المنظومة الموازية-أداة التعليم

من Wiki Akhbar
اذهب إلى: تصفح، ابحث
سر الوجود

الطفل السوري يعرف "سر الوجود" قبل سن السابعة:

قد تبدو هذه نكتة بائخة. ولكن الحقيقة المرة هي أن مقررات الصف الأول الابتدائي تفترض أن الطالب في سوريا يعرف "سر الوجود" قبل سن السابعة. فاللامنهجية في التعليم تتطلب من طالب الصف الأول الابتدائي في بلد يعيش معظم سكانه تحت حد الفقر أن يكون مرهف الحس في تذوق الأنغام الموسيقية وتتطلب من ذلك الطفل المسكين والذي لم يتعلم بعد حتى تمييز الحروف أن يعرف فنون علم البلاغة وأن يستوعب المعاني غير المباشرة في التشبيه والكناية والاستعارة وأن يتعالى عن العالم المحسوس ليحلق في عالم العواطف ليتذوق معنى" ندى الحب" وأن يمزج حسه الموسيقي ببلاغته الأدبية ليفهم كيف يمكن أن تتحول "الأنغام" إلى "ندى حب يملؤ القلب". وإن لم تصدق فيمكنك أن تراجع معي أول أو ثاني "نشيد" و الذي مازال معظم الأطفال في سوريا يتعلمونه منذ عشرات السنوات خلال مراحل الدراسة الرسمية ماما ماما يا أنغاما تملؤ قلبي بندى الحب أنت نشيدي عيدك عيدي بسمة أمي سر وجودي أنا عصفور ملء الدار قبلة ماما ضوء نهاري ماما توقظني بالفجر يدها الحلوة تمسح شعري أهوى ماما أفدي ماما في الحقيقة كان يتم تلقيننا هذا الكلام عندما كنا أطفالاً كالببغاوات. ولكن يبدو أن معظم أبناء سوريا قد استخدموا ذكائهم الطبيعي للتحرر من هذه المعاني المجردة إلى معنى حسي موجود في بيئتهم فلم نكن نستمتع إلا بالعبارة الأخيرة التي أضفناها والتي اتفق عليها معظم الأطفال في سوريا "سليمان العيسى بياع الكوسا".

مستوى التعليم في خمسينيات القرن الماضي أرقى بكثير من مستوى التعليم اليوم:

يمكننا استخراج آلاف الأمثلة من مثل هذا المثال من مناهج التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي والجامعي وما فوق الجامعي ويمكننا ملاحظة الانحدار الهائل والتخبط في صياغة المناهج التعليمية وتعديلها والتي تتم بلا منهجية واضحة منذ عشرات السنوات وبالتأكيد فإن مستوى المرحومة جدتي والتي تلقت تعليماً ابتدائياً من خمس سنوات (سلتافيكا) في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي قبل قرن تقريباً ثم عملت معلمة هو أفضل بكثير من المستوى العام لخريجي الأدب العربي في مختلف الجامعات السورية. كانت جدتي المرحومة بارعة في فنون "العربية" و"الفرنسية" و بنسبة ما "التركية" وكذلك في التاريخ والجغرافيا والخط والفنون الجميلة وغيرها إضافة إلى علوم الدين والخبرة في التواصل الاجتماعي فقد درست وفقاً لمنهجية واضحة بينما في الوقت الحال لا يوجد أي هدف استراتيجي حقيقي خلال مراحل التعليم المختلفة. لقد أتيحت لي الدراسة وفقاً للمناهج السورية في المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية الأولى ثم تابعت الدكتوراة في بلد غربي وقمت خلالها و بعدها بالمساهمة بالتدريس وبوضع المناهج و بتعديل الشهادات في سوريا وفرنسا خاصة وكنت خلال فترة دراستي بل وحتى خلال ممارستي لمهنتي كأستاذ جامعي أقوم طوعياً بتدريس أصدقائي وأقاربي من أقراني أو ممن هم أصغر مني سناً لذا أتيحت لي فرصة المقارنة بين المناهج السورية المتتالية وكذلك المقارنة بين المناهج المدرسية في بعض الدول الأوربية والعربية وسوريا والأهم من ذلك أتيحت لي فرصة فهم آلية وممارسة وضع المناهج الجامعية في أوربا وسوريا. أستطيع أن أؤكد مثلاً أن منهج الفيزياء الذي درسه أبي في بداية خمسينيات القرن الماضي أفضل من المنهج الذي درسته أنا والمنهج الذي درسته أنا أفضل من المنهج الذي قمت قبل عدة سنوات بتدريسه لابن أختي. العجيب أن شكل الكتاب نفسه وتنضيد الحروف في الكتاب الذي درسه أبي أفضل وأجمل بكثير من كتب اليوم مع أن أدوات الطباعة والنسخ والتدقيق اليوم قد تطورت بحيث لا يمكن مقارنتها اليوم مع ما كانت عليه قبل عشرين سنة فما بالنا بما كانت عليه قبل سبعين سنة. لا يمكن أن نقارن أبداً الخريجين الجامعيين اليوم بخريجي المدرسة السلطانية (المأمون) في حلب ولا خريجي المدرسة السلطانية (مكتب عنبر) في دمشق (والذي تأسس عام 1877). لقد قدمت مدارس الأمس "المعرفة" وليس "الشهادات الكرتونية" والتركيب الفعلي للمؤسسات في سوريا يعود إلى شخصيات في القرن الماضي تعلمت في المدرستين أو في المدارس والجامعة قبل أن تسيطر عليها المنظومة الموازية. كان خريج تلك المدارس مثقفاً حقيقياً تعمق ثقافته مقدار فهمه لهذا الكون وتعمق قدرته على التفاعل معه وعلى المساهمة في تماسك مجتمعه والدفاع عنه وفي بناء الحضارة الانسانية المحلية والعالمية لذا كان من الممكن أن يتقن الفرنسية ويقف نتيجة تعلمه للفرنسية ودراسته للحركة الإصلاحية الفرنسية أن في مواجهة الظاهرة الاستعمارية الفرنسية. يقال بأن نسبة المتعلمين اليوم في سوريا هي أكبر مما كانت عليه في القرن الماضي وهذا كلام قد يكون صحيحاً ولكنه يحتاج لبحث وتمحيص. وللحكم في هذا الموضوع يجب أن نعرف عدد سكان بلاد الشام في القرن الماضي ويجب أن نعرف نوع التعليم الأولي العام الذي كان يتلقاه معظم الناس آنذاك ويجب أن نعرف نقارن مستوى التعليم الأولي والتخصصي الذي كان يتلقاه الناس في بلادنا مع مستوى التعليم الوسطي في العالم في نفس الفترة. ثم نعيد نفس المقارنة في العصر الراهن مع التمييز بين الفرد المتعلم حقيقة وفق معايير واضحة وبين حامل الشهادة الرسمية وسنكتشف حينها أننا نزداد تخلفاُ بالمقارنة مع باقي سكان العالم. يكفي أن نذكر بأنه ومع وجود مئات آلاف الخريجين الجامعيين السوريين فإن قلة من أولئك الخريجين تستخدم الأدوات العلمية في فهم ما حدث وما يحدث في سوريا وأن قلة من تلك القلة قادرة على استخدام تأهيلها الجامعي في إيقاف القتل والتدمير وفي محاكمة القتلة والمجرمين الذين يحرقون الحرث ويبيدون النسل قبل أن نتحدث عن البناء الحقيقي للإنسان والبلدان والأمم.

الخسارة الكبيرة للأمة نتيجة اللامنهجية في التعليم:

إن الخسارة الكبيرة على مستوى الشعب السوري (وما شابهه) من وجود نشيد "ماما ماما يا أنغاما" في بداية المرحلة الابتدائية ولو تابعنا خطورة وجود أمثاله لوجدنا أن الخطر أكبر بكثير مما نتصور: 1. المكسب العلمي الحقيقي للإنسان السوري خلال مراحل تعلمه يعود لجهده الشخصي ولجهود عائلته ولجهود المخلصين من المعلمين الذين يبذلون جهوداً هائلة في ظروف صعبة لإصلاح شيء من التخريب الهائل الناتج عن اللامنهجية في إدارة العملية التعليمية 2. لو قمنا بعملية حسابية بسيطة لعدد الطلاب الذين تم تلقينهم هذا النشيد لوجدنا أن الوقت الذي أضاعه المعلمون والطلاب في تحفيظ كلمات غير مفهومة يقدر بعشرات ملايين الأيام وهذا يعني حوالي مئة ألف سنة من عمر الإنسان السوري فقط ناتج عن "نشيد ماما ماما" فما بالنا بآلاف الأمثلة المشابهة. إن هذا يعني خسارة قسم كبير من أهم سنوات عمر الإنسان السوري بين سن السابعة والثالثة والعشرين ولو قمنا بضرب عدد المتعلمين بعدد السنوات الضائعة لوجدنا بأن النتيجة هي عشرات ملايين السنوات من عمر الإنسان السوري 3. في مرحلة مبكرة جداً يتم تخريب مفهوم العلم في ذهن الطالب ويتم خلق ذلك الشرخ الواسع بين واقع الحياة وبين فكر الإنسان. 4. يؤدي ذلك الفصام الطويل بين العلم والواقع إلى نجاح الإنسان غير المتعلم في كثير من الأحيان في حياته الشخصية أكثر من الإنسان المتعلم 5. يؤدي ذلك أيضاً إلى استخدام المتعلم الجامعي لشهادته وكأنها (تمائم) لا يفهمها البشر ولا يفهمها هو تؤهله لنيل مركز رسمي أكثر رقياً دون أن يستخدم أية (مهارة) علمية في مركزه الرسمي غير مهارة التواصل مع (الواصلين) 6. أدى ذلك إلى الانهيار التدريجي للقيمة المعنوية العالية التي كان مجتمعنا يكنها للعلم والمتعلمين بل دفع ذلك الناس في بعض حواضرنا التاريخية العريقة إلى تشجيع أبنائهم على ترك المدارس والجامعات كي يتعلموا عملياً فنون التجارة والصناعة والزراعة فهم يظنون بأن الجامعات تعطي علوماً نظرية وفي الحقيقة فإن مشكلة التعليم الكبيرة هي أن التعليم الرسمي فقد منهجيته وأهدافه 7. أدى ذلك لجهل المتعلم السوري بآلية التعامل والتواصل الضرورية لعمل الفرق والمؤسسات وبجهله بآلية العمل الرسمي للمؤسسات في العالم. هذا التأهيل الذي يفترض أن يتلقاه عملياً خلال حياته المدرسية والجامعية 8. يؤدي ذلك لحدوث صدمات للخريج السوري عند متابعة دراسته في بلدان حقيقية أو لدى عمله في مؤسسات عالمية لذا نجد بأن معظم الخريجين السوريين اليوم يشعرون "بغربة مهنية" فقد كانت مؤسسات الدولة السورية الرسمية المصابة باللامنهجية في الإدارة تستقبلهم وتعطيهم مواقعهم الشكلية فيها التي لا يفيدون فيها كثيراً ولا يستفيدون أما اليوم وقد انتقل كثير من السوريين إلى بلدان الهجرة واللجوء عاجزين عن استخدام شهاداتهم في العمل. 9. انعكس تخريب التعليم بشكل كبير على سلوك وطريقة تعبير الشعب السوري خلال المحنة القاسية في السنوات الماضية (بل خلال الخمسين سنة الماضية). فالإنسان السوري فقد قدرته على الربط العلمي بين الأسباب والنتائج. معظم أبناء الشعب السوري المعارض والمؤيد والصامت لا يستطيع أن يميز في حديثه بين العصابة والدولة وبعض الشعب مستعد أن يدخل في حرب حقيقية نتيجة الصراع حول كلمات مطاطة لم تتضح معانيها ولا أبعادها. لا يعرف كثير من المعارضين حتى الآن أنه كان يشكل جزءاً من المنظومة التي يدعي أنه يعارضها. وأن أسلوب معارضته نفسه يؤدي إلى استمرار هيمنة المنظومة الموازية على البلاد وأن تأييده للإجرام تحت أي مسمى كان يعني تأييده للمجرمين الذين يدعي معارضتهم. في حين لا يريد كثير من أبناء الشعب المؤيد أصلاً أن يدرك وجود المنظومة الموازية التي تجاوز إجرامها كل الحدود ووصلت لحد الرمي الممنهج لعشرات آلاف البراميل المتفجرة فوق أبناء الشعب السوري. وأن طريقة تأييده لن تمنع المجرم من رمي البراميل المتفجرة فوقه وأن طريقة تعبيره عن التنديد بالجرات وقذائف الهاون التي يتم رميها تؤدي إلى استمرار استخدامها بشكل ممنهج. الشعب السوري لا يدرك حتى الآن مسؤوليته عما يحدث له ولتخريب التعليم دور كبير في كل ذلك

للحديث بقية:

هذه مقدمة لحديثي عن العملية التعليمية وعن آلية إصلاحها وهو جزء من السلسلة المترابطة التي أكتبها بشكل مترابط عن الجذور العميقة والمتشعبة لمشكلتنا في سوريا وفي المنطقة على مستوى الفرد والجماعة والدولة وعن إمكانات الحلول الكبيرة وعن كيفية اسبثمارنا من إمكانات الحلول. سأتحدث لاحقاً عن :

سبب اللامنهجية في التعليم

خطورة اللامنهجية في التعليم في الوضع السوري الحالي عجز السوريين عن الاستفادة من وسائل التواصل السوريين عن فهم تاريخهم عجز السوريين عن التعلم والتعليم خلال الأزمة عجز السوريين في الخارج التلاعب بالتعليم هو سرقة من مستقبل الأمة و ما يحدث اليوم هو نتيجة السرقات المتراكمة من الماضي الخطر من تخريب التعليم يتعاظم بشكل أسي خيانة المثقف وأثره المدمر في تخريب البلاد انعكاس تخريب التعليم على طريقة التأييد والمعارضة فائدة كون السوريين في المهجر علمياً كيف نحل نستخدم إمكاناتنا في إعادة المنهجية للتعليم وفي الارتقاء بالشعب السوري في الداخل والخارج

30- هذه هي الحلقة 30 من سلسلة كيف نحل مشكلتنا؟