كتابات متنوعة
23 نيسان 2018، اللجوء الألماني: مثقفون وكتاب وباحثون في المجرّة الجديدة
حسام الدين درويش
أجرت الصديقة العزيزة "غالية شاهين" تحقيقًا صحفيًّا عن وضع اللاجئين- الكتَّاب في ألمانيا وقد طرحت علي سؤالين، في هذا الخصوص: وفيما يلي نص السؤالين وإجابتي عنهما: _هل من فرق بين كونك كاتباً في سوريا وبين كونك كاتباً لاجئاً هنا في ألمانيا، وهل يترتب على هذا الفرق، إن وجد، معاناة أو مكابدة من نوع خاص؟ "طبعًا" هناك اختلافات كبيرة بين الوضعين. فعلى العكس من الوضع في سوريا، لا رقابة أمنية استبدادية ولا تضييق أمنيٍّ قمعيٍّ، هنا في ألمانيا. وهذا يعني امتلاك الحرية وتحمل كامل المسؤولية عما نكتبه. الكتابة من سورية كانت موجهة إلى القارئ العربي عمومًا والسوري خصوصًا؛ أما القارئ الافتراضي أو المثالي المتخيَّل لما أكتبه هنا، فقد أصبح يتضمن، أيضًا وأحيانًا على الأقل، القارئ العربي المقيم في "الغرب" والقارئ الغربي أيضًا. والكتابة أو العمل في المجال الثقافي أو الإعلامي العربي أقرب إلى الهواية منه إلى العمل الاحترافي فالمردود المادي من هذا العمل ضعيف جدًّا مقارنةً بتكاليف الحياة في ألمانيا، يضاف إلى ذلك إن ظروف اللجوء في مراحله الاولى على الأقل ومحاولة الاندماج في هذا البلد وتطبيع العلاقة معه، كل ذلك يتطلب تفرغًا كاملًا أو شبه كاملٍ وجهودًا مكثفةً لا تفسح مجالًا كبيرًا للكتابة والعمل أو المشاركة في ميدان الثقافة. وفأنا مثلًا اضطررت إلى التوقف عن الكتابة توقفًا شبه كاملٍ لمدة عامين تقريبًا قبل أن أستأنف عملي البحثي والأكاديمي بفضل منحٍ مقدمةٍ من مؤسساتٍ ألمانيةٍ وأمريكيةٍ. _اللغة هي حقل الكتابة، الكاتب أكثر الناس انخراطاً في اللغة، هل شكل ذلك سبباً في رفض اللغة الجديدة/ لغة البلد الذي لجأت إليه، الألمانية هنا، خاصة أنها لغة مفروضة: أي يجب، حسب الأنظمة الألمانية، على اللاجئ تعلمها؟ أم أن علاقتك الراسخة بلغتك الأم شكلت حافزا لديك لتعلم اللغة الجديدة؟ تمثل مسألة اللغة الإشكالية الاكبر بالنسبة إلى اللاجئ عمومًا وبالنسبة إلى اللاجئ الكاتب خصوصًا. فبالإضافة إلى ضرورة أن يتعلم لغة البلد الجديد الذي يقيم فيه، عليه ان يقرر إذا كان يود الاستمرار بالكتابة باللغة العربية (فقط) أم أنه يود الكتابة بلغة البلد الذي يقيم فيه. وهذه مسألة غاية في الأهمية ولها نتائج كبيرة ومؤثرة في حياة الشخص عمومًا وفي حياته المهنية وطبيعة كتابته ومضمونها. أنا أحاول ان التوفيق بين أكثر من أمرٍ: الكتابة والعمل باللغة الإنكليزية، تعلم الألمانية تمهيدًا لجعلها لغة العمل، والاستمرار بالكتابة باللغة العربية. طبعًا تعدد الاهداف واختلافها يجعل التقدم في تحقيق كلٍّ منها بطيءٍ (جدًّا). أنا حريص على عدم التخلي عن أي من الاهداف لاعتقادي بضرورتها الملحة. فاللغة الوحيدة التي يمكنني العمل فيها حاليًّا في المجال الأكاديمي والبحثي في ألمانيا هي الإنكليزية؛ وتعلم الألمانية ضرورية لأسبابٍ تتعلق بالحياة اليومية والاجتماعية وبالإقامة وتمديدها وبالعمل الأكاديمي أيضًا؛ أما الكتابة باللغة العربية فهي "حبي الأول والأخير" فهي اللغة التي أشعر بنبضها وأحس بطعم مفرداتها وحروفها وأعبر عن فكري ونفسي من خلالها بطريقةٍ لا يمكن مقارنتها مع أي لغةٍ ثانيةٍ "اضطررت" إلى تعلمها واستخدامها (الفرنسية والإنكليزية والألمانية).
29 نيسان 2018، رحلتي الأخيرة إلى برلين
عن "سوريتنا" و"اندماجنا" و"علمانيتنا" : خواطر سريعة من رحلة برلين الأخيرة، في رحلتي الأخيرة إلى برلين شاركت في لقائين ثقافيين: الأول بدعوة من نادي سلام والصديق الدكتور ابراهيم السيد عن الانتماء والاندماج، والثاني بدعوة من مؤسسة ابن رشد عن العلمانوية والعلمانية والعلمنة. وخلال هذه اللقاءات وما تلاها أو وازاها من نشاطات أخرى تولد أو تعزز لدي حضور بعض الانطباعات والأفكار أود مشاركتكم بعناوين بعضها. ما زال "الاندماج" بين السوريين والتطبيع الإيجابي للعلاقات بينهم أصعب وأقل إيجابيةٍ في كثيرٍ من الأحيان من "اندماج" السوريين في ألمانيا مجتمعًا ودولة. لكن وجود عقبات أكبر في وجه الاندماج الأول لا ينفي وجود مقومات أكبر لهذا الاندماج. ويمكن "للاندماج" بين السوريين أن يساعد على "اندماجهم" في مجتمعهم الجديد، لكن يمكن أن يكون عائقًا أيضًا. يبدو لي أن كثيرًا من السوريين، وفقًا لإحدى الصور النمطية الشائعة، هم سوريون أكثر مما يظنون أو يرغبون، وأقل ألمانيةً أو لا سوريةً مما يودون أو يأملون. ينطلق هذا الانطباع من الاعتقاد بأنه على الرغم من أن الصورة النمطية التي لدينا عن أنفسنا أو عن الآخر مليئة بالتعميمات المغلوطة والتقييمات الفاسدة، إلا أنها ليست مجرد عقبة في وجه الفهم بل هي في كثيرٍ من الأحيان ضرورة لا مفر منها للفهم بوصفها أحكامًا مسبقة تمهِّد لفهم أوليٍّ ينبغي أن تتم مراجعته وتنقيحه وتعديله دائمًا. الحديث عن سوريتنا أو غير سوريتنا، بالمعنى الثقافي، لا ينبغي أن يتخذ ذريعةً لاخفاء أو إنكار الفروق الفردية الهائلة التي قد تجعل الاختلاف داخل الثقافة الواحدة أكبر واعمق من الاختلاف بين "الثقافات المتعددة". إدراك وجود هذه الفروق ضروري قبل أي عملية تقييم ومن المستحسن بدون هذه العملية، غالبًا على الأقل. "سوريتنا" ليست بالضرورة عقبة في وجه كونيتنا وعالميتنا وإنسانيتنا بل هي إحدى الأشكال الضرورية لتجسدها وتجسيدها، وتأسيسها والتأسس عليها. فالإنسانية المجردة البعيدة عن التعين الجزئي في السياقات الخاصة والمحددة هي إنسانية شكلية وشكلانية فارغة من كل مضمونٍ ذي معنى. وأخشى ان بعض السوريين ينطبق عليهم حديث روسو عن أن مبالغة بعض الأشخاص في التعلق بالإنسانية المجردة تترافق مع كرههم لجميع البشر. قبل إجراء مقابلة إذاعية مع القسم العربي في إذاعة RBB، تحدثت قليلًا مع مصورٍ فلسطيني يعمل في الإذاعة. وقد فوجئت عندما أعلن عن اعتقاده الجازم بأنني فلسطيني من مجرد سماعه بضع كلماتٍ مني. ثم انتقلت الدهشة إليه عندما علم انني سوري ومن مدينة بعيدة نسبيًّا عن فلسطين. لكننا اكتشفنا من ذلك الأمر وغيره أن ما يجمع بيننا أكثر وأكبر مما نظن أو نعرف على الأرجح. وحصل معي ما يشبه ذلك في حواري مع بعض الإخوة العرب في لقائي نادي سلام ومؤسسة ابن رشد. ولأسباب كثيرة كانت تنتابني مشاعر إيجابية في هذا الخصوص. الموضوع الإسرائيلي/اليهودي كان وما زال بؤرة ومصدرًا للاختلاف العميق وسوء الفهم الكبير بين "السوريين" و"الألمان". وأود الإشارة في هذا الخصوص إلى أننا، نحن "السوريين"، ما زلنا في كثيرٍ من الأحيان نتحدث عن اليهود من ضحايا الهولوكوست على أنهم ذوو صلة وثيقة بإسرائيل المعاصرة ونربط بين الإثنين بطريقة تجعلنا غير متعاطفين كثيرً (أو ولا قليلًا غالبًا) مع هؤلاء الضحايا. من جهتي أرى أن الفلسطينيين والعرب المتأثرين بالاحتلال الإسرائيلي والمتعاطفين مع ضحاياه هم أقرب إلى يهود الهولوكست بالمعنى الإنساني والأخلاقي والسياسي من أي إسرائيليٍّ مؤيدٍ لسياسة إسرائيل المجرمة. بهذا المعنى، نحن يهود هذا العصر، ولا ينبغي أن نسيئ لضحايا هذا العصر او العصور الأخرى او نهوِّن مما حصل بحقهم. ........... بدات اميل أكثر فأكثر، مع رأي الجابري وبعده بشارة، إلى أن معظم الأحاديث السائدة في "ثقافتنا" عن العلمانية هي عقبة في وجه الديمقراطية اكثر من كونها تساعد على تحقيق الفهم النظري للديمقراطية وتساعد على تحقيقها في الأذهان والأعيان. وازدادت قناعتي بان كل حديث عن العلمانية أو العلمانوية وضرورتها بدون ربطه بالديمقراطية وبمناهضة أو انتقاد الاستبداد هو حديثٌ سلبيٌّ ولا يفضي إلا إلى تشويه الوعي وتعزيز الواقع السيء والانقياد إلى معارك زائفة لا تصب لا في صالح الرؤية العلمانية ولا في صالح التوجه الديمقراطي. باختصار المعركة من أجل العلمانية هي بالدرجة الاولى معركة من أجل الديمقراطية وضد استبداد السلطات الحاكمة قبل، وأكثر من، أي شيءٍ آخر، وبالتالي هي ليست أساسًا أو جوهريًّا معركة ضد الدين ونصوصه أو المتدينين وممثليهم المزعومين أو الفعليين وتنظيماتهم الجهادية أو غير الجهادية. على الرغم من أن الصراع و/أو الحوار و/أو النقاش على مستوى الوعي والفكر والثقافة هو المجال الوحيد أو شبه الوحيد المتاح لكثيرين منا، إلا أن ممارسة هذا الصراع و/أو الحوار و/أو النقاش مع الاعتقاد بأن القوى المحركة للواقع لا تتأثر كثيرًا وربما ولا قليلًا بما يحصل على مستوى الوعي والفكر والثقافة، يضع الممارسين في مفارقة قد يتعذر حلها أو الخروج منها، وفي تناقضٍ ذاتيٍّ قد يصعب بناء جدلٍ بين طرفيه وللحديث بقايا
7 أيلول 2018، الحيادية والموضوعية في المعرفة والفكر السياسي
حسام الدين درويش
الحيادية والموضوعية في المعرفة والفكر السياسي
ثمّة "خطأ" شائع يجعل الحياديّة شرطًا للموضوعيّة، بل ومرادفًا لها أحيانًا، وعليه يكون تأكيد عدم حياديّة فكرٍ ما هو، في الوقت نفسه، دليل واضحٌ على عدم موضوعيته. ويظهر هذا الخلط في أشكالٍ متعدّدة تتجسّد مثلًا في إقامة تعارض أو تناقض قطبي بين الذاتية والموضوعية، أو بين الأيديولوجيا والمعرفة العلمية أو الموضوعية. ويمسّ هذا التناقض المزعوم الفكر السياسي بصفة خاصّة، لأنّ هذا الفكر هو بامتياز شديد، ميدان الأيديولوجيا والتحيزات والذاتية وعدم الحياد. ويشمل الفكر السياسي هنا كلّ تنظير أو نقاش أو تعامل إعلامي مع الشأن السياسي. وعلى الرغم من أنّ التحيز أو عدم الحيادية قد يفضي إلى درجةٍ من عدم الموضوعية، فإنّنا نرى ضرورة التشديد على أمرين، هما: إنّ التحيّز أو عدم الحياد أمر لا مفرّ من حصوله، بطريقة أو بأخرى، وإلى درجة أو أخرى، في المعرفة عمومًا، وفي تلك المتعلّقة بالشأن الإنساني أو السياسي خصوصًا؛ وفضلًا عن ذلك، إنّ عدم الحياد لا يؤثّر بالضرورة سلبيًّا في موضوعية الفكر أو المعرفة، بل قد يكون أحيانًا شرطًا ضروريًّا من شروط الوصول إليها، أو إلى درجة من درجاتها المرغوبة أو الممكنة.
الذاتية هي طريق ضروري للموضوعية؛ بمعنى أنّ كلّ معرفة تتطلّب ذاتًا عارفةً. والمعرفة "الموضوعية" هي معرفةُ ذاتٍ أو ذواتٍ بموضوعٍ ما. والمرور الضروري للمعرفة عبر الذات يترك حتمًا آثار هذه الذات وبصماتها في صوْغ شكل تلك المعرفة ومضمونها. فالمعرفة الإنسانيّة محكومة أو محدودة بملكات الإنسان الحسّية والنفسية والعقلية وممكناتها، وتحدّد هذه الملكات جانبًا ممّا يمكن تسميته بالبعد الوجودي (الأنطولوجي) الأساسي للذات العارفة. وفي مقابل هذا البعد الوجودي الأساسي، ثمّة بعد وجودي -إبستيمولوجي يتحدّد بالمعارف التي اكتسبها الإنسان عبر تفاعله مع بيئته، وتحصيله المعرفي التاريخي، وباهتماماته وميوله، وبوجهات النظر التي كوّنها، وبكلّ ما يشكِّل الأحكام المسبقة الواعية أو غير الواعية التي تؤثّر، إلى درجةٍ ما، في رؤيتنا للواقع، وفي تعبيرنا عنها. وثمّة بعدٌ ثالث هو منظور معرفي - أخلاقي يتحدّد بالحقل المعرفي الذي نشتغل فيه، وبالنظريات التي نعمل في إطارها، وبالمبادئ والمفاهيم التي نستند إليها أو نستخدمها، وبالغايات أو النتائج التي نسعى إليها ونرغب فيها، وبالعوامل الشخصية أو غير الشخصية التي تدفعنا إلى تناول هذا الموضوع وإلى السعي إلى هذه الغايات وتلك النتائج، وبتقييماتنا الأخلاقية وغير الأخلاقية موضوع المعرفة وحيثياته.
وتتداخل هذه الأبعاد وتتشابك إلى درجةٍ تفضي في النهاية، إلى تشكيل منظور واحد لا تتحدّد من خلاله ذاتيّة المعرفة وانحيازها الضروري الجزئي والنسبي فحسب، بل تتحدّد موضوعيتها الممكنة أو المتوخّاة أيضًا. ومن الواضح أنّ السمة المنظورية الملازمة لمعرفة الذات تجعل من حيادها أو عدم تحيّزها أمرًا مستحيلًا وغير ممكن، من حيث المبدأ. والمقصود بالحياد هنا هو عدم اتّخاذ أيّ موقف تقييمي من الموضوع المبحوث. ويشمل التقييم هنا ثالوث القيم عمومًا، وقيمتَي الحقّ والخير خصوصًا. ومن الواضح أنّ السمة المنظورية للذات العارفة تتضمّن عادةً بالضرورة تقييمات أوليّة عن الموضوع المبحوث؛ ويصدق ذلك، بصفة خاصّة، حين يكون الإنسان هو الباحث والمبحوث، هو الذات العارفة والموضوع المعروف. ويظهر ذلك بصورة نموذجية في الميدان السياسي، حيث تبرز أو تسود الأيديولوجيات أي الأفكار أو الأنساق الفكرية التي تتناول أو تمسّ، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، حريّات الناس وحقوقهم وواجباتهم وتطلّعاتهم ومصالحهم الخاصّة والعامّة، والتي تتأسّس بالدرجة الأولى، على الإرادة الساعية إلى تبرير ما هو كائن أو ما يجب أن يكون، أو تسويغهما أو ترويجهما. ومن الصعب أن يكون الإنسان محايدًا ولا يتبنّى موقفًا نظريًّا ما، حين يتعلّق الأمر بهذه الأمور المهمّة إلى درجةٍ قد تجعلها مصيريّة. وعلى الرغم من تفاوت البشر في تحيّزهم أو عدم حيادهم – وهو التفاوت الذي يتلاءم عمومًا مع مدى تأثّرهم المادي أو المعنوي، المباشر أو غير المباشر، بالأوضاع المدروسة أو ذات الصلة – فإنّ هذا التفاوت لا يمكن أن يفضي إلى الحيادية الكاملة أو المطلقة.
لكن هل يمكن، أو هل ينبغي أن يقتصر تعريف الموقف الحيادي على أنّه الموقف الخالي من التقييم في التعاطي مع الواقع المدروس؟ ألا يجري أحيانًا، وربّما غالبًا، مماهاة الموقف المحايد مع الموقف الوسطي الذي يحاول البقاء على مسافة واحدة من الأطراف المختلفة؟ لا نؤمن بمعقولية هذه المماهاة، ولا بإمكانية اتّخاذ الوسطية معيارًا للحيادية. فاتّخاذ الوسطية معيارًا للحيادية يعني اتّخاذ موقف "لا مبالٍ" من الواقع ومن الموضوع المُختلَف فيه أو عليه، واللامبالاة أو عدم الاكتراث هو موقف قيمي، في نهاية المطاف. قد يقال إنّ الوسطية لا تتضمّن أيّ تقييم، وإنّها تحافظ بذلك على الحيادية، على الرغم من إمكان الحكم عليها بأحكامٍ تقييمية. لكن هل تخلو فعلًا الحيادية، بوصفها وسطيّةً، من الأحكام التقييمية؟ ينبغي التمييز هنا بين الأحكام التقييمية الخاصّة والمباشرة، والأحكام التقييمية المستعارة وغير المباشرة. فإذا كان بإمكان صاحب الموقف الوسطي المحايد تعليق قيمه الخاصّة أو عدم الاستناد إليها، جزئيًّا ونسبيًّا، على الأقلّ، فهذا يعني أنّ موقفه سيتحدّد انطلاقًا من قيم الآخرين وتحيّزهم وعدم حيادهم – فالوسطيّة تتحدّد تبعًا لموقف الطرفين أو مواقفهما - وهذا يعني أنّ موقفه يتضمّن بالضرورة أحكامًا تقييمية غير مباشرة، على الأقلّ، وهي الأحكام المؤسَّسة على أحكام الآخرين وتقييماتهم الخاصّة.
ولتوضيح إمكانيّة عدم حيادية الموقف الوسطي، سنحاول تطبيقه في حالة الصراع بين "ظالم" و"مظلوم"، أو إذا استخدمنا مصطلحات ذات شحنة قيمية أقلّ، بين نظام ديكتاتوري ومعارضيه السلميين أو غير السلميين. قد يرفض هذا النظام اتّهامه بالديكتاتورية ويسوّغ إجراءات القمع التي يتّخذها ضدّ معارضيه، منذ عشرات السنين، بالأوضاع الاستثنائية للبلد، وبلا وطنية هذه المعارضة التي لا تفهم هذه الأوضاع والضرورات التي تفرضها، أو لا تتفهّمها. وفي المقابل، قد لا يرى المعارضون في هذا النظام إلا الطابع الاستبدادي الذي يحاول التخفّي وراء شعاراتٍ لم تكن يومًا مبادئ محرّكة سلوك هذا النظام، مع تشديدهم على أنّ الأوضاع الاستثنائية التي يتحدّث عنها النظام، هي، جزئيًّا ونسبيًّا على الأقلّ، نتاجٌ لاستبداده وفساده، كما أنّ هذه الأوضاع تقتضي التخلّص من الاستبداد والقمع، وإفساح المجال أمام مزيد من الحريات، لا العكس، كما يدّعي النظام.
نحن هنا أمام موقفين متناقضين ومتطرّفين، فهل يمكن للوسطيّة – بوصفها اتّخاذ مسافة متساوية من الأطراف المتنازعة – أن تكون حيادية؟ وبأيّ معنى يمكنها ذلك؟ ينبغي الإشارة هنا إلى أنّ الظالم أو المعتدي يرغب دائمًا تقريبًا في ابتعاد الآخرين عن تقييم أفعاله ونتائجها، وإبعادهم. فبالابتعاد عن هذا التقييم، تتحوّل المجازر إلى أحداث، والثورة إلى أزمة، والقمع الوحشيّ إلى مواجهات عنيفة، والمواجهة بين الشعب والاحتلال الداخلي أو الخارجي إلى صراع بين طرفين... إلخ. والموقف الوسطي الساعي إلى الحياديّة هو موقفٌ يحقّق الرغبة المذكورة بامتياز، إذ لا نستطيع أن نتبيّن من خلاله، من هو الظالم ومن هو المظلوم، من هو الجاني ومن هو الضحيّة، من هو المسؤول الأساسي ومن هو المسؤول الفرعي... إلخ. وهذه الميوعة، أو هذا الحياد المزعوم أو الشكلي في الموقف هو عمليًّا وبالنتيجة، تحيّزٌ سافر إلى الظالم ضدّ المظلوم الذي يرفض هذا الحياد المتحيّز، ويرى ضرورة اتّخاذ موقف واضح من الواقع أو الوقائع، بناءً على ما هو حقٌّ وحقيقي، وليس بناءً على الرغبة في تجنّب اتّخاذ موقف مؤيّد أو معارض هذا الطرف أو ذاك. فحتّى إذا كان من الممكن تنفيذ هذه الرغبة شكليًّا وعلى الصعيد النظري، فإنّ هذا التنفيذ ينطوي ضمنيًّا، وعلى الصعيد العملي، على موقف متحيّز وغير حيادي، لأنّه يتلاءم مع مصالح طرفٍ دون آخر ورغباته. وباختصار، الحياد أو الوسطيّة هي موقفٌ تقييمي وقيمي بالضرورة. وفي حالة الثورة السوريّة، تبدو لا حياديّة الموقف الوسطي واضحةً في آراء بعض الوسطيِّين الإعلاميين ومواقفهم، بل حتّى في مواقف بعض المعارضين السوريّين "المزعومين" الذين يصرّون على الحديث عن المسؤوليّة المشتركة للأطراف السوريّة المتصارعة عن الجرائم الكثيرة والكبيرة المرتكبة في هذا الصراع، من دون الخوض الضروري في تفاوت مسؤولية كلّ طرف، ومن دون الانتباه إلى جدل العلاقة بين السبب والنتيجة، في هذا الإطار.
لكن، إذا كان الحياد أمرًا مستحيلًا من حيث المبدأ في المعرفة عمومًا، وفي تلك المتعلقة بالشؤون السياسية خصوصًا، فهذا لا يعني أنّ تلك الاستحالة تفضي إلى استحالة بلوغ درجةٍ من الموضوعيّة، في هذا الخصوص. والموضوعية، بوصفها سمةً للمعرفة، تعني التعبير الدقيق نسبيًّا وجزئيًّا، عن الواقع الموضوعي، كما يبدو لنا، من منظور ما. وإذا اتّخذنا من حالة الثورة السوريّة مثالًا لتوضيح هذه الفكرة، يمكن تفهّم العوامل التي أفضت إلى المماهاة بين الحياد والموضوعية، أو بين عدم الحياد وعدم الموضوعية، إذا انتبهنا إلى ممارسة بعض المتحزّبين الأيديولوجيين الذين يغضّون الطرف، بوعيٍ أو من دونه، عن سلبيّات الاتّجاه الذي يؤيّدونه وعن نسبية الحقيقة التي يمثّلها ومحدوديّتها؛ فبعض مؤيّدي "الثورة السوريّة" يرون في أيّ انتقاد أو حتّى نقدٍ لبعض الممارسات السلبيّة ل "الثوّار"، أو المحسوبين عليهم، موقفًا غير ملائم وغير مقبول. ويسعى أمثال هؤلاء المتحيّزين إلى الثورة إلى إنكار هذه الممارسات أو تبريرها أو التقليل من أهميتها. وفي مثل هذه الحالات، يمكن بالطبع الحديث عن التأثير السلبي للتحيّز أو لعدم الحياد عن الموضوعيّة. لكنّ هذه الحالات الشائعة لا تعني أنّ كلّ مؤيّد للثورة، أو متحيّز إليها، سيسلك بالضرورة هذا السلوك، وسيتبنّى بالتأكيد هذه النظرة الأحاديّة غير الموضوعية.
ربّما كان من الممكن إظهار عدم وجود ترابطٍ ضروري بين عدم الحياد وعدم الموضوعية، من خلال المقارنة بين موقف المنحازين إلى الثورة أو مؤيّديها وموقف المنحازين إلى النظام أو مؤيّديه. ولكي تكون المقارنة منصفة، نسبيًّا على الأقلّ، سنحاول أن تكون المقارنة متعلّقةً بموضوع واحد، وهو: الحصار الذي فرضته قوّات النظام أو قوّات معارضيه على بعض المدن أو المناطق السوريّة؛ فمنذ بداية الثورة تعرّض عددٌ كبير من المناطق السوريّة لحصار خانق، مُنع فيه إدخال كلّ الموادّ الغذائية والطبية والمحروقات وغيرها من الحاجات الأساسية والضرورية إلى تلك المناطق. وقد مارست قوّات النظام سياسة التجويع والحصار هذه على درعا والغوطة الشرقية والجزء المحرّر من مدينة حمص... إلخ، في حين قامت قوّات المعارضة بممارسة هذا الفعل الإجرامي في الجزء الغربي من مدينة حلب، وفي عفرين ونبل والزهراء... إلخ. وقد أعلن الكثير من الثوّار أو من مؤيّديهم رفضهم التامّ لقيام بعض كتائب الثوّار أو المحسوبين عليهم بهذا الفعل الشنيع، وخرجت تظاهراتٌ في بعض المناطق المحرّرة ضدّ هذا الحصار وضدّ كلّ من يمارسه أو يؤيّده أو يبرّره؛ وفي المقابل، نجد أنّ مؤيّدي النظام لم يصدر عنهم أيّ اعتراض فعلي أو حقيقي، أو حتّى رمزي على ممارسة قوّات النظام هذا السلوك الوحشي؛ لا بل يمكن القول إنّ الكثير من المتحيّزين إلى النظام لم يرَوا في هذا الحصار أو في قصف المدن بالبراميل أو بالصواريخ البالستية أيّ أمر شائن، وذهب البعض في دفاعه عن النظام، إلى درجة إنكار حصول هذا الأمر أصلًا. ويتنافى عدم الحياد هنا، بصورةٍ كاملة تقريبًا، مع الموضوعيّة. لكن لا ينبغي تعميم حالة "المنحبكجيّة" السوريّة على كلّ حالات عدم الحياد. فهذه الحالة هي حالة مَرضية، بالمعنى الأخلاقي على الأقلّ. ولهذا السبب، وبسبب طبيعة النظام الاستبدادية، لم يحصل أن قام مؤيّدو النظام بأيّ تظاهرة أو حركة احتجاج ضدّه، ولا يمكن تصوّر حصول ذلك أصلًا. والمقصود بالنظام هنا ليس السلطة الاسميّة المتمثّلة في الحكومة ومجلس الشعب وما شابه، وإنّما المقصود هو السلطة الفعليّة المتمثّلة في القوى الأمنيّة والعسكريّة بقيادة الأسرة الحاكمة.
ونحن لا نريد الاكتفاء بفضّ الترابط الضروري المزعوم بين الحياد والموضوعية فقط، وإنّما نريد أيضًا أن نؤكّد أنّ عدم الحياد قد يساعد على تعزيز المعرفة الموضوعية، أكثر من كونه يمثّل بالضرورة عائقًا أمام تلك المعرفة. فتحيّزنا إلى طرفٍ ما يمكن أن يساعدنا على امتلاك فهمٍ أكبر وأعمقَ لهذا الطرف. ومن المفيد التذكير هنا بقول دلتاي "إنّنا نفهم الإنسان ونفسّر الطبيعة". فنحن نستطيع، من حيث المبدأ، فهْم البشر عمومًا، لأنّنا مثلهم أو لأنّهم مثلنا بمعنى ما. ويعني الفهم هنا إدراك المعقولية، والإمساك بالمعنى، في إطار كلية ما متّسقة. أمّا التفسير، فيعني هنا ردّ نتيجة ما إلى أسباب ما، من دون الحديث عن معنًى منطقي أو عضوي ما لهذا الترابط بين السبب والنتيجة. فليس هناك ترابط عضوي ضروري بين هبوب الرياح وسقوط شجرة ما، لكن ثمّة ترابط قويّ وصميمي بين الفعل الإنساني وغاياته. ويمكن للانتماء إلى طرف ما، وللتحيّز إليه وإلى ما يفعله، أن يساعد بالتأكيد على تكوين فهم أكبر لطبيعة هذا الطرف، وللمعقولية الداخليّة لفعله ومسوّغاته وغاياته، بدلًا من الاكتفاء بتفسيرها من الخارج، أي ردّها أو اختزالها إلى عوامل اقتصادية واجتماعية وثقافية... إلخ. ولهذا، لم يستطع بعض "العقلانيين" فهم الثورة السوريّة، لأنّهم أرادوا التفكير فيها من خلال منطق غريب عنها، منطق العقل الحسابي الذي لا يرى مسوّغًا للفعل سوى النتائج الإيجابية التي يمكن أو يُرجّح أن يفضي إليها، أمّا المعقوليّة ذات البعد الأخلاقي - النفسي التي تربط الفعل بحيثيّاته وسوابقه، أكثر ممّا تربطه بنتائجه وبالمصالح الخاصّة أو العامّة التي يحقّقها، فقد ظلّت هامشية أو غائبة، في ظلّ هذا التفكير "العقلاني".