المنظوماتية في السوسيولوجيا
28 نيسان 2018، المنظوماتية كطريقة جديدة لفهم التاريخ
كنت ادرس مقدمة الى التاريخ الغربي لطلاب السنة الاولى. ثم قررت ان ادرسهم مقدمة الى تاريخ العالم. لم اقبل بهذه النقلة الا بعد ان طورت سردية تاريخ البنيات السياسية والاجتماعية بدءا من القرية الى المدينة الى المملكة والامبراطورية. نحن نعيش في مرحلة نضج الامبراطوريات واعني الامة الدولة، وظهور الامبراطوريات الاقتصادية الكونية. السردية تقوم على فكرة ان التاريخ هو سيرورة ظهور وتطور هذه البنيات او المنظومات الضخمة. في كل مرحلة تاريخية اعرض البنية الجديدة وكيف تطورت عن القديمة واعرض امثلة من حضارات مختلفة ثم اعطي قائمة بالصفات العامة المميزة لهذه البنيات وكيف يمكن اعتبار كل مثال تطبيقا لنظرية عامة. باعتقادي الطريقة ممتازة والعلوم التاريخية والاجتماعية، اذا وجدت، كلها تسير في هذا المنحى المنظوماتي. لكن هذه الطريقة في فهم التاريخ جعلتني محافظا واقل ثورية بكثير وساخرا من الاكاديميا واتجاهاتها اليسارية او الليبرالية الحالمة. فمثلا وحسب النظرية فان اية بنية اجتماعية سياسية تقوم على التمايز والاختصاص والتكامل. يعني للانتقال من القرية الى المدينة يجب ظهور مهن متمايزة ومختصة ويجب جمعها في كل متكامل يعتمد على بعضه البعض. وبنفس المنطق ينتج معنا ان ظهور الطبقات الاجتماعية الاقتصادية امر لا مفر منه، وان تباين امتلاك الثروة والسلطة امر حتمي، لا بل من السذاجة الحديث عن المساواة لان المساواة تناقض الاختصاص والتمايز وبالتالي تؤدي الى زوال البنية. بعبارة اخرى، المدينة، كبنية قائمة بذاتها، ستتفتت اذا تساوى الجميع في امتلاك الثروة والسلطة. ان تمايز الاختصاصات يؤدي بالضرورة الى تمايز السلطة. الشخص المختص بادارة الجماعة لن يستطيع القيام باختصاصه الضروري لوجود الجماعة الا اذا امتلك سلطة اكبر من الشخص المختص بالزراعة مثلا. هذه نتيجة خطيرة جدا، وقد تؤدي الى داروينية اجتماعية وتابيد التسلط والامتيازات. في الحقيقة، لا، هذا الفهم للتمايز ليس صحيحا. التمايز يكون بالوظيفة وليس بالشخص، اي يجب ان يكون هناك غني وفقير وحاكم ومحكوم، لكن هذا لا يعني احتكار الغنى او الحكم في سلالة. على العكس، احتكار التمايز يلغي هذا التمايز ويهدمه ويفقده معناه ووظيفته. ولذلك فان الدولة الحديثة انجح بكثير من الملكية لانها تحافظ على تمايز الوظيفة ثم تداولها بين عدد من الاشخاص. ولذلك فان تطوير المؤسسة هو تطوير للاختصاص وابعاد له عن الالتصاق باشخاص. المؤسسة هي ذاكرة البنية والضامنة لاستمرارها، ويحب ان تكون غير مشخصنة. اما الملكية فهي مرحلة غير ناضجة من التمايز والتخصص. لكن البشرية احتاجت الى ما يقرب من اربع الاف سنة لتتخطى الملكية. الديمقراطية مثلا هي احدى وسائل تخطي الحكم الملكي، لكنها ليست الوحيدة وليست الامثل، ولا اعتقد ان هناك وسيلة مثلى وانما تجربة تاريخية خاصة بكل مجتمع. هذا يقودنا الى التغيير. لماذا يسعى الناس الى التغيير والمشاركة في السلطة وتوزيع افضل للثروة، اذا كان من المفروغ منه وجود اختصاصات متمايزة وتوزيع غير متساوي للسلطة والثروة. في الحقيقة، التمايز مفهوم اعقد من مجرد اغنياء وفقراء. قلنا ان احتكار السلطة والمال وتابيد التمايز في مجموعات محددة لا تتغير سيكون عقبة في وجه التغيير. انماط التمايز والتخصصات تتغير، وشدة التمايز تتغير ايضا. الراسمالية مثلا جعلت تمايز اقطاعي-فلاح، مالك-غير مالك، غير مناسب. ورغم ان هذا التمايز استمر باشكال مختلفة لقرون، فان حجم الثروة التي خلقتها الراسمالية ونوع الحكم الذي ترافق معها واعني البرلمانية والبيروقراطية فرض نوعا جديدا من التمايز واعاد توزيع الثروة والسلطة. من المهم لاستقرار المجتمع ايجاد الصيغة المناسبة للتمايز والاختصاص والتكامل. اذا كانت الملكية قد اصبحت من الماضي وامكن التخلص منها واستبدالها بتمايزات اخرى، فكيف يجب ان تكون عملية التغيير. هل نحتاج الى ثورة ام نعمل على التغيير البطيء من الداخل. هذا هو سؤال المليون كما يقولون. هناك بنية سياسية اجتماعية اقتصادية جديدة وهناك امكانية للتغيير، لا بل ضرورة، فكيف يتم الانتقال من بنية الى اخرى. الايديولوجيات غالبا تنقسم بين محافظة معادية للتغيير، محافظة مؤيدة للتغيير البطيء، وثورية تدعو الى التغيير العاجل والجذري. اغلب الناس محافظون من النمطين المذكورين، والطبيعة نفسها محافظة تراكم التغيرات الطفيفة ولاتمارس التغيير الجذري لانه يعني الموت غالبا وعملية انتقاء مؤلمة. لذلك فان الثوريين دائما اقلية نخبوية مهدوية مثالية وعنيفة، وغالبا شابة وطائشة ورومانسية. هذه الاقلية تعرض نفسها على انها الحل الوحيد والحتمي والضروري، لكنها تؤدي دائما الى العنف والفوضى. ولا توجد ثورة في العالم انتجت غير الديكتاتورية والعنف والقمع. فلماذا نتبع الثورجيين احيانا، ولماذا يجب ايقافهم عند حدهم احيانا اخرى. البنيات محافظة وتعمل على ابقاء ذاتها بكل ما اوتيت من قوة. وكلما طال عمر البنية كلما تجذرت في العقول والواقع. وغالبا يسعى البشر لتجميد التمايز، اي لتابيده في فئات واشخاص ومؤسسات وايديولوجيات. الانسان بطبيعته لا يحب التغيير. مثل هذه البنيات الجامدة تحتاج الى تفكيك حتى تتغير، وهذا التفكيك فعل عنيف ومدمر يقوم به الثورجيون. حالة الفوضى الناجمة عن التفكيك لا تعني العشوائية وانما تعني التفتت الى المكونات الاصغر وانفتاح الفرص والاحتمالات في وجه هذه المكونات. العادات والتقاليد والاعراف تزول، الطبقات تزول، المؤسسات تزول، كل شيء متكرر يتوقف عن التكرار، فالتكرار يعني البنية والاستقرار وهو عدو التغيير. لا تمر كل المجتماعات في هذه المراحل الثورية العنيفة من التغيير. لكن كلما كان المجتمع جامدا كلما كان العنف اكبر والتوحش اكبر والتفتيت اقسى. وهناك مجتمعات تزول تماما من الوجود بسبب محاولة التغيير الثوري. اما صعود الديكتاتورية بعد الثورات المفككة فامر طبيعي وحتى ضروري. الديكتاتورية تضع حدا للتفكيك والفوضى ولانهائية الخيارات والاحتمالات، وتعمل على ارساء قواعد بنية جديدة قائمة على نمط اخر من التمايز والاختصاص والتكامل باستخدام تقنيات جديدة، هي نفسها تلك التقنيات التي جعلت استمرار المجتمع القديم مستحيلا. فالشيوعية مثلا جاءت ردا على تقنيات الصناعة واستخدمتها في بناء منظومتها. لكن البنية الجديدة التي يصنعها الديكتاتور ليست بالضرورة الافضل، وليست بالضرورة اكثر استقرارا من سابقتها. التغيير مسيرة طويلة من التجربة والخطا والتفكيك والتركيب. في المجتمعات الاوروبية الغربية، مرت مسيرة التغيير بمطبات هائلة كادت تبيد سكان القارة كلها، ومرت بعدة مراحل ثورية عنيفة وبمراحل تغيير بطيء واقل عنفا. الديمقراطية ما بعد الحرب العالمية هي حصيلة هذه المسيرة، ولذلك قلت انه من المستحيل تطبيق الديمقراطية الغربية لانها نتيجة تاريخ. كل ما تستطيعه بقية المجتمعات الموضوعة امام استحقاق التغيير هو ان تدخل التجربة وتبدا المسيرة. هل هناك وسيلة لتفادي المطبات والعنف والتفكيك المتكرر. لا توجد وسيلة نمطية، لانه لا يوجد تاريخ نمطي، فكل تاريخ حالة خاصة. لكني اعتقد ان الطريقة المنظوماتية البنيوية في فهم المجتمع والتاربخ قد تعطينا بعض الافكار. وهي في الحقيقة مبادئ عامة وليست حلولا عملية تطبيقية. ساعرض بعض هذه المبادئ في بوست لاحق. سوريا حالة غير استثنائية، لكنها حالة تفكيكية ثورية مدمرة. قد تستطيع المبادئ السابقة الذكر ايجاد الطريق لوقف التفكيك.