فلسفة
محتويات
21 آذار 2018، في فلسفة الوجود
في فلسفتي، هناك نوعان من الوجود، الوجود الكائن والوجود الواعي. الاول لا اعرف من اين اتى ولا يجب ان يهمني ولا اعرف الغرض من وجوده ولا هو كذلك يعرف، والثاني هو الوجود الانساني المدرك لانسانيته والذي يعرف تماما من اين اتى ولماذا هو موجود. انه اتى من العقل المتعلم والروح الشاعرة، وهو يعرف انه موجود ليتعلم ويدرك ما حوله ويدرك ذاته، ثم هو موجود ليشعر ويتسع شعوره. الاول يشمل الكون والطبيعة والنبات والحيوان والجسد البشري. انه وجود مستمر وممتد اي مادي، ولا يمكن ان لا يوجد، او كما كانوا يقولون موجود لذاته وبذاته. اما الثاني فيشمل الوعي البشري والاحساس ولا اسميه الروح لان الروح بالاعتقاد الديني هي من نمط الوجود الاول، وهو وجود مؤقت ومتقطع، ويمكن ان لا يوجد. في الحقيقة، انه وجود مشروط بالانسان وبالعقل ولا يوجد خارجهما، يحيا ويوجد بحياة الانسان، الفرد والجماعة والنوع، ويموت بموته. انه عالم لا متناه، متنوع، دائم الخلق، دائم التوسع. الوجود الاول مكون من عدد محدود من العناصر، اما الثاني فلا نهاية لعدد عناصره، هذا ان كان فيه عناصر. لا اعتقد ان الوجود الاول معجزة فهو محكوم بقوانين صارمة لا تتغير، اما الوجود الثاني فلا مثيل له فهو دائما متجدد ولا تحكمه قوانين. الوجود الاول ليس له غاية، ويعتقد البعض بوجود اله خارجه خلقه ويتحكم فيه ويعطيه غاية. لكني اعتقد انهم مخطئون، انهم يسقطون الوجود الثاني على الاول ويجعلون الثاني تابعا للاول. لكني اعتقد ان الغاية موجودة فقط في الثاني، انه الوجود الذي يحس بوجوده ويسعد بوجوده ويدرك وجوده ويطور وجوده ويوسع وجوده ويعطيه غاية ان اراد. الارادة ايضا موجودة في الثاني وحده وليس خارجه. اعترف بالوجود الاول واحس به واشعر بوطأته، واستخلص منه السحر والالم، لكني مشغول تماما بالوجود الثاني ولا احس بالسعادة الا فيه، انه الابهة كلها، الاعجاز كله، السحر كله، الوجود الحق، الوجود الذي ليس كمثله شيء، انه اعلى القيم، وغاية الوجود، وموطن العلم، ومنبع الاحساس. ولا اعني الاله، بل اعني العقل البشري. وليس كل عقل بشري، فانا اكثر نخبوية من هذا، واكثر تمييزا وعنصرية، انه ما يسميه نيتشه الانسان الاعظم، وما سماه القدماء الانسان الكامل. لكنه اكثر انسانية من انسان نيتشة واكثر واقعية من الانسان الكامل. انه العقل العطوف الذي يحس بعقول الاخرين، الشغوف الذي يذوب في لحظة الابداع، الرؤوف الذي يساعد الاخرين، المتعلم الذي ينتج معارف لا تنتهي، المبدع الذي لا يتوقف عن الخلق، المفتون الذي يسحره الفن، العاشق الذي يعيش على الحب، الدؤوب الذي لا يكل من العمل، الحي الذي لا يجد مفرا من التفاؤل، الانساني الذي لا يرى قيمة اعلى من الانسان والحياة، والقنوع الذي يعرف ان الموت حق لكن يعرف كيف يموت على انسانيته. ليس كل انتاج العقل البشري يدخل في حيز الوجود الحق، بل فقط ما وصفته اعلاه. وما هو خلافه من نتاج العقل البشري فهو بالنسبة لي في الوجود الاول. لا اعرف تماما اذا كانت فلسفتي من عوالم الثنوية حيث الوجود الاول مادي ويقابله الشرير والمظلم في العقل البشري، وحيث الوجود الثاني روحاني نوراني. يبدو لي منطقيا ان اقول بالصراع الابدي بين النور والظلام، بين الاخلاق الرفيعة والوحشية، بين الانسانية واللاانسانية، لكني لا اريد انتاج انبياء او معلمين مثل زرادشت او بوذا. لكن لا انكر تعاطفي مع مبدا الزردشتية، خاطرة جميلة، كلمة طيبة، عمل صالح. ولا انكر اني احارب الاشرار والفكر الشرير المنافي للوجود الحق لكني لست في حرب كونية ابدية معه. قد يستنتج القارئ اني مثالي اخلاقي روحاني حالم. ثم يقرا ما اكتب حيث اذم المثال واؤمن بالمنظومة، واعطل الاخلاق في سبيل استقرار المنظومة الاجتماعية، وابتعد عن روحانيات الاديان الغائمة، واشدد على الواقعية الى درجة انعدام الاحساس. فهل هناك تناقض. لا، بالنسبة لي لا. الوجود الثاني خيار، فمن صفاته الارادة، والوجود الثاني مؤقت ومتقطع، وهو يتوسع بقدر ما تعمل عليه وتخلق فيه اركانا جديدة، انه وجود تدعو الناس اليه ولا تجبرهم عليه، وهو وجود مشروط بالانسان وبالمجتمع ولا بد له من ان يتعلم ويعي الوجود الاخر القائم على المنظومات والقوانين. الوجود الثاني عمل، هدية، دعوة يوجهها اليك اخرون وتوجهها الى اخرين. لست في حرب مع الشر، لكني احيانا اتمنى الموت لبعض الناس المجرمين ولا اعتقد اننا موجودون في نفس العوالم، لكن حتى احافظ على الوجود الثاني لا بد لي من الخروج من جنته والتعامل مع الوجودات الاخرى، ولذلك اتعامل معها دون احساس واعتقد دائما اني قادر على فهمها وتطويعها الى ان اغيرها او تقتلني. لكني اعرف دائما اين جنتي وكيف اصل اليها ولا احتاج غيرها غاية وادعو اليها كل العقول الموجودة حقا. محاولة فلسفية.
حسام الدين درويش
شكرًا على مشاركتنا هذه الرؤية المثيرة للاهتمام والتفكير ... على المستوى الاولى أرى ضرورة تفكيك هذه الثنائية والتفكير في مدى تداخل الوجودين واعتماد كل منهما على الآخر في وجوده وتأثير كل منهما في الآخر. أما على مستوى التفاصيل فالحديث يطول لكن أكتفي بالقول بمدى اختلافي معك في نخبويتك في خصوص العقول، وفي إقصائك الأخلاقي للأخلاق وفي مبالغتك في التركيز على الكليات والشكليات بعيدًا عن الجزئيات المتينة والمضامين الحية. أخيرًا أتمنى لك كل السعادة في وجودك المزدوج الوجود.
Ahmad Nazir Atassi
اتمنى لو تفصل، لم اكتب مثل هذه النصوص من قبل. لكن البارحة سمعت غناء وتاثرت به كثيرا، ثم فكرت باحوالنا وكيف يمكنني ان اعيش في هذا العالم الغريب الذي يحتوي هذا الجمال وذاك الاجرام. كيف يمكن لاختراع علمي مثل القنبلة ان يستخدم لقتل كل هذا العدد من البشر. العالم فنان ايضا وعندما ترى قوانين الطبيعة امامك وتلعب بها لتخلق شيئا محكما فان شعور العالم المخترع لا يختلف عن شعور الفنان. لكنه في النهاية يعرف ان كرة النار التي لعب بها ستقتل الاف البشر. هذا الاختلاف بين الفنان المغني والفنان صانع الطائرة او القنبلة جعلني اترك الهندسة، على الاقل احد الاسباب. لكن ما كتبته ليس تحليلا للوجود، انما هو تحليل لوجودي انا، انها فلسفة مفصلة على مقاسي. اما اذا اصبحت فلسفة لكل الوجود فانا لا بد اني هتلر الفلسفة.لا اجرؤ ان اطرح المقولات لتحليل كل العقول، افضل ان اكون اقصائيا ونخبويا في عالمي الخاص فقط.
حسام الدين درويش
النص يفيض "شاعرية" أو بالمشاعر على الرغم من تضمنه للكثير من الأفكار المثيرة للجدل والاهتمام وهو تعبير عن الذات أكثر من رؤية لموضوع خارج عنه أو هو تعبير عن موضوع بوصفه موضوعًا ذاتيًّا أو موضوعًا للذات. هذا ما ارتأيت أنه ينبغي الأخذ بعين الاعتبار في مناقشته، وهذا يعني أن المناقشة "العقلانية" الجافة له غير مصيبة بمعنى ما ومصيبة أو حتى كارثة بمعنى آخر. هذه الأفكار والمشاعر مناسبة جدًّا لسهرة يفضفض فيها الندماء في جلسات أشبه بالبوح والنجوى. الملاحظ هو التصنيف الثنائي القطبي، الذي يريد إقصاء طرف من دائرة اهتمامه وتسليط كل الضوء والاهتمام على الطرف الآخر. منطق الأبيض والأسود هذا هو منطق الرغبة (الرغبة في مقابل الرغبة عن) وهو خيار شخصي لا أفضل كثيرًا مناقشة "حقيقته الموضوعية". لكن وجهة نظري لهذين الطرفين أكثر تعقيدًا وجدليةً فأنا لا أرى التناقض بين الطرفين هو مجرد إقصاء متبادل، بل أرى أن وجود كل طرف ومعناه مرهون بالطرف الآخر: فلا مجال لوجود عقل ولا معنى لهذا الوجود بدون جسد، كما انه لا مجال لوجود ذات ولا معنى لوجودها دون موضوع. والتداخل بين الطرفين كبير ووثيق لدرجة أن لاوجود لأبيض خالص ولا لأسود خالص، فنحن في منطقة رمادية غالبًا وغن تفاوتت نسبة السواد والبياض فيها. وثمة ثنائية أخرى بارزة ومثيرة للتفكير والاهتمام وتكمن في ثنائية المثالية والواقعية وهي ترتبط بثنائيات الفلسفة والعلم أو الأخلاق والمعرفة أو المبدئية والبراجماتية إلخ. وعلى العكس من الثنائية الاولى تبدو هذه الثنائية الجديدة (وهي ربما صورة من صورة الثنائية الاولى او امتدادًا لها) أكثر تعقيدًا وجدليةً. لكن يظل هذا الجدل أو التكامل بين طرفي الجدلية نسبي إذ يبدو غالبًا وجود توتر فيها وعند صاحبها في خصوصها. ويرتبط بالثنائية او الجدلية الأخيرة ثنائية الشكل والمضمون أو ثنائية المجرد والمتعين أو العام والخاص وعلى الرغم من نزعتك العلمية وربما العلموية وبسببها أيضًا فإنك تميل إلى الشكلي والعام والمجرد بحيث تهتم بالعلاقات بين العناصر بغض النظر عن ماهية هذه العناصر وذاتيتها الخاصة بوصفها كائنات فريدة ومختلفة عن بعضها البعض وأخلاقية ومريدة وهادفة ... إلخ. النص يغري بالقيام بالكثير من التأويلات والتأملات. لكنني سأكتفي الآن بملاحظة أخيرة. على الرغم من قولك إن هذا النص هو محاولة جديدة وغير مسبوقة لديك في هذا الخصوص إلا أنني أرى أن ملامحه وأفكاره ومشاعره متغلغلة في الكثير من بوستاتك ونصوصك الفيسبوكية السابقة. قد يكون هذا النص هو إنضاجًا لما يتم طبخه فيك ومن خلالك.
Ahmad Nazir Atassi شو بيقول الواحد بعد هيك تعليق، شكرا او يعطيك العافية او بكرة بفرجيك هههه. حكيك صحيح، ثنائيات الجسد والعقل، وحتى العقل اليومي والعقل المتسامي، الوجود المفروض والوجود المراد، الرغبة عن والرغبة في.ثم هناك ثنائيات العلم والفلسفة حيث الجسد موضوع العلم والعقل موضوع الفلسفة، المعرفة والاخلاق، البراجماتية والمبدئية، الواقعية والمثالية، ثم ثنائية الشكل والمضمون، المجرد والمتعين، والعام والخاص. جميل، سافكر فيها، لكن لن اكتب النتيجة الا بقدر ما تؤثر على كتاباتي الاخرى غير الذاتية. طبعا كما وجدت فان النفس او العقل كل لا يتجزء وكل انتاجاته ذاتية بشكل او باخر سواءا تحدثت عن ذاتي او تحدثت عن الرياضيات او تحدثت عن الدولة السورية، كل الطروح لها دمغة مميزة من ذاتي في التعامل والموضوع. لكن وحتى اكمل تحليلك فانا اصارحك اني اعاني من داء القلق والهلع، اي قطبية المزاج والمشاعر ولا واقعيتها وتطرف التصرفات. ثم انتقلت من حمص الى باريس، ثم انتقلت من الرياضيات الى التاريخ. حياتي كلها قطبية وتطرف. لكن ليس هذا لب الموضوع فاي مفكر او فنان او عالم او حرفي يضع ذاته في انتاجه، ولا نحكم على انتاجه من منطلق كونه سوي او متوسط او غير متطرف. الحياة كلها او على الاقل حياتي ليست في انتاجي وانما في تفاعل الانتاج مع الانتاجات الاخرى. نعود الى ثنائية العلاقة والمضمون. وقد ننتهي بثنائية الحياة والموت، التصالح مع الحياة او التصالح مع الموت، كما قلت انت في لقائنا في المانيا. الامر الاخير هو اني طرحت تحديا فلسفيا بان تحدثت عن ذاتي في خضم ماساة عامة، اي خارج ذاتي. التحدي هو مقولة لا يوجد شيء في عالم الانسان سوى الانسان، ولا شيء في عالم الانسان يستحق الحياة الا ما هو انساني بحت وذاتي بحت، اي المشاعر. نحن لا نعيش للطبيعة الا بما هو حيواني فينا، اما ما هو عقلاني فنعيشه من اجل بعضنا البعض. فماذا نفعل بالواقع الموضوعي الخارج عن نطاق المشاعر، ماذا نفعل بالمجرمين والقتلة والمعذبين والمذلين وبافعالهم وكلماتهم، اين هي في فضاء الانسانية الحقة. ثم كيف نحل مشكلة الموت ولا المذلة، كيف نسعى الى الوجود الحق اذا اخترنا الموت بسبب المذلة، اي بسبب ما هو شعوري.
مراد بنيس
نص جميل جدا نجد فيه كود الDNA المميز لكتاباتك التي تبدو أحيانا لا إنسانية بواقعيتها الصمّاء وأحيانا فائضة بالرقة والاحتفاء بالجمال.
ومن زاوية هذه الفلسفة يمكن أن ننظر إلى الأديان الإبراهيمية على أنها تنطلق بالضبط من نفي هذه الثنائية عبر إله "عابر للعوالم" حيث تؤدي أحداث في العالم الثاني (تخلي مجموعة من الناس عن أخلاقيات أو أفكار معينة) إلى خلخلة العالم الأول (هبوب ريح أقوى من المعتاد، حدوث فيضان أو زلزال...)
Ahmad Nazir Atassi
شكرا مراد، شهادة اعتز بها. اكيد انك فهمت كم احاول ان اعزل الانسان عن اله ابراهيم وان اعطي الانسان مكان الصدارة لكي يفهم من هو وماهي قدراته وليستوعب انه وحيد في الكون وان وحدته وليس وحدانيته ليست بحاجة الى الهة لتعطيها معنى من خارجها. كم اخذت معك من الوقت حتى استعدت انسانيتك بعد صفوف الرياضيات التحضيرية الفرنسية
مراد بنيس
أعتقد الثقافة السائدة في المنطقة التي نشأت فيها لا تساعد على إعطاء الإنسان الصدارة، لذلك فإن مختلف مراحل التعليم لا تفعل سوى ترسيخ ما هو موجود أصلا. أما الانعتاق من تلك النظرة التي تجعل الإنسان وسيلة وليس غاية فقد جاء -يا للغرابة- إثر عودتي لبلدي بعد سنين من الغربة (ربما لأنني أخذت أفتقد قيما بديهية في الغرب وغائبة عندنا)
22 تشرين الثاني 2018، سؤال "لماذا؟"
عبقري الفيزياء الرائع(Richard Feynman)يشرح مدى عمق السؤال لماذا؟؟
لا يوجد جواب على سؤال لماذا الا في اذهان الفلاسفة والاديان. الكون علاقات وليس ماهيات.
20 آذار 2018، فلسفة الموت
سأل الصديق حسام الدين درويش الاسئلة التالية عن فكرة الإنسان عن الموت وموقفه منها (نعم للإنسان موقف من الموت). وأحببت أن أشارككم إجابتي ليس لأني اريد أن أثير النقاش لكن لأني أريد أن عرض أجوبتي على المسألة الفلسفية لعل البعض يراها مفيدة كما كانت لي شخصياً. وللسؤال قيمة كبيرة اليوم بعد كل الآلام والموت التي عانهاها السوريون. سؤال حسام السؤال الفلسفي الأساسي أو الوحيد من وجهة نظر ألبير كامو هو "هل الحياة جديرة بأن تعاش أم لا؟" هل يوجد برأيك إمكانية تعايش غير ديني او لا-ديني مع فكرة الموت؟ ومع ليفيناس ودريدا وغيرهم ومع التفكير والتفكر، تزايدت القناعة بان الموت الذي نواجهه فعلًا ويؤثر فينا تأثيرًا حاسمًا هو موت من نحب، وليس موتنا الخاص. فبموتهم نستمر على قيد الحياة لكننا لا نعود مطلقًا إلى الحياة كما كانت قبل موتهم، أما موتنا، فعلى رأي أبيقور فنحن لا نلتقي به مطلقًا ومن ثم لا داعي للخوف منه: فحين يوجد ينعدم وجودنا، وحين نكون موجودين فهو غير موجود ...! قيل إن للدين ميزة تسكين أو تخفيف قلق الموت بالحديث عن وجود "حياة بعد الموت". لكن هل يتصالح المتدينون فعلًا مع فكرة موتهم الخاص؟ وهل يرتبط هذا التصالح بمدى إيمانهم مثلًا؟" جواب أحد المعلقين (إسمه الفيسبوكي جك روزا)، فقد أعجبني: "من الظلم بمكان أن يبقى مجرد بوست تحصد من وراءه بضعة لايكات، فأرجو أن تتطور الفكرة الى كتيب أو كتاب يشبع نهم قلقنا الوجودي، ولك منا خلودا لذكراك بذاكرتنا نحن الشبقيون للحياة دمت حساما مهندا يهوي على الظلم. واحلى ابو ريمي" جوابي على الاسئلة: يحرق حريشك ايه اصعب من اسئلة الفلسفة في البكالوريا الفرنسية. بالنسبة لي عانيت من الموت بطريقتين الاولى موت من احب واعني والدتي حين كانت في عز شبابها ومن ثم حالات الهلع التي تنتابني (وهو مرض عضوي يتمظهر نفسيا) والتي تتمحور حول الموت، وهي تشبه باعراضها الجلطة القلبية.
- وبعد سنين من الصراع الداخلي بدا لي ان موت الاحبة تعانيه في عقلك الواعي واللاواعي، اما موت الذات فتعاني من الخوف منه على مستوى اللاوعي فقط. حالات الاضطرابات النفسية بعد الحوادث المفجعة PTSD مرتبطة باللاوعي، باعتقادي، وتبدأ وتنتهي هناك.
- الحياة موجودة لانها موجودة، ليس لانها جديرة بان تعاش او لان لها غاية او لانها تنتهي بالموت.
- الهوس بالموت هو علامة خلل (واقول خلل لأنه قد يؤدي إلى الموت) في توازن الانسان النفسي (لكنه في الحقيقة هو مجرد عدم توازن بين غريزتين الموت والحياة). ولا اقول مرض. الانسان في عقله يوازن بين الخوف والامان، الحياة والموت (حتى يجد القدرة اليومية على الحياة) ودائما يستعيد توازنه بمحاكمات منطقية بسيطة او حتى غير منطقية، المهم "يضحك" على نفسه ليستعيد أمله بالحياة. من ناحية إحصائية بحتة، إذا قارن الإنسان بين المخاطر والمحاسن فإن الحياة تبدو مغامرة خاسرة لا يقوم بها إلا المجانين.
صاحب الخلل لا يحصل عنده هذا التوازن فيبقى حبيس القلق الوجودي. طبعا هذه الحالة مفيدة جدا للفلسفة لانها تُخرج الى حيز الوعي ما كان محصورا في حيز اللاوعي او المنسي او المتناسى. هذا الانسان يحتاج الى محاكمة منطقية معقدة ليستعيد توازنه النفسي (غالباً غريزة الحياة أقوى، لأن حالات الإنتحار تبقى ضئيلة)، وبالتالي فإنه يخرج الى العالم بمنظومة فكرية تبرر الحياة (او تبرر الموت، أحياناً).
- لكن من وجهة نظر الكون فالمادة والطاقة محفوظتان ولا يوجد ضياع وبالتالي فالحياة والموت شكلان للمادة لهما نفس القيمة.
أما الدين فيقدم المحاكمة "غير المنطقية" (من وجهة نظر إحصائية) التي ذكرتها سابقا بان يُقنع المتسائل بأن الموت عدو يمكن قهره بقوة الاله وأن الحياة أعلى شأناً من الموت لأنها ثواب بينما الموت عقاب أو فرض. وقد يستغل الدين هذه المحاكمة ليطلب من الانسان الخضوع والطاعة لسلطة الإله (وبالتالي لسلطة رجال الدين). وهذه الطاعة ايضا نتيجة غير منطقية للمحاكمة، فقرار الحياة او الموت بيد الاله، وعملية المقايضة، أي "الحياة مقابل الطاعة والعبادة"، لا معنى لها إلا من وجهة نظر الانسان والمجتمع (لأنها تضبط سلوك الإنسان) وليس من وجهة نظر الاله (فالإله لا ينتفع من الحياة أو الموت بشيء، ولا يضرانه أيضاً).
- واعتقد ان الدين لا يحل مشكلة التساؤل عن الموت والخوف منه، فهو لا يمنع الاختلال العضوي مثل القلق والهلع، ولا يقلل من خوف أغلب الناس حين يواجهون الموت (طبعاً الدين قد يساعد بعض الناس في تفادي هذا الخوف، لكن منشأه العضوي قد يغلبهم في النهاية). وادبيات "الهلع عند الموت" الاسلامية من العصور القديمة كثيرة ومثيرة في معالجتها للموضوع (كتابات ابن أبي الدنيا مثلاً).
- نجاعة الدين في هذا الشأن، إذا وجدت، لا تأتي من تناغم داخلي او منطق داخلي عالي يقهر الخوف العضوي وانما من التربية. الولد يقتنع بان الاله سيحميه من الموت لان اهله يربونه على ذلك. الإنسان يتخلص من الخوف بقدر ما يساعده أهله وهو صغير على مواجهة الألم بطريقة ناجحة. الاولاد الذين يتربون خارج الاديان يتعاملون مع مسألة الموت حسب تربية الاهل وحسب شخصياتهم ودرجة هوسهم.
- لكن هناك جانب مهمل وهو ان الخوف من الموت موجود عضوياً، لكن التجربة الاولى لهذا الخوف تحدد ابعاد التجارب التالية. الانسان يخاف من تجربة الخوف اكثر من الموت نفسه فالانسان لا يمارس الموت ولا يحس به. بينما يمارس الانسان الالم قبل الموت ويخاف منه، لكنه لا يفصل بين الشيئين اي الموت والالم قبل الموت. الفصل بينهما مفيد.
- بالنسبة لي انا اخاف من موت الاحبة ومن الالم الشديد والعذاب قبل الموت. الموت بحد ذاته لا يعنيني الا بقدر ما يعاني منه احبتي.
- لكن هذا لا يعني اني بريء تماما من الهوس بثنائية الفناء والبقاء (أي الموت كانتهاء لعمل الإنسان ووجوده المادي ومن ثم نسيانه بعد جيل أو جيلين بالاكثر). هذا الهوس لم اختره فهو جزء من الهلع الذي أعاني منه. لكني اعتقد أن القلق من الفناء ليس معاناة من الالم وانما معاناة من المعنى. الناس مصممون على فكرة المعنى او ان المجتمع مصمم على فكرة المعنى. واعتقد ان المجتمع هو الذي يدفع باتجاه المعنى لان المعنى يبرر المنظومة الاجتماعية. المعنى ليس في الشيء، اي الحياة، وانما في الجهد الذي نبذله فيها. انها مسالة مقايضة، أي "هذا مقابل ذاك"، أي " معنى مقابل الجهد". المعنى لا وجود له خارج الإنسان وهو مرتبط بنوع نفعي، أو غائي، من التربية والثقافة، اي بفكرة ان لكل شيء غاية وسبب ونتيجة وجزاء وعقاب ولا شيء يوجد هكذا دون غاية (الدين يشجع على هذا النوع من العقلية، لكنه ليس الوحيد. الأهل كذلك، لأن التربية غالباً تقوم على منظومة ترهيب وترغيب وثواب وعقاب، أي شيء مقابل شيء).
- وحتى لو قبلنا بوجود المعنى (دينياً أو خارج الدين)، فإني اعتقد ان المعنى يأتي من اعتراف المجتمع وليس من اعتراف الاله. الدين يؤكد ان الاله سيعترف بالجهد من خلال الحكم على الاعمال، غالباً في وقت لاحق (لا أعرف لماذا يحاكم الإله بالجملة وفي وقت واحد). انها طريقة ذكية في استخدام هذا السؤال من اجل ضبط المجتمع اخلاقيا.
- لكن مع ذلك لا ينتظر المؤمن الى يوم الحساب ليحصل على الاعتراف بل يريده الان ويسعى إليه تحت شعار تحقيق مجتمع الرب على الارض. الجهادي مثلا لا ينتظر وانما يفعل الان وقسرا، انه بالفعل اقل الناس ايمانا بمقايضة العمل بالحياة الابدية انه يفضل مقايضة دنيوية
20 آذار 2019، التراكم الفلسفي
قرأت بوستاً لصديق فيسبوكي يتذمر من ممارسة يقوم بها بعض (أو كثير من) المثقفين العرب تجعله يشعر بان القارئ سيقيمه سلبياً بسببها. وأعني ممارسة ذكر أسماء الفلاسفة هنا وهناك مثل ريكور ودريدا وهيدغر وغيرهم من فلاسفة القرن العشرين. بالنسبة لي كنت مهندس ودرست رياضيات وفيزيا ثم انتقلت إلى التاريخ ودرست بعض نظريات فوكو وإدوارد سعيد وحضرت دروساً (جهد خاص لأن المؤرخين يكرهون التنظير) في السوسيولوجيا والدراسات الدينية. بالمحصلة الجو العام للأكاديميا يعطي أفكار هؤلاء الفلاسفة في حدود موضوع الإختصاص دون أن يعطي اسماءهم. لكن في أجواء المثقفين العرب لا يزال ذكر الإسم مهماً إما كمرجعية او كإحالة أو فقط للمنظرة. فماذا يفعل أمثالي وامثال ذلك الصديق الفيسبوكي الذي لا أعرفه شخصياً، وهو يعتقد أن لديه أفكاراً جديرة بالقول والإستماع لها. وكذلك اعتقد أنا. هل أطلب من المثقفين والكتاب العرب أن يخففوا ذكر الأسماء أم أطلب منهم توضيح الفكرة مع ذكر الإسم وليس فقط الإحالة، أم أهاجمهم كاستراتيجية لاحتلال مساحة من المستمعين والمنابر. قد يقول قائل، ادرس كتابات هؤلاء الفلاسفة وابدأ بذكر الاسماء كعادة أهل القرية ممن شربوا من البئر المسمومة. جوابي هو، أنا قضيت في التعليم مثل ما قضوا، أي من السنين، وأعتقد أني مؤهل وبالتالي سارد إليك سؤالك في النحر، لم لا يكتبون بطريقتي ويقرؤون الكتب التي قرأتها وهي غالباً لمختصين في مجال واحد وليس لفلاسفة. لكنها في النهاية تحمل أفكاراً عميقة وجيدة وذات جدوى ونفع. في الحقيقة منهجي وموقفي ليس هذا ولا ذاك. وأحاول فهم هؤلاء وأولئك ووجهة نظرهم ومصادر تحصيلهم العلمي (يعني علوم اجتماعية وتاريخ وفلسفة). أولاً، أعتقد أن أغلب المثقفين والكتاب العرب من خريجي الفلسفة وهذا اختصاص أخذناه عن الفرنسيين على ما أعتقد لشيوعه في القرن التاسع عشر وربما العشرين بين الكتاب والمثقفين هناك. ثانياً، التيارات اليسارية التي ينتمي كثير من المثقفين لها (ملاحظة غير مدعومة بإحصاء) تعتمد على كتابات ماركس وماركسيين وكلهم فلاسفة. وحتى لو كانوا سوسيولوجيين أو إقتصاديين أو انثروبولوجيين فكثير منهم لا يزالون يكتبون بنفس ماركسي. إذن الفلسفة لا تزال في منطقتنا سيدة العلوم كما كانت منذ أجيال (طبعاً في حلقات غير الفقهاء والمحدثين). ثالثاً، في النهاية، حتى غير الدارس للفلسفة لكنه كاتب بالعربية يلجا إلى قراءة الفلاسفة الشائعة أسماؤهم ليحق له ذكر اسمائهم (ماركات مسجلة). رابعاً، ملاحظة موجهة إلى الكتاب بالعربية. أعتقد أن كثير من المثقفين العرب ينتهون في فرنسا والمانيا (المدرسة القارية) ويتعرفون على الفلاسفة. لكن من يدرس في أمريكا، حيث لا مكان لشيء إسمه مثقف (المكان للمختص)، فإنهم ينتهون بدراسة اختصاص محدد. طبعاً الجانب التطبيقي من الإختصاص لن يسمح لك بذكر الفلاسفة، لكن إذا اهتممت بالقسم النظري فإنك لا بد ستدرس هؤلاء الفلاسفة وما قالوه في اختصاصك (وليس في اختصاصات أخرى) وسيمكنك اللحاق بالركب العربي المستمرئ لذكر الاسماء. ولهذا فإني أعتقد أن المثقفين الذين ينتهون في الولايات المتحدة ومثيلاتها سيبتعدون شيئاً فشيئاً عن الكتابة بالعربية. ورغم كثرة عددهم ووصولهم إلى مراكز أكاديمية عالية فإنك ككقارئ عربي لن تسمع بهم أو بنتاجهم الفكري إلا من رحم ربي وحالفه الحظ مثل ادوارد سعيد. عادة هناك حاجز زمني من خمسين إلى سبعين سنة بين القارتين أوروبا وامريكا وفي الإتجاهين فلا يقرا هؤلاء كتابات أولئك إلا لمن ذاع صيته وبعد ما لا يقل عن خمسين سنة من قمة انتاجه. إدوارد سعيد كتب في السبعينات ووصلت كتبه وانتشرت في بداية الالفية، وهذا إنجاز. خامساً، أرى أن من يفهم الاشياء بعمق يستطيع الحديث عنها باية لغة (اي اية مجموعة من المصطلحات المرتبطة بوسط ثقافي واجتماعي ما). لا اقول أن هذا شرط ضروري، لكن من توسع بعلم وخبره من جوانب متعددة يستطيع أن يبسطه وينقله إلى أي وسيط لغوي. لا بل إن المسالة ليست مجرد تبسيط بل لها مقابل نظري. يسمونها في الرياضيات بالتحويلات التقابلية. اي أنك تحول المسالة من مجموعة إحداثيات إلى مجموعة إحداثيات اخرى من خلال تحويل واحد-لواحد. المشكلة الكبيرة في العلوم الإجتماعية هي أن الوسيط التعبيري هو لغة الإنسان، وهو الاسواء من ناحية الترجمة من فضاء إلى فضاء آخر. فإما لا توجد ترجمة أو لا توجد مصطلحات كافية في فضاء المآل لنقل كل افكار فضاء المصدر. باعتقادي أن أي نظريتين تشرحان نفس المسألة فلا بد من وجود تحويل واحد-لواحد لترجمتهما الواحدة إلى الأخرى. وإذا عجزت الترجمة فلا مانع من الإسقاط أي انك تبدأ من فضاء بعشرين بعد وتسقط النظرية على فضاء باربعة ابعاد. مثلاً تنقل الفلسفة إلى الدين (لا يغضبن احد، الدين فلسفة قليلة الابعاد باعتقادي). إذن يمكن للكتاب المحبين لنثر الاسماء ان يشرحوا الافكار دون الإحالة إذا كانوا يكتبوا لمستمعين من عموم الناس أو من غير المختصين بالفلسفة. وكذلك، يمكن لدارس الفلسفة أن يترجم افكار المختص إلى فضائه الفلسفي دون كبير عناء وإلا فيجب عليه أن يعترف بانه ليس مختصاً بكل شيء (كما يفعل البعض لمجرد أن الفلسفة سيدة العلوم). سادساً، وهذا أكثر أفكاري إزعاجاً، أنا افضل الإختصاص على الفلسفة العامة. اعتبروني أنكلوساكسوني تجريبي أو اية شتيمة فلسفية، أنا أحترم الممارسة الميدانية أكثر من الممارسة النظرية وأحب الإختصاص أكثر من الموسوعية، وأعتبر أن الطريق الأنجع والأنفع يكون من الإختصاص إلى العموميات وليس العكس. وأحرض الكتاب العرب على دراسة العلوم الإختصاصية أكثر من دراسة الفلسفة. ليس هذا عداوة كار، وإنما لاني أحب الإنطلاق من الواقع إلى التنظير وليس العكس. أخاف جداً من الإنحباس في إطار التنظير المجرد والمنفصل عن الواقع. العقلانية بالنسبة لي (اي استخدام العقل) لا تعني الصحة. معيار الصحة هو مدى مشابهة النظرية للواقع وليس مدى منطقية النظرية. أعتقد أن العقل البشري ليس مصمماً لاكتشاف العلوم الواقعية وإنما هو مصمم لبقاء النوع البشري وبالتالي فإن مشابهة الواقع محدودة (أحمي نفسي من خطر الحيات فقط بأن أمثل الحية بخط متعرج يتحرك وأصفه بالخطير، وهذا اساساً سبب العنصرية، اي الإختزال والتعميم). أثق بالطريقة العلمية (وأعتقد أنها غير عقلية أو حتى غير عقلانية) وأكره منطق ارسطو الذي اعتبره قمة العقلانية وأقصى ما يمكن أن تصل إليه، وهو لا شيء مشابه للطبيعة والواقع، رغم نفعه للإنسان (وهذا سؤال آخر: كيف يمكن الإستفادة من معلومة خاطئة من منظور واقعي؟ مثال الحيات قد يساعد). أخيراً، نصيحتي للصديق الفيسبوكي، اترك الأسماء ولا تبحث عن الشهرة عن طريقها وركز على المحتوى وتحدى كل الهازئين أن يأتوا بمثله (أي التحويل التقابلي). المحتوى هو الحكم، والواقع هو آخر معيار. وفي النهاية كل ما كتب البشر وسيكتبون إنما "هي سطور كتبت لكن بماء".