كيف نحل مشكلتنا-انتماؤنا للطائفة
11- من نحن؟ محاولة لإيجاد الانسجام بين الكيانات التي ننتمي إليها. (متابعة) الطائفة 🌷🌷🌷🌷 لا أقصد هنا بالطائفة (الطائفة المذهبية أو الدينية) فقط كما هو شائع في سوريا. وإنما أقصد أي مجموعة من الناس التي يمكن أن تسلك سلوكاً متكاملاً نتيجة شعورها بانتماء جماعي مشترك وخصوصاً إذا كان هذا الشعور يؤثر في بنية الحي والمدينة والدولة. 🌷🌷🌷🌷 الطائفة ظاهرة طبيعية في المدن المتحضرة: 🌷🌷 غالباً ما يتجمع الناس على أساس معين (كالعشيرة أو الدين أو الطبقة الدينية أو المذهب أو الطبقة الاقتصادية) ومع الزمن تتداخل المجموعات البشرية وتتطور بالتدريج الأسس التي يتجمعون حولها وتتغير وتظهر أسس جديدة فترى انتماءات الإنسان تتعدد وتتنوع وتجده بنفس الوقت يشعر بانتمائه لبقايا قبيلة موزعة و لدين أو مذهب آبائه ولمدينته ودولته. بمقدار ما تكون هذه الانتماءات منسجمة مع بعضها بمقدار ما يشعر الإنسان بالسعادة ويفيد من حوله وبمقدار ما تكون هذه الانتماءات متناقضة بمقدار ما يؤدي سلوك الإنسان إلى انتحاره الفردي وإلى انتحار الجماعة. تسمح تركيبة المدن في المدنيات القديمة والحديثة بتطوير علاقات معقدة وعميقة بين الناس قائمة على التشارك في بناء شبكات الخدمات الضخمة والاستفادة من تلك الشبكات سواء أكانت تلك الشبكات اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو سياسية أو غيرها. وتكون تلك المدن متحضرة عندما تبنى الصلات بين سكانها على قواعد حسن الجوار والتوادد والتعاطف والتراحم وكأنهم جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. 🌷🌷🌷🌷 الطوائف في مدن بلاد الشام العريقة : 🌷🌷 لقد تطورت المدن التاريخية الكبرى في بلاد الشام وتطورت فيها عبر تاريخ طويل علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية عميقة تجذرت في ثقافة عائلاتها وأفرادها الاجتماعية وفي قيم العمل والجوار والعلم والأخلاق وغير ذلك مما سمح بالتطور الدائم لهذه المدن عبر التاريخ. لم يكن تطور المدن متناقضاَ مع وجود الطوائف التاريخي فالمسيحيون واليهود في حلب مثلاً كانوا غالباً ما يتجمعون في بعض الأحياء بنسب كبيرة ولكن ذلك لم يكن يتناقض مع شعورهم بانتمائهم لمدينة حلب ولم يكن يؤثر على شعور باقي سكان حلب (أو المدن الأخرى) من المسلمين بانتماء إخوانهم إلى نفس المدينة لدرجة تبدو اليوم بعد التخريب الحضاري عجيبة فلقد روى لي أحدهم مثلاً أنه في الخمسينيات في دمشق كان أشهر من يصنع "لفات مشايخ المسلمين" هو حرفي يهودي ماهر. وكان كثير من المسلمين (والمسلمات) في المدن الكبرى يثقون لدرجة كبيرة بالأطباء المسيحيين في تلك المدن. ربما كان الانتماء الديني يضيف رابطاً جديداً بين سكان المدن المنتمين لنفس الملة ولكنه لم يكن يتناقض عموماً مع انتماء الإنسان لمدينته ولعلاقته مع جيرانه وإخوانه من باقي الملل والنحل. 🌷🌷 إن الحضارة التي تحول الاثار السلبية للانتماء القبلي إلى آثار إيجابية تغلغلت في نفسيات سكان هذه البلاد ومعظمنا يعرف أن عليه أن "ينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً" ويعرف أن نصرة أخيه الظالم تكون بكف يده عن الظلم وبالمساندة الفعلية للمظلوم. بمثل هذه المعاني الراقية جداً عمرت هذه البلدان بالحضارة. 🌷🌷 كان هناك نوع آخر من التجمعات في المدن ربما يشكل تجمعات بشرية مؤقتة. كان الناس على العموم ينتقلون ببطء من حياة البداوة إلى حياة القرى و من القرى إلى المدن وغالباً ما يشعر الإنسان بالأنس والأمان مع الناس الذين يعرفهم ولذا تكون علاقته قوية بالأساس بأسرته وعندما يعيش في البوادي تقوى صلته بعشيرته. شكل العشيرة يتغير في القرى ليصبح انتماء للأسر الكبيرة التي قد يكون فيما بينها بعض التنافس.كثيراً ما يرغب المهاجرون للمدن الكبيرة بأن يتجمعوا في البداية بناء على أشياء تجمعهم ولذا ترى أبناء العائلات المختلفة المتنافسين في قراهم متعاونين متجمعين في أحياء واحدة عندما يهاجرون للمدن الكبيرة. وترى معظم أبناء الأعراق والمذاهب المتصارعين في إحدى الدول متقاربين متعاونين ويودون العيش في نفس الأحياء عندما يهاجرون لدول أجنبية.. فمثلاً المهاجر من مدينة حلب أو ريفها يحب عندما يهاجر إلى أوربا أن يسكن بالقرب من أخيه الحلبي . 🌷🌷 من الطبيعي أن يتجمع المهاجرون للمدينة في أحد الأحياء كي يدخلوا في نظامها تدريجياً. فلا يمكن التشبع بالقيم المدنية إلا بالاحتكاك والممارسة. إن التطور المتراكم في بنية الحي والمدينة وفي العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية المعقدة والمنسجمة مع بعضها هو أساس الحضارات الإنسانية. وغالباً ما يأخذ الفرد الذي يعيش في الحي أو المدينة التي تراكمت فيها القيم والعلاقات الحضارية هذه القيم والعلاقات ويمارسها وينقلها إلى من حوله دون أن يكون واعياً بالضرورة لها. ويحتاج المهاجر إلى فترة من التأقلم التي لا تكون سهلة في البداية حيث لا يتوقف المهاجر في البداية عن إجراء المقارنات بين المجتمع الذي كان ينتمي إليه والمجتمع المدني الجديد الذي لم يندمج فيه بعد. وقد يرافق ذلك شعور بعض أبناء المدينة ب"العنصرية" تجاه إخوانهم نتيجة ظنهم أن الحضارة هي صفة يأخذونها تلقائياً بسبب ولادتهم في مدن لها تاريخ حضاري عميق. نجد مثلاً أنه تاريخياً كان "حي الأكراد" في دمشق يقيم فيه أكراد قدموا إلى دمشق ومع الزمن اندمجوا مع سكانها بالتدريج. بل إننا نلمح في التركيبة التاريخية لبعض المدن مثل مدينة حماة بقايا تجمعات كبيرة لبعض العائلات لتشكل أحياء تدل على أصول مشتركة لسكان تلك الأحياء قبل مئات السنين مثل حي "البرازية" (التي يبدو أن جذور عائلاته تعود إلى جبال برازان) وحي "الكيلانية" وحي "البارودية" .. الخ.. هناك فارق مهم بين الأسس التي بنيت عليها مدننا العريقة وبين المدن الحديثة اليوم. فغالباً ما تبنى المدن الحديثة بشكل سريع نسبياً في الدول المتقدمة اليوم على أساس اقتصادي فترى شبكات المواصلات والاتصلات والشبكات الخدمية الأخرى من ماء وكهرباء وغيرها راقية جداً ولكن لا تتطور فيها القيم الأخلاقية التي تربط بين الجيران في تلك المدن وغالباً ما نجد القيم الأخلاقية أكثر تماسكاً في الريف منها في المدينة وللأسف فإن هذه الظاهرة انتقلت تدريجياً لمدننا 🌷🌷🌷🌷 خطورة التناقض بين أساس الانتماء للطائفة وأساس الانتماء للمدينة: 🌷🌷 يحتاج الانتماء الحضاري للمدينة إلى وعي نسبي ممن يعيش في تلك المدينة لأهمية ارتباط سلوك ابن تلك المدينة بالدفاع عن القيم الحضارية الجامعة لسكانها. ويحتاج ممن يهاجر إليها أن يعي أهمية تأقلمه التدريجي معها ووعيه للاختلاف بين الأسس التي كان يجتمع حولها مع إخوانه في القبيلة أو القرية عما هي عليه في المدينة. عندما لا يكون هناك انتماء فكري واع عند الناس ولا توجد مؤسسات لنشر هذا الوعي غالباً ما يسهل تجميع الناس وتفريقهم بناء على انتماءات انفعالية. إن عيش المهاجرين الجدد المؤقت في أحياء على أطراف المدن قد يكون طبيعياً ولكن في كثير من الأحيان يمكن أن يتم تحويل الانتماء الطائفي نحو احتلال ممنهج لأحياء المدن وهنا تصبح هذه الانتماءات شديدة الخطورة على الحضارات التاريخية المتراكمة فهي تمنع المدينة من نقل قيمها الحضارية لسكانها الوافدين وتهدد أمن وسلامة المقيمين الأصيلين الذين يحملون روح تلك المدن. إن عاصمة الحضارة العالمية في القرون الوسطى (بغداد) ومع كل رقيها الثقافي والمعرفي والعلاقات الحضارية المتراكمة بين أبنائها لم تصمد أمام هجوم من مجموعة بشرية تربط فيما بينها علاقات قبلية متخلفة هي قبائل المغول الذين دمروا بغداد بشكل كامل. صحيح أن هذا الاكتساح السريع للمدن المتحضرة من قبل المغول قد أدى لاحتكاكهم بشكل سريع مع الحضارات في المنطقة وارتقى نسبياً بهم عندما عادت قبائلهم بعد جيلين بقيادة تيمورلنك ولكن بعد أن تم تدمير الكثير من البنيان الحضاري الانساني في تلك المدن والذي لو استمر لتغيرت الخارطة الحضارية العالمية عما هي عليه اليوم. 🌷🌷🌷🌷 التلاعب بالطائفة في فترات الاستعمار نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين: 🌷🌷 كما شرحت سابقاً في سلسلة "عيد الجلاء" فلقد قام الاستعمار بدراسة كل ما يميز التجمعات البشرية في هذه المناطق وحاول استخدام أي فارق ديني أو مذهبي أو عرقي ليحوله إلى انتماء متناقض مع انتماء الإنسان في المنطقة لحضارتها التاريخية الجامعة فلقد حاول تحريك عشائر البدو (باسم العروبة) والأرمن ضد الترك وحاول تأجيج المارونين وبعض طوائف المسيحيين ضد المسلمين وحاول تحريك النصيرية العلوية والدروز ضد السنة لقد تمت محاولة التلاعب حتى بعشائر الشركس وغيرهم. وليس غريباً أن بنية الدولة الفرنسية التي كانت تواجه الديانة المسيحية في فرنسا كانت تحاول أن تظهر بمظهر المدافع عن حقوق المسيحيين في بلاد الشام! إن المستعمر يحتاج لكوادر محلية تخدمه (كالموظفين والجند) ومن خلال سلخ مكونات المجتمع عن بعضها يستطيع تأمين هذه الكوادر. على الرغم من تفتت الدولة العثمانية إلا أن النخب كانت إلى حد ما قادرة على استيعاب ذلك ومواجهته ولذا نجد أن ثوار سوريا قاموا بتنصيب "سلطان باشا الأطرش" زعيم الدروز قائداً للثورة السورية الكبرى التي كانت تحوي نخباً من مختلف المدن السورية. يبدو أن سلطات الاستعمار استخدمت الفوارق بين الكتل البشرية ولكنها لم تنقل تلك الكتل من مكان لآخر لإجراء تغييرات ديمغرافية في مواقع الكتل السكانية في بلاد الشام (عدا فلسطين) 🌷🌷🌷🌷 نتائج الانقلابات العسكرية في الستينيات على بنية المدينة: 🌷 1. لقد بنى "الحزب العربي الاشتراكي" فكره على أفكار الصراع بين الريف والمدينة التي بدأ بنشرها. وبعد أن أصبح "الحزب العربي الاشتراكي" جزءاً من "حزب البعث العربي الاشتراكي" ومن ثم جاءت موجة الانقلابات العسكرية في المنطقة التي حاولت ان تستمد شرعيتها من خلال إيجاد صراع بين الريف والمدينة مما أدى لحشر عدد كبير من المسؤولين بشكل كبير من أبناء الريف في المدن حتى في إدارة بلديات ومحافظات المدن التاريخية الكبرى العريقة في سوريا مما قطع الرابط التاريخي بين ثقافة تلك المدن وبين أساليب إدارتها ومهد تدريجياً لتدمير تلك الثقافة. 🌷 2. عمدت السلطات العسكرية غير المؤهلة والتي سيطرت بقوة الجيش على مباني مراكز صنع القرار إلى استصدار قرارات غير مدروسة ومفتعلة لمصادرة المعامل الكثيرة والضخمة في المدن السورية العريقة بالقوة مما أدى إلى تفتت كبير في البنى المجتمعية في تلك المدن العريقة وإلى التخريب التدريجي لمعاملها ولنموذجها الاقتصادي الخاص المرتبط بالبنية الاجتماعية. 🌷 3. لم ترتقي الانقلابات بالتأكيد بمستوى الريف مما أدى إلى ازدياد الهجرة من الريف إلى المدينة. 🌷 4. لم تقم البلديات في المدن الكبرى ( والتي تم تغيير مديرييها بقوة السلاح) بالتخطيط لاستقبال الوافدين من الريف لذا نمت أحياء عشوائية عجيبة بدأت تلتهم النموذج المعماري بالاضافة إلى الإرث الاجتماعي الحضاري المتراكم في تلك المدن. لقد تم القضاء بنسبة كبيرة على غوطة دمشق وتخريب الطراز المعماري المميز لكل مدينة من المدن السورية. 🌷🌷🌷🌷 نتائج انقلاب 1966 وسيطرة المخابرات على بنية المدينة: 🌷🌷 1. أدت سيطرة المخابرات الكاملة على حياة الأفراد والمؤسسات في المدن وعلى مستوى الدولة إلى تجميد عمل تلك المؤسسات وتحويلها إلى مؤسسات تستطيع في أحسن الأحوال القيام بأعمال روتينية وأصبح هناك انفصام بين انتماء الإنسان للمدينة وبين إدارة تلك المدينة فالمخابرات تقوم بتعيين المسؤولين في البلدية بما فيهم رئيس البلدية!! وليس غريباً مثلاً أن يكون رئيس بلدية حلب هو ابن خالة رئيس الدولة الذي لم يعش يوماً في حلب أو أن يكون رئيس مؤسسة السكك الحديدية والتي مركزها حلب هو أيضاً صديقه. ومدير شركة المياه لم يكن يعرف عنها شيئاً قبل تعيينه فيها. فالمناصب هي عبارة عن أعطيات ومكافآت. لم يبق في المدن أي رابط مستمر بين أسلوب الإدارة القديم العريق وبين تركيبة الإدارة الجديدة. حتى مخاتير الحارات أصبحوا عبارة عن مجموعة موظفين معينين بناء على توجيهات المخابرات ربما يكونون أناس لا يعرفون عن الحارات أي شيء و"المخترة" بالنسبة لهم وبالنسبة للجيل الجديد من أبناء المدينة هي عبارة عن مصدر رزق يأخذ صاحبه عن توقيع شهادة الوفاة أو الميلاد مئة ليرة سورية. 🌷 2. أدت بنية المخابرات التي تعتمد في بسط سيطرتها على التفرقة بين مختلف طبقات النسيج الاجتماعي إلى تحويل علاقات الانتماء إلى علاقات صراع. فاعتماد المخابرات على البنية القبلية أدى إلى وجود ظاهرة عجيبة في أعرق مدن العالم حيث نجد أن البنية القبلية قد تكرست في باب النيرب في حلب مثلاً حيث نجد "بيت بري" و "العساسنة" وغيرهم حيث يشكلون عصابات تساندها المخابرات لتهريب الدخان والمخدرات ويتم استخدام تلك العصابات في المواجهة المسلحة للمظاهرات. كما يتم استخدامها ككتل بشرية تساعد على اختيار ممثلي حلب في البرلمان السوري!! 🌷 3. قامت المخابرات ايضاً في السبعينيات بالمساهمة بانشاء "حزب العمال الكردستاني" وبتكريس سلطته مما أدى إلى نشر أفكار تجعل الإنسان الكردي يشعر أن انتماءه لعشيرة كردية يتناقض مع انتمائه الحضاري للمنطقة. لقد قامت المخابرات باسكات أي صوت فكري آخر على الساحة يستطيع مواجهة تلك الأفكار الخطيرة التي تبنى عليها تنظيمات عسكرية. 🌷 4. استخدمت القيادات الانقلابية الطائفة النصيرية العلوية في السيطرة على المراكز العليا في الجيش وفي المخابرات وفي مختلف مراكز الدولة العليا ذات الأهمية الخاصة مثل وزارة النفط. وقامت نتيجة ذلك (وربما بتخطيط خاص) حركة هجرة سكانية كبيرة من مناطق الطائفة العلوية إلى العاصمة دمشق وحمص والعديد من المدن السورية مما منع من الاندماج الطبيعي للمهاجرين بسكان المدن الأصليين وأدى إلى وجود أحياء جديدة نشأت فيها حالة مواجهة اجتماعية مع التركيبة السكانية في باقي المدينة. حيث أن لكل مجموعة مدارس ومشاف وجمعيات شبه منفصلة. (ربما هذا يشبه حالة الضاحية الجنوبية لبيروت). وحالة التوتر هذه ستبقى مستمرة لأنها لن تسمح للوافدين الجدد بالتواصل السليم مع أهل المدينة الأصلاء كي يستطيعوا الاندماج فيها. لقد لاحظت مثلاً أن العديد من أبناء العشائر البدوية استطاعوا الاندماج مع المجتمع الحمصي فيما لم يستطع أبناء الطائفة العلوية ذلك بسبب استخدام المنظومة الحاكمة الطائفة العلوية كوسيلة لتكريس سلطة المخابرات. 🌷 5. بنفس الشكل تحولت أحياء مثل حي الأشرفية والشيخ مقصود إلى أحياء يتجمع فيها الأكراد المهاجرين إلى حلب من دون أن يحدث اندماج طبيعي مع المدينة بسبب نشاط الفكر الانفصالي الذي يشجع هذه الهجرة لكنه يحاول انشاء حالة مواجهة بين المهاجرين وبين السكان الأصليين. 🌷 6. لقد دمرت المخابرات البنية التاريخية لإدارة المدن السورية وبنفس الوقت منعت تلك المدن من تطوير نفسها ومن تطوير أساليب إدارتها في زمن يتغير فيه العالم بسرعة هائلة وتولد فيه مدن جديدة وتتراجع فيه بشكل سريع أهمية مدننا الحضارية بالنسبة لباقي العالم. 🌷 7. من الغريب أنه بعد تسليم الجولان تم إبقاء أبناء الطائفة الدرزية فيه في القسم الي تم احتلاله بينما تم تهجير باقي الطوائف إلى داخل الأراضي السورية (النازحين) يبدو أن ذلك كان لاجراء تغيير ديمغرافي يضعف الطائفة الدرزية التي كان لها نفوذ في الجيش فالانقلابات الثورية لحزب البعث بدأت بضباط ريفيين ثم بأبناء الأقليات ثم بأبناء الطائفة العلوية لتتكرس بالدائرة المقربة من الشخص الحاكم. 🌷 8. نتيجة سيطرة المخابرات على مفاصل كل شيء تسربت رؤوس الأموال بالتدريج من أصحاب الأموال الشرفاء وبدأت تتكدس بشكل عجيب بأيدي شخصيات مقربة من ضباط المخابرات وبأيدي ضباط المخابرات أنفسهم بشكل غير قانوني وأصبحت قدرة الصناعي أو التاجر على الاستمرار بنشاطه وبتطويره مرتبطة بقدرته على بناء شبكة غير قانونية من رجال المخابرات والجيش والحزب وغيره. 🌷 9. أصبحت الإرادة الفردية المتوارثة (ولكنها غير مدروسة) للسكان هي العامل الأساسي لربط الأبنية الجديدة بالنمط المعماري القديم. لقد بلغت الوقاحة والفكر الطائفي المتطرف بالمسؤولين الذين تضعهم المخابرات أن يستخدموا نموذجاً جديداً من قبب بعض المساجد الجديدة في حلب يشابه قبب المساجد في إيران ويخالف كل النماذج التاريخية في المنطقة. 🌷 10. حتى المثقفين الذين لم يتربوا حضارياً أصبحت طريقة تفكيرهم خطيرة جداً. عندما بدأت الحكومة لأول مرة بتنظيم المدن من خلال التشديد في منع المخالفات تلقيت تعليقين من صديقين طائفيين (مثقفين!!). أحد أصدقائنا من الأطباء الذي عنده مشفى في الأشرفية وهو من القوميين الأكراد فسر لنا رفض البلدية بناء غرفة مخالفة على سطح المشفى بأنه عنصرية عربية ضد الأكراد. بنفس الوقت فسر لي صديقي العلوي رفض البلدية أن يقوم أقرباءه ببناء غرفة مخالفة على السطح في قريته في سهل " الغاب " بأنها بسبب تعصب الأغنياء ضد الفقراء!! مع العلم أن أراضي سهل الغاب تم إعطاؤها مجاناً لأولئك السكان بعد تجفيف مستنقع الغاب قبل عشرات السنين. في كلا الحالتين نرى انهياراً عاماً في فهم المدينة حتى عند معظم المثقفين. 🌷 11. بمقابل تجميد الجمعيات العامة وربطها بالمخابرات مما خرب بنية المجتمع المدني سمحت المخابرات للعديد من الأقليات بتشكيل جمعياتها لأن جمعيات الأقليات لا تشكل خطراً على سلطة المخابرات بل بالعكس تبدو سلطة المخابرات منسجمة مع ما تطلبه الدول العظمى من حماية الأقليات ولذا تجد بأنه في مدينة حلب كانت هناك مثلاً مدارس وجمعيات أرمنية شديدة النشاط تحافظ على بنية الطائفة الأرمنية وعلى تماسكها ولم يتوفر شيء من ذلك للأكثرية!! لدرجة أن فنان حلب (وربما سوريا) المشهور همام الحوت كان يقوم بعروض مسرحياته في مسارح تلك الجمعيات 🌷🌷🌷🌷 الطائفة في المدينة والأحداث الجارية: أظهرت الأحداث ضياع أية وسيلة تاريخية لتمثيل المدن السورية فلا يوجد في الحقيقة أي تمثيل برلماني أو بلدي وأظهرت الأحداث التقهقر الهائل في البنية الحضارية. حيث أننا نرى ناطقين باسم المخابرات أو ناطقين باسم المسلحين. 🌷 1. إن بدء الأحداث في درعا نفسها دليل على ضياع البنية المجتمعية للمدن فأحياء مدينة درعا تحوي الأقرباء من بقايا العشائر القديمة التي ينتمون إليها. إن هذا الرابط ذو الجذر العشائري هو الذي يعطي التماسك لأبناء المدينة وليس مؤسسات المدينة التي تتحكم بها المخابرات. ولعل هذا يعطي فكرة عن أحد أسباب المواجهة القاسية لمدينة حماة في الثمانينات. 🌷 2. تم تسريب فيديوهات كثيرة يقوم بها الشبيحة (وغالباً ما يكونون من أبناء الطائقة العلوية) بالدعس على الناس أو بتشريط أجسادهم وهم أحياء أو بحرق رؤوسهم الخ.. ولم تجر أية محاكمات (ولو شكلية) للمجرمين وظهرت المؤسسات الرسمية بمظهر المستسلم بشكل كامل للمخابرات. مما أدى لتوليد حقد كبير على أبناء الطائفة مما سهل إشعال الصراع الطائفي الذي تريده المخابرات المحلية والعالمية. 🌷 3. نتيجة التدمير التاريخي للمؤسسات التي تعبر عن أهالي المدن أو أهالي القرى (مهما كان مذهبها أو عرقها أو دينها) تحولت عمليات مواجهة الشبيحة من أبناء الطوائف والأقليات إلى مواجهة لتلك الطوائف والأقليات. وتحولت المطالبات ببناء نظام الدولة التي التي تمت مواجهتها بقسوة مفرطة إلى مواجهات مسلحة أخذت بشكل سريع طابعاً دينياً سنياً ولكنها غير واضحة الأهداف. 🌷 4. قامت المخابرات باستخدام كل أشكال السلخ المجتمعي لخلق توترات في المدن والقرى لم تنتهي وستبقى آثارها المدمرة فلقد حاولت بث التفرقة بين الريف والمدينة ففي حلب حاولت أخذ عناصر شبيحة وقتلة مأجورين من عشائر باب النيرب ومن الماردل ومن التركمان ومن الشيعة وغيرهم (خارج أي إطار قانوني ولو شكلي). ونجحت في تخويف المسيحيين وقامت بتوريط كبار التجار والصناعيين من خلال إجبارهم على دفع فواتير الشبيحة. 🌷 5. نجحت المخابرات (المحلية بشكل خاص ومن ثم العالمية) بالاختباء وراء الصراع المسلح الذي افتعلته. هذا الصراع يتطلب حشد كل ألوان المواجهة الطائفية والذي ستحاول المخابرات دوماً أن تأخذ شرعيتها فيه من شرعية مؤسسات الدولة التي تحتلها. أدى ذلك إلى استخدام مؤسسات الدولة في كثير من الأحيان بتنفيذ جرائم ضخمة منها على سبيل المثال الهجوم على كليتنا والتي لم يتجرأ عميد الكلية (الذي عينته المخابرات) أن يبلغ الشرطة رسمياً به. ومنها قصف جامعتنا بصاروخين من طائرة حربية سورية. 🌷 6. تم بشكل سريع تفتيت المدن على أساس طائفي مثل مدينة حمص. وتم تفتيت البلد على أساس طائفي فمدن الساحل التي تشكل الطائفة العلوية نسبتها الغالبة أصبحت آمنة لأن الخطر الأكبر القادم من البراميل وغيرها بعيد عن تلك المناطق. أدى ذلك لهجرة كبيرة داخلية من قبل الكثير من سكان باقي المناطق إلى الساحل مما أدى لضغط كبير عليها. 7. تضاعف تخريب المفاهيم في العقول من خلال اقناع الناس (الذين لم يقوموا يوماً بإدارة بلدهم) بأن الموضوع هو صراع بين طرفين أو عدة أطراف. وفي سبيل ذلك تم استخدام القتلة والمجرمين كي يمثلوا جزئياً أحد تلك الأطراف وليقنعوا داعمي الأطراف الأخرى بشرعية دعمهم. 🌷 8. وصل التخريب إلى حد التدمير المباشر للمباني بطريقة البراميل العجيبة التي يتم رميها فوق الأسواق العامة بهدف إجبار الناس على القدوم إلى المناطق التي تحكمها المخابرات بشكل كامل. وتم القصف العشوائي الواسع بمدفعية ما يسمى الجيش العربي السوري لمدن وقرى ما يسمى بالوطن العربي السوري! 🌷 9. وصل التخريب لحد رمي أكثر من سبعة آلاف برميل متفجر على مدينة داريا (التي كان عدد سكانها حوالي 220 ألف شخص) أي بمعدل برميل متفجر لكل ثلاثين مدني من سكان داريا المدينة العريقة على بعد ثمانية كيلو مترات من دمشق. والاعتقال المباشر أحياناً على البطاقة لمن كان من مواطني هذه المدينة. واعتبر من يسمي نفسه بالجيش العربي السوري أنه انتصر عندما قام بتهجير كامل سكان إحدى أكبر ضواحي عاصمة ما يسمى بالجمهورية العربية السورية وصفق من يظنون أنهم مساندون لما يسمى الدولة لهذا الانتصار! لقد وصل التخريب العقلي الطويل إلى حد لا يمكن إصلاحه بعد تخريب المباني! 🌷 10. لقد تمت مهاجمة القرى التركمانية في حمص بعد دخول الجيش التركي لجرابلس وهذا يدل على عدم وجود أي حس بالمسؤولية عند أصحاب القرار. حتى المجرمين الكبار في العالم يمكن أن يفكروا بمستقبل ابنائهم وبخطورة ما يفعلونه على مستقبل أبنائهم. 🌷 11. إن عدم الإحساس بالمسؤولية يصل إلى أعلى درجة في سلم متخدي القرار من ضباط المخابرات أو من الناس الذي يمثلونهم ظاهرياً ولعلي ما أزال أتعجب من رد ما تسمى بنائبة الرئيس "بثينة شعبان" عندما تم سؤالها عن السلاح الكيماوي الذي تم استخدامه في غوطة دمشق وقتل أكثر من الف وخمسمئة شخص كثير منهم من الأطفال حيث لم تنكر الجريمة ولكنها قالت بأن الأطفال قد تم إحضارهم من قرى الساحل (أي تقصد أنهم من ابناء الطائفة العلوية) وهذا دليل على أن المجرم ليس هو الجيش. لا أستطيع أن أتخيل أن مثل هذا الشخص يسيطر عليه التفكير الطائفي لدرجة أنه يصبح حتى غير قادر على تغليف إحساسه الطائفي الإجرامي بغلاف من الكلمات الدبلوماسية. 🌷 12. بالاضافة إلى الرمي الواسع المدمر بالبراميل تم القصف العشوائي بالصواريخ وقذائف الهاون وجرات الغاز الذي لا يقارن من حيث الكمية (والذي ربما له أثر تدميري بنسبة واحد إلى عشرة آلاف أو واحد إلى مئة ألف بالمقارنة مع البراميل) ولكنه يقارن مع البراميل من ناحية عمق الجريمة. 🌷 13. ألغت المخابرات أي تواجد رسمي لأي مؤسسة من مؤسسات الدولة أو لكوادرها في المناطق الخاضعة لسيطرة المخابرات. وأصبحت حتى إقامة الموظف الرسمي في أماكن لا تخضع لسيطرة المخابرات يمكن أن تتحول لتهمة له. أدى ذلك إلى فصل إداري للمدن السورية عن بعضها وسيكون له نتائج كارثية في المستقبل. 🌷 14. قامت قوات المخابرات بمحاولة اغتيال الكوادر المدنية التي تم انتخابها لإدارة المدن في المناطق التي خرجت عن سيطرتها. مما يدمر أي استقرار مدني مستقبلي. بنفس الوقت لا تسمح سلطات المخابرات ضمن المناطق التي تخضع لها بأية انتخابات حقيقية لممثلين عن الشعب قادرين على فهم أعماق المصيبة للبدء بحلها. وهي نفسها لا تستطيع فهم التخريب المتراكم الذي تقوم به والذي لن ينتهي إلا بتخريب كل شيء في البلد. 🌷 15. لاحظت أن بنية المجتمع المدني التي كان مسموحاً بها جزئياً لبعض الطوائف كانت مفيدة نسبياً. فتشجيع المخابرات للناس ببناء المساكن العشوائية على أسطحة البنايات في بداية الأحداث والذي أدى لصراعات هائلة بين أبناء المجتمع لم يلق صداه في المناطق التي تقطن فيها غالبية مسيحية 🌷 16. بالمقابل فإن تدهور التعليم وتجميد الحركة الفكرية في وتشجيع الانفصاليين الأكراد في العقود الماضية قد تم استخدامه في الأحداث حيث تم دعم المخابرات للانفصاليين للسيطرة على المناطق التي تسمى كردية وتم افتعال أحداث مواجهة لتوليد صراع عربي كردي للتغطية على الجرائم التي تقوم بها المخابرات مما سيؤدي لنتائج كارثية. 🌷 17. مع حركة النزوح تظهر حركة بيع للأراضي يقال بأنها طائفية كما يقال بأن هناك توجه لإجراء تغييرات ديمغرافية في المدن تسمح بتنفيذ المخططات العالمية وتلبي متطلبات المنظمة الصهيونية التي تسعى إليها منذ النكبة بأن يتم إحاطة الكيان بدويلات صغيرة معتمدة على الطوائف والأقليات تؤمن له عزلاً أمناً عن محيطه ولعل التعليمات الأمريكية للانفصاليين الأكراد بالتوجه لشرق الفرات له علاقة بالمشروع القائم بين الفرات والنيل. 🌷🌷🌷🌷 بالنتيجة 🌷🌷🌷🌷 إن القيم الحضارية لمدننا تراجعت بشكل هائل. والنموذج الحضاري الذي كان موجوداً فقد جزءاً كبيراً من قدرته على التماسك وعلى إيصال رسالته المتكاملة للأجيال القادمة منذ عشرات السنوات ولذا فقد ضاع حتى الآن جزء كبير منه وبسبب تخريب مفهوم الانتماء للطائفة وتحويل ذلك الانتماء إلى طاقة سلبية فإن قيم مدننا تتعرض لانهيار متسارع كما يتعرض بنيانها وسكانها للهدم والقتل. إن الانتماء غير الواعي لن يفيد وقد يؤذي وإن التأييد الانفعالي لبعض الجماعات قد يساهم في زيادة التخريب. كذلك فإن الانتماء غير المكلف والذي يجعلنا ننشر بوستات لأصدقائنا من قبيل "أنقذوا حلب" لن ينقذ حلب أو غيرها وهو يشبه تشجيعنا للفرق الرياضية من وراء شاشات التلفزة.
يمكن أن يعطينا انتماؤنا لطوائفنا طاقة ولكن هذه الطاقة يجب أن تكون إيجابية حضارية تمكننا من التكامل والانسجام مع بني آدم المسالمين وتساعدنا على مواجهة المجرمين وتدفعنا لإدراك الموقع الحضاري القديم الذي كان لأحيائنا ولمدننا وتساعدنا على التعاون في أخذ موقع بلادنا السليم في عالم شديد التغير ولكنه يعتمد على التخطيط السليم.