الفقه والفقهاء تحت مجهر التعارف

من Wiki Akhbar
اذهب إلى: تصفح، ابحث

=الفقه والفقهاء على ضوء التعارف=

الأنبياء تعارفوا واتَّقُوا

كلَّفَ اللهُ تعالى الرسلَ والأنبياءَ أن يبلغوا رسالاته للناس ويكونوا مبشرين ومنذرين ومصلحين. لم يكن الأنبياء من جنس الملائكة بل كانوا بشراً يعيشون مع الناس ويأكلون معهم ويبيعون ويشترون ويرعون الأغنام ويفضون النزاعات ويقضون بالعدل بين الناس ويلتزمون بالأعراف ويستشيرون أهل الخبرة فيما لا يعلمون.

لقد وصَّى الله الأنبياء والناس على السواء بالتعقل والتذكر والتقوى ﴿ذلكُم وصّاكم به لعلّكم تعقلون﴾ الأنعام - 151، ﴿ذلكُم وصّاكم به لعلّكم تذكّرون﴾ الأنعام - 152، ﴿ذلكُم وصّاكم به لعلّكم تتَّقون﴾ الأنعام - 153، ﴿ولقد وصّينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإيّاكم أنِ اتّقوا الله﴾ النساء - 131. فالأنبياء معنيّون بالتعارف باعتباره أحد سبل التقوى في الدنيا والكرامة عند الله في الآخرة.

وصفَ الله نبيه ورسوله محمد (ص) بالرحمة وخاطبه كبشرٍ فقال له ﴿هل كنتُ إلا بشرا رسولا﴾ الإسراء – 93 وباعتباره من أنفس الناس ﴿إذْ بعثَ فيهم رسولاً من أنفسهم﴾ آل عمران - 164 فكان النبي كغيره من الناس يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. وقد حذَّره ربُّهُ من الفظاظة وغلظة القلب ﴿ولو كنتَ فظاً غليظ القلب لانفضُّوا من حولك﴾ آل عمران – 159، وأمرَه بالاستقامة والالتزام بصراطه المستقيم والأخذ بالعفو والأمر بالعُرْف ﴿خذ العفو وأمرْ بالعُرْف وأَعرِضْ عن الجاهلين﴾ الأعراف - 199، ليكون النبي قدوةً لهم وحجةً وشهيداً عليهم. لكنه سبحانه وتعالى لم يعطه "سلطة" ولا "سيطرة" على الناس ﴿فذكِّر إنما أنت مذكّر، لستَ عليهم بمصيطر﴾ إِلاَّ إذا بايعه الناس واتَّبَعُوه وفوّضوه بالسلطة.

لا وصاية إلا بتفويض حر

منح الله كل إنسان الوصاية على نفسه وماله وأولاده على أن يستخدمها في الخير والتقوى دون تهلكة أو جنف أو ضرار. لذا لا يحق لأحد أن ينتزع من الإنسان تلك الوصاية إلا بتفويضٍ منه دون إكراه. ولا يحق لأحد أن يمارس على الناس أية وصاية دينية أو سياسية أو اجتماعية إلا بتفويض حر من الناس. فكل ادّعاء بالتحدث باسم الدين أو نيابةً عن الله هو محض افتراء على الله وعلى الناس في آنٍ معاً إلاَّ أنْ يعتنقَ الناسُ هذا الدين ويؤمنوا بالمتحدث رسولاً ويشهدوا له ويُفوِّضوه أي يبايعوه ويتَّبعوه.

نستخلص من ذلك أن الرسل والأنبياء كانوا شخصيات تعارفية تقيَّة لم تنعزل عن الناس ولم تتكبَّر عليهم بل تحاورتْ معهم وشاوَرَتْهم وتقدَّمَتْهُم في العمل الصالح وفعل الخيرات وفضِّ النزاعات والدفاع عن المظلومين والنهي عن الشذوذ والانحراف والفُحش وكل المنكرات في المجتمع. كان كل رسول في مجتمعه مبادراً لأجل الناس وشهيداً عليهم وحاضراً بينهم وقدوةً لهم. لهذا كرَّمهم الله وجعلهم عنده في أعلى عليين.

ما بعد الأنبياء

أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

كلَّفَ اللهُ أمةً من المؤمنين بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر﴾ آل عمران – 104، لكنه لم يمنحهم أيضاً الوصاية على الناس بل ترك للناس حرية الاختيار بين الكفر والإيمان. ورغم أنه (لا رهبانية في الإسلام) فقد تشكَّلتْ في مراحل متأخرة من تاريخ المسلمين طبقةً من الرجال بمسمى "علماء" الدين و "المراجع" الدينية. عزَّزتْ هذه الطبقة مكانتها مستفيدةً من الحديث النبوي (العلماء ورثة الأنبياء). ميَّزَ "العلماء" أنفسهم بالمظهر الخارجي أي الثوب والعمامة وبأماكن الجلوس وحافظوا على "مسافة اجتماعية" تفصلهم عن الناس، وأصبح عملهم "الديني" مهنةً ومنصباً ووجاهةً. أدَّى ذلك كله لتقليص قدرتهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا ما رحم ربي منهم.

التعارف استحقاق

إنَّ التعارف استحقاقٌ، إذْ لا يمكن أن يكون (العلماء ورثة الأنبياء) إلا إذا حملوا وتحمّلوا ذات المسؤوليات التي حملها وتحمَّلها الأنبياء. ولا يُعقل أن يكونوا ورَثَة الأنبياء إنْ لم يقتدوا بهم ويعملوا بسيرتهم. فالأنبياء كانوا شخصيات تفاعلية تتفاعل مع الناس وتشاورهم ولا تلقِّنهم المواعظ فقط. يأمرون بالمعروف ويسبقون الناس إليه، ينتهون عن المنكر قبل أن ينهوا الناس عنه. يأخذون بالعفو والعُرْف كما أمرهم الله. يعملون كما يعمل الناس ويكسبون معاشهم، ويعيشون حيث يعيش الناس فيتواصلون معهم أرحاماً وجيراناً وزملاء عمل وشركاء وزبائن وأصدقاء. يعودون المرضى ويفضُّون النزاعات ويعملون الخيرات. هكذا يتعرَّف عليهم الناس وهكذا يتعرَّفون هم على الناس عن قرب. وهكذا أيضاً يُتوقَّع أن يؤدي علماء الدين دورهم الحقيقي بلا استعلاء ويكتسبون الخبرة والحكمة في الدعوة إلى الله، وهكذا فقط يتمكن الناس من تقويمهم بشكل واقعي فيمنحونهم الثقة إذا كانوا أهلاً لها فيقلّدونهم خير تقليد ويتَّبعونهم أحسن اتِّباع وإلَّا انفضُّوا عنهم. عندئذٍ يكون ورثة الأنبياء شخصيات تعارفية تقيَّة أيضاً كما كان المورثون وإلَّا ما فائدة إمامتهم للناس في الصلاة وتلاوتهم لآيات الله؟

إن مراجعة سريعة لسيرة العلماء والمراجع الدينية تكشف أنَّ منْ كان منهم يتفاعل مع الناس يشاورونه ويشاورهم، يعلمهم ويتعلم منهم، يشاركونه ويشاركهم خبرات الحياة، تجده أكثر حكمةً وأعمق فكراً وأشرح صدراً وأكثر تأثيراً في حياة الناس.

إن آية التعارف ﴿يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنَّ الله عليم خبير﴾ الحجرات – 14، توحي أنَّ التعارف فريضة وليس فقط استحقاقاً أو أمراً مستحباً فقط.

التعارف بين وَرَثَة الأنبياء

إذا كان "التعارف" بين "العلماء" وبين الناس استحقاقاً أو فريضةً، فالأَوْلى أنْ يكون كذلك بين العلماء والمراجع الدينية أنفسهم باعتبارهم ورثة الأنبياء. فالنبي شاور أصحابه امتثالاً لأمر الله ﴿وشاورهم في الأمر﴾ آل عمران – 159. وإذا كان المرجع لابُدَّ راغباً بإنشاء مؤسسة أو حوزة أو معهد أو دار إفتاء، فلْتكُنْ مؤسسة تشاورية أو حوزة مشتركة أو دارإفتاءٍ جماعية تتفاعل فيها المرجعيات فيما بينها من جهة، وتفتح قنوات اتصال حقيقية وفاعلة مع الناس من جهة أخرى. هكذا تصبح المرجعيات تعارفية ويصبح التعارف عملاً مؤسساتياً معاصراً ويصبح بلا شك مثمراً. عندها يحق لعلماء الدين ومراجعه أن يتحدثوا باسم الناس ويكونوا أقرب إلى الله لأنهم عملوا بأمر الله (لتعارفوا) وأمروا بالعُرْف فأصبحوا شهداء على الناس يتَّقون الله في عباده. وبذلك يكون "التعارف" شرطاً لازماً على الفقهاء وعلماء الدين والمراجع الدينية.