مقصد التعارف وأثره في القانون الدولي

من Wiki Akhbar
نسخة ١٧:٢٤، ٩ يونيو ٢٠٢٢ للمستخدم Alimohdasaad (نقاش | مساهمات) (ثالثا: التسامح والمحبة)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

فريـدة حايـد*

دكتوراه فقه وأصول جامعة باتنة، الجزائر / 2017 أستاذ محاضر كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة جيجل، الجزائر

محتويات

ملخص البحث

يتعلق البحث ببيان أثر التعارف كمقصد قيمي في بناء العلاقات الدولية في الإسلام، وذلك إسهاما في تأصيل فقه العالم والإنسانية كلها والإشارة إلى ضرورة بنائه على القيم والمعاني السامية والتي من بينها التعارف وما يقوم عليه من أسس تعنى بالوحدة الإنسانية في ظل الاختلاف وتنوع المصالح والحاجات.

الكلمات المفتاحية: التعارف؛ المقاصد؛ العلاقات الدولية؛ القيم؛ الإنسانية.

Research Summary The research deals with the impact of acquaintance as a purpose of values in the construction of international relations, in order to contribute to the rooting of the jurisprudence of the world and humanity Under different interests and needs, and the need to build on the values of and the High meanings of Islam, Among which the jurisprudence of acquaintance and the basis of interest with the unity of the world under of the difference and diversity among peoples. Keywords: acquaintance; purposes (makasid Sharia); international relations; values; humanity.

مقدمـــــة

ارتبط القانون الدولي الوضعي بالواقع المعيش دائما وكان الدافع لوضع قانون يضبط العلاقة بين الناس هو تشابك المصالح وظهور الحروب كوسيلة للوصول إليها. شهد هذا القانون تغيراً كبيراً في معناه متأثرا بالتطورات الاجتماعية للمجتمع الدولي الذي كرّس أولا منطق القوة ثم تغيّر الأمر بظهور منظمات عالمية ومعاهدات دولية هدفها حفظ السلام في العالم نتيجة الحروب التي أنهكته. كما أنَّ تغيُّر احتياجات المجتمع الدولي بشكل كبير ومتسارع يثبتُ الحاجة إلى قانون شامل للإنسانية وللمعمورة كلها، قانون يدعو إلى قيم العدل والمساواة بين بني البشر دون تمييز.

تتجلى أهمية البحث في كونه يسلط الضوء على أثر القيم في العلاقات الدولية والقانون الدولي في الوقت الحاضر. وقد جاء الإسلام بمجموعة من القواعد القيمية المتكاملة لصياغة قانون دولي لكن ما أصاب فقهنا من جمود وتخلف وإبعاد للتشريع الإسلامي عن الواقع جعل الكتابة في هذا النوع من الفقه متأخرة رغم ما نملكه من تشريع عام وقواعد شاملة، وهذا البحث يريد التركيز على أحد القيم التي لها أثرها في هذا الفقه وهو التعارف وبيان أسسه التي تحفظ الإسلام وتحفظ علاقاته مع الغير، مسلماً كان أو غير مسلم.

أهداف البحث

1- إبراز دور القيم في التقنين العالمي والدعوة إلى الكتابة فيه.

2- الإشارة إلى أهمية الفقه القيمي ومنطلقاته الإنسانية التي تبنى على الأسس الشرعية.

3- إبراز دور التعارف كمقصد قيمي في التعامل مع الغير وأسسه وضوابط فتح باب التعارف وغلقه.

المبحث الأول: العلاقات الدولية بين الواقع والقانون

المطلب الأول: التطور التاريخي للقانون الدولي في الدراسات القانونية

إذا نظرنا للفقه القانوني من حيث تنظيم العلاقات الدولية فإن هناك عدة قوانين تتحدث عن واقع متغير منذ القرون الأولى فقد ظهرت عدة قوانين منها القانون الدولي العام و القانون الدولي لحقوق الإنسان و القانون الدولي الإنساني، وأولها ظهورا هو القانون الدولي العام ويعني في حقيقته في الاصطلاح القانوني مجموعة من القواعد وضعت للحد من الحروب الدينية وغيرها حيث كانت العلاقات الدولية سلسلة من الحروب المتتالية، وكان ظهوره في كنف الدول الأوروبية ببروز معاهدات بين هذه الدول خصوصا، فكانت هذه المعاهدات الترجمة القانونية الأولى لبروز الدولة الأمة حيث لم يكن هناك وجود قانوني للدولة بالمفهوم الحديث، فكان هذا الشكل هو أساس هذا القانون الدولي العام التقليدي[١] غير أن التطور والتحول الدائمين للمجتمع الدولي أديا أيضا إلى تطور القانون الدولي العام، والجدير بالذكر أن هذا القانون كان أوربيا فقط ولم يكن عالميا مهمته تنظيم التعايش بين القوى المتنافسة على قاعدة التوازن، وقاعدة التوازن تعني توزيع القوة في أوربا بين الدول الكبرى بشكل متساوي، وهذا ما كرّس الاستعمار وشجّع عليه فهو لا يمنع اللجوء للقوة، ثم تطور أكثر في القرن التاسع عشر نتيجة تطور المجتمع وظهور دول أخرى وكذلك ظهور عدة منظمات دولية ومعاهدات متعددة الأطراف وفي هذه الفترة ظهرت معاهدات لاهاي والتي أباحت الحرب بشروط، وهكذا أصبح القانون أكثر عالمية وانحسر دور أوربا وسيطرتها على هذا القانون ، وهذا ما يبين تأثر القانون الدولي في تطوره بعوامل اجتماعية وحروب وأحداث تاريخية [٢]، أما شكل القانون المعاصر فكان بعد الحرب العالمية الثانية وما خلفته من دمار شامل بعد سيادة وإشاعة نظام القوة المفرطة وبعدها ظهرت ملامح جديدة للعالم المعاصر حيث ظهرت قوى جديدة وانقسم العالم بين قوتين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفياتي وبظهور موجات التحرر في العالم اتسع العالم ومهَّد لظهور مجتمع دولي جديد يضم دولا ذات بنى سياسية ومستوى تطور وتقاليد وثقافة دينية مختلفة فظهر تحالف جديد يدعو إلى ضرروة التطوير الديمقراطي للقانون الدولي والتعاون الدولي المتعدد الأطراف في إطار المنظمات الدولية فظهرت منظمة الأمم المتحدة 1945م تدعو للسلام وتدافع عنه وجعلته وسيلة للتعاون الدولي[٣] ، والآن توالى ظهور الدول وتعددت الثقافات وظهرت فكرة عولمة المجتمع الدولي، وهذا أدّى إلى انعكاسات كبيرة على القانون الدولي فأصبح الوضع يتطلب قانونا دوليا أكثر تطورا وتحولا وشمولية، خاصة وأننا علمنا أن معظم الدول لم تشارك في وضعه فلا يمنع شيء من تطويره وتغييره لصالح المجتمع الجديد.

وعليه يمكن القول أنّ هذا القانون هو "القانون المطبّق على المجتمع الدّولي ويتألف من مجموعة قواعد تطبّق على أشخاص المجتمع الدّولي وعلى رأسهم الدول"[٤] وهو ما استقر عليه الفقه الدولي آخذاً في الحسبان ما لحق الحياة الدولية من تطور وتغير، فلمْ تبق فقط الدول أشخاصا قانونية فاعلة في المجتمع الدولي، بل أصبحتْ المنظمات الدولية أشخاصاً قانونية فاعلة أيضاً في المجتمع، وهي تساهم في وضع قواعد قانونية جديدة للقانون الدولي فضلا عن دورها في حماية حقوق الأفراد ورعاية العلاقات المتبادلة، وكذلك لغلبة الطابع الإنساني على قواعده لانصرافها لحماية الإنسان وحقوقه، وبالتالي تطور من قانون يعنى بتنظيم العلاقات الدولية إلى قانون للمجتمع ككل وهي نتيجة حتمية لتطور المجتمع الدولي وهذه إشارة لهذا التطور.

المطلب الثاني: تطور مجالات تطبيق القانون الدولي المعاصر

جدير بنا أن نبين أن هذا القانون في أوله كان يهتم ويطبق على مجالات محدودة كشؤون السلم والحرب وحل المنازعات بالطرق السلمية والحصانات والامتيازات الدبلوماسية ... ولكن منذ 1945م تطور واتسع وتشعب ليطال مجالات جديدة ومتعددة تتناول الموضوعات الإنسانية والقضائية والتقنية والاقتصادية والفضائية والبيئية... وكان ذلك ضرورة لإجراء تغييرات مستمرة على بنية القانون الدولي وأحكامه لمواكبة التّطور العصري فقد توسع نطاقه فأصبح يهتم بحماية حقوق الإنسان وحتى إدارة النظام المالي الدولي فانتقل اهتمامه من صيانة السلام الدولي إلى تناول جميع الأمور التي تهم الحياة الدولية فنتيجة للتّطور التقني والتكنولوجي والفضائي توسع نطاق القانون الدولي بحيث يمكن القول إنه يوجد حاليا العديد من القوانين الدولية التقنية أو القطاعية كالقانون الإنساني والقانون الاقتصادي وقانون التنمية ... ولا شك أنه منذ فجر القرن الحادي والعشرون أصبح المجتمع الدولي وبدون شك أكثر اندماجا، فالعديد من الاختصاصات والنشاطات كان تنظيمها للدول والآن أصبح تنظيمها دوليا وذلك لظهور فكرة عولمة العالم وتطور وسائل الاتصال . وهكذا لم يبق اهتمام القانون الدولي بمجالات الحرب والسلم بل بمجالات الاقتصاد والثقافة والعلم والتكنولوجية فكيف نبقى نحن نتحدث عن قانوني الحرب والسلم في الإسلام بل في الإسلام من قواعد ومبادئ ما يجعله يستطيع التعايش مع التطور الحاصل في المجتمع الدولي ويضع له قوانينه، أما ما شاع في الكتابات القديمة من تنظير لحالتي الحرب والسلم والحرب بالخصوص فتماشيا مع الواقع الذي كانت فيه العلاقات الدولية قائمة على الحروب وتاريخ أوروبا والعالم يشهد بذلك قبل تاريخ الإسلام، وقد كان قانون لاهاي قانون منظم للحرب وللعمليات العسكرية للحد من شراستها وهم أول من صرح بقانون للحرب فكيف يتهم الإسلام بأنه دين الحرب والحرب فيه عادلة ناشرة للخير والعدل لا الظلم والبغي.

ونتيجة لتطور مطالب العالم لضرورة الحد من الحروب وضمان استقرار العالم وضرورة حماية الإنسان ظهر القانون الدولي الإنساني والذي يعني في مفهومه في الاصطلاح القانوني المعاصر القواعد التي تحمي الإنسان ولكن ظهر اتجاهان في مفهومه لا بأس أن أشير إليهما فهناك اتجاه موسّع يجعل منه كل القوانين الدولية والقواعد المكتوبة والعُرفية التي تهدف إلى حماية الإنسان واحترامه والحفاظ على سلامته الجسدية والنفسية وبهذا يكون متضمّنا لقانون حقوق الإنسان وقانون الحرب وهو قانون لاهاي وعليه عُرِّف بأنه "ذلك القسم من القانون الذي تسوده المشاعر الإنسانية ويهدف لحماية الإنسان" فبهذه الصيغة يشمل كل القوانين التي تهدف لحماية الإنسان بما فيها قانون الحرب، أما الاتجاه المضّيق فجعل منه "القانون الذي يحمي غير المقاتلين أثناء النزاعات المسلّحة فيهتم بحماية العسكريين من غير المقاتلين، أو من خارج العمليات العسكرية مثل الجرحى والمرضى وأسرى الحرب وحماية المدنيين كذلك" وبهذا يرى أنصار هذا الاتجاه أن اتفاقيات جنيف فقط وحدها التي يتكوّن منها القانون الدولي الإنساني فهي التي تحمي حقوق الإنسان أثناء حدوث النزاعات المسلّحة بينما حماية حقوق الإنسان في حالة السّلم فتحميها قوانين الدول المحلية أي الوطنية التي لها كيانات مستقلة عن القانون الدولي العام بفروعه المختلفة.

والمعنى المعتمد عند الكثيرين هو أن القانون الدولي الإنساني يعني "مجموعة من القواعد القانونية الدولية التي تهتم بحماية الإنسان وقت الحروب والنزاعات المسلّحة والتي وردت في اتفاقيات جنيف والبروتوكولين الملحقين بهم" وزمن تطبيقه وقت الحروب والنزاعات المسلّحة دولية أو غير دولية.

والآن نطرح التساؤل التالي كمدخل إلى المبحث الثاني: لطالما خاض المسلمون أيضاً حروباً داخلية وخارجية وأسسوا دولةً وحضارة عاش في كنفها المسلمون وغير المسلمين، فهل جاء الإسلام بأحكام وقواعد ناظمة للعلاقات بين الدول والجماعات في الحرب والسلم؟ ما هي القواعد ذات الصلة بفقه الحضارة والعمران؟

المبحث الثاني: قيم الإسلام العليا (المقاصد العليا) وأثرها في الفقه الحضاري

يعتبر الإسلام بتعاليمه تشريعا شاملا لكل مناحي الحياة وللإنسانية كلها وقد حدّد معالمَ التعامل مع الآخر المخالف وفق قواعد أصوله العامة والتي تجعله صالحا لكل زمان ومكان وتجعل منه قانونا شاملا يرعى مصالح الناس وحقوقهم المتنوعة؛ وإذ نأمل أن يسود الإسلام كدين اختاره الله للبشرية كلها يجب علينا مراعاة أسس التعامل الإنساني الدولي والتركيز على قيم الإسلام السمحة في التعامل مع الآخر سواء كان مسلما أو غير مسلم. وإن في الإسلام من مضامين الحق الداعية ّإلى الرحمة والتّسامح والعدل وفي آيات دستوره -كتاب الله - ما ينبئنا كل مرة بحلول ناجعة وإن غابت عن أذهاننا فقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ لَينبئ بأنّ الاختلاف في الألوان والأجناس والألسنة والبلدان سبيل التعارف والتعاون لا التنافر والتقاتل والصراع بين الناس، فالإسلام لم يجعل من قاعدة المصالح وحفظ القوة أساس التعامل مع الآخر بل تعرّف وتعارف لنكمّل معرفتنا ونصلحها ونثبت وجودنا ونضمن رقيّنا وازدهارنا، فالتّعارف آلية اعتبار وجود الآخر من أجل التّكامل حينا والتّدافع حينا آخر ضمن إطار المحبّة والتعاون والعدل وإذا ثبت التعدي فالدفاع مطلوب لا محالة والدعوة إلى الحق مقصد الجميع، ولذلك حاولت في هذه الورقة بيان سمو التشريع الإسلامي في تعامله الدولي من خلال موضوع: "مقصد التعارف وأثره في القانون الدولي الإسلامي" لعلي أسهم في بناء هذه العلاقات على الحق والعدل وتغيير نظرة الغير للإسلام حين اتهم بالإرهاب ونبذ الآخر؛ فما أثر التعارف كمقصد قيمي في بناء العلاقات الدولية في الإسلام؟ وكيف يمكن صياغة قانون إسلامي دولي معاصر؟.

تعتبر القيم المذكورة آنفاً مدخلاً مهماً وأصولاً مهمة للفقه الحضاري لذلك أحببتُ أن يكون مدخل الموضوع مقاصدياً؛ ولكن قبل ذلك يجب تعريف الفقه الحضاري ومعرفة دلالته وموضوعه في الفقه المعاصر كالآتي:

المطلب الأول: مفهوم الفقه الحضاري

الفِقه الحضاري أو فِقه العُمْرَان مصطلح معاصر ويُعنى هذا الفقه بالمجتمع الإنساني عموما وليس بالمُجتمع الإسْلامي فقط، والغاية منه تكمن في تطبيب التداعي أو التأزُّم الذي ظهر في المجتمعات العربية الإسلامية ومجتمعات العالم بأسره فالعالم اليوم قرية صغيرة وإن اختلفت المشارب والمصالح، ولمعالجة هذا التأزم في ضوء الدين يجب النظر في كيفية تحقيق مصالح الناس في ضوء أصول هذا الدين ومقاصِده، وفي ضوء ظهور التطور في وسائل تحقيق هذه المقاصِد وكذلك ظهور علوم شتّى قد تكون مبنية على أصول غيرنا كعلم الاجتماع والسياسة والاقتصاد، ولما كان الإنسان اجتماعي بطبعه وتعددت مصالحه كان لابد من قانون يحدّد هذا التلاقِي والتكامُل سعيا لتحقيق العيش الحسن المرغوب فيه، وقديما اهتم فقهاء الإسلام بالكتابة والتنظير أكثر لفقه العبادات الحسية الفردية والمالية الخاصة والأسرية والجنائية بينما أهملوا فقه الدولة والفقه السياسي فضلاً عن فقه العالم ككل والمجتمع الإنساني، لذلك جاء هذا الفِقه يُعنى بالنظر في كيفية تحقيق المصالح العُظمى للمجتمع الإسلامي خصوصًا والمجتمعات كلها في ظلّ تعاليم الدين؛ ولذلك يجب أن يكونَ مدخل هذا الفقه في نظري تعبُّديًا بأن يُنظر لكل أعمال الإنسان وسعيه في تحقيق مصالحه عبادة يثابُ عليها تمامًا كفقه الصَّلاة والزكاة والصيام ولأن المجتمع قد تغيَّر ونحن في عصر المادة التي تؤدي إلى التّطور فإن فقها غائبا عنا ونحن بحاجة إليه وهو فِقه العمل الذي يقود إلى الاختراع والاكتشاف والرُّقي، وفي ظل السبق الكبير لأمم غيرنا فإننا ملزمون بفقه ما عندهم واللَّحاق بهم وتحسين وضعنا والذود عن كياننا، وبناء علاقاتنا في ضوء تخلّفنا العِلْمي التقني، وهو ضروري لقيام حضارتنا من جديد لا في ضوء تفوّقنا الرّوحي الذي نملكه دون أن نَمْلك تطبيقَهُ. لذلك لابدّ من فقه جديد لعلاقاتنا الدولية في ضوءِ حضارة الغرب المعاصرة وهو يمثّل أوسع أبواب الفقه وأجلّها ولكلّ وقت فِقْهَهُ.

ويطلق عليه البعض الفِقه الحضاري الذي يريد أن يبيّنَ أن دعوة الإسلام لم ولن تقف عند حدود تدين الإنسان وتحقيق عبوديته لله بالشعائر المعبرة عن الإيمان القَلِبي...وإنما امتدت هذه الدعوة لتحقق عبوديته بائتلاف الإنسان بالأمّة والمجتمع والكون[٥] ، ولذلك انبرى مجدّدون من أجل إعادة صياغة فقه الأمة وتجديد لباسها الذي أصابه الجمود فظهر مصطلح "الفِقه الحضاري" الذي يدعو إلى تجديد الفِقه وإعادة النظر في كل ما يستجد من القضايَا، ينظر فيها منْ جانب سماحة الإسلام ووسطيته وشُموله حتى يفهم الناس حقيقة هذا الدين ويسره[٦] . وتعد القيم مدخل هذا الفقه كإطار تأسيسي له ضمن أصوله المستمدة من العقيدة الإسلامية[٧] ، ثم يتم ربطه بالوظيفة الحضارية له وهي العمران وهكذا يتم رد الاعتبار للقيم في الرؤية الإسلامية وجعلها إطارا مرجعيا معرفيا للعلاقات الدولية والمجتمعية في الإسلام .

أما ارتباط هذا الفِقه بالحضارة-كما سبق- فلاعتناء الحضارة وشمول معناهَا للمادة والروح، فهو يعنى بما يخدم المجتمع الإنساني ويكون من الوسائل التي تمنحه سعادة التعاون والإخاء والأمن والطمأنينة والرخاء، وتمنحه سيادة النظام والعدل والحق وانتشار أنواع الخير والفضائل الجماعية؛ فالحضارة في الحقيقة لا تُبنى على الجوانب المادية دون الثقافية والتي لها دور كبير في ضبط التصورات للمسائل الكبرى المتعلقة بالإدراك وبالقيم وتغيير الذهنيات وتحسين الأفكار والمبادئْ والأصول والقواعد[٨] ، ويدخل في هذا الصنف أنواع التقدم الاجتماعي الشّامل للنظم الإدارية والحقوقية والمالية والأحوال الشخصية والشَّامل للأخلاق والتقاليد والعادات الفاضِلات وسائِر طرق معاملة الناس بعضهم بعضًا في علاقاتهم المختلفة وكل أنواع الثَّقافات والعلوم التي تخدم هذا الصّنف.

ولذلك فإنّ بعض الأمم قد تحرز سبقا في مجال من مجالات الحضارة بينما تكون في قمّة التخلف في مجال آخر، لكن الإسلام الذي ينطلق من منطلق السعادة الأبدية للبشرية قد نظم حياة الناس ويسَّر لها سُبل التقدم والرُّقي إلى قمم الحضارة المادية والمعنوية الفردية والاجتماعية، ولذلك جاء تعريف الفِقه الحضاري عند المعاصرين بأنّه: "جهد من أجل عودة الأمة إلى منابعها الأصلية وإعطاء الأولوية للقيم والمعاني الإسلامية الفاضلة لكي توجّه الحياة وترشدها" وفي شرح له من طرف وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف بماليزيا "[٩] إنه ليس دينا جديدا ولا مذهبا فقهيا مبتدعا، وإنما هو طريقة تقوم على مثل وقيم الإسلام الخالدة لتعزيز تقدم الحضارة الإسلامية، وهي طريقة لعرض الإسلام بواقعية وعملية وعودة الأمة إلى مصادرها الإسلامية الأصيلة ومبادئها القويمة، ويُعطي مشروع الإسلام الحضاري مزيدا من الاهتمام لزيادة جودة الحياة الإنسانية لكل الناس بغض النظر عن أعراقهم، وثقافاتهم ومعتقداتِهم"[١٠] فالفقه الحضاري هو ما يعنَى بقيم الإسلام كلُّها ومعانيه الشاملة التي لها أثر في تغيير سلوك الإنسان وتفكيره قبل الانصياع للعبادات البدنية دون غيرها، وقد يتحوَّل هذا الفِقه إلى مشروع لنهضة الأمة على هدي تعاليم الإسلام.

وقيم الإسلام كثيرة ومتعدّدة هي أسسه التي قام عليها منها ما يتعلق بحقوق الإنسان كقيمة الحرية والكرامة ...ومنها ما يتعلق بحقوق المجتمع كالعمل والتعاون...ومنها ما يتعلق بحقوق الإنسانية كالتعارف والتعاهد، ونشر السّلم...وهذا الجزء هو حديث الساعة، وإن كان لدينا أصول خاصة به إلا أننا لم نهتم به ولم نكتب فيه بالقدر الذي يجلي الغموض في علاقاتنا المجتمعية الخاصة أو العامة ولا شك أنّ فقه العلاقات الدولية وأسسها جزء من هذا الفقه، والكتابة فيه ضرورية في ظل تغير قواعد الاتصال والتواصل والتعامل مع الآخر، وهو كذلك فِقه له أسسه وقواعده حيث أحببتُ أن أبيّن جزءا منها وهو علاقتنا بالآخر سواء المسلم أو غير المسلم وهو التعارف، وأحببتُ أن يكون مدخلي لهذا الموضوع مقاصديا وليس تعريفيا محضا لكون المقاصد تعنى بكيفية التّنظير لأحكام الشرع بمراعاة مصالح الناس المتغيرة، فما علاقة فقه التعارف بفقه المقاصد؟

المطلب الثاني:حقيقة المقاصد ودورها الحضاري

حقيقة المقاصد هي في جملتها غايات الشرع وأهدافه الشاملة، التي جاء لتحقيقها عن طريق أحكامه. تُقسَم إلى مقاصد خاصة ومقاصد عامة والعامة تُقسَم بدورها إلى المقصد العام من التشريع والمقاصد الكلية والمقاصد العليا (القيم العليا).

المقاصد العامة

تُصنَّف بحسب مدى أهميتها ودرجة الاحتياج إليها والتوقف عليها إلى ثلاثة أصناف: الضرورية الحاجية والتحسينية.

1- الضرورية: هي"ما لابد منها لقيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة"[١١] وتمثّل أمهات المصالِح وأصولِها الرئيسة، وهي التي اشتهرت باسم الضروريات الخمس ويسمُّونها أيضا "الكليات الخمس" أو "الأصول الخمسة" وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال"[١٢] فهذه المصالح هي التي تكون الأمة بمجموعتها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها بحيث لا يستقيم النظام باِختلالها، وبحيث إذا انخرمت تؤول حالة الإنسان إلى فسادٍ وتهارج.

2- الحاجية: وأمَّا المصلحة الحاجية فهي ما تحتاجُه الأمة من أجل انتظام أمورها على وجه حسن وإلى التوسعة ورفع الحرج، بحيث إذا افتقدت هذه المصلحة لا يفسد نِظام الحياة ولكنه يكون على حالةٍ غير منتظمة،كمصلحة حفظ العرض والنسل من خلال اعتبار الكفاءة في النكاح والشهود.[١٣]

3- التحسينية: وأما التحسينية فهي التي يحصُلُ بها كمالُ حال الأمة في نِظامِها، وهذه المصلحة هي سبب من الأسباب المحفّزة والمرغّبة للأمم الأخرى في الانذماج في الأمة الإسلامية أو في التقرب منها، وضابطُها مكارمُ الأخلاق واعتبار المروءات والآداب التي لا تعارض أصول الشريعة وهذه المصالح كلها تندرج تحت المقصد العام من التشريع وهو: تحقيق المصلحة للأمة ودفع المفسدة عنها، حيث تتلخص أهمية المقاصِد بفكرة تحقيق الصلاح الفردي الخاص والمجتمعي والعمراني، وذلك بضبط نِظام العالم واستِدامَة صَلاحِه بصَلاح المهيمن عليه وهو الإنسان وهو المقْصَدْ العام من التشريع؛ حيث يرى ابن عاشور "أن المقصد العام من التشريع هو حِفظ نِظام العالم واستدامة صَلاحِه بصَلاح المهمين عليه، وهو نوع الإنسان، ويشمل صَلاحه صَلاح عقله وصلاح عمله، وصَلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه"[١٤]. ويرى أيضا "أن أهم مقصد للشَّريعة من التشريع انتِظام أمر الأمة وجلِب الصالح إليها ودفع الضّر والفساد عنها، وقد استشعر الفُقهاء في الدين كلهم هذا المعنى في خصوص صلاح الأفراد، ولم يتطرّقوا إلى بيانِه وإثباتِه في صلاح المجموع العام، ولكنَّهم لا ينكر أحدٌ منهم أنه إذا كان صلاح حال الأفراد وانتظام أمورهم مقصد الشريعة، فإنَّ صلاح المجموع وانتظام أمر الجَامِعَة أسمَى وأعظم" .

وهو ينبّه هنا إلى أن أهم مقصد للشريعة هو مقصد إصلاح العالم كلّه والأمة الإسلامية كلها، ونظرا لغلبة فقه الفرد على فقه الجماعة غيّب هذا المعنى لأن المقصَد العام من التشريع هو إصْلاح العالم، ويؤيّد ذلك ما جاء عند علال الفاسي متمّما الفِكرة حيث يرى أنّ " المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحِفظ نظام التعايش فيها وصَلاحِها بِصَلاح المستخلفين فيها، وقيامِهم بما كلّفوا به من عدْلٍ واستقامة ومن صَلاحٍ في العقل وفي العمل وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها وتدبير لمنافِع الجميع..."[١٥]. - فأيّ فِقه أفضل من هذا الفقه فلا نجد أفضل من هذا الفقه للتأصيل لفقه التعامل العالمي- فالمقصد العام من الشريعة إصلاح العالَم كله ولا يكون صلاحه إلا بصَلاح المهيمن عليه ومن جعله الله خليفة له في الأرض وهو الإنسان، فلا يتحقّق صلاح المجموع إلاّ بإصلاح الفرد في عقله أي ما يشمل عقيدته وتفكيره، وصلاح عمله لأنّ صلاح العقيدة لا يكتمل إلاّ بصلاح العمل لكي يتمكّن من إصلاح ما بين يديه من الموجودات بالإحسان إلى كلّ ما هو موجود وهو ما يسمّى بالإصلاح الاجتماعي.

إذن فالصلاح العمراني أوسع من الصّلاح الفردي والجماعي إذ هو حِفْظ نظام العالم الإسلامي وضبْط تصرُّف الجماعات والأقاليم بعضَهُم مع بعض على وجهٍ يحفظ مصالح الجميع ورعي المصالح الكلية الإسلامية وحفظ المصالح الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها ، والمصلحة في اصطِلاح ابن عاشور تعني "الفعل الذي يحصل به الصلاح وهو النفع"[١٦] وتلك هي نظرية المقاصد.

نظرية المقاصد

تشمل هذه النظرية عمومًا:

1- المقصد العام من التشريع.

2- أوصاف الشّريعة (مقاصدها العالية).

3- المقاصِد العامة للشريعة (وهي الكليات أو الضروريات).

4- المقاصد الجزئية والخاصّة.

إنَّ الحديث عن المقصد العام من التّشريع هو في حقيقته قصد الشَّريعة لإقامة نظام صالح للعالم بدفع المفاسِد عن الخلق، وإنشاء العالم الصالح لا يتوقف على معرفة العقيدة فقط بل العقيدة تصوُّر يجب أن يتبعه عمل من عبادات ظاهرة وباطنة، وآيات القرآن الكريم تبين حقيقة العمل الصالح بما يشمل السَّعي في الأرض وإعمارُها والسَّير في مناكبها وبناء كل صالح فيها، فهذا هو مقصد الشَّريعة العام وهو الإصلاح في القول والعمل[١٧] قال تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾، ولذلك قال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ (النور: 55).

أوصاف الشريعة أو المقاصد العليا

مقاصِد الشريعة العالية هي الأوصاف التي لا تنفك عن الشَّريعة الإسلامية وأسسها العُليا بحيث إذا ذُكرت الشَّريعة تنصرف إليها، ولذلك قال ابن عاشور عنْها بأنها أوصافها، وهي ميزتها عن الشرائع الأخرى فإذا كانت المقاصِد العامّة ضرورية في كلّ ملّة فهذه المقاصِد هي ما اختصَّت به شريعتنَا عن باقي الشرائِع وهي الرَّحمة والعدل والمساواة والحريَّة....وقد حاول بعض المعاصِرين إضافتها إلى المقاصد الضرورية فتحدّثوا عن الحرية والعدالة والمساواة....، وهذه بعض اجتهاداتهم:

أضاف القَرضاوي الأمن كمقصد ضروري ومنه الكفاية (أي الأمن الغذائي) واستدلَّ بقوله تعالى:﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ (قريش: 3-4) حيث امتن به على قريش وأسّس عليه أمر ربهم بعبادته سبحانه، كذلك جعل من إشراك الناس فيما أفاء الله عليهم مقصَدا عاما، وذلك لأنَّ القرآن علَّل توزيع الرسول (صلى الله عليه وسلم) للغني على الفئات الضعيفة، من اليتامى والمساكين وابن السبيل قبل غيرهم بقوله:﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُم﴾ (الحشر: 07)[١٨] وكذلك أضاف العدل والقسط والإخاء والتكافل والحرية والكرامة وجعلها مقاصد عامة للشريعة الإسلامية ، وبين أنّها ضرورية ويجب أن تلحق بالضروريات الخمس المذكورة في الفقه القديم، وسمَّاها القيم الاجتماعية مثل: الحرية والمساواة والإخاء والتكافل وحقوق الإنسان، وكذلك ما يتعلق بتكوين المجتمع والأمة والدولة، وذلك لاعتناء الفقه القديم -كتابة- بمصلحة الفرد دون الجماعة والدولة والأمة والعلاقات الدولية[١٩] ، ولذلك جاءَ تعريف المقاصِد عند ابن عاشور بقوله: "هي المعاني والحِكم الملحوظة للشارع في جميع أحوَال التَّشريع أو مُعظمها بحيث لا تختص ملاحظتُها بالكون في نوعٍ خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع من ملاحظتها..."[٢٠]، وهذه الاجتهادات وإن كانت غير صائبة في إلحاق هذه القيم بالمقاصد الكلية إلاّ أنها كانت نواة لبحوث أخرى أخذت تؤصل لقيم الحضارة الإسلامية وأسسها الراقية مراعاة للواقع وما استجد في الساحة الدولية وهو الفقه الحضاري أو فقه العمران والذي يقوم على أسس أهمها:

1- المعرفة الواعية بعلوم العصر سواء المادية أو الإنسانية كعلوم الاجتماع والطب والهندسة وعلوم الأديان...

2- الاعتقاد باستخلاف الإنسان في الكون، وأن الاستخلاف يستدعي إعمار الأرض وبنائها لا الإفساد فيها وتخريبها.

3- التَّعارف والتَّحاور مع الآخر الذي يقود إلى التلاقح والتّفاعُل والتّعاون وتحقيق الأصلح[٢١].

وهذا ما يقوم عليه هذا البحث وهو التنبيه إلى أهم أساس يقوم عليه هذا الفِقه وهو التَّعارف، لنبيّن أنَّ الإسلام ليس غريبًا عن هذه القيم وهي ليست غريبة عنه بل هي مقاصده وأس دعوته؛ فما حقيقة التَّعارف المقصود شرعًا؟ وما أثره في قضايا العلاقات مع الآخر؟ وقبل بيان ذلك يجدر بي المرور بفقه العلاقات الدولية في الإسلام والقانون الدولي الإسلامي في الواقع المعيش:

المطلب الثالث: مفهوم القانون الدولي الإسلامي بين التاريخ والواقع

يعتبر مصطلح القانون الدولي الإسلامي مصطلح حادث وجديد في الفقه الإسلامي لكن عدم وجود ذات المصطلح لا يعني عدم وجود القانون المعني، فالقانون الدولي في الإسلام موجود لأن تعاليم الإسلام أصلاً شاملة لكل المجالات وهذا ما سيتبين من خلال هذا العرض:

1.مفهوم القانون الدولي الإسلامي

كتبَ الفقهاء المسلمون الأقدمون في القانون العام تحت مسمى السِّير (جمع سيرة) والجهاد والمغازي...وأشهرها السِّيَر[٢٢] ، أي سيرة المسلمين وتصرفاتهم في علاقاتهم ومعاملاتهم مع الشعوب الأخرى والشعوب الأخرى هم المشركون من أهل الحرب (الحربيون) وأهل العهد ومنهم المستأمنون، وأهل الذمة[٢٣] ، وحقيقة محتواه هو كيفية التعامل (تعامل المسلمين) مع الكفار (الحربيين والذميين والمعاهدين والمستأمنين) ويشمل التعامل مع الأفراد والدول، كما يشمل حالتي السلم والحرب، والسير بالمصطلح القديم يعني: "أحكام الجهاد والحرب وما يجوز فيها وما لا يجوز، وأحكام الصلح والموادعات وأحكام الأمان وممن يجوز، وأحكام الغنائم والفدية والاسترقاق وغير ذلك...مما يكون في الحروب وأعقابها، فهو باب تنظيم العلاقات الدولية بين المسلمين وغير المسلمين في السلم والحرب"، وما يميّز السير في الاصطلاح القديم أنه يشمل علاقة المسلمين بغيرهم ولو في دار الإسلام وعليه عرف عند البعض بأنه: "قواعد التعامل مع غير المسلمين في دار الإسلام ودار الكفر في السلم والحرب"[٢٤] وهذا ما يهدف إليه على وجه التقريب القانون الدولي الوضعي بمعناه الحديث . ومنه يعني أحكام العلاقات الدولية في حالتي الحرب والسلم ومن تعريفاته: "هو القواعد والأحكام الشرعية التي تحكم علاقات الدولة الإسلامية مع غيرها من الدول، والمنظمات الدولية، والأفراد الأجانب، زمن السلم والحرب" وفي تعريف: "هو القواعد والأحكام الشرعية التي تنظم العلاقات الدولية بين المسلمين، وغير المسلمين في السلم والحرب" وهذه اجتهادات من المعاصرين في وضع تعاريف بعضها فيه محاكاة للقانون الدولي المعاصر وهي مقبولة.

وبالنظر في الإسلام نجده يعترف بالأجنبي ويعطيه حقوقه كاملة ما دام لم يبد منه عداوة للدين والرقعة وهذا دعوة للأخوة الإنسانية وأنه لا فرق بين الناس إلا بالتّقوى، وقد اعترف الإسلام بعيش الأجانب في دوله مقابل الدفاع عنها محتفظين بجميع حقوقهم؛ وهي صورة للإسلام بأنه يسمح بتعايش الأديان والأجناس في دولة واحدة وفي جوار الإسلام وتحت حكمه، وهنا يكون تبادل المنافع بغض النظر عن الدين والجنس، والتعاون على الخير للبشر رغم اختلافهم، وكذلك من سماحته أنه يسمح بإقامة الأجانب إقامة مؤقتة (مستأمنا)، وهذا المستأمن قد يكون حربيا مشركا في الأصل ولكن إذا طلب الدخول إلى دار الإسلام لأمر ما فيجب تأمينه وحمايته في دخوله ومقامه وخروجه ويحرم قتله وأسره وحتى إكراهه على الإسلام، وهذه نفسها القوانين المعاصرة ولكن تحت مسميات جديدة؛ وكذلك أن للدول الاحتفاظ بدينها ولكن مقابل تقديم جزية ومعاهدة كعقد أمان مع الدولة الإسلامية مقابل حمايتها من طرف الدولة الإسلامية في حال قوتها وهذه سياسة بعض الدول الكبرى اليوم مقابل حمايتها ولكنها تشترط تنازلات مقابل الحماية وشتان بين الحمايتين.

وتلك هي سماحة الإسلام وهذا نوع من التعارف وطريق سلمي له، فالإسلام أول من حفظ للأجنبي حياته وماله ولو كان محاربا للإسلام واليوم فإن التّعاهد ترعاه منظمة الأمم المتحدة وكل دولة صادقت على ميثاقها فهي مسالمة ويجوز التعامل معها، ولذلك يرى البعض أن الدول الغربية دول مسالمة وتعتبر دار عهد وليست دار حرب لقبولها بميثاق الأمم المتحدة والدول غير المعاهدة بهذا المعنى يمكن إجراء معاهدة بينهم أو الدخول في تبادل تجاري واقتصادي وثقافي أو أمني ، فالتقسيم القديم للدول في الفقه الإسلامي مقبول في معناه ولكن يجب أن يغيّر في التسمية ويراعى ما استجد في تنظيم العلاقات بين الدول وكيفية التعاهد وعدم إظهار العداوة والالتزام بالسلام، أما مصطلح دار الإسلام القديم والذي كان يعني في أساسه دار السلم بحيث يكون السلم حيث كان الإسلام وغالبية من معتنقيه فليس هناك اليوم دار سلام بالمعنى الحقيقي للكلمة والتي تعني في حقيقتها دار العدل وتمتع الناس بحقوقهم كاملة في مساواة كاملة إضافة إلى تطبيق تعاليم الإسلام عظيمها وصغيرها فكيف نصنف الغير على أنه دار حرب ونحن ليس فينا أدنى ما يبين أننا دار إسلام أو سلام بالمعنى الحقيقي؛ ولذلك يقرر الإسلام في قيام قانونه في تأصيل العلاقات على المبادئ الإنسانية العالية والفضيلة السامية من العدل والمساواة والسماحة والحرية....وهكذا يكون القانون إنساني من الدرجة الأولى ويجب أن تدوّن فيه، وقد بيّن الإسلام منذ الوهلة الأولى أن العلاقة بين الآحاد كالعلاقة بين الدول في أسسها ولا فرق، ولكن بدل أن تلمع هذه الحقائق الدينية شاع عن الإسلام أنه دين حرب لا دين سلام تغليباً لواقع كان يفرض ذلك[٢٥] ثم إن من الفقه الصّحيح أن الحاكم المسلم المطبق للإسلام في أرضه هو من يتولى نشر الإسلام ولو بالحرب وليس أفرادا أو جماعات لا حاكم لهم، فالإسلام انتشر بالحرب والسّلم معا ولكن الحرب فيه حرب عادلة ناشرة للعدل والإنسانية وليست ظالمة ولا تقوم على النفع الخاص كما نراها اليوم.

أما مصطلح القانون الدولي الإسلامي فهو مصطلح حادث في الفقه الدولي الحديث وهذا لا يعني جهل المسلمين بالأحكام المنظمة لعلاقات الدول بعضها ببعض، ولكن كما سبق- تحت مسميات عديدة- وهذه القواعد في الفقه الحديث التي تمثل القانون الدولي الوضعي حقيقة هي قواعد أخلاق ومجاملات بين الدول والأجناس وقد رأت الدول أنها بحاجة إلى النص على هذه الأخلاق والمجاملات في معاهدات شارعة فكان القانون الدولي الوضعي، وأول ما نشأ كان في ضوء قواعد الأخلاق المسيحية وتوحدت الدول المسيحية في ضوئها –كما سبق- ولذلك عرف القانون الدولي كالآتي: "هو مجموعة القواعد التي تنظم العلاقات بين الدول وتحدد حقوق وواجبات كل منها في حالتي السلم والحرب"[٢٦] وهذه القواعد ليست غريبة عن الإسلام وهي واردة في أصوله وقوامها التسامح وعدم التعصب والرفق والعدل والوفاء بالعهود والمواثيق... وفيما يلي أعرض مفهوم القانون الدولي الإنساني الإسلامي:

2. مفهوم القانون الدولي الإنساني الإسلامي

أما القانون الدولي الإنساني الإسلامي فهو كذلك مصطلح حادث في الفقه الإسلامي فإن القدامى لم يتحدثوا عنه ولم يفردوا له بالكتابة، ولم يهتموا بجمع أحكامه ونظمها ضمن سِفر واحد أو باب واحد، وإن كانوا قد تحدثوا عنه ضمن حديثهم في باب الجهاد والسِّيَر أي القانون الدولي العام، وهو عند المعاصرين الذين كتبوا القانون الدولي الوضعي يهتم فقط ببيان القواعد والمبادئ الإنسانية في الحروب بخاصة؛ لكن في الإسلام يشمل حالة السلم كذلك وإن عدم تحدُّث الفقهاء القدامى فيه قد يكون لعدم الحاجة بالتذكير بهذه المبادئ وخاصة في قانوننا الإسلامي.

أما زيادة الاهتمام به اليوم فلكثرة الاهتمام بحقوق الإنسان والمطالبة بذلك في ظل المبادئ الديمقراطية وكذلك قد يكون كثرة الحروب ودمويتها وخاصة في أعقاب الحربين العالمية الأولى والثانية، وكذلك الحاجة إلى بيان اهتمام الإسلام بالعلاقات الإنسانية لمن كتب فيه- سواء في الحروب وغيرها- في ظل اتهامه بالعنف والإرهاب، والذي قصره على حالة الحرب فعرفه بأنه: "مجموع القواعد والأحكام الشرعية العملية التي تطبق حال النزاعات المسلحة الدولية، والتي تهدف إلى حماية الإنسان وصيانة كرامته وحقوقه الأساسية حال النزاع" وهذا القانون ليس غريبا عنا بل ظهر في قواعد الحرب في الإسلام وفي المعاهدات التي عقدها المسلمون مع غيرهم من الدول ووصايا الخلفاء للقادة العسكريين...، وبالمقارنة بين قوانين الإسلام فسواء كان يُعنى به القانون الخاص بزمن الحرب ففي الإسلام ما يوافق هذا المعنى ويدعو إليه، وسواء عني به قانون حقوق الإنسان ففي الإسلام أصوله وقواعده ولا فرق وحتى القانون الدولي العام فنحن ندعو أن يكون إنسانيا في قواعده ولذلك ندعو إلى بنائه على القيم والمبادئ لا على المصالح والمنافع الخاصة.

وأهم خاصية للقانون الدولي الإسلامي وما يبين أنه إنساني –بالدرجة الأولى- أنه يقوم على العدل والمساواة والحرية والتعاون والوفاء بالعهود...وهذه كلها قيم إنسانية جاءت لحفظ الإنسان فقد خالف ما كان سائدا لأنه جاء بفكر جديد، فقد أبرز المساواة بين الإنسان والإنسان مما يجعله مخولا لأن يكون القاعدة الحقيقية لمفهوم القانون الدولي الحديث، ولذلك يعد القانون الإسلامي أول قانون يقر بحقوق والتزام الدول انطلاقا من مبدأ المساواة الذي جاء القرآن معلنا عنه حيث قال تعالى: ﴿يأ أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ (الحجرات: 13)، وبهذا المبدأ أصبحت البشرية والناس بغض النظر عن لغاتهم وألوانهم وأديانهم ممتلكين لنفس الحقوق والالتزامات ليس في وقت السلم فقط بل في أوقات الحرب كذلك، وهذا الوجه الذي يجب أن نظهره الآن في عصر صراع الحضارات والديانات؛ فالتركيز على مبادئ الإسلام لغة العصر لمواجهة الهجمات الشرسة ضد الإسلام وإذا تعين القتال فهو واجب[٢٧] ، ولذلك فالسلم والحضارة (العمران) هو ما ينشده العالم اليوم ويجب على المسلمين كذلك لأن دعوة الإسلام عالمية ويلزم من ذلك إقامة علاقات طيّبة مع الغير ونشر الحوار والتعامل بالأدوات السلمية أولا لإبلاغ الدعوة الإسلامية؛ وعموما فالمسألة تستدعي نظرا وتقعيدا مقاصديا فحيثما كانت المصلحة المشروعة فثمَّ شرع الله، فيجب الموازنة بين المصالح والمقاصد والمفاسد في علاقاتنا مع الغير، فمصلحتنا في حماية الدين ونشره فإذا كان السلم يقيمه فهو واجب الطلب والحفاظ عليه وإذا كانت المصلحة في الحرب فكذلك، وعموما فإن كانت ضرورة فضرورة وإن حاجة فحاجة وإن تكميل فتكميل بلغة المقاصد، وكذلك في التعارف فيكون بحسب القصد منه ومساهمته في نشر الدعوة الإسلامية، وهو أساس العلاقات الدولية وسنشير إلى درجة القصد إليه وكيف يعتبر في ضوئها فقد يكون في مرتبة الضرورة أو الحاجة أو التحسين، ودعوة الإسلام للتعارف تدل على اهتمامه بقيام حضارة الإنسان وإعمار الأرض، فالهدف بناء حضارة إنسانية مشتركة برغم الاختلاف فإذا قامت حضارة الإنسان فهناك وسائل كثيرة لحفظ السلم كالتعاهد والتحالف والصلح...، وكذلك لأن من مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ الأنفس وإحيائها وليست نفس المؤمن فقط هي المقصودة بالحفظ.

المبحث الثالث: حقيقة التَّعارف وأسسه الداعمة للعلاقات الدولية

مما سبق تبيّن أن القانون الدولي الإسلامي عام لجميع العلاقات الدولية إنسانية أو غيرها وسواء وقت الحرب أو وقت السلم، وفي الأصل يقوم على أسس الإنسانية دائما بغض النظر عن الاختلاف لذلك كان للتعارف أثره الواضح في هذه العلاقات؛ فما معنى التعارف وما هي أسسه التي يقوم عليها في حفظ التعاملات الدولية؟

المطلب الأول: حقيقة التعارف

أصل التعارف ورد في سورة الحجرات في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات:13) والتي قال فيها سيد قُطب: "سورة تبدو كأنها تكاد تستقل بوضع معالم كاملة لعالم رفيع كريم نظيف سليم، منظمة القواعد والأصول والمبادئ والمناهج التي يقوم عليها هذا العالم، والتي تكفل قيامه أولا وصيانته أخيرا...وهو عالم له فكرته الكاملة عن وحدة الإنسانية المختلفة الأجناس المتعددة الشعوب، وله ميزانه الواحد الذي يقوم به الجميع، إنّه ميزان الله المبرأ من شوائب الهوى والاضطراب"[٢٨] ، وقال في تفسير الآية: "...إن التعارف هو غاية خلق الله للناس شعوبا وقبائل وليس للتناحر والخصام إنما للتعارف والوئام، فأما اختلاف الألسنة والألوان واختلاف الطبائع والأخلاق واختلاف المواهب والاستعدادات فتنوّع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعارف للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات...وهذه القاعدة هي التي ينبغي أن يقوم عليها المجتمع الإسلامي وكذلك المجتمع الإنساني العالمي كله" ، فمقصد التعارف هو سبيل الوحدة الإنسانية دون تناحر بالمساواة بين أجناس البشر وشعوبهم وقبائله وهو في حقيقته يعني الوئام والسلام مع العالم كله بدلالة كلمة الشّعوب الواردة في الآية والتي تعني أنّ هذا التعارف مقصود منه إقامة الوئام والسّلام مع العالم كله وليس القبيلة فقط أو الدولة، "فالشعوب معناها أعظم ما يوجد من جماعات الناس مرتبطا بنسب واحدٍ، وبالتالي فلا دليل في الآية على قصر الخطاب على المسلمين بل هو خطاب للعالمين"[٢٩] ، بل الله يعتبر هذا الاختلاف آية من آياته ولا يمكن لأي شخص أن يزيله، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ (الروم: 22)، ولهذا ليس غريبا أن يدعو الإسلام المسلمين إلى التعارف والتواصل مع من يخالفهم في اللغة والجنس والمعتقد، ولو شاء الله لجعل الناس كلهم مسلمين قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 99)، وبذلك يعود المسلمون إلى دورهم الحضاري الرائع والرَّائد ويتمكّنون من تحقيق العيش الكريم في ظل تشريع رحيم يحقق لهم مصالحهم في معاشهم ومعادهم وفي ضوء ذلك يعرف الإنسان دوره ورسالته في هذا الوجود، ويساهم في تحقيقها {{قرآن نبذة|وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}} (الحجرات: 13) ، إذن للتعارف أثره في إنشاء مجتمع فاضل إنساني في ظل التنوع والحرية، وهو في حقيقته الوئام والسلام والتعايش والذي له أثره في تحقيق المقاصد الضرورية المعروفة، ولكن درجة القصد إليه قد تكون ضرورية أو حاجية أو تحسينية، وهذه الآية أثبتت التعارف كمقصد للشريعة قد يكون ضروريا إذا توقف على تحصيله تحقق مصلحة ضرورية، وقد يكون حاجيا إذا توقف عليه تحقق مصلحة حاجية، وقد يكون تحسينيا إذا كان له أثره في قِوام الأمة.

وقد حضّ الإسلام على التعارف ونبّه إليه لأثره في علاقات الناس وطبائعهم وأخلاقهم وسلوكاتهم، حتى تزول الضّغائن وتلتئم الجوانح، والمشترك الإنساني يجمع الإنسانية كلها ، والإسلام دين "وصَلَ الإنسانية كلّها بأوثق الرّوابط حين ردّها إلى أب واحد وأم واحدة[٣٠] فعقد بينهما نسبا لا تهن قوته مهما امتد في آفاقِ الأرض" ، فهو دين الوحدة الإنسانية ومن مظاهِر الوحدة الإنسانية وحدة الأصل التي تقرّر وحدة الإنسانية كلها قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (يونس:19) وقال: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ (البقرة:213)، فكان الإتحاد في أصل التكوين مدعاة للتعارف والتقارب رغم الاختلاف[٣١] فكل الخطوط يجب أن تنتهي إلى خدمة الجماعة الإنسانية وبذلك تتحد الغايات والأهداف ورغم الاختلاف قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ (الروم: 22) ويقرر أبو زهرة أن الاختلاف في الألوان والألسنة مؤديًا لأمرين أحدهما صعوبة التفاهم بين الناس بسبب اختلاف الألسنة وثانيهما احتقار طائفة من الناس للأخرى بسبب العنصرية المفرقة ولكن الإسلام جاء وجمع الإنسانية كلّها تحت جامِعَته دون النظر إلى الألوان أو البُلدان أو الأجناس أو غير ذلك يقول الله تعالى: ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ (النساء:01) ولذلك جعل الإسلام اختلاف الناس شعوبًا وقبائل للتعارف والتعاون لا للتباغض والتنازع ﴿يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ وهي آية التنوع والتعارف في الوقت نفسه تبيّن أن التّنوع في المخلوقات مدعاة للتعارف والتعاون-كما سبق- ونشير هنا إلى أن للإسلام نظرته الخاصة في الاعتراف بالتعدّد فهو من أصل الخلق ولكن لم يطلق العنان للتّنوع والتعدّد إلى درجة التشرذم والتّفرق وإنما المقصود منه والمعتبر ما يدعو إلى التعارف لا التناحر، فالوحدة في ديننا لا تعني الأحادية التي تمنع الاختلاف ولكن اختلاف تنوع لا اختلاف تفرق[٣٢] ؛ "ففي إطار الوحدة الإنسانية والتي نجم عنها حقوق متساوية في الكرامة والتكريم الحساب والجزاء...تتمايز وتتنوّع هذه الإنسانية الواحدة إلى شعوب وقبائل وأمم وأفراد وإلى ألوان وأجناس وألبسة ولغات وحضارات..." فلا غلوّ في التعدّدية والتنوع حتى تقطع روابط الوحدة وإنكار العلاقات مع الآخرين، ولا غلوّ في عوامل الوحدة ينكر أسباب التنوع والتميّز والاختلاف قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (المائدة: 48)، وقال:﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذلك خلقهم﴾ (هود 118-119).

فالإنسانية بكثرة أفرادها وشعوبها وقبائلها ينبغي أن تكون مدعاة للتعارف والتعاون والوئام لا سببا في التناكر والتعادي والشقاق وما دام الأصل واحد والأب واحد...فليس هناك داع للتفاخر والتعالي والتسلط والكبرياء إذ القيمة الحقيقية للإنسان التي يحق له أن يزهو بها وأن يعتز هي الأثر الطيب الذي تتركه يداه، وبهذه المساواة في القيمة الإنسانية لا يتصور في أحد من بني الإنسان أن يولد متميّزا عن غيره في الكرامة والقيمة أو فيما ينبغي له من حقوق وكيان ، فرسالة الإسلام للناس كافة لعبادة الله وحده وليكون الناس أمة واحدة، والأخوة فيها لا تفرق بين الشعوب والقبائل والأبيض والأسود والأصفر ولا الأراضي والأوطان، بل تدعو إلى أخوة حدودها البشرية، تحرم الاعتداء وتدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة حتى في حالة النزاع مع المعتدين وردهم عن عدوانهم بالحرب، فإن فكرة الأخوة البشرية تتخذ أيضا نبراسا يهتدى به المؤمنون في ظلام الحرب لَ﴿ا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾(البقرة:256)، ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ (التوبة:61-62)[٣٣] ولذلك صحّ لنا أن نعرف التعارف بقولنا: "هو التعاون والتكامل على تحقيق الخلافة العامة للإنسان في الأرض، والتعاون على خدمة البشرية حتى في ضوء تباين العقائد والأخلاق" وهذا التعريف خرجت به من خلال ما سبق بيانه.

المطلب الثاني: أسس التعارف الداعمة للعلاقات الدولية

ومما سبق يتبين أن لدينا مقصدين من إقامة علاقات دولية: نشر الإسلام كنظام عالمي شامل والثاني إقامة حضارة الإنسان في ضوئه، ولا يتحقق الثاني إلا بالأول -في الأصل- ولكن أيّ إسلام نبشّر به إذا كان أهله لم يرتقوا بعد إلى مستوى الإسلام، فكيف بإقامته في بلاد غيرنا وهو غير مطبق في ديارنا ولم نرتقِ بعد إلى مستواه، والتركيز على قيم الإسلام وتبليغها من الدين وهو صميمه ولن تتنمّى العلاقات الدولية إلا في ضوئها، فقد أكّدت تعاليم الإسلام على عناصر الأخوة والمساواة والاحترام المتبادل والحوار والتعاون ونشر الخير وترك الناس أحرارا فيما يختارون والعدل والإنصاف ومحاربة الظلم ، وهذا يمثل مقصد العلاقات وفي ضوئها تتنمَّى العلاقات الأخرى الاقتصادية والسياسية الطيبة بين أفراد المجتمع الإنساني الواحد.

وضعفنا اليوم يستدعي منا إقامة علاقات ودية مع الغير اقتصادية وعلمية وتجارية وصناعية...فلا مانع في الإسلام في الدخول في مبادلات اقتصادية وتجارية وغيرها مع غير المسلمين استيرادا وتصديرا بحسب الضرورة أو الحاجة (بل كانت التجارة من الأسباب المهمة لنشر العقيدة الإسلامية)، وفي الهدنة والمعاهدات تنتعش العلاقات الاقتصادية ولا مانع، وقد حدث تعارف في مدة صلح الحديبية وأقيمت علاقات بين المسلمين والمشركين في مكة فيذكر المؤرخون أن أسماء بنت أبي بكر الصديق كانت تصل أمها في مكة وهي مشركة، وكذلك أهدى النبي (صلى الله عليه وسلم) لأبي سفيان تمر عجوة حين كان محاربا، واستهداه أُدما، وبعث بخمسمائة دينار إلى أهل مكة حين قحطوا لتوزع بين فقرائهم ومساكينهم[٣٤] . ولذلك يجب أن نقول إن الإسلام رحمة ونظام عالمي وواقعي يحتضن المثُل والآداب والقيم العليا حفاظا على رسالته السامية سواء في حال الحرب أم في حال السلم؛ هذا الأصل أما دراسة الواقع فأمر مهم لتحديد السياسة في العلاقات مع الغير وأن الهدف يحدد ذلك؛ فإذا جنح العدو للحرب نجنح لها وكذلك للسلم ولكن دائما الإسلام "يربأ بأهله النزول إلى هذا المستوى ويؤكد على ضرورة التزام الحق والعدل والرحمة والفضيلة والحفاظ على صرح المدنية والحضارة" ، وتبدو علاقة مقصد التعارف بهذا القانون لكونه إنساني بالدرجة الأولى فأبو زهرة سماها "إنسانية" (العلاقات الإنسانية) وجعل التعارف من دعائمه لأن الناس أمة واحدة تربطهم رابطة الأخوة الإنسانية والإنسانية أصل الجميع، فالأصل واحد فالأمة الإنسانية واحدة والاختلاف عارض منشؤه الأهواء، ولكن هذا الاختلاف لا يمنع من الوحدة وهذا مقصد التعارف، والتعارف يعني إقامة علاقات مادية أو فكرية مع الغير ولا يمنع حال الحرب من إقامتها؛ وبهذا يكون التعارف طريق السلام والسلام طريق التعارف.

فالتعارف إذن أحد الأسس الداعمة للعلاقات الدولية (وهو يقود إلى السلم) وقد يكون في الحرب إذا كان صلحا أو معاهدة كما وقع في صلح الحديبية ولكن في ضوء قيم الإسلام (العظيمة) كالتسامح والمودة والرحمة وهو ما طبّقه النبي صلى الله عليه وسلم فكان أعظم فتح في الإسلام. ونحن اليوم في عهد الأمم المتحدة ومجلس الأمن وعصبة الأمم والتي انبثقت بعد الحربين العالمية الأولى والثانية؛ فالعالم تجمعه منظمة واحدة قد التزم أعضاؤها بقانونها ونظمها في حفظ السلام وشروطها، وإذا أردنا حكم الإسلام فيها فنقول إنه عهد ويجب الوفاء بالعهود والالتزامات وهو واجب، لذلك لا تعتبر ديار المخالفين التي تنتمي لهذه المؤسسة العالمية دار حرب ابتداء بل هي دار عهد؛ فيكون التعارف مطلوبا لا التناحر ، وبهذا يكون التعارف مقصدا واجب التحقيق في واقعنا وأن ذلك يمد القانون الدولي المعاصر بآليات جديدة تخدم قانونا شاملا للإنسانية كلها وليس للبعض فقط، وخاصة وأن القرآن قد اعترف صراحة بوجود "العالمين" قال تعالى: "تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا" (الفرقان: 01) ، فيكون التعارف سبيل التعامل مع هذه الدول (محايدة ومعاهدة مسالمة) وإذا كانت محاربة فلا يجب الاعتداء دون تيقن الاعتداء، ومن خلال أسسه تبدو العلاقة أكثر والتي نبينها في الآتي:

أولا: الرحمة والمودة

الرحمة أساس الدين الإسلامي وهي تعني السلام والسّلم والمودة مع أفراد المجتمع الواحد ومع الدول بعضها ببعض، ومعنى الرحمة أن توصل القلوب بالمودة، وأن الإسلام لا ينهى عن برّ كل من لا يعتدي على المسلمين ويصرّح بذلك القرآن الكريم في كثير من آياته من ذلك قوله تعالى:﴿ لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة: 08).

ثانيا: العدل والمساواة[٣٥]

والعدل هو الإنصاف وحقيقته إعطاء حق الغير طوعًا قال تعالى: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾ (النساء: 135) وهو أساس كل معاملة سواء بين الأفراد أو بين الجماعات والدول وقد كان العدل سمة الإسلام وهو شعاره وخاصّته، فالعدل الميزان المستقيم الذي يحدّد العلاقات بين النّاس في حال السلم وحال الحرب، فهو القِسْطاس المستقيم الذي به توزّع الحقوق، وبه تحمى الحقوق وبه ينتظم الوجود الإنساني، سواء في حالة الحرب أو السلم بل في الحرب أولى .ومن العدل المساواة بين الناس وهو وجه من إقامة العدل أي الاعتراف بالآخر، ومساواته له في الحقوق والواجبات وأنه لا تفاضل بين الناس إلا بالتقوى وقد كان ذلك أصلُ التّعارف، فالتساوي أوّلا في أصل الخلقة يجعل الناس ينزعون إلى التعارف مع بعضهم البعض وقد جاء ذلك في آية التعارف ﴿يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾ (الحجرات: 13). وفي آيات أخرى مثل قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ (النساء: 01)، فالنّاس متساوون في أصل الخلقة ولا فرق بين الناس إلا بالتقوى ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾، وهذا يعني أنّ الإنسانية بإمكانها العيش كأمة واحدة، تجمع بينها الإنسانية، في ظل الاختلاف والتنوع، وفوق الإنسانية تبقى رابطة التّقوى أرقى رابطة وأكثر قوة للالتحام بين بني الشر، أما التعامل مع الآخر لا يكون على أساس التقوى بل على أساس التعارف والتعاون على الخير والمصلحة للجميع.

ثالثا: التسامح والمحبة[٣٦]

التسامح كمقصد قيمي له أثره في الفقه الحضاري عموما والعلاقات الدولية خصوصًا وهو نفسُه ما يقوم عليه قانون التعارف، فلا تعارف دون تسامُح ومسامحة ومحبة في إطار المشروع والمسموح فهو في حقيقته الرّفق مع الآخر والتجاوز عنه والصَّفح غير الذّليل من غير استسلام للشر أو تمكين، كما قال أبو زهرة. فأثره كبير في تحقيق مقصد التَّعارف، وبناء العلاقات الإنسانية بين الأمم والدُّول، وحتى الأفراد، وقد طبّق النبي (صلى الله عليه وسلم) مبدأ التسامح في علاقاته بالمشركين وغيرهم في معاهداته وفي حروبه، وقد برز ذلك أكثر في صلح الحديبية حين قبل شرط أهل مكة مع ما فيه إذلال للمسلمين والإسلام، وذلك سماحة من النبي (صلى الله عليه وسلم) وحقنا للدماء، وقد ختمها النبي (صلى الله عليه وسلم) بقولته المشهورة بعد تحقق النصر "اذهبوا فأنتم الطُّلقاء". وبذلك يتبين أن التَّسامح له أثره في العلاقات الدولية ومقصد مهم يجب بناء القانون الإسلامي على ضوئه، بأن تكون هذه القيمة هي أساس التعامل دون ضعف بل في قوة وخصوصا بين المسلمين وغيرهم.

رابعا: التعاون

فالتعاون كذلك قيمة وأساس يقوم عليه مقصد التعارف الصحيح، بحيث تكتمل مصالح الناس في ضوئه دون نكاية أو إجحاف، والتعاون الذي يُقيم العلاقات ويتممها لتكون في تحقيق الصالح العام للمجتمع الواحد وللمجتمع الدولي هو التعاون على البر والإحسان لا التعاون على الإثمِ والعدوان قال تعالى:﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة: 02)، والتعاون على البر يشمل كل ما فيه مصلحة الغير، ومصلحة النَّفس، وقد برز ذلك في تعامله (صلى الله عليه وسلم) مع غيره في مجتمعه، وبدا كذلك في تعامُله الدُّولي عندما جاء إلى المدينة فعَقَد مع اليَهُود حِلفا أساسه التعاون على البر، وحماية الفضيلة ومنع الأذى وأكّد ذلك بالمواثيق، وكان أساس هذا التعاون أن يتضافروا على دفع الاعتداء وإقامة الحق أو بعبارة عامة ما يسمى الآن بـ "التعايش السلمي".

خامسا: الأخوة الإنسانية والإيمانية

فبفضل التكريم بوصف الإنسانية، فالناس أخوة كلهم في الإنسانية والتي تجعل الإنسان –كما مر- يحترم أخاه الآخر رغم اختلافه معه لكونه إنسانا، فهذا الوصف مرتبط بأصل خلقه الإنسان وأنّ كلّ البشر من أصل واحد، رغم ما يوجد بينهم من اختلاف ظاهري في اللون والجسم والشكل...

فرغم هذا الاختلاف فالنّاس كلهم أمة واحدة، وإنّما الأصل لا يمنع الاختلاف الذي قد نستطيع تلافي مساوئه بالتآلف الإنساني الكوني فلا ظلم، ولا تمييز ولا تنافر ولا تنابز، فالأخوة الإنسانية أرقى رابطة قد تضمن التعارف الحقيقي الذي يؤدي إلى التكامل والتعاون، والآيات السابقة تدل على ذلك ولكن هناك رابطة أرقى من رابطة الإنسانية وهي رابطة التقوى التي تؤدي دورها بعد تعارف الناس بحكم الإنسانية، فالإيمان علاقة عقدية تربط ببني العقيدة الواحدة حتى يكونوا أكثر التحاما وتواددًا وترابطا وقوة، ولكن دون إقصاء للآخر المخالف بل لتوقيه والحذر منه إن أراد الإساءة، وإن لم يبدر منه ذلك فأخوة إنسانية بينهم جميعا، و هذا ما نلمسه في آيات الجهاد: ﴿وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾ (البقرة:190) ودون إكراه للآخر بالدخول في عقيدته بالقوة: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾.

سادسا: الحرية المكفولة للجميع

فالإنسان لا يتحصّل على حقوقه إلاّ في ضوء حريّته، فلا بد أن يكون حرًّا في فكره، واعتقاده، ورأيه وأداء مهماته، ولا يمكن أن يكون النماء للمجتمع وتطوره إلا في ضوء حريّة الإنسان، بحصوله على كرامته كاملة، وتطبيق ما تحصّل عليه في أرض الواقع وهي بهذا المعنى حق للبشر على الجملة لأن الله لما خلق للإنسان العقل والإرادة وأودَع فيه القدرة على العمل فقد أكنّ فيه -حقيقة الحرية- وخوّله استخدامها بالإذن التكويني المستقر في الخلقة، إذن بالحرية يستطيع الإنسان تكوين علاقات ودية مع الغير وتحقيق عبوديته لله وحده للعيش بكرامة دون استعباد من أحد.

سابعا: الفضيلة

إنّ من أساس العلاقات الإنسانية في الإسلام التمسك بالفضيلة سواء أكانت بين الأفراد أم بين الدول، وسواء أكانت العلاقة في حال الحرب أم في حال السلم، وأيا كان النوع أو جنس الذين يتصلون بهم أو يختلفون معهم، ذلك لأن قانون الأخلاق قانون عام يشمل الأبيض والأسود والأحمر والأصفر، ويشمل الناس جميعًا في كل الأقطار والأمصار ولا فرقَ، فالأخلاق الإسلامية وشاج العلاقات بين الدول والأفراد فالفضيلة هي أساس التواصل والتعارف، وفي ظلّها تتطور العلاقات، وتنمَّى خدمة للإنسانية وتحقيقا لمصالحها، حتى لا يسود قانون الغاب. والمقصود أن تكون الأخلاق ضمانات صَلاح العلاقات العامة والخاصة وإصلاحها، فهي في حقيقتها ترتبط بتزكية النّفس الإنسانية، باعتقادها بأنه لا كمال إلا بالتحلّي بها، وعدم التَّفريط في شيء منها، لأن غايتها إبلاغ النفس الإنسانية إلى أرقى ما خُلقتْ له، والعقل هو سبيل الوصول إليها.

خاتمـــــــــــة

مما سبق يتبين أن الإسلام بما هو دين العالمية فإن أساس علاقته مع الغير مبنية على أسس التعارف والتعاون والرقي من أجل بناء الأخوة الإنسانية والوحدة العالمية التي أساسها الإنسان؛ وذلك لتحقيق خلافته في الأرض بغض النظر عن الانتماءات الدينية والعرقية والاجتماعية واختلاف الألسنة والألوان والأماكن والشعوب، ولا يعني ذلك الركون إلى التواكل وترك الدعوة الدينية بل ذلك لا يكون إلا في ضوء التعارف والتعاون، وفي ظل سيادة قيم المودة والرحمة والتسامح والعدل والحرية ولكل عصر وسائل تواصله وإذا ثبت الاعتداء فرد العدوان مطلوب ولكل عصر سلاحه لذلك خلصت إلى النتائج الآتية:

1- يعتبر مدخل الفقه الحضاري الإسلامي النظر إلى الإسلام كل متكامل عبادة وعادة، مادة وروح، وأن فقهه الكوني الإنساني أرقى ما جاء به ضمن قيمه الكبرى القطعية.

2- أهم أسس الإسلام قيمه الحضارية العالمية، التي تعنى بالفرد كما تعنى بالمجتمع وهي محركه للرقي والتطور والعودة من جديد وأهمها قيم الحرية والعدل والتسامح والتعاون.

3- فقه العلاقات الدولية وأسسها جزء من الفقه الإسلامي وهو أوسع أبوابه ولكن الكتابة فيه تحتاج إلى تجديد.

4- أساس التعامل مع الآخر في ظل الاختلاف هو التعارف ضمانا للحقوق وليس التناحر والتعالي والتقاتل.

5- التعارف في ظل التنوع والاختلاف هو التعاون والتكامل على تحقيق خلافة الله في الأرض حتى يسود السلام والوئام.

6- منطق القوة في الإسلام له آلياته وأسبابه، وآلياته تختلف من عصر إلى عصر ومن زمان إلى زمان والتطور التكنولوجي السلمي في عصرنا أفضل طريقة لعرض تعاليم الإسلام ورسالته السمحة.

7- قوة الإسلام المعاصرة في العمل على إثبات قدرته على العيش في ظل التطور التكنولوجي والمادي وكونه يرقى عنها بقوته الروحية، فالصراع الحضاري يحتم علينا عرض آيات الرحمة والتسامح قبل آيات السيف والقتال، بل السيف العلم والقوة العلمية التكنولوجية وهي سبيل نشر القوة الروحية لأن الإسلام ما جاء إلا لإصلاح أوضاع الناس لا الخضوع لها وإذا ثبت الاعتداء فالدفاع مطلوب لا محالة.

التوصيات

وهذه بعض التوصيات التي وددت أن أختم بها الورقة:

1- يجب تطوير معنى الفقه الإسلامي وتوسيع معناه ليشمل التنظير للقضايا الكبرى بالموازاة مع القضايا الصغرى، والكتابة في فقه الجماعة كما هو فقه الفرد.

2- يجب التنظير للقانون الدولي الإسلامي في ضوء مراعاة الإنسانية كوحدة جامعة دون تناحر بل في تعاون وتعارف حتى تسود قيمه وتعاليمه كدين اختاره الله للعالمين.

3- ضرورة الكتابة في فقه التعارف وأسسه لإمداد العالم بقواعد ترعى الإنسانية كلها وتطمح لقوانين عالمية عادلة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
  1. انظر: زراقط، علي. الوسيط في القانون الدولي العام، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط1، 1432ه/ 2011م، ص (06-29)و، اسكندري، أحمد. وبوغزالة، ناصر. القانون الدولي العام، الجزائر: مطبوعات الكاهنة، ط1، 1997م، ص9.
  2. يادكار، طالب رشيد. مبادئ القانون الدولي العام، العراق: مؤسسة موكرياني للبحوث والنشر، ط1، 2009م، ص(19-48).
  3. طالب رشيد، مبادئ القانون، المرجع السابق، ص(55-56).
  4. زراقط، علي. الوسيط في القانون الدولي العام، المرجع السابق، ص(06-29).
  5. عمارة، محمد. في فقه الحضارة الإسلامية، مصر: مكتبة الشروق الدولية، ط2،1427ه/ـ2006م، ص(107-108).
  6. الغافري، نبيل بن معيوق بن ظفير. "الفقه الحضاري الواقع والطموح"، ندوة تطوير العلوم الفقهية (الفقه الحضاري-فقه العمران)، سلطنة عمان، 1431هـ/ 2010م، ص866.
  7. محمود مصطفى، نادية وآخرون. مدخل القيم- إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدوليةفي الإسلام-، واشنطن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ج2، ص (275-287).
  8. السيد، رضوان. "الفقه الحضاري –الوظائف والغايات-"، ندوة تطوير العلوم الفقهية (الفقه الحضاري-فقه العمران)، سلطنة عمان، 1431هـ/ 2010م، ص (24-27).
  9. وهو تعريف رئيس وزراء ماليزيا داتو سري عبد الله أحمد بدوي، نقلا عن: مقال بشير. محمد الشريف "الإسلام الحضاري، مشروع ماليزي للنهوض بالأمة"، على موقع السكينة:.www.assakina.com
  10. كلمة ألقاها أمام المُؤتمر العالمي حول قضايا الإسلام الحضاري، المرجع السابق، على موقع السكينة:www.assakina.com.
  11. الشاطبي، أبو إسحاق. الموافقات في أصول الشريعة الإسلامية، تحقيق: محمد عبد الله دراز، بيروت: ط2،ج2، دار المعرفة، 1975، ص324.
  12. الريسوني، أحمد. الفكر المقاصدي قواعُده وفوائدُه، الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، دط،، 1999، ص 29.
  13. الحسني، إسماعيل. نظرية المقاصد عند الإمام ابن عاشور، واشنطن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1416هـ/1995م، ص (239-240).
  14. ابن عاشور، محمد الطاهر. مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق: محمد الحبيب بن الخوجة، قطر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية،ج3، 1425هـ/ 2004م، ص 188
  15. الفاسي، علاّل. مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، الدار البيضاء: مكتبة الوحدة العربية، د.ط، د.ت، ص(41-42).
  16. الحسني، نظرية المقاصد عند ابن عاشور، المرجع السابق، ص (234-235).
  17. عبد الخالق، عبد الرحمن. المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، الكويت: مكتبة الصحوة الإسلامية، ط1، 1405هـ/1985م، ص12.
  18. القرضاوي، يوسف. السنة مصدرا للمعرفة والحضارة، القاهرة: دار الشروق، ط1، 1997م، ص 231.
  19. القرضاوي، يوسف. مدخل لدراسة الشّريعة الإسلامية، القاهرة: مكتبة وهبة، ط1، 1991م، ص 75.
  20. ابن عاشور، مقاصد الشريعة، المرجع السابق،ج3، ص 165.
  21. السيد، رضوان. الفِقه الحضاري، الوظائف والغايات، المرجع السابق، ص (24-27).
  22. سليمان نصر الله الفرا، محمد. "أحكام القانون الدولي الإنساني في الإسلام"، (رسالة ماجستير، الجامعة الإسلامية، غزة: 1428/ 2007م)، ص 34.
  23. البهجي، إيناس محمد. والمصري، ويوسف. القانون الدولي العام وعلاقته بالشريعة الإسلامية، القاهرة: المركز القومي للإصدارات القانونية، ط1، 2013م، ص88.
  24. انظر: عثمان ضمرية، أصول العلاقات الدولية، المرجع السابق، ص240، ومخلد المبيضين، أصول العلاقات الدولية في الإسلام، المرجع السابق، ص87.
  25. أبو زهرة، محمد. العلاقات الدولية في الإسلام، القاهرة: دار الفكر العربي، دط، 1415ه/1995م، ص (43-55).
  26. علي منصور، علي. الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، دط، 1390ه/ 1971م، ص80، وإيناس البهجي، ويوسف المصري، القانون الدولي العام وعلاقته بالشريعة الإسلامية، المرجع السابق، ص11.
  27. عبد الونيس شتا، أحمد. الأصول العامة للعلاقات الدولية في الإسلام وقت السلم، القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1،1417 هـ/ 1996م، ص8.
  28. قطب، سيد. في ظلال القرآن، مصر: دار الشروق، ط32، 1423/ 2003م، ج6، ص (3336-3337).
  29. دخوش، كلثومة. "مفهوم التعارف بين مقصدي الخلق والتشريع"، ندوة علمية دولية بعنوان: مقاصد الشريعة والسياق الكوني المعاصر، الرباط، 2012م، ص (190-191).
  30. الخضر، محمد. الإسلام وحقوق الإنسان، د.م، د.ط، د.ت، 1977م، ص11.
  31. أبو زهرة، محمد. المجتمع الإنساني في ضوء الإسلام، الرياض: الدار السعودية للنشر، ط2، 1981م، ص46.
  32. عمارة، محمد. العطاء الحضاري للإسلام، القاهرة: مكتبة الشروق، ط1، 1425هـ/ 2004م ، ص80.
  33. عزّام، عبد الرحمن، الرسالة الخالدة، القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ط2، 1384هـ/1964م، ص41.
  34. انظر: الزحيلي، وهبة. العلاقات الدولية في الإسلام، سوريا: دار المكتبي، ط1، 1420ه/2000م، ص(19-24
  35. ابن عاشور، محمد الطاهر. أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، تونس: الشركة التونسية للتوزيع، الجزائر: المؤسسة الوطنية للكتاب، ط2، 1985م، ص183.
  36. أبو زهرة، العلاقات الدولية ، المرجع السابق، ص(26-28) بتصرف،وابن عاشور، مقاصد الشريعة، المرجع السابق، ص 188. وابن عاشور، أصول النظام الاجتماعي، المرجع السابق، ص25.