانك تراعي مصالح الناخبين.
  • الحاجز الثاني هو حاجز الاغلبية والاقلية. عندما ينتخبونك فان تفويضك قائم على وجود اغلبية عددية (٥١ بالمائة) من الناس الذين يريدونك. ولكن هذا يعني ان ٤٩ بالمائة لا يريدونك لكنهم مضطرون للاذعان الى رغبة الاكثرية العددية. مادام هؤلاء ال ٤٩ بالمائة لا يعملون اية شوشرة وينتظرون دورهم في المستقبل ليكونوا جزءا من الاغلبية، فان الامور ستسير بأمان. البعض سيحقق آماله والبعض سينتظر. ثم في المستقبل قد تدعم مرشحك المفضل وقد ينتصر في الانتخابات ويعبر عنك وعن مطالبك.
  • الحاجز الثالث هو القوى الخفية. انت انتخبت ونجح مرشحك واعطيته مطالبك وتعتقد انه سيعمل على تحقيقها. لكنك قد تكتشف ان هناك قوى خفية دعمته بالمال او باعادة الانتخاب او بتجييش الاصوات (قوى ضغط) واصبح بالتالي يمثل مصالح هذه القوى وليس مصالحك. وحتى عندما حاولت ان تسقطه في الانتخابات القادمة لم تستطع لان تلك القوى امدته بالمال والاصوات. هذا يعني انك فعلا لست من اصحاب الاذعان وان الاصحاب الحقيقيون وصلوا اليه واصبح يمثلهم. وسيلتك هي ان تصنع لنفسك مؤسسة او جماعة بحيث تصبح من اصحاب الاذعان او ان تنتمي الى احدى المجموعات التي لها اصحاب اذعان. يمكنك ان تنتمي الى حزب او الى مجموعة ضغط وعندها يجب ان تكون مستعدا لبذل المال والجهد.
  • الحاجز الرابع هو التفاوض. وانتخبت ممثلا واعطيته مطالبك وذهب الى اجتماع الممثلين ليحول مطالبك الى قوانين تفرضها الدولة بقوتها. وهناك في الاجتماع سيكون هناك مئات من الممثلين الذين يتفاوضون فيما يينهم على اقرار عدد محدود من القوانين. وهنا ستبدأ عملية التفاوض بينهم. وهو تفاوض حك لي لحك لك ولا علاقة له بمصالحك. سيتنازل ممثلك عن ثلاثة ارباع مصالحك ارضاءا للممثلين الاخرين حتى يحوّل مصالحك الى قانون يتفق عليه الجميع.

في النهاية لا الشخص الذي اعطيته التفويض يمثلك تماما، ولا هو قادر على تحقيق كل مطالبك. وهذا بالضبط ما سيراه الناس في اي اجتماع لوضع الدستور (هذا اذا كان الدستور حلا لكل المشاكل). فكيف ننتقي افضل الممثلين، وماهي النتائج التي يمكن ان نقبل بها بعد اجتماعهم. هذا اذا ترك لنا المتغلبون اصحاب الشوكة الفرصة لنشاركهم في وضع اسس الدولة. ارى انه من الضروري تحديد اصحاب الاذعان او مندوبين عنهم وتفويضهم والضغط على اصحاب الشوكة لقبولهم. فاما ان يدخلوا في محاصصة ويتحولوا الى امراء طوائف، واما ان يدخلوا في حوار يضعوا من خلاله قواعد الوصول الى سلطة الدولة. يسمون هذه القواعد الدستور، لكن يمكن ان تكون مجرد قانون يسمونه القانون الاساسي. وانا بصراحة اشجع هذا الرأي. هناك دائما احتمال الديكتاتورية. لكني هنا افترص وجود قبول المشاركة عند اصحاب الشوكة. وعندها يجب ان نبحث عن اصحاب اذعان وممثلين.

رابعا- اجتماع اصحاب الاذعان

يطالب الناس اليوم بجمعية تأسيسية، ويتخيلون ان انتخاب مائة او مائتين من سكان المناطق المختلفة سيعني التمثيل الكامل وبالتالي سينتج عنه النص التأسيسي، اي الدستور، الامثل. وبما ان الناس انتخبتهم فهذا تفويض لهم واقرار مسبق بكل ما يصلون اليه. وبما انهم يمثلون مناطقهم فهم اصوات صادقة تمثل بالكامل هذه المناطق وتعبر عن امانيها واهدافها. وسيتفاوضون وكأنهم روبوتات لا تحيد عن مصالح اهالي المنطقة. وينسون ان هؤلاء الاشخاص الذين ينتخبونهم سيفاوضون كأفراد وبناءا على مصالحهم الضيقة. هذه هي معضلة الديمقراطية. انها تقوم على وهم التمثيل.

ومهما كانت آلية انتقاء الممثلين المفوضين فانهم لن يعبروا عن مصالح احد وسيعبرون عن مصالحهم الشخصية وافكارهم الشخصية. اذن كيف نصل الى الدستور الذي سيقرر مصيرنا الى الابد كما يعتقد الناس؟ وماذا تفعل الدول الديمقراطية لتكون مستقرة ومعبرة عن رغبات شعوبها؟ ان الديمقراطية واستقرار الديمقراطيات لا يكمن في عظمة الدستور. بالطبع عندما تسألهم سيحلفون الايمان الغليظة ان السر موجود في الدستور وسيقولون لك ان الالهام الرباني او العلماني نزل على واضعي الدستور بحيث عبروا عن احلام كل الناس. لكن الحقيقة هي ان مجموعة صغيرة جدا من الاثرياء والمتنفذين هم الذين كتبوا الدستور. او ان الدولة عينت لجنة متخصصة. ثم قدمت الدستور للاستفتاء.

ان استقرار الديمقراطية يأتي من قدرة كل الاطراف على الدخول في لعبة التنافس على السلطة. بعضهم اقدر من بعض، وادوات بعضهم اقوى من ادوات بعض. لكن توجد هناك قنوات مفتوحة للجميع للمشاركة في لعبة السياسة. قد يطول الزمن، لكن اذا اردت الدخول فستصل في النهاية. هذا الانفتاح يكون من خلال الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني واللوبيات والتجمعات المهنية وجماعات المصلحة والضغط وحتى المعابد (ما تقولوا للعلمانيين) ومن خلال وظائف الدولة وامتلاك المهارات. لسنا اليوم في وضع يسمح لنا بالوصول الى مثل هذه المشاركة الواسعة. ولذلك اقول واكرر ان الديمقراطية تجربة تاريخية تحتاج الى وقت وليست شركة يؤسسها بعص الاشخاص ويوظفون البقية. اذن كيف نجمع اصحاب الاذعان الموجودين اليوم ليتفاوضوا باسمنا او لينتقوا مندوبين عنهم يمثلوننا (يدعون تمثيلنا).

هذه هي المعضلة الازلية. لم تنشأ دولة في العالم باجتماع كل اصحاب الاذعان وتفاوضهم الحر واتفاقهم على سلطة اسمها الدولة. المعتاد والمتكرر في التاريخ هو امتلاك العنف. اي الدولة يصنعها المتغلبون واصحاب الشوكة. لكن هناك دائما معارضة ومحاولات للانقلاب، وفي النهاية هناك من يتحكم بالجيش وادوات العنف، وهؤلاء المتحكمون يقررون شكل الدولة وتوزيع السلطة. هل هذا يعني ان نترك للجولاني، في حالتنا، مهمة تقرير الدستور وشكل الدولة. لا ابدا، كل من لديه وسيلة للضغط يجب ان يمارسها. وهنا نحن امام عدة سيناريوهات: اما ان يقرر المتغلب اهمال الجميع وتهميشهم ويقرر شكل الدولة، واما ان يحاول امتصاص عدد من الفئات التي يعتبرها قوية ومتنفذة ويشركها بصناعة الدولة، واما ان يفتح المجال امام المشاركة العامة وهنا نعود الى قضية التمثيل واصحاب الاذعان وكيف نجمعهم. توقعاتي هي انه سينتقي مجموعات محددة مهمة بالنسبة له تعطيه وهم الشرعية امام الناس وسيوزع عليهم المناصب والسلطة داخل الدولة. انها شبه قاعدة من الصعب على اي متغلب ان يخرج عنها. وبهذا تصبح قنوات الوصول الى السلطة محدودة وسيتسابق الناس للانضمام الى هذه المجموعات. فاذا استوعبت جزءا معتبرا من الناس فسيكون هناك استقرار جزئي مع بعض المعارضة. واذا لم تستوعب هذه الجماعات المحظية بقية الشعب فسيكون هناك ديكتاتورية تفرض نفسها بالعنف. واما اذا تكرم علينا الجولاني بالمشاركة العام، فيجب اصطناع وهم التمثيل، وهنا انتقل الى تبرير اللجنة بدلا عن الجمعية.

خامسا- ديمقراطية السؤال وديمقراطية الجواب

كما قلت تقوم ايديولوجيا الديمقراطية (وهي ايديولوجيا وليست علما) على فرضية التمثيل وعلى فرضية وجود اجماع وطني يسمونه الرأي العام. اي ان الناس قادرون على انتقاء المواضيع المهمة ثم قادرون على المناقشة والوصول الى رأي واحد يسمونه الاجماع. وهو مثل الاجماع في الشريعة الاسلامية فانه اجماع متخيل. اي اننا نتصوره ونصدق بوجوده. وهذا يكون من خلال التحكم بالسؤال.

اذا طلبنا من مائة شخص ان يعطونا وجباتهم المفضلة من ضمن كل الوجبات الموجودة في العالم والمتخيلة فاننا سنحصل على مائة وجبة. اما اذا سألنا مائة شخص ان كانوا يحبون المقلوبة مثلا فيكون هناك دائما اغلبية واقلية، ٦٠ بالمائة يحبونها و٤٠ بالمائة لا يحبونها. عندما تطلب من الناس الافصاح عن رغباتهم فانك تعطيهم حرية السؤال. كل رغبة يعبر عنها كل شخص هي سؤال موجه للمجموعة. اما اذا اعطيتهم السؤال فانك تترك لهم فقط حرية الاجابة بنعم ام بلا. صناعة الرأي العام تكون من خلال الحد من حرية السؤال ومنح حرية الجواب. دون تحديد السؤال لا يوجد رأي عام. ولذلك في الديمقراطية لا يقولون من تحب ان يكون الرئيس مثلا، ولكن يقولون هل تحب ان يكون سين هو الرئيس. وكذلك الدستور. اذا طلبت من شعب كامل ان يكتبوا دستورا يعبر عنهم فستحصل على مليون دستور. لكن اذا اعطيتهم دستورا جاهزا واستفتيتهم فستحصل على رأي عام واجماع. اذن العملية كلها تكمن في توليد نص للاستفتاء يعطي الانطباع بان الناس كلهم شاركوا في كتابته. اي ان تعطيهم حرية الجواب وهم يظنون انك اعطيتهم حرية السؤال.

من اجل خلق هذا الوهم، وهم الاجماع والرأي العام، يقومون بانتخاب من يسمونهم ممثلين (برلمان مثلا). ويدعون ان هؤلاء عندهم التمثيل الكامل (انظر معضلة التمثيل). هؤلاء الممثلون لا يفقهون في القانون والدستور فيلجؤون الى تعيين لجنة اختصاصية يرأسها بعض منهم وتحتوي على عشرات المستشارين من خارج الممثلين. وعندما تضع اللجنة الاختصاصية نص الدستور يعرضونه على التصويت في البرلمان ليقولوا هؤلاء هم الممثلون الحقيقيون صوتوا عنكم. او انهم يعرضون الدستور على الاستفتاء العام وهنا سيكون هناك اجماع لانهم تحكموا بالسؤال (تحت ذريعة التمثيل) واعطوا الناس حرية الجواب، فينتج عن ذلك اجماع وتنتهي القضية.

ولذلك اذا شكل صاحب الشوكة لجنة دستورية فان عنصر وهم التمثيل مفقود. لكن اذا اختار البرلمان اللجنة فان الوهم افضل هنا لان ادعاء التمثيل موجود. في النهاية لن يحصل الناس الا على حق الاستفتاء اي حرية الجواب. ولذلك بالنسبة لي افضّل ان اتحكم باختيار اللجنة. لا اريد مجموعة من الممثلين الجاهلين بالقانون وفقهه ان يتشاجروا كل يوم على مواد الدستور الممكنة (سواءا في جمعية تأسيسية او في برلمان). اريد ان يكون هناك عدد مناسب من المختصين في كل مجالات الدستور، اريد ان تتوفر خدمة افضل الاختصاصيين. هذا بالاضافة الى امكانية الدخول في النقاش وامكانية التصويت على القرارات كل قرار على حدة وليس دفعة واحدة.

وهنا نأتي الى اهمية غرف الحوار. يجب ان تكون كل العناوين العريضة في الدستور مفتوحة للنقاش. في الديمقراطية كل الناس مدعوون لتقديم ارائهم في اي قانون من خلال التواصل مع مندوبيهم. بالطبع هذه النقاشات لن تصل الى لجنة الصياغة وخبرائها كما هي، لكن اصداءها ستصل اليهم من خلال الممثلين المنتخبين ومن خلال الصحافة ومن خلال اصحاب الاذعان الذين سيبرزون من خلال النقاش. وعندما تصل اللجان الفرعية الى صياغة للمادة المنوطة بهم فان الناس تستطيع ان تناقش الصياغة ويستطيع ممثلوهم ان يناقشوها في البرلمان، وتستطيع جماعات الضغط واصحاب الاذعان ان يعبروا عن رأيهم فيها. وفي النهاية تخضع الصياغة للتصويت اما في البرلمان او في استفتاء شعبي. ان النقاش هو الذي سيسمح بممارسة التأثير وتشكيل قنوات المشاركة وبلورة ادوات المشاركة مثل الاحزاب والمنظمات. وهذا ما اسميه بصناعة الصوت السياسي. انه المؤسسة التي تصوغ مجموعة من المطالب وتعرضها على السلطة التشريعية. هذه اقصى مشاركة يمكن الوصول اليها من خلال نظام تمثيلي. وهذه المشاركة تحتاج الى وقت. وكما ترون فان الفكرة هي الوصول الى ادوات المشاركة وليس الوصول الى نص. هناك مئات الدساتير والقوانين التي يمكن ترجمتها عن الانترنت وكلها ممتازة. لكنها لا تساهم في تفعيل العملية السياسية وصنع الصوت السياسي والادوات السياسية.

سادسا – القصر ام القبر

قد تبدو مقترحاتي معقدة وملتوية. مثلا شعب ينتخب وانتخاب ينتقي برلمان الذي بدوره ينتقي لجنة والتي بدورها تنتقي خبراء. او مثلا خبراء تنتقيهم لجنة يضعون مقترحات ليصوت عليها البرلمان لتعود الى اللجنة مرة اخرى لتعود الى الخبراء. لماذا لا يكون هناك شخص واحد يقرر وينتهي الامر. القضية كلها تدور حول الاجراءات وليس حول المنتج النهائي والذي هو نص القانون او الدستور. النص ليس له سلطة، السلطة تأتي من الاجماع على النص، ولذلك يجب ان تكون هناك عملية لصنع الاجماع وبالتالي صنع السلطة. ويجب ان تكون هناك ضمانات ان الجميع يشارك وان الاعتراض ممكن وان التغيير ممكن. ولذلك يتوزع القرار على مستويات متعددة وكل منها له حق الاعتراض. وتتجزأ العملية الى عدة اجزاء يمكن التدخل في كل منها بحيث تتجزأ عملية صنع الاجماع. كل هذه الخطوات من اجل صناعة الثقة. وهي المكون الاساسي في الدولة الذي يفتقده السوريون.

اليوم من لهم اطماع في الحكم يقولون لا تكثروا المطالب، لا تزعجوا القادة، انتظروا، اصبروا، ما بيلبق لكم الحرية، لولا القادة ما كان عندكم حرية، انت فلول، انت تتآمر، انت تفرض رأيك، وهكذا. وظيفتهم هي تقليل اعداد المطالبين بالمشاركة في الدولة حتى يتسنى لهم قضم اكبر جزء من الكعكة. يصورون القادة وكأنهم مشغولون بتأمين الخبز بينما القادة مشغولون بتوزيع المناصب وبتأمين الجنود للاستيلاء على كل الدولة وسلطتها. وكلما زاد حجم الحصة من الكعكة زاد قلق هؤلاء وزاد دفاعهم عن سرية ما يجري.

وحتى لو استطعت المشاركة فان كل المتنافسين لا يثقون ببعضهم البعض. من خلال كل التجارب السورية المعروفة فان من يصل الى السلطة يحتكرها كليا ويرسل المعارضين والمنافسين الى السجن او القبر، وهذا ما اسميه منافسة القصر او القبر. من يغلب يأخذ القصر (عادة القصر يملك كل الدولة في مخيلتنا) ومن يخسر ينتهي في القبر. لا يوجد اي شيء ملموس لدى الناس ليجعلهم يثقون ببعضهم البعض الا شوية شعارات باهتة من قبيل الشعب السوري واحد والمسامحة وتعايش الطوائف. لا احد يصدق للحظة ان من سيصل الى الحكم سيتقاسمه مع الاخرين. فإما ان ننتهي بديكتاتورية كما فعلنا في القرن الماضي او ان نبدأ باجراءات تسمح ببناء الثقة. هذه الاجراءات هي ما ذكرته من تعدد المستويات وتعدد فرص المشاركة وتعدد مواقع الفيتو وتعدد قنوات الوصول الى السلطة وتعدد اداوت صناعة الصوت وتعدد منتديات النقاش ومؤسسات التأثير. كل ذلك مع تبطيء عملية اتخاذ القرار ووجود آليات لتغييره. وفي النهاية لا بديل عن ثقافة قبول الاخر والامتناع عن التطهير والاسكات وعن الالتزام بقواعد اللعبة وتداول السلطة.


تابعونا على صفحات وسائط التواصل الإجتماعي:

أحمد نظير الأتاسي

أنا أستاذ مساعد في قسم التاريخ والدراسات الإجتماعية في جامعة لويزيانا التقنية (لويزيانا، الولايات المتحدة). في عملي الأكاديمي، أدرّس مقدمة لتاريخ العالم، تاريخ الشرق الأوسط (القديم والقروسطي، والحديث). وأعمل أيضاً كرئيس للمركز الإستراتيجي لدراسة التغيير في الشرق الأوسط، SCSCme.

You may also like...

shares