التعارف .. سُـنـّة من سنن الخالق بعالم الإنسان والمجتمع البشري

من Wiki Akhbar
اذهب إلى: تصفح، ابحث

بشير حنيدي

كاتب سوري - اقتصاد وتجارة

مولهاوزن / ألمانيا

الحتمية بين السنن الإلهية والآيات

لإدراك مفهوم ودلالة السنة الإلهية موضوع الحديث ، لابد أولاً من إدراك الركن الأساسي الذي أحكم الخالق صياغته في البناء الهندسي لعالم الوجود ، وهو آلية التوازن والانضباط الحتمي لحركة الاشياء والظواهر بعالم الوجود ، بما فيه عالم الإنسان والمجتمع البشري باعتباره جزء لا يتجزأ من عالم الوجود .. ومرجعنا بهذا الحديث هو القرآن الكريم أولاً ، ومن ثم الواقع الاجتماعي بعالم الإنسان.

من وحي القرآن الكريم .. يمكن القول أن الله سبحانه وتعالى قد أخضع عالم الإنسان والمجتمع البشري لذات المنطق الذي أخضع له العالم الآخر / عالم المادة في الكون والطبيعة ، وهو منطق الحتمية والانضباط وفقاً لمنظومة متكاملة من القوانين الحتمية أو ( النواميس ) بأدبيات الفكر العربي الإسلامي .. من هذه القوانين ما يختص بحركة الاشياء والظواهر بعالم المادة والطبيعة ، ومنها ما يختص بآلية الحركة والتطور الاجتماعي بعالم الإنسان.

لم يتحدث القرآن الكريم صراحة عن ماهية هذه القوانين ، وهذا أمر طبيعي ، فموضوع القرآن الكريم هو فلسفة الدين واللاهوت وتشريعات السماء بعالم الإنسان ، وليس علوم وقوانين الكون والطبيعة .. لكنه أشار إلى الكثير من الظواهر والمظاهر التي أنتجتها هذه القوانين على أرض الواقع بكل من عالم المادة والطبيعة وعالم الإنسان والمجتمع البشري ..

بقراءة بسيطة لنصوص القرآن الكريم الخاصة بهذه الظواهر، نجد أن الظواهر الخاصة بعالم المادة والطبيعة جاءت تحت مصطلح (الآيات) ، أما الظواهر الخاصة بعالم الإنسان والمجتمع البشري فجاءت تحت مصطلح (السنة) .

السنن الإلهية

مصطلح الآيات جاء يشير إلى أربع دلالات أخرى مختلفة لا علاقة لها بموضوع البحث ، لسنا بصددها هنا فلهذا حديث آخر ، أما مصطلح السنة فجاء يشير بوضوح إلى دلالات أخرى مختلفة خاصة بعالم الإنسان .. أهمها :

1-المصير المحتوم للإنسان / الفرد والمجتمع

ومثل هذا ما جاء واضحاً في الحديث عن سنة الموت مثلاً ، وهي سنة خاصة بحياة الإنسان الفرد ، سنة مكتوبة قدراً محتوماً بقرار إلهي ، أشارت إليها بوضوح الكثير من النصوص القرآنية  : ﴿كل من عليها فان﴾ ، ﴿كل نفس ذائقة الموت﴾ ، ﴿أينما كنتم يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة﴾ ، ﴿إنك ميت وإنهم ميتون﴾ .

كما جاء مفهوم السنة بهذا المضمون في الحديث عن مصير (الجماعة) ، عذاباً أو هلاكاً في الدنيا جزاءً للكفر أو الإشراك بألوهية الله ، وهذا ما جاء واضحاً في الكثير من النصوص القرآنية ، منها : ﴿قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين﴾ ... ﴿فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ ... ﴿فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ، فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين ، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ، سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون﴾ ... فالهلاك هنا - جزاء الكفر والشرك - سنة من سنن الله في خلقه ..

2-القواعد والأحكام التشريعية

تمثل جملة التشريعات الإلهية الخاصة بتنظيم العلاقات الاجتماعية وحل مشكلات الناس في المجتمع الإسلامي .. ومنها مثلاً وليس حصراً ما ورد بآيات متتالية بسورة النساء ، فالسورة من بدايتها لغاية الآية (25) ، تبين للمسلمين القواعد الأخلاقية للتعامل فيما بينهم ، والأحكام الشرعية لتوزيع الميراث وقواعد الزواج والطلاق وجزاء المنحرفات من النساء ، وبعد الانتهاء من بيان وتفصيل تلك الأحكام والتشريعات يقر الله سبحانه وتعالى في الآية (26) : ﴿يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم﴾ ... فالأحكام التشريعية هنا تمثل جملة من سنن الخالق بعالم المسلمين ..

3-الظواهر الاجتماعية الحتمية

جاء مثل هذا المضمون تحت مفهوم ( الآية ) أيضاً ، إلا أنه جاء عاماً شاملاً لكثير من الظواهر ( بعالم السموات والأرض والطبيعة ، والإنسان والمجتمع البشري ) .. في حين ما جاء بهذا المضمون تحت مفهوم ( السنة ) كان مقتصراً على الظواهر الاجتماعية الخاصة بعالم الإنسان ، وهنا جاء يتحدث عن نوعين مختلفين من هذه الظواهر :

النوع الأول

ظواهر اجتماعية حصلت وتكررت مراراً بتاريخ المجتمع البشري ، ولا تزال تحصل وتتكرر بمراحل مختلفة من التاريخ كلما تكررت أسباب وشروط وعوامل نشأتها ، وتزول بزوال الأسباب والشروط والعوامل ، لتعود لاحقاً بعودة الأسباب والشروط والعوامل .. وهكذا ، وهذا ما يفسر إلى حد كبير المقولة الشائعة : ( التاريخ يعيد نفسه ) .. مع أن التاريخ حقيقة لا يعيد نفسه ، إنما تتشابه بمراحل مختلفة من التاريخ بعض الأحداث والظواهر عندما تتوافر ذات الاسباب والشروط والعوامل .. ومن الأمثلة بنصوص القرآن الكريم على السنة الإلهية بهذا المضمون : - ما ورد في سورة الفتح مخاطباً المؤمنين : ﴿ولو قاتلكم الذين كفروا لولَوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً، سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً﴾ . - وما جاء في الآية ( 43) من سورة فاطر : ﴿استكباراً في الأرض ومكر السيء ، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ، فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً﴾.

النوع الثاني

ظواهر اجتماعية حتمية منتظمة متواترة ، ( أبدية دائمة مستمرة ) ، باقية أبداً ما بقي عالم الإنسان في الحياة الدنيا إلى يوم يبعثون ، والغاية من عرضها والحديث عنها هي تعريف الإنسان بالظاهرة والـتأكيد المطلق على حتميتها في الواقع الاجتماعي ، ظواهر مجتمعية عابرة لحدود الزمان والمكان ، تشمل كل المجتمعات البشرية بكل زمان وكل مكان ... لم يأت عرض هذه الظواهر في نصوص القرآن تحت عنوان صريح ( سنة ) كما في الآيات السابقة ، إلا أنه تم عرضها بأسلوب لغوي يشير ضمناً إلى حتميتها كسنة إلهية ، وذلك من خلال العلاقة الشرطية أو السببية التي يتضمنها النص القرآني .. وتحت هذا المفهوم جاءت سنة ( التعارف ) موضوع الحديث ..

هل السنة الإلهية هي الناموس؟

نظراً لعامل الحتمية في السنة الإلهية ، فقد اعتبر الكثير من الباحثين والمفكرين العرب - الأسلاف منهم والمعاصرون - مصطلح ( السنة ) مرادفاً لغوياً لمصطلح ( الناموس ) بأدبيات التراث العربي الإسلامي ، أو القانون العلمي الموضوعي بلغة العصر ، وهذا ما لم نجده بهذه الدقة باي من المفاهيم السابقة للسنة كما وردت في القرآن الكريم :

المفهوم الأول ، (المصير المحتوم للإنسان)

فالسنة الإلهية بهذا المضمون ليست قانوناً بحد ذاتها ، إنما هي ظاهرة حتمية تخضع لقانون ، وسنة الموت مثلاً ، فالموت بحد ذاته ليس قانوناً ، إنما هو ظاهرة حتمية تخضع لقانون خاص بحياة الإنسان ، استأثر الله بعلمه وحجب أسراره عن وعي الإنسان وإدراكه.

المفهوم الثاني ، (القواعد والأحكام التشريعية)

إن كانت السنة بهذا المضمون تشريعاً قانونياً ملزماً للمسلمين كشرط من شروط الإسلام ، فهي تفتقد لعامل الحتمية الموضوعية بعالم المسلمين ، بمعنى أنها خاضعة لإرادة الإنسان وليس لقانون الحتمية ، والإنسان أمامها مخير تماماً ، بإمكانه الالتزام بها أو تجاهلها وخرقها متى يشاء ، مثلها مثل القوانين الوضعية تماماً ، ويمكن القول بأنها قوانين وضعية بامتياز ، لكنها وضع إلهي وليست وضع بشر ، ومدى الالتزام بها إنما يحدده الموقف من الدين ومدى عمق الإيمان والتدين لدى الإنسان ...

المفهوم الثالث ، (الظواهر الاجتماعية الحتمية)

جاءت هذه السنن في القرآن الكريم تقدم تعريفاً بالظاهرة بالعنوان العريض المعبر عنها فقط .. وقد تقدم عرضاً لمجريات الظاهرة ووصفاً خارجياً لها ، لكنها لم تبحث بآلية التفاعل القانونية التي أنتجتها ... وهو ذات المنطق الذي تم فيه عرض الظواهر الطبيعية تحت مفهوم ( الآية ) ، مثل ( المطر ، الرياح ، الأعاصير ، الزلازل ، الليل ، النهار ... ) ، فتلك ظواهر وليست قوانين ، ظواهر طبيعية حتمية ، أنتجتها جملة تفاعلات مادية المنشأ ، تفاعلات يحكم كل منها قانون أو جملة قوانين موضوعية خاصة بعالم المادة ، قوانين لم يتطرق إليها القرآن الكريم نهائياً ، وترك مسألة الكشف عنها للإنسان .

كذلك تماماً جاء الحديث عن هذا النوع من السنن ، إشارة إليها كظواهر اجتماعية حتمية ، أنتجتها جملة تفاعلات اجتماعية المنشأ ، يحكم كل منها قانون أو جملة قوانين موضوعية خاصة بعالم الإنسان ، قوانين لم يتطرق إليها القرآن الكريم ، وترك مسألة الكشف عنها للإنسان ذاته .

وللسنة الإلهية بهذا المفهوم وجود موضوعي راسخ في بنية الوجود الاجتماعي ، وتشكل أصلاً من أصول النظام الاجتماعي بعالم الإنسان ، يستحيل على الإنسان إلغاء أي منها أو تبديلها ، إلا بإلغاء ما خلفها من قوانين ، وهذا من المستحيل : ﴿ولن تجد لسنة الله تبديلاً ، ولن تجد لسنة الله تحويلا﴾، مثلها كمثل الظواهر الطبيعية التي تعتبر أصلاً من أصول النظام الطبيعي في عالم المادة .

سنة التعارف للاجتماع البشري من محمد عبده إلى عصمت سيف الدولة

يقول الإمام محمد عبده : (( إن لله في الأمم والأكوان سنناً لا تتبدل ، والسنن هي الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشؤون ، وعلى حسبها تكون الآثار ، وهي التي تسمى شرائع أو نواميس ، ويعبر عنها قوم بالقوانين ، ما لنا ولاختلاف العبارات .. فالذي ينادي به الكتاب ، أن نظام الجمعية البشرية وما يحدث فيها هو نظام واحد ، لا يتغير ولا يتبدل )) .

تلك هي السنة موضوع الحديث ، اصل من أصول نظام الجمعية البشرية .. ظواهر مجتمعية حتمية وليست قوانين ، إلا أن منطق حتميتها لا يختلف عن منطق حتمية القوانين / النواميس ..

رغم حتميتها الموضوعية في الواقع الاجتماعي فهي لا تتعارض مع مبدأ الحرية الذي ينفرد به الإنسان في عالم الوجود .. بل إن حتميتها تعتبر شرطاً أولياً لنفاذ إرادة الإنسان وحريته بالتعامل مع إحداثيات الواقع .. حيث يعتبر إدراكها ومعرفتها أولاً ، واحترام حتميتها ثانياً ، شرطاً أولياً لنجاح الإنسان بمعالجة قضايا الواقع ، وبعملية التغيير وتطوير الواقع الاجتماعي ، وآية ذلك أن الإنسان قادر على التحكم بحتميتها وتلقائيتها .. بالتالي قادر على ضبط مسارها بالاتجاه الذي يريد ، أو لضبط مسار التطور الاجتماعي على إيقاع حتميتها ، وذلك من خلال قدرة الإنسان على التحكم بأسباب وشروط وعوامل نشأتها وفاعليتها ، شأنها شأن حركة الاشياء والظواهر المادية في عالم الطبيعة ، ذلك أن الإنسان هو (( قائد عملية التطوير ، بدون إخلال بقوانين أو سنن الطبيعة ، بل تسخيرها ، فلا انضباط حركة الاشياء والظواهر بقوانين أو سنن حتمية تجبره على فعل ما لا يريد ، ولا هي تمنعه من أن يفعل ما يريد ، إنما هي تعلق نجاحه في تحقيق ما يريد على ما يعمل ، مستخدماً حتميتها في تحقيق اختياره )) / د . عصمت سيف الدولة .

وباعتبارها أصلاً ثابتاً من أصول نظام الجمعية البشرية ، فلا بد للإنسان من اعتمادها منهجياً بأي نظرية أو منهج لتغيير وتطوير الواقع الاجتماعي ، وإلا مصيره الفشل الأكيد ، وهذا ما اشار إليه الإمام محمد عبده في حديثه عن السنة والناموس باعتبارها أصلاً من أصول نظام الجمعية البشرية  : ((.. وعلى من يطلب السعادة في هذا الاجتماع ، أن ينظر في أصول هذا النظام ، حتى يرد إليها أعماله ويبني عليها مسيرته ، وما يأخذ به نفسه ، فإن غفل عن ذلك غافل ، فلا ينتظر إلا الشقاء وإن ارتفع إلى الصالحين نسبه ، أو اتصل بالمقربين سببه )) .. هذا بشيء من التفصيل اللازم عن ماهية وجوهر السنة ، تقديراً إلهياً مقدراً بنظام الجمعية البشرية بعالم الإنسان والمجتمع البشري ... وفي نظام الجمعية البشرية بعالم الإنسان جاءت سنة ( التعارف ) واحدة من منظومة هذه السنن المقدرة ، أشار إليها القرآن الكريم في الآية الكريمة : ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير. ﴾. إن تجاوزنا المعنى اللغوي لمصطلح ( التعارف ) في الآية الكريمة إلى ما هو أكثر عمقاً في الواقع الاجتماعي ، فالتعارف هنا هو إشارة التفاعل الإيجابي المشترك بين المجتمعات المختلفة بكل أطوار تكوينها الاجتماعي ، أمماً وشعوباً وقبائل ، لتبادل العلوم والمعارف والثقافات والأعراف على قاعدة ( لتعارفوا ) ، لتحقيق الأهداف والمصالح والقيم الإنسانية المشتركة ..

التعارف سنّة حتمية لضبط سنّة الاختلاف

التعارف بهذا المضمون جاء في الآية الكريمة توجيهاً للإنسان ولم يأت أمراً إلهياً ، وآية ذلك أن الأوامر الإلهية للإنسان بكل مضامينها من أوامر الإيمان والتوحيد إلى الأحكام التشريعية .. لم تأت لزاماً حتمياً للإنسان ، فالأمر الإلهي إن كان ملزماً للناس وخاصة المؤمنين منهم كشرط من شروط الإيمان ، فهو يفتقد لعامل الحتمية الذي يخضع له القانون الموضوعي أو الناموس .. ذلك أن الإنسان أمام الأمر الإلهي مخير تماماً وليس مجبراً ، بإمكانه الالتزام به وبإمكانه تجاهله أو خرقه متى يشاء ، إن لم يكن بالعلن فبالخفاء ، ومدى الالتزام بالأمر الإلهي إنما يحدده الموقف من الدين ومدى عمق الإيمان والتدين لدى الإنسان .. إلا أن سنة التعارف جاءت خارج هذا المنطق / منطق الحرية والاختيار ، لم تأت خياراً أمام الإنسان ، إنما جاءت سنة حتمية من سنن الخالق بنظام الجمعية البشرية ، جاءت لزاماً حتمياً على قاعدة الاختلاف والتمايز بين الناس ، والاختلاف ذاته سنة أخرى من سنن الخالق في نظام الجمعية البشرية : (( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين )) .... وإن كان موضوع الاختلاف المقصود في الآية الكريمة يتعلق في الجانب الديني ، فذلك لا يغير من الطبيعة العامة الشمولية لظاهرة الاختلاف ... ليختلف الناس على أرض الواقع بكل معالم وإحداثيات الاختلاف والتمايز  : في الانتماءات الاجتماعية / القومية ، في المعتقدات الدينية .. في الثقافات .. والأعراف .. والتقاليد .. والمعارف .. والقيم الاجتماعية .. والآراء والمواقف والمصالح وغيرها ..

على قاعدة الاختلاف بين الناس بعالم الإنسان ، وهي العلة والأساس المحوري لسنة التعارف ، جاءت سنة التعارف ضابطاً موضوعياً لسنة الاختلاف بين الناس ، دون الوصول إلى مستوى الخلاف بين المختلفين ومن ثم الصراع أو ( التدافع ) بالمصطلح القرآني ، والتدافع ذاته سنة أخرى أشار إليها القرآن الكريم بذات الأسلوب والمنطق : ﴿لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض﴾ .. ﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر اسم الله فيها كثيراً﴾.

بهذا الاتجاه جاءت سنة التعارف ضابطاً موضوعياً لسنة التدافع أو الصراع بين المجتمعات المختلفة ، وضابطاً موضوعياً لسنة التدافع داخل المجتمع الواحد ، وذلك من خلال ألية الجدل الاجتماعي ، والجدل الاجتماعي هو التجسيد الاجتماعي لقانون جدل الإنسان .. بالتالي فالجدل الاجتماعي هو التجسيد العملي لسنة التعارف .. لتحقيق الأهداف المشتركة وحل المشكلات المشتركة في الواقع الاجتماعي ، ذلك أن الواقع الاجتماعي هو الذي يسهم في إثارة المشكلات في المجتمع بدفع من سنة الاختلاف .. إذ لا وجود في المجتمع الواحد لما يسمى مشكلات خاصة داخل الكيان الاجتماعي .. هي مشكلات مجتمعية مشتركة مهما كانت مضامينها .. ولا يمكن معالجتها إلا من خلال ( سنة التعارف ) ، بمعنى الحوار المشترك بين المختلفين لفهم الحقيقة الموضوعية لهذه المشكلات أولاً .. ومن ثم الحوار المشترك بين المختلفين لإدراك الحلول الموضوعية لهذه المشكلات .. وأخيراً العمل المشترك لتنفيذ الحلول على أرض الواقع .

من أبرز أركان سنة التعارف الاعتراف بالآخر المختلف ، لزاماً حتمياً بسنة الاختلاف على قاعدة ﴿لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين﴾ .. ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾ ... ومن خرج عن سنة التعارف بهذا المضمون ، فرداً كان أم جماعة ، مهما كان وزنه ومهما كاشن حجم سطوته في المجتمع ، حاكماً كان أم محكوماً ، وانتهج نهج الإقصاء أو التكفير الديني أو الاجتماعي أو السياسي ، فإن الآخر له بالمرصاد لزاماً حتمياً بسنة التدافع ..

تلك هي آلية التفاعل الموضوعي بنظام الجمعية البشرية التي أرسى الخالق قواعدها على اسس منظومة السنن والنواميس في عالم الإنسان ..

وهكذا ، لتستمر سنة التعارف كظاهرة حتمية في عالم الإنسان ، فتكون من السنن الإلهية الكلية العامة ، التي تسهم بالتحكم بحركة الإنسان والمجتمع البشري .

الاختلاف والتعارف شرطان حتميّان للتطور

ومثلما يستحيل على الإنسان إلغاء أي من ظواهر الطبيعة ، أو أي من النواميس والقوانين الطبيعية الناظمة لها ، يستحيل عليه إلغاء أي من الظواهر المجتمعية التي تشكل سنة من سنن الله في خلقه : ﴿ولن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تحويلا﴾، وإن نجح بمرحلة من المراحل بالإكراه ، فذلك خروج مرحلي عن السنة ، أو تعطيل مرحلي مؤقت وليس تبديلاً ولا تحويلا ، وآية ذلك أن السنة راسخة كامنة في بنية الواقع الاجتماعي ، ما تلبث أن تخرج من ساحة الكمون لتعود إلى فاعليتها عندما تتوافر الشروط والعوامل المناسبة ، ولنا في سنن الأولين والمعاصرين أمثلة وآيات .. - فقد فشل كل طغاة التاريخ ، وفشلت كل امبراطوريات التاريخ ، بما فيها الامبراطوريات الإسلامية من إلغاء سنة ( الاختلاف ) ، وهي الأساس والعلة الموضوعية لسنة التعارف ، بالتالي فشلت بفرض ثقافة الفكر الواحد والمعتقد الواحد ، رغم كل الأساليب والسياسات الممنهجة ، بما فيها أساليب القمع والإكراه .. فالاختلاف سنة من سنن الله في خلقه... - يستحيل على أي مجتمع بشري بأي مرحلة من المراحل ، وبأي طور من أطوار تكوينه الاجتماعي ، الانغلاق على نفسه وإغلاق أبواب التفاعل و( التعارف ) مع المجتمعات الأخرى ، وخاصة بعالمنا المعاصر ، حيث فتحت أبواب جديدة للتفاعل والتعارف عن بعد بين الأمم والشعوب ، وبدون حاجة للاحتكاك المباشر ، فالتعارف بين الأمم والشعوب المختلفة سنة من سنن الله في خلقه..

بسنة التعارف بمعنى التفاعل الإيجابي المشترك ، تطورت المجتمعات البشرية تاريخياً وتجاوزت أطوار التكوين الاجتماعي البدائية المتخلفة ، العشائرية والقبلية والشعوبية وصولاً إلى الطور القومي المعاصر .. وبسنة التعارف تتفاعل المجتمعات القومية المعاصرة إيجابياً على قاعدة الأهداف والمصالح المشتركة باتجاه الطور ما فوق القومي .

بسنة التعارف بين الأمم والشعوب علمياً ومعرفياً وثقافياً منذ أقدم الحضارات ارتقى عالم الإنسان إلى هذا المستوى المتقدم من الإنجازات الحضارية والعلمية بشتى صنوف العلم والمعرفة والثقافة ..

وبسنة التعارف بمعنى الجدل الاجتماعي داخل المجتمع الواحد ، تمكنت المجتمعات المتقدمة الحديثة من تجاوز مرحلة الصراع الاجتماعي .. وبناء دولة المواطنة الديمقراطية المعاصرة من خلال العمل المشترك على حل المشكلات المجتمعية المشتركة وتطوير واقعها الاجتماعي.

بسنة التعارف وحدها ، تستطيع القوى الفاعلة على المستوى العالمي إرساء أسس وأركان التقارب بين الأمم والشعوب المختلفة على أساس المصالح المشتركة ، للخروج من دائرة التناقض والصراع .. وإرساء قواعد الامن والسلام العالمي على قاعدة : ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ... إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ ..