التعارف منهج كوني: أمة وسطا بين الذرة والمجرة
ناصر بن حماد بن هلال العزري
سلطنة عُمان
محتويات
التعارف سنة كونية متواترة
التعارفُ سُنّة كونية، شاء الله لها أن تكون الخصيصة التي تجمع ما تَفَرّق، وتلُمُّ ما تَشتّت في هذا الكون الفسيح، فمن أبسط الذرات إلى أكبر المجرات نجد التعارف سنّة متواترة لا تنفك، وقد يستغرب القارئ من هذا، ولكن لا يطول استغرابه إذا أدرك بعضاً من أسرار الكون ونظر إليها من منظور التعارف البنًّاء، فإن الله عندما خلق الإنسان كان من أول ما يسَّرَه له لتمكينه من أداء دوره الكوني أنْ عرَّفَ به خلقه وأشْهَدَ عليه ملائكتَه، بل ﴿وعلَّمَ آدم الأسماء كلها﴾ تمهيدا للأمانة التي سيحملها، وللاستخلاف الذي يعد له، وكيف نتصور لهذا الإنسان أن يؤدي مهمته العظيمة في هذا الكون دون تعارف مع موجوداته المسخرة له؟!
ويُنعِمُ هذا المخلوق الوسطي نَظَرَهُ ويُعملُ فكره في الكون من حوله ليجد أن أصغر ذرة وأكبر مجرة تقوم كلها على مبدأ التعارف، فأنَّى لتلك الذرة أن تعمل بذلك النظام الدقيق لو لم تتعرف دقائقها من بروتونات وإلكترونات على بعضها، ويتعرف كلٌّ منها علي دوره المنوط به ودور غيره ضمن تلك المنظومة الدقيقة، ولولا ذلك التعارف لما استقرت الذرة بل لتنافرت دقائقها واستحال أن تقوم بمهامها، ومن الذرة الصغيرة إلى المجرة الكبيرة، حيث أنه لولا تَعرُّف المجرة مع سواها وبين أجزائها لتناثرت شظايا كواكبها ولارتطمت ببعضها البعض، ولكنها تعرفت فتآلفتْ وانسجمتْ في تناسقٍ بديعٍ ونظامٍ مُحكمٍ قدَّرهُ الله لها لغايةِ وجودها.
التعارف وإرادة الاختيار
ويأتي خلق الله الإنسان وسطاً في هذا الكون ليكون خليفة الله فيه، يحكم دقيقَهُ وجليلَهُ، وصغيره وكبيره بما يرتضيه الله لخلقه، ولئن كانت مخلوقات الكون تطيع الله وفق سننه التي وضعها له، إلا أن الله شاء -بحكمته جل وعلا- لهذا الإنسان الوسطي أن يكون ذا إرادة يميز الخبث من الطيب ويختار، وعلَّمَهُ سنن الكون وسخّر له مخلوقاته ليؤدي رسالته على هذه الأرض، وهل يستطيع هذا المستخلَف ذلك إلا باتباع إرشادات المستخلِف ومنهجه الذي رسمه؟ فها هو الخالق يقرر حقيقة أساسا في وجود الناس، كل الناس على هذه البسيطة، حقيقة أنهم وُجدوا بهذا التنوع ليتعارفوا: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا﴾، نعم أيها الإنسان، هذا التنوع حقيقة وواقع لوجودك على هذه الأرض، لكن عليك أن تدرك هدفه ومغزاه لتقوم بدورك كما تقوم به الذرة والمجرة، حينها فقط ستشق طريقك الذي رسمه الله لك مستخلِفاً إياك على هذه الذرات والمجرات، مُسخَّرةً لك في هذه الحياة.
الأمة.. الصورة التعارفية
وعندما أراد الإسلام أن يصيغ منهجاً عملياً يجسد هذا التعارف البشري على الأرض نحت مصطلحا فريدا ومفهوما جديدا يصعب أن تجد له مثيلا في غير الإسلام: الأمة! إن الأمة في المفهوم الإسلامي مصطلح فريد يستعصي على الترجمة، فالأمة ليست فقط القوم أو المجتمع أو الشعب أو الجماعة أو الدولة، وإن كانت تحوي ذلك كله في منظومتها، بل إن الأمة قد تكون فردا واحدا، فقد قال تعالى: ﴿إن إبراهيم كان أمة﴾، والأمة مصطلح يجمع بين المشتركات والمختلفات في آنٍ واحد! فما هي هذه الأمة؟ وما هو الرابط الخفي الذي يشد خيوطها بعض إلى بعض لتجمع ما اتفق وما اختلف من هؤلاء البشر؟!
عندما ننظر في مصطلح القوم فإن له بعدا عرقيا ينسج رابطه ويجمع أفراده، وإذا نظرنا إلى مصطلح الشعب أو الجماعة نجد قوما جمعتهم الأرض، بينما يعبر مصطلح المجتمع عن جمع بشري اجتمع على أهداف معينة، والدولة تقوم في مفهومها الحديث على أساس المشتركات القومية والجغرافية، بينما نجد أن الأمة -وإن كانت تتضمن روابط الأعراق والتاريخ والجغرافيا والأهداف المشتركة- إلا أنها تذهب أبعد من ذلك بكثير لتضع أساسا جديدا أقوى وأرسخ وأبعد امتدادا في الزمان وأكثر توسعا في المكان، ليشمل كل الناس، على اختلاف أعراقهم وأجناسهم وألوانهم وتوجهاتهم، وعلى اختلاف أماكنهم ومشاربهم وحركاتهم، إنه مفهوم يشمل الإنسان أينما وجد، وكيفما كان، لأنه أمة وإن كان لوحده.
والإسلام، لكي يقيم هذه الأمة، لم يعمد إلى اختزال المشتركات البشرية أو إلغائها على مستوى ما يوحد الجماعات أو المجتمعات أو الشعوب، بل توسع في إقامة مشترك إنساني أكبر يجمع لا يفرق، ويوحد لا يشتت، فأضاف مظلة أكبر تنتظم كل المشتركات البشرية الصغيرة وتتفوق عليها، إنها مظلة الربوبية، حيث مرجع كل هؤلاء الناس إلى رب واحد يرعاهم ما داموا على هذه الأرض في رحلة المسير، مؤمنهم وكافرهم، أبيضهم وأسودهم، غنيهم وفقيرهم، برّهم وفاجرهم، عادلهم وظالمهم، إنهم بشر تجري عليهم أحكام الربوبية ومشيئتها في هذه الحياة الدنيا. ولما كان الأمر كذلك، فلا بد مما يجمع متفرقهم ويلم شملهم، ويوحد جمعهم، فما يكون هذا الجامع يا ترى؟
إننا نحتاج إلى جامع مشترك، يجمع من تفرق بهم الزمان والمكان والدين واللغة والعرق واللون والهدف والثقافة وغيرها، ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا﴾! نعم، إنه التعارف، هذا هو الرابط الذي يستطيع أن يشد الخيوط إلي بعضها ليصنع منها حبل النجاة للإنسانية على هذه الأرض، بل إن الإسلام لا يتوقف عند هذا الحد لئلا يترك ثغرة تتسلل منها الروابط الصغيرة من الأعراق والألوان والجغرافيا وغيرها، فيمضي قدما ليضع معيار التفاضل ضمن منظومة التعارف الإنسانية: ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾، هنا تصبح كل الوشائج والروابط والمشتركات الأخرى ثانوية في دورها بل ومكملة وداعمة للمشترك الإنساني الأكبر، لا تطغى عليه ولا تتقدم عنه.
إن الإسلام عندما أتى ببعثة المصطفى محمد صلي الله عليه وسلم كان يمكنه أن يختار وينتقي من بين المشتركات التي تعود الناس والمجتمعات أن يتفاضلوا بها، لكن الدين الذي جاء رحمة للعالمين يسعى إلى ما هو أبعد وأكبر وأعظم، إنه يسعى لخيرية الإنسان وكرامته، ولذا أقام مفهوم الأمة الشامل الجامع لينتظم البشر جميعا، يتعارفون بينهم تمهيدا لتآلفهم، وجعل الأمة مشتركهم الأكبر لتنضوي تحتها كل المشتركات والمختلفات، فبمقدار ما حدد إطار هذه الأمة وجامعها وطريقة تفاضل مكوناتها، أعطى الجميع فرصة للتنافس في تحقيق هذه الخيرية بين أفرادهم وجماعاتهم ومجتمعاتهم ودولهم، لتصب كل المشتركات والمختلفات في مصب الأمة ومصب التقوى.
مثلث المعرفة والتعارف والاعتراف
إن مفهوم الأمة مفهوم متسام لا يمكن أن يتحقق إلا بالتعارف، والتعارف لا يتحقق فعليا إلا أن يسبقه معرفة، ويلحقه اعتراف، وهذا هو مثلث المعرفة والتعارف والاعتراف الذي طرحه الشيخ علي يحيى معمر في كتابه (الإباضية في موكب التاريخ)، والتعارف هو واسطة العقد في هذا المثلث الذهبي بين المعرفة التي ينبني عليها العلم ويدفع من قبلها الجهل، وبين الاعتراف بالآخر ضمن منظومة الحياة القائمة علي التنوع والاختلاف، ولكأنما التعارف جسر موصل بين المعرفة النظرية والاعتراف العملي ليحقق المثلث الذهبي وجوده الفعلي في حياة الإنسان والمجتمع.
إن الإسلام لا يمانع في قيام تنظيم بشري على أساس عرقي أو جغرافي أو تاريخي شرط أن يخضع هذا التنظيم لمفهوم الأمة الأسمى وحاكمية ميزان التقوى وقاعدة التعارف الإنساني، أما أن يتمركز كيان ما حول مذهبه أو مكانه أو عرقه فهذا ما لا يقبل به الإسلام بل ويحاربه. بل إن في الآية الكريمة التفاتة رائعة إلى نطاق المسؤولية عن تكوين الأمة، فكما أنها مسؤولية الأفراد "من ذكر وأنثى"، فهي كذلك مسؤولية الجماعات "شعوبا وقبائل"، فالمسؤولية عن هذا التعارف الإنساني مسؤولية فردية وجمعية، لا بد أن يشترك فيها الجميع، ويتعاون الكل لتحقيقها على أرض الواقع.
التعارف.. وسيلة من أجل غاية أكبر
إن التعارف في الإسلام سنة كونية ووسيلة لا لذاتها بل لتحقيق غاية أكبر، فالتعارف لا يحمل قيمة معيارية في ذاته، بل يحتاج إلي ما هو أبعد منه ليكون معيارا موجها لهذا التعارف، ومثالا على ذلك، قد يستغل الإنسان -فردا أو جماعة- التعارف لينهب غيره أو يسرقه أو يتحكم فيه أو يستعبده، وما أتى الإسلام إلا بفضائل الأعمال ومكارم الأخلاق ليهذب هذه النفوس ويتسامى بها، فلذلك تواصل الآية الكريمة توجيه التعارف بمعياره الصحيح: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، هنا تتحدد الوجهة المعيارية لهذا التعارف: إنها تقوى الله، فالغاية ليست بشرية ولا أرضية، بل إلهية سماوية، وما دامت كذلك فلا يسع هذا المخلوق أن يستغلها إلا بما يرضي الله الذي استخلفه على هذه الأرض واستعمره فيها.
ومن ينظر في حال الإنسان اليوم -بل وعبر التاريخ- يدرك أهمية القيمة المعيارية في توجيه التعارف، فهذا الإنسان لا يملك بل لا يستطيع أن يعيش بمنأى عن غيره من البشر، ووسيلته في ذلك إنما هو التعارف، ولكن هذا الإنسان عندما يتبع شهواته وتغلبه نزواته ورغباته يستغل هذا التعارف ليستعبد أخاه، ويسرق جاره، ويقتل صديقه، ولربما كان أشد في عداوة معارفه من غيره لأنه "أعلم بالمضرة"! فلذلك لم يترك الإسلام أصل التعارف دون أن يوجهه الوجهة الصحيحة ويضع له المعيار الذي يحقق غايته المرجوة، بل وجعل من التعارف ضابطا لعلاقة الإنسان بالكون من حوله.
الخاتمة
الأمة في الإسلام لا تنشأ نتيجة روابط أوجدتها الضرورة الحياتية في حياة الإنسان كروابط العرق والدم والمكان والزمان، بل تنبع عن قرار إنساني راشد حر يسعى إليها وينافح عنها، ولا يمكن لهذا القرار الإنساني أن يُتَّخذ إلا بالتعارف. إن التعارف الذي يقود إلى بناء الأمة في التصور الإسلامي أبعد ما يكون عن منطق القوة والعصبية، فإنه لا يُلزِم الإنسان حتى باتباع الدين الذي يشكل منطلقا لهذا الاجتماع الإنساني المتآلف إذ "لا إكراه في الدين"، بل يسعى إلى المشترك الإنساني الذي يعمر الأرض ويقيم عليها الخير بغاية معيارية قصوى موجهة: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم".