تعقيب: هل الدولة التعارفية "مثالية"؟

من Wiki Akhbar
نسخة ٠٨:٤٢، ١٣ أغسطس ٢٠٢٢ للمستخدم Alimohdasaad (نقاش | مساهمات) (أولاً)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

"المثالية" في مشروع الدولة التعارفية

د. علي محمد أسعد

مقدمة

تشكّلَ انطباعٌ لدى عدد لابأس به من قرّاء كتاب الدولة التعارفية قبل طباعته وبعدها، مفاده أن موضوع الكتاب هو دعوة "مثالية" تشبه الدعوة إلى "المدينة الفاضلة" وأنه لا يصلح إلا للمجتمعات المثالية. يكاد يكون هذا النقد الرئيس الذي اعترض الكتاب فلابد من التوقف الجاد عنده وبحثه والاستفادة منه.

في البداية، لابد من الإشارة إلى أنّ مفردة «المثالية» – لغةً – لا تعني الخيالية ولا تعني «عدم الواقعية». فالمثالية صفة تُطلق على كل ما هو أفضل وأرقى وأنسب لكنّ أصحاب هذا النقد أرادوا المعنى السائد أي عدم الواقعية.

يُطلِقُ البعض صفة «المثالية» عادةً كذريعة لإجهاض الفكرة أو للتهرب من دراستها وتطبيقها وتحمُّل مصاعبها. لكنّ السادة الناقدين لم يفعلوا ذلك بل بذلوا جهوداً استثنائية وقدموا نقداً بنّاءً في مقالات رصينة تعصف الأذهان. وقد انتهى العصف الذهني لدى كاتب هذه السطور إلى التعقيب التالي:

تعقيب على شُبهة "المثالية"

أولاً

يقتضي أي بحث أو نقاش علمي أن يؤخذ في الحسبان بعُنصُرَيْ الزمان والمكان. وعليه فإن ما هو "مثالي" وغير واقعي في مكان أو زمان معين قد يكون واقعياً جداً وقابلاً للتطبيق في مكان أو زمان آخر، بل ومعمولٌ به أصلاً في مكان ثالث. لذا يفضل عند القول عن فكرة ما أنها غير واقعية - تحديد الزمان والمكان كَأَنْ نقول مثلاً: إنذَ الدولة التعارفية غير واقعية في هذا البلد العربي، الأوروبي أو ذاك، في هذا العصر أو العصور السابقة.

ثانياً

إن التعارف هنا لا يُعتَمد بصفته فضيلة أو سلوكاً أخلاقياً بل باعتباره فطرةً أو ضرورةً إنسانية أو قانوناً اجتماعياً. ولو كانت الأخلاق أو التقوى شرطاً مسبقاً للمشاركة في التعارف لأمكننا القول أن الدعوة غير واقعية لعدم توفر هذا الشرط إلا في نطاق محدود للغاية. قد لا تكون التقوى مبتغى كل المشاركين في التعارف، وليس بالضرورة أن يكونوا جميعا أتقياء أو أخلاقيين. سيكون التعارف بالنسبة للبعض مجرد وظيفة اجتماعية فردية داخل الجماعة التي ينتمي إليها أو يعمل معها. فاللاعب الرياضي – مثلاً – قد يشارك في المباريات ويسجّل هدفاً ولو لم يمتلك روحاً رياضية ولا روح العمل كفريق. فالتعارف لا يستلزم أن يكون المتعارفون مثاليين ابتداءً.

ثالثاً

في الواقع، يلجأ الجميع -الأخيار والأشرار- للتعارف عندما يعجزون عن إيجاد حل لمشكلة كبرى أو يواجهون أزمة خانقة سياسيةً كانتْ أو اقتصادية أو عسكرية، فتجدهم يتخلّون مؤقتاً عن التفرُّد بالقرار والفوقية والانعزالية ويشكّلون على عجل ما يسمى «خليّة الأزمة» وهي ليستْ سوى خليّةٍ تشاورية أو تشاركية أي تعارفية بامتياز، فهل هي خيار "مثالي" أم واقعي؟

رابعاً

إنَّ الدعوة للتعارف لا يستجيب لها عادةً الجميع وإذا استجابوا فقد لا يلتزمون جميعاً بمخرجات التعارف (الأعراف) وسيبقى هناك من يرفض المشاركة بالتعارف أو يرفض الالتزام بتطبيق الأعراف. لذلك ليس لدينا أوهام ولا آمال مثالية مفرطة في التفاؤل حول مشاركة الناس في التعارف والتزامهم بتطبيق الأعراف رغم أن مصلحتهم تقتضي ذلك، فالتاريخ يروي الكثير عن إعراض الناس وعدم اكتراثهم لشؤونهم وعدم تحملهم للمسؤولية تجاه قضاياهم. وهذا ما دفع أفلاطون للقول: (الثمن الذي يدفعه الطيبون لقاء لامبالاتهم بالشؤون العامة هو أن يحكمهم الأشرار).

خامساً

إنّ الإجراءات العملية المذكورة في الفصل الرابع ستثبت أن التعارف عملية مجتمعية واقعية جداً وممكنة وسهلة. ومعظم هذه الإجراءات معمولٌ بها في بعض الدول الأوروبية مثل السويد وسويسرا وبريطانيا. ولقد تبيَّن للباحث قبل الانتهاء من كتابة هذا البحث أن بريطانيا لا تملك دستوراً مدوَّناً لكنها منذ 1200 عام تتخِّذ من «العُرف» قاعدة دستورية. وبفضل الأعراف الدستورية شيَّد الإنكليز بريطانيا «العظمى» التي "لا تغيب عنها الشمس". كما أنَّ مؤسسات المجتمع المدني معروفة وموجودة في الواقع وما هي سوى مؤسسات تعارفية شكلاً ومضموناً، وقد ذُكِرتْ مفصلة في الفصل الخامس من الكتاب. وهناك نماذج واقعية أخرى مشهودة في مجال الحوكمة والمأسسة قائمة على التعارف والعُرف مثل برامج التنمية المستدامة والمنظمات التطوعية ولجنة الأزمات الدولية الشهيرة، ولجان الكوارث سواء المحلية أو الإقليمية أو الدولية.

سادساً

إذا كنّا نؤمن أنّ القرآن لايزال مصدر يصلح للاستلهام والاستنباط وخاصةً في مجال علم الاجتماع الإنساني، فلابد أن تكون عملية "التعارف" وصناعة "العُرْف" وأداء "المعروف" أعمالاً واقعية تُمارَس هنا وهناك وإنْ بمسميات أخرى.

سابعاً

أنزل الله الكتب السماوية على رُسُلٍ وبعث أنياء يعيشون أصلاً في مجتمعات جاهلية فاسدة وليستْ مثالية، فالمجتمعات المثالية ليستْ بحاجة لرسالات سماوية ورسل وأنبياء لهدايتها إلى التعارف والإحسان والعدل.

ثامناً

إنَّ الدولة التعارفية تتحقق مع انتشار ثقافة التعارف والشورى والتفويض والبيعة وتجنُّب التناكر والتنافر والتفرد وتزكية النفس التي تتجلى بالتشاوف وحب الظهور والسعي للمناصب، فتكون هذه الدولة حصيلة التدرُّب على المشاركة في وضع عُرْف لكلِّ أمور الحياة، وتحويل الأعراف إلى منظومة قانونبة توضع موضع التطبيق.

تاسعاً

إنّ عدم التفات المسلمين إلى آية التعارف أو عدم استنباط دلالاتها حرمهم من خيرات هذه الآية فافتقرتْ علاقاتهم للتعارف فيما بينهم كما افتقرتْ علاقاتهم مع غيرهم لعقد اجتماعي يقوم على التعارف. هذا يفسّر حرمانهم من حق المشاركة في صياغة أعرافهم ودساتير بلدانهم وإدارة شؤونهم واختيار قيادات دولهم ومنظوماتها الاقتصادية. حقاً إنَّ آية التعارف هي "الآية المظلومة عند المسلمين وفقهائهم".