«الإكتئاب»: الفرق بين المراجعتين
Faris.atassi (نقاش | مساهمات) |
|||
سطر ١٧: | سطر ١٧: | ||
محارلة اقناع المكتئب بان المشكلة في طريقة التفكير قد لا تجلب اية نتائج اذا كان الاكتئاب عضويا وليس نتيجة لازمة. هذا طبعا لا يعني اهمال الجانب العقلي فكما قلت الاكتئاب له مظهر عقلي ومظهر عضوي ويجب التحرك على المحورين معا لمساعدة المكتئب. | محارلة اقناع المكتئب بان المشكلة في طريقة التفكير قد لا تجلب اية نتائج اذا كان الاكتئاب عضويا وليس نتيجة لازمة. هذا طبعا لا يعني اهمال الجانب العقلي فكما قلت الاكتئاب له مظهر عقلي ومظهر عضوي ويجب التحرك على المحورين معا لمساعدة المكتئب. | ||
وفي حالات كثيرة الشخص نفسه لا يريد الحديث عن الجانب العقلي ويكتفي بالادوية. وهناك من يكتفي بالمعالجة النفسية وهناك من يجمع الاثنين. | وفي حالات كثيرة الشخص نفسه لا يريد الحديث عن الجانب العقلي ويكتفي بالادوية. وهناك من يكتفي بالمعالجة النفسية وهناك من يجمع الاثنين. | ||
+ | |||
+ | =19 كانون الثاني 2020، تحليل الاكتئاب= | ||
+ | |||
+ | رأس السنة، عيد، عطلة، احتفال، اكتئاب. | ||
+ | منذ يوم ٣١ كانون الثاني وانا ألاحظ ان عدد البوستات على الفيسبوك التي تدل على اكتئاب في تزايد مطرد. بعضها حزين، بعضها متشائم، وبعضها فلسفي. في معمعة مصائب الشرق الاوسط، يصبح من العسير على المرء التمييز بين الهم والقلق والحزن كردة فعل على احداث الحياة، وبين الاكتئاب كأزمة نفسية تحتاج الى تدخل اكثر من مجرد التفكير العقلاني الفلسفي. منذ ان خرج من سوريا في اواخر الثمانينات تولد عندي يقين بأن كثير من السوريين يعانون من اكتئاب مزمن. واليوم، ومنذ ان تبدد حماس الثورة وحلم التغيير، ارى مرة اخرى ان الاكتئاب قد اصبح حالة مستفحلة اشبه ما تكون بالحالة الدائمة وبالتالي الطبيعية. | ||
+ | لا استطيع ان اقدم لأحد اي مساعدة مباشرة، لكني اعتقد اني استطيع ان اشرح الاكتئاب بطريقة قد تساعد في دفع من يعاني منه الى طلب المساعدة. | ||
+ | الانسان منظومة عضوية تسعى لتأبيد وجودها. وهي تفعل ذلك بأن تحافظ اولا على التوالد من اجل استمرار النوع، وثانيا بأن تحافظ على استمرار الفرد من خلال دفعه للتعلق بالحياة. كل المنظومات العضوية تفعل ذلك. ان المنظومة العضوية مبنية مع انحياز طبيعي نحو الحياة والبقاء على قيد الحياة. من وجهة نظر هذه المنظومة لا يوجد تساوي او تناظر ابدا بين الحياة والموت. اما من وجهة نظر المادة فان الموت والحياة حالتان من حالات التغير المستمر. هذا التناقض بين وجهتي النظر هاتين موجود في كل شيء حي حولنا. نعرف تماما وبيقين مطلق ان كل شيء مركب يسير نحو التفكك، وكل شيء منظم يسير نحو الفوضى، وكل شيء حي يسير نحو الموت، وكل شيء موجود يسير نحو الفناء (الا المادة، او الاله، وهما وجهان لعملة واحدة). | ||
+ | هذا يدفعنا نحو الاستنتاج المنطقي القائل بأن الموت بكل اشكاله (الفوضى، التفكك، اللاحياة، الفناء) هو الحقيقة الوحيدة في الكون. بالنسبة للمؤمن بالآلهة فان الاله بكونه وجودا لا ينعدم هو الحقيقة الوحيدة في الكون. في التوراة والانجيل والقرآن، كما في كل الاديان الالهية، هناك مقولة الاله الحي الذي لا يموت. وبهذا الشكل تتحول مقولة الموت هو الحقيقة الى مقولة الحياة هي الحقيقة الوحيدة. ابن عربي حاجج بان الاله الحي هو الوجود الوحيد، وكل ما عداه مظاهر لهذا الوجود المطلق. بالنسبة لي المقولتان تحملان نفس التناقض الذي اشرت اليه. انهما مقولتان لا تأخذان الا المنظومة بعين الاعتبار. المادة تتغير. اما المنظومة فتولد وتموت. من اجل ان تكون مقولة (الموت هو الحقيقة) ومقولة (الحياة هي الحقيقة) صحيحتان فلابد من منظومة، وبالتحديد منظومة عضوية. لايوجد موت دون وجود حياة، ولا توجد حياة دون وجود موت. الحياة هي ان توجد المنظومة العضوية وان تستمر، والموت هو ان تتوقف هذه المنظومة عن الحركة وتتفكك الى عناصرها الاولية. | ||
+ | بالنسبة للانسان، فالموضوع يتعقد اكثر. منظومة الانسان تكون حية حينما توجد وتتحرك وحين تشعر وتفكر. وتموت حين تتوقف عن الحركة والوجود كمنظومة وحين تتوقف عن التفكير والشعور. اعتقد الانسان انه اكتشف الحل لمعضلة ايهما اصح الموت هو حقيقة والحياة هي حقيقة، فاعتبرهما صحيحتان الاولى تنطبق على الجسد او المادة والحركة، والثانية تنطبق على الروح والعقل. الجسد يموت والعقل يحيا. لكن الذين لا يؤمنون بوجود الروح منعزلة عن الجسد او الروح منعزلة عن المادة، يعودون الى المعضلة القديمة، الموت هو الحقيقة الوحيدة. | ||
+ | سأتكلم فقط عن الحالة الثانية، لان الحالة الاولى الايمانية لا تهتم بالموت الا من حيث كونه ألما وخوفا مرتبطان بمرحلة انتقالية بين موت الجسد وحياة الروح. المؤمن قد يجد في الشعائر والايمان ما يخفف ألمه وخوفه. أما غير المؤمن فيجد نفسه امام معضلة لا تفضي الا الى اليأس المطلق، او هكذا يعتقدون. | ||
+ | المادة لا تولد ولا تموت، فقط تتغير من حالة الى حالة. الموت اذن، مهما كان تعريفه، فانه مرتبط بالمنظومة وليس بالمادة. الذرة تتشكل وتتفكك، الخلية تحيا وتموت، المجرات تولد وتتفكك، الكائن العضوي يولد ويموت ثم يتفكك. وكما قلت، في حالة المنظومة فانه لا موت دون حياة. ولذلك لا يمكن القول بان الموت هو الحقيقة الوحيدة. ثنائية الموت والحياة هي الحقيقة الوحيدة بالنسبة للمنظومة. منذ بداية الكون (وليس بداية المادة) المنظومات تتشكل وتتفكك. الاتجاه نحو التفكك والموت يقابله اتجاه آخر نحو التشكل والحياة. | ||
+ | لكن هذين الاتجاهين ليسا متساويين. شروط وجود المنظومة اكثر بكثير من شروط تفككها. الكون كمنظومة وليس كمادة لا يحتاج فقط الى قانون الجاذبية ليوجد، بل يحتاج الى كل القوانين الطبيعية التي نعرفها. ولو اختل واحد منها لانتهى الكون كما نعرفه. الخلية تحتاج الى كل مكوناتها لتكون خلية، وعندما تفد واحدا منها فانها تتوقف عن كونها خلية. وبالمقابل فان احتمالات تشكل المنظومة صغيرة جدا بالمقارنك مع احتمالات عدم تشكلها. من ناحية الاحتمالات، فان احتمال تشكل الخلية من تجميع الكيماويات والعناصر المعروفة يقارب الصفر. وكذلك احتمال تشكل الكون قبل الانفجار الكبير. لكن مع ذلك فان المنظومات تتشكل. لا اعرف كيف او لماذا، لكن مقابل كل موت يتكون هناك حياة. من الطبيعي ان نعترف بان كل حياة سيقابلها موت، لكن الاتجاه الاخر لا يبدو لنا منطقيا رغم وجوده. | ||
+ | نعود الى معضلة غير المؤمن. انه يحصر نفسه في الاتجاه الاول، اي كل حياة سيقابلها موت. قد يعترف بعد تبصر وبحث بان الاتجاه الاخر موجود، لكن الموت يبدو حقيقيا اكثر لانه يتحدث بالتحديد عن موته هو نفسه. انه لا يهتم بوجود حياة اخرى بعد موته، ويهتم فقط بموته بعد حياته. فكيف نعالج هذا الانحياز الواضح. | ||
+ | للاجابة على هذا السؤال لا بد من تتبع مسيرة هذا الفكر المنحاز. انا موجود اليوم، احس واشعر واتحرك وافكر وعندي جسد، وغدا عندما اموت لن احس ولن اشعر ولن اتحرك ولن افكر ولن يبقى جسدي كما هو. فما هو معنى وجودي، ولماذا اتحمل هذه الرحلة التي نسميها الحياة فالنتيجة معروفة مسبقا. الجسد سيتفكك والاحاسيس والمشاعر نالافكار ستزول نهائيا. اذا مان هناك فعلا فناء، فانه فناء الاحاسيس والمشاغر والافكار. الجسد سيتحلل الى مركبات كيماوية اخرى، لكن الروح بما هي احاسيس ومشاعر والعقل بما هو افكار سيزولان نهائيا. انتا نقف امام هذا اليقين عاجزين تماما عن ان نفهمه او نقبله او نتعايش معه. هذا يقين لا يمكن نفيه كما لا يمكن تغييره. الحياة اذن مجرد نافذة قصيرة بين لا وجود وفناء. قبل ان نولد لم نكن موجودين، وبعد ان نموت لن نكون موجودين. اين المغزى، أليس من الافضل ان نختصر هذه النافذة الى اقصر مدة ممكنة. | ||
+ | هل هذا اللامعنى المخيف مشابه لخوف المؤمن من الموت كعملية انتقال. ام ان المؤمن في منأى عن عدمية الملحد. على الاقل، المؤمن يوقن ان لحياته معنى يفرضه ويحدده الاله، بينما الملحد لا يجد اي عزاء في ان الطبيعة اخترعته من لاشيء وتقوده حتميا الى لا شيء. بالنسبة لي، المؤمن وخوفه والملحد وخوفه شيء واحد بمسمى مختلف. المؤمن ليس احسن حالا من الملحد. المؤمن يغض النظر عن الموت، اما الملحد فينظر إليه في صميمه. الفرق هو في المدة التي يجابه فيها اي منهما فكرة انه اليوم موجود وغدا مفقود. | ||
+ | بالنسبة للاثنين فان الموت مجرد فكرة وليس تجربة. لا احد بجرب الموت. على الاقل لا يوجد حي قد جرب الموت. قد نجرب موت آخرين، لكننا لا نجرب موتنا انفسنا. حتى المؤمن لا يستطيع ان يجرب الموت لان لا احد عاد من الطرف الاخر. ويبقى الموت بالنسبة للاثنين مجرد فكرة. | ||
+ | عندما احس بالسعادة او الحزن فانهما فكرة وتجربة. اما الموت فهو مجرد فكرة تدور حولها مجموعة من المشاعر والاحاسيس. لا نجربها، فقط نعرف هذه المشاعر والاحاسيس. عندما نتصور الموت فانن نتصور اما موت الاخرين او الاحساس بالالم الذي نعتقد بانه يرافق الموت. في الحقيقة الالم والخوف شعوران يرافقان العذاب اثناء الحياة، لكنهما لا يرافقان الموت. وحتى عندما يصارع المرء الموت فانه لا يحس بعداب الموت وانما بعذاب الحياة، فهو لم يمت بعد. الحقيقة اذن، اننا لا نعرف الموت، موتنا، وانما نعرف المشاعر والاحاسيس التي نربطها بفكرة الموت. | ||
+ | وان الحزن الشديد الذي ينتابنا عند التفكير بالموت لا ينبع من معرفة الموت وانما من خيالات، حيث نتخيل بأننا متنا فنستعيد كل الاحزان التي عانيناها عند موت من نحب. لكننا لا نأتي بأحاسيس جديدة خبرناها نتيجة موتنا نحن. الموت الذي نعرفه ونخاف منه هو اما ألم الحياة او حزن موت آخرين نحبهم. اننا نعتفد اننا بعد موتنا سنعاني نفس الالم والحزن الذي عانيناه اثناء حياتنا، وهذا لا يمكن التأكد منه. لا يمكن اذا التفكير بموتنا بشكل منطقي لاننا لا نملك تجربة حقيقية. اننا نتعامل مع موت الآخرين ومع مشاعرنا الخاصة فقط. المؤمن والملحد في هذا سواء. كلاهما لا يعرفان موتهما وانما ألم الحياة وموت الآخرين. | ||
+ | ولذلك لا ارى اي داعى للتعامل مع الموت كتجربة حقيقية وانما فقط كمشاعر وافكار متعلقة بموت الاخرين. المؤمن والملحد يعانيان من نفس المشاعر والافكار لكنهما يتعاملان معها بطرق مختلفة. بتقدم المؤمن على الملحد فقط في قضية المعنى. الحياة لها معنى بالنسبة للمؤمن وفاقدة للمعنى بالنسبة للملحد. | ||
+ | يمكن لكليهما طرد المشاعر والافكار المتعلقة بالموت. النسيان احسن شيء في الدنيا. يمكنك ان تصلي او ان ترقص، المؤدى هو النسيان. لكن النسيان عسير على البعض، وخاصة المكتئبين، فما يسلينا عندما نجابه الاحاسيس المرتبطة بفكرك الموت. استطيع ان اقول بكل يقين، اذا كنت لا تعرف الموت، فانك تعرف الاحاسيس والمشاعر. تعامل معها ولا تخدع نفسك بانك تتعامل مع الموت فانت لا تعرفه. الخواطر والافكار لها دواء، المشاعر والاحاسيس لها دواء. واذا وجدت صعوبة في مداواتها والتعامل معها فانت مكتئب. مشكلتك ليست بانك لا تعرف الموت، وانما مشكلتك هي انك لا تعرف كيف تحيا. الانحياز الذي تشعر به نحو فكرة الموت لا علاقة له ابدا بالموت نفسه فانت لا تعرف، هذا الانحياز هو الاكتئاب. | ||
+ | لا يمكن لاي فيلسوف او مفكر او باحث ان يعرف اي شيء عن الموت كتجربة. انتا فقط نعرف الالم والخوف والحزن المرافقان للحياة بما فيها من عذاب ومرض وفقدان للاحبة. ولذلك لا داعي لفلسفة الموت، فكر فقط كيف تتعامل مع احاسيسك ومشاعرك وحزنك وخوفك التي سببتها لك الحياة. | ||
+ | اذا استمعت الى موسيقى وفرحت، إذا تحدث الى صديق وابتسمت، اذا ركضت او قرأت شعرا او صليت او التجأت الى احبابك فانك تتعامل مع فكرة الموت. لا تترك نفسك ابدا للمنطق والتفكير، فانت تفكر في شيء لا تعرف عنه شيئا. وكلما ازداد تعلقك بمنطقك وفلسفتك عن فكرة الموت كلما ازداد اكتئابك وساءت حالتك. باعتقادي، كل الفلاسفة المبار الذين تحدثوا عن الموت كانوا مكتئبين، وكل فلسفتهم تدور حول الحياة التي يعرفونها وايس حول الموت الذي لا يعرفونه. هنا وهنا فقط يمكننا ان نعود الى الاكتئاب وكيفية التعامل معه. | ||
+ | الاكتئاب لا يأتي من التفكير بالموت وانما العكس تماما. الاكتئاب حسب فهمي له ينبع من خلل في الانحياز الطبيعي لكل كائن عضوي نحو الحياة. احتمال الحياة ضئيل واحتمالات الموت متعددة، ولذلك فان البقاء يتطلب انحيازا متواصلا للكائن العضوي نحو كل ما يشد الى الحياة ويدعم استمرارها. بعض الخوف الذي نحسه تجاه فكرة الموت منحوت في طبيعة الانسان وهو اداة من ادوات البقاء. فكيف يحدث خلل في هذا الانحياز؟ حتى يبقى الانسان على قيد الحياة فان عليه ان يتجاهل المخاطر واحتمالات الموت، هذا التجاهل هو ما نسميه التفاؤل. اذا كنت عالما في الرياضيات وحسبت احتمالات الموت فانك لن تخرج من بيتك ابدا. لكن التفاؤل يجعلك تتجاهل تلك الحقائق. الانسان المكتئب يجد صعوبة في تجاهل المخاطر. انه بطبيعته ذكي لانه يعرف حقيقة المخاطر واحتمالات الموت. | ||
+ | كل تجربة واحساس وفكرة يمر بها الانسان ترتبط بحكم قيمي يحيل الى شعور: سيء جيد، قاسي سهل، مؤلم مفرح، سعيد حزين. لا يتخذ الانسان اي قرار في حياته دون اخذ هذه القيم بعين الاعتبار. حتى المنفعة مرتبطة بالفرح وسهولة العيش. المنفعة وحدها لا تعني اي شيء، والمضرة ايضا لا تعني اي شيء بحد ذاتها. القيمة هي المعنى، والمعنى هو الذي يدفعنا محو التفاؤل او نحو التشاؤم، نحو الفعل او الاحجام. يمكن القول بان القيم، والتي هي المشاعر، هي اهم حقيقة في حياة الانسان. اذا اردت ان تداوي فكرة الموت، داويها بأصولها، اي بالمشاعر. | ||
+ | القيمة والمعنى والشعور كلها مرتبطة ببعضها بشكل وثيق. لا بل يمكن القول بانها هي نفسها بأشكال مختلفة. اذا كان هناك خلل في التقييم فانه خلل في الشعور وفي المعنى. المكتئب منحاز نحو القيمة السلبية، الشعور المؤلم، واللامعنى او اللاجدوى. قد يكون سبب هذا الانحياز عضويا وقد يكون نتيجة تجربة مؤلمة. | ||
+ | لكن لماذا ترتبط القيمة السلبية والالم واللامعنى (التشاؤم، عدم الاندفاع نحو الحياة) بالموت. لماذا يفكر المكتئب بالموت. ولماذا يحاول بعض المكتئبين الانتحار. | ||
+ | المكتئب يعرف احتمالات الموت ويراه في كل مكان. لكن هذا لا يعني بالضرورة الانتحار، اي إلغاء الذات، وموتها. المنتحر لا يريد إلغاء جسده، وإنما يريد إلغاء مشاعره وألمه واحساسه باللاجدوى. كل المشاعر والقيم السلبية مرتبطة بالالم. يمكن القول بان للسعادة اشكال، وللالم شكل واحد. للتفاؤل والحياة اشكال، وللتشاؤم والموت شكل واحد. ان احساسنا بالالم اعظم باربع مرات من احساسنا بالسعادة. ذاكرة الالم بأقوى وابقى من ذاكرة السعادة. انها ادوات البقاء. التفاؤل والالم هما ادوات البقاء. وككل المنظومات يجب ان يكون هناك توازن بين قطبي البقاء. والحقيقة هي ان العلاقة بينهما صفرية، فكلما قل التفاؤل زاد الالم. المكتئب يقع خارج منطقة التوازن الجيد بين القطبين. انه اقرب الى التشاؤم والالم منه الى التفاؤل وانعدام الالم (ليس السعادة، السعادة اكثر من مجرد انعدام الالم). | ||
+ | المكتئب يريد ايقاف الالم والانتحار مجرد وسيلة. | ||
+ | يقال ان من يقفز من جسر يشعر بالندم على فعلته حالما يترك جسده الجسر. اعتقد بان السبب هو ان السقوط يرفع نسبة الادرنالين في الجسم، وهو مركب مرتبط بالنساط والتفاؤل. اي ان المنتحر يستعيد توازنه الطبيعي المنحاز الى الحياة بسبب الادرنالين. | ||
+ | هناك سبب آخر للانتحار. انه إلغاء الذات بسبب الاحساس بالذنب. احدى اهم القيم التي يعطيها الانسان هي قيمة ذاته كشخص. وهي قيمة مفتوحة بسبب حاجتنا الى التعلم بمساعدة معلم. المعلم يعطينا تغذية راجعة بان يعلمنا ان افعالنا جيدة وقيمتها ممتازة ويجب بالتالي حفظها وتكرارها. كثير من المكتئبين يعطون قيما سلبية لافعالهم دون الحاجة الى تأنيب المعلم. اعتقد ان هذا خلل عضوي. هذا الانحياز يصبح ماكينة شيطانية عندما ينضج الانسان وتتكون شخصيته حوالي سن المراهقة (يسمونه الانسان الحساس، لانه يعتقد ان افعاله كلها سيئة وان الناس يقيمونه بشكل سيء). ولذلك فان الاكتئاب العضوي السبب يبدأ في تلك العمر. ويمكن ان يسرع الاهل هذه العملية بان يقسوا على ابنائهم ولا يعطوهم الا تغذية راجعة سلبية. عند النضج تتراكم هذه القيم السيئة حتى تتحول الى شخصية الانسان نفسه. ان يكره نفسه لانه يحس بالذنب بسبب التقييمات السلبية. هذا الكره للذات قد يتحول الى انتحار لان الانسان يعتقد بانه لا يستحق ان يوجد كشخص، انه غير مرغوب فيه | ||
+ | اما معنى الحياة بشكل عام فامره بسيط. اذا كنت مؤمنا فالاله يعطيك المعنى. واذا كنت ملحدا فلك الخيار. حتمية الموت لا تلغي المعنى. المعنى يمارسه الاحياء وليس الاموات. لكن دائما اسأل نفسك. لماذا انا منحاز الى اللامعنى. السبب الوحيد الذي ستجده ليس المنطق وان الموت هو الحقيقة الوحيدة (فلا موت دون حياة)، انه الالم وقلة التفاؤل، اي خلل في الانحياز الطبيعي نحو الحياة. انك ببساطة مكتئب ويجب ان تتعامل مع مشاعرك قبل كل شيء. اما اكتئاب عضوي او مشاكل الحياة. في الحالتين هناك دواء وادوات | ||
[[تصنيف:مواضيع سيكولوجية]] | [[تصنيف:مواضيع سيكولوجية]] |
المراجعة الحالية بتاريخ ١٩:٥٦، ١٣ فبراير ٢٠٢٥
محتويات
5 أيلول 2019، الاكتئاب
منذ زمن لم أكتب شيئاً على الفيسبوك. في الحقيقة الأسباب متعددة لكنها تتقاطع كلها في مشكلة أعاني منها منذ كنت صغيراً، وهي وراثية، وأعني الإكتئاب. ودائماً اقول لنفسي، ليش الإكتئاب مشكلة وقلة الأخلاق ما مشكلة. الحياة غير عادلة. خلينا واقعيين نحن السوريين. إذا أنا مشكلتي عضوية فإن الإكتئاب مشكلة حياتية مستمرة عند كثير من السوريين بسبب ظروفهم الصعبة. بدلاً من هاشتاغ شو قصة إسمك، ليش ما منعمل هاشتاغ الصحة النفسية ونحكي قصصنا مع المشاكل النفسية. الحياة ما رحمتنا، خلينا نرحم بعضنا البعض على الاقل. على سيرة الإسم، أبي مرة خرط علي خرطة معتبرة. قال إجاه إسمي بالمنام. الجميع في العيلة يعرف أن إسمي على إسم جدتي أم أبي الله يرحمها نظيرة التي توفيت بمرض السل عندما كان أبي في عمر سنتين، يعني من أكثر من ثمانين عاماً. وبعد موتها عانى جدي من اكتئاب مزمن.
6 أيلول 2019، الأزمات النفسية
الأزمات النفسية، حتى لا أسميها أمراض، مختلفة عن غيرها من مشاكل البشر العضوية. وذلك لأنها تدخل في منظومة الفكر والعقلنة. أي أن الأزمة النفسية دائماً مبررة ومنطقية عند المصابين بها. ولذلك فإن لها أعراضاً عضوية وأعراضاً فكرية. يمكن تشخيص الإكتئاب من أعراض عضوية-نفسية ويمكن تشخيصه من خوارزميات عقلية محددة يمارسها العقل. لذلك يعتقد الناس أن المشكلة في الرأس ودائماً يقولون للمصاب بالأزمة النفسية أن عليه أو عليها تغيير ما بالرأس. في الحقيقة. لا يمكن تغيير ما بالرأس. العملية الفكرية، أو الخوارزمية العقلية التي تؤدي إلى الإكتئاب لها أساس عضوي ومن الصعب التخلص منها. يمكن تلخيص الأزمات النفسية بأنها فيروسات عقلية تصيب الفضاء الفكري للإنسان وتسبب منطقاً معيناً يصل بالإنسان إلى أزمة في التعامل مع النفس ومع الآخرين. لذلك لا تحاول أن تساعد المصابين بالأزمة من خلال إقناعهم بأن أفكارهم غير منطقية وأنه يمكنهم بقوة الإرادة والعقل أن ينتشلوا أنفسهم من الأزمة. الأزمات النفسية تعطينا صورة أفضل عن عمل العقل الإنساني. لكن العقل الإنساني لا يستطيع التعامل معها لوحده، كما لا يستطيع الجسم وحده أن يتعامل مع كثير من الأمراض العضوية التي تسببها الجراثيم أن التي تسببها اختلالات في وظائف الأعضاء. الأزمة تحتاج إلى مختصين من الأطباء والنفسانيين. وبما أن كثير من السوريين في الداخل والخارج يعانون من أزمات نفسية بسبب العنف وفقدان الأحبة والهجرة والمشاكل المادية وتأزم العلاقات الاسرية فإنه من الضروري للسوريين أن يدعموا تطوير الخدمات النفسية كما يدعمون تطوير الخدماء الإغاثية مثلاً. ولابد أيضاً من مساعدة جهود التوعية وجهود توفير المساعدات المالية للذين يتوجهون نحو هذه الإختصاصات. العدد القليل جداً من الذين تصدوا لتوفير الخدمات النفسانية للاجئين السوريين يقومون بأعمال جبارة فعلاً. أضيفوا الثورة النفسانية إلى لائحة الثورات التي نحتاج إليها.
10 أيلول 2019، الأزمة والاكتئاب
ملاحظة اخيرة عن الاكتئاب. بعض الاصدقاء الاعزاء افترضوا اما اني حزين بسبب مشكلة او اني معتل ومريض. على الاقل هذا ما استنتجته. في الحقيقة هناك كثير من حالات الاكتئاب غير مرتبطة بازمات او مآسي. الاكتئاب بحد ذاته يوحي بالحزن لكن المسببات قد تكون عضوية بحتة. طبعا الازمات والمعاناة قد تغير العقلية والنفسية وحتى كيمياء الدماغ مسببة بذلك الاكتئاب. وكما قلت سابقا الاكتئاب له مكون عضوي ومكون عقلي وهما مرتبطان ببعضهما بشدة. في الحقيقة ما عندي اية ازمات او مشاكل ولست معتلا، طبعا عدا ازمة انه صار عمري واحد وخمسين سنة ويادوب مبارح نجحت بالكالوريا. باعتبار اني بدأت المنشور السابق بغرض نشر الوعي عما يسمى بالمشاكل النفسية فاني ارى من الضروري توضيح العلاقة بين الازمات والاكتئاب. بالطبع الحرب والهجرة وانسداد الافق ادت الى انتشار واسع للاكتئاب بين السوريين. لكن يمكن للانسان ان يصاب بالاكتئاب دون ان يتعرض لازمات. الاكتئاب بحد ذاته هو الازمة لانه يفرض طريقة تفكير محدودة وسلبية. محارلة اقناع المكتئب بان المشكلة في طريقة التفكير قد لا تجلب اية نتائج اذا كان الاكتئاب عضويا وليس نتيجة لازمة. هذا طبعا لا يعني اهمال الجانب العقلي فكما قلت الاكتئاب له مظهر عقلي ومظهر عضوي ويجب التحرك على المحورين معا لمساعدة المكتئب. وفي حالات كثيرة الشخص نفسه لا يريد الحديث عن الجانب العقلي ويكتفي بالادوية. وهناك من يكتفي بالمعالجة النفسية وهناك من يجمع الاثنين.
19 كانون الثاني 2020، تحليل الاكتئاب
رأس السنة، عيد، عطلة، احتفال، اكتئاب. منذ يوم ٣١ كانون الثاني وانا ألاحظ ان عدد البوستات على الفيسبوك التي تدل على اكتئاب في تزايد مطرد. بعضها حزين، بعضها متشائم، وبعضها فلسفي. في معمعة مصائب الشرق الاوسط، يصبح من العسير على المرء التمييز بين الهم والقلق والحزن كردة فعل على احداث الحياة، وبين الاكتئاب كأزمة نفسية تحتاج الى تدخل اكثر من مجرد التفكير العقلاني الفلسفي. منذ ان خرج من سوريا في اواخر الثمانينات تولد عندي يقين بأن كثير من السوريين يعانون من اكتئاب مزمن. واليوم، ومنذ ان تبدد حماس الثورة وحلم التغيير، ارى مرة اخرى ان الاكتئاب قد اصبح حالة مستفحلة اشبه ما تكون بالحالة الدائمة وبالتالي الطبيعية. لا استطيع ان اقدم لأحد اي مساعدة مباشرة، لكني اعتقد اني استطيع ان اشرح الاكتئاب بطريقة قد تساعد في دفع من يعاني منه الى طلب المساعدة. الانسان منظومة عضوية تسعى لتأبيد وجودها. وهي تفعل ذلك بأن تحافظ اولا على التوالد من اجل استمرار النوع، وثانيا بأن تحافظ على استمرار الفرد من خلال دفعه للتعلق بالحياة. كل المنظومات العضوية تفعل ذلك. ان المنظومة العضوية مبنية مع انحياز طبيعي نحو الحياة والبقاء على قيد الحياة. من وجهة نظر هذه المنظومة لا يوجد تساوي او تناظر ابدا بين الحياة والموت. اما من وجهة نظر المادة فان الموت والحياة حالتان من حالات التغير المستمر. هذا التناقض بين وجهتي النظر هاتين موجود في كل شيء حي حولنا. نعرف تماما وبيقين مطلق ان كل شيء مركب يسير نحو التفكك، وكل شيء منظم يسير نحو الفوضى، وكل شيء حي يسير نحو الموت، وكل شيء موجود يسير نحو الفناء (الا المادة، او الاله، وهما وجهان لعملة واحدة). هذا يدفعنا نحو الاستنتاج المنطقي القائل بأن الموت بكل اشكاله (الفوضى، التفكك، اللاحياة، الفناء) هو الحقيقة الوحيدة في الكون. بالنسبة للمؤمن بالآلهة فان الاله بكونه وجودا لا ينعدم هو الحقيقة الوحيدة في الكون. في التوراة والانجيل والقرآن، كما في كل الاديان الالهية، هناك مقولة الاله الحي الذي لا يموت. وبهذا الشكل تتحول مقولة الموت هو الحقيقة الى مقولة الحياة هي الحقيقة الوحيدة. ابن عربي حاجج بان الاله الحي هو الوجود الوحيد، وكل ما عداه مظاهر لهذا الوجود المطلق. بالنسبة لي المقولتان تحملان نفس التناقض الذي اشرت اليه. انهما مقولتان لا تأخذان الا المنظومة بعين الاعتبار. المادة تتغير. اما المنظومة فتولد وتموت. من اجل ان تكون مقولة (الموت هو الحقيقة) ومقولة (الحياة هي الحقيقة) صحيحتان فلابد من منظومة، وبالتحديد منظومة عضوية. لايوجد موت دون وجود حياة، ولا توجد حياة دون وجود موت. الحياة هي ان توجد المنظومة العضوية وان تستمر، والموت هو ان تتوقف هذه المنظومة عن الحركة وتتفكك الى عناصرها الاولية. بالنسبة للانسان، فالموضوع يتعقد اكثر. منظومة الانسان تكون حية حينما توجد وتتحرك وحين تشعر وتفكر. وتموت حين تتوقف عن الحركة والوجود كمنظومة وحين تتوقف عن التفكير والشعور. اعتقد الانسان انه اكتشف الحل لمعضلة ايهما اصح الموت هو حقيقة والحياة هي حقيقة، فاعتبرهما صحيحتان الاولى تنطبق على الجسد او المادة والحركة، والثانية تنطبق على الروح والعقل. الجسد يموت والعقل يحيا. لكن الذين لا يؤمنون بوجود الروح منعزلة عن الجسد او الروح منعزلة عن المادة، يعودون الى المعضلة القديمة، الموت هو الحقيقة الوحيدة. سأتكلم فقط عن الحالة الثانية، لان الحالة الاولى الايمانية لا تهتم بالموت الا من حيث كونه ألما وخوفا مرتبطان بمرحلة انتقالية بين موت الجسد وحياة الروح. المؤمن قد يجد في الشعائر والايمان ما يخفف ألمه وخوفه. أما غير المؤمن فيجد نفسه امام معضلة لا تفضي الا الى اليأس المطلق، او هكذا يعتقدون. المادة لا تولد ولا تموت، فقط تتغير من حالة الى حالة. الموت اذن، مهما كان تعريفه، فانه مرتبط بالمنظومة وليس بالمادة. الذرة تتشكل وتتفكك، الخلية تحيا وتموت، المجرات تولد وتتفكك، الكائن العضوي يولد ويموت ثم يتفكك. وكما قلت، في حالة المنظومة فانه لا موت دون حياة. ولذلك لا يمكن القول بان الموت هو الحقيقة الوحيدة. ثنائية الموت والحياة هي الحقيقة الوحيدة بالنسبة للمنظومة. منذ بداية الكون (وليس بداية المادة) المنظومات تتشكل وتتفكك. الاتجاه نحو التفكك والموت يقابله اتجاه آخر نحو التشكل والحياة. لكن هذين الاتجاهين ليسا متساويين. شروط وجود المنظومة اكثر بكثير من شروط تفككها. الكون كمنظومة وليس كمادة لا يحتاج فقط الى قانون الجاذبية ليوجد، بل يحتاج الى كل القوانين الطبيعية التي نعرفها. ولو اختل واحد منها لانتهى الكون كما نعرفه. الخلية تحتاج الى كل مكوناتها لتكون خلية، وعندما تفد واحدا منها فانها تتوقف عن كونها خلية. وبالمقابل فان احتمالات تشكل المنظومة صغيرة جدا بالمقارنك مع احتمالات عدم تشكلها. من ناحية الاحتمالات، فان احتمال تشكل الخلية من تجميع الكيماويات والعناصر المعروفة يقارب الصفر. وكذلك احتمال تشكل الكون قبل الانفجار الكبير. لكن مع ذلك فان المنظومات تتشكل. لا اعرف كيف او لماذا، لكن مقابل كل موت يتكون هناك حياة. من الطبيعي ان نعترف بان كل حياة سيقابلها موت، لكن الاتجاه الاخر لا يبدو لنا منطقيا رغم وجوده. نعود الى معضلة غير المؤمن. انه يحصر نفسه في الاتجاه الاول، اي كل حياة سيقابلها موت. قد يعترف بعد تبصر وبحث بان الاتجاه الاخر موجود، لكن الموت يبدو حقيقيا اكثر لانه يتحدث بالتحديد عن موته هو نفسه. انه لا يهتم بوجود حياة اخرى بعد موته، ويهتم فقط بموته بعد حياته. فكيف نعالج هذا الانحياز الواضح. للاجابة على هذا السؤال لا بد من تتبع مسيرة هذا الفكر المنحاز. انا موجود اليوم، احس واشعر واتحرك وافكر وعندي جسد، وغدا عندما اموت لن احس ولن اشعر ولن اتحرك ولن افكر ولن يبقى جسدي كما هو. فما هو معنى وجودي، ولماذا اتحمل هذه الرحلة التي نسميها الحياة فالنتيجة معروفة مسبقا. الجسد سيتفكك والاحاسيس والمشاعر نالافكار ستزول نهائيا. اذا مان هناك فعلا فناء، فانه فناء الاحاسيس والمشاغر والافكار. الجسد سيتحلل الى مركبات كيماوية اخرى، لكن الروح بما هي احاسيس ومشاعر والعقل بما هو افكار سيزولان نهائيا. انتا نقف امام هذا اليقين عاجزين تماما عن ان نفهمه او نقبله او نتعايش معه. هذا يقين لا يمكن نفيه كما لا يمكن تغييره. الحياة اذن مجرد نافذة قصيرة بين لا وجود وفناء. قبل ان نولد لم نكن موجودين، وبعد ان نموت لن نكون موجودين. اين المغزى، أليس من الافضل ان نختصر هذه النافذة الى اقصر مدة ممكنة. هل هذا اللامعنى المخيف مشابه لخوف المؤمن من الموت كعملية انتقال. ام ان المؤمن في منأى عن عدمية الملحد. على الاقل، المؤمن يوقن ان لحياته معنى يفرضه ويحدده الاله، بينما الملحد لا يجد اي عزاء في ان الطبيعة اخترعته من لاشيء وتقوده حتميا الى لا شيء. بالنسبة لي، المؤمن وخوفه والملحد وخوفه شيء واحد بمسمى مختلف. المؤمن ليس احسن حالا من الملحد. المؤمن يغض النظر عن الموت، اما الملحد فينظر إليه في صميمه. الفرق هو في المدة التي يجابه فيها اي منهما فكرة انه اليوم موجود وغدا مفقود. بالنسبة للاثنين فان الموت مجرد فكرة وليس تجربة. لا احد بجرب الموت. على الاقل لا يوجد حي قد جرب الموت. قد نجرب موت آخرين، لكننا لا نجرب موتنا انفسنا. حتى المؤمن لا يستطيع ان يجرب الموت لان لا احد عاد من الطرف الاخر. ويبقى الموت بالنسبة للاثنين مجرد فكرة. عندما احس بالسعادة او الحزن فانهما فكرة وتجربة. اما الموت فهو مجرد فكرة تدور حولها مجموعة من المشاعر والاحاسيس. لا نجربها، فقط نعرف هذه المشاعر والاحاسيس. عندما نتصور الموت فانن نتصور اما موت الاخرين او الاحساس بالالم الذي نعتقد بانه يرافق الموت. في الحقيقة الالم والخوف شعوران يرافقان العذاب اثناء الحياة، لكنهما لا يرافقان الموت. وحتى عندما يصارع المرء الموت فانه لا يحس بعداب الموت وانما بعذاب الحياة، فهو لم يمت بعد. الحقيقة اذن، اننا لا نعرف الموت، موتنا، وانما نعرف المشاعر والاحاسيس التي نربطها بفكرة الموت. وان الحزن الشديد الذي ينتابنا عند التفكير بالموت لا ينبع من معرفة الموت وانما من خيالات، حيث نتخيل بأننا متنا فنستعيد كل الاحزان التي عانيناها عند موت من نحب. لكننا لا نأتي بأحاسيس جديدة خبرناها نتيجة موتنا نحن. الموت الذي نعرفه ونخاف منه هو اما ألم الحياة او حزن موت آخرين نحبهم. اننا نعتفد اننا بعد موتنا سنعاني نفس الالم والحزن الذي عانيناه اثناء حياتنا، وهذا لا يمكن التأكد منه. لا يمكن اذا التفكير بموتنا بشكل منطقي لاننا لا نملك تجربة حقيقية. اننا نتعامل مع موت الآخرين ومع مشاعرنا الخاصة فقط. المؤمن والملحد في هذا سواء. كلاهما لا يعرفان موتهما وانما ألم الحياة وموت الآخرين. ولذلك لا ارى اي داعى للتعامل مع الموت كتجربة حقيقية وانما فقط كمشاعر وافكار متعلقة بموت الاخرين. المؤمن والملحد يعانيان من نفس المشاعر والافكار لكنهما يتعاملان معها بطرق مختلفة. بتقدم المؤمن على الملحد فقط في قضية المعنى. الحياة لها معنى بالنسبة للمؤمن وفاقدة للمعنى بالنسبة للملحد. يمكن لكليهما طرد المشاعر والافكار المتعلقة بالموت. النسيان احسن شيء في الدنيا. يمكنك ان تصلي او ان ترقص، المؤدى هو النسيان. لكن النسيان عسير على البعض، وخاصة المكتئبين، فما يسلينا عندما نجابه الاحاسيس المرتبطة بفكرك الموت. استطيع ان اقول بكل يقين، اذا كنت لا تعرف الموت، فانك تعرف الاحاسيس والمشاعر. تعامل معها ولا تخدع نفسك بانك تتعامل مع الموت فانت لا تعرفه. الخواطر والافكار لها دواء، المشاعر والاحاسيس لها دواء. واذا وجدت صعوبة في مداواتها والتعامل معها فانت مكتئب. مشكلتك ليست بانك لا تعرف الموت، وانما مشكلتك هي انك لا تعرف كيف تحيا. الانحياز الذي تشعر به نحو فكرة الموت لا علاقة له ابدا بالموت نفسه فانت لا تعرف، هذا الانحياز هو الاكتئاب. لا يمكن لاي فيلسوف او مفكر او باحث ان يعرف اي شيء عن الموت كتجربة. انتا فقط نعرف الالم والخوف والحزن المرافقان للحياة بما فيها من عذاب ومرض وفقدان للاحبة. ولذلك لا داعي لفلسفة الموت، فكر فقط كيف تتعامل مع احاسيسك ومشاعرك وحزنك وخوفك التي سببتها لك الحياة. اذا استمعت الى موسيقى وفرحت، إذا تحدث الى صديق وابتسمت، اذا ركضت او قرأت شعرا او صليت او التجأت الى احبابك فانك تتعامل مع فكرة الموت. لا تترك نفسك ابدا للمنطق والتفكير، فانت تفكر في شيء لا تعرف عنه شيئا. وكلما ازداد تعلقك بمنطقك وفلسفتك عن فكرة الموت كلما ازداد اكتئابك وساءت حالتك. باعتقادي، كل الفلاسفة المبار الذين تحدثوا عن الموت كانوا مكتئبين، وكل فلسفتهم تدور حول الحياة التي يعرفونها وايس حول الموت الذي لا يعرفونه. هنا وهنا فقط يمكننا ان نعود الى الاكتئاب وكيفية التعامل معه. الاكتئاب لا يأتي من التفكير بالموت وانما العكس تماما. الاكتئاب حسب فهمي له ينبع من خلل في الانحياز الطبيعي لكل كائن عضوي نحو الحياة. احتمال الحياة ضئيل واحتمالات الموت متعددة، ولذلك فان البقاء يتطلب انحيازا متواصلا للكائن العضوي نحو كل ما يشد الى الحياة ويدعم استمرارها. بعض الخوف الذي نحسه تجاه فكرة الموت منحوت في طبيعة الانسان وهو اداة من ادوات البقاء. فكيف يحدث خلل في هذا الانحياز؟ حتى يبقى الانسان على قيد الحياة فان عليه ان يتجاهل المخاطر واحتمالات الموت، هذا التجاهل هو ما نسميه التفاؤل. اذا كنت عالما في الرياضيات وحسبت احتمالات الموت فانك لن تخرج من بيتك ابدا. لكن التفاؤل يجعلك تتجاهل تلك الحقائق. الانسان المكتئب يجد صعوبة في تجاهل المخاطر. انه بطبيعته ذكي لانه يعرف حقيقة المخاطر واحتمالات الموت. كل تجربة واحساس وفكرة يمر بها الانسان ترتبط بحكم قيمي يحيل الى شعور: سيء جيد، قاسي سهل، مؤلم مفرح، سعيد حزين. لا يتخذ الانسان اي قرار في حياته دون اخذ هذه القيم بعين الاعتبار. حتى المنفعة مرتبطة بالفرح وسهولة العيش. المنفعة وحدها لا تعني اي شيء، والمضرة ايضا لا تعني اي شيء بحد ذاتها. القيمة هي المعنى، والمعنى هو الذي يدفعنا محو التفاؤل او نحو التشاؤم، نحو الفعل او الاحجام. يمكن القول بان القيم، والتي هي المشاعر، هي اهم حقيقة في حياة الانسان. اذا اردت ان تداوي فكرة الموت، داويها بأصولها، اي بالمشاعر. القيمة والمعنى والشعور كلها مرتبطة ببعضها بشكل وثيق. لا بل يمكن القول بانها هي نفسها بأشكال مختلفة. اذا كان هناك خلل في التقييم فانه خلل في الشعور وفي المعنى. المكتئب منحاز نحو القيمة السلبية، الشعور المؤلم، واللامعنى او اللاجدوى. قد يكون سبب هذا الانحياز عضويا وقد يكون نتيجة تجربة مؤلمة. لكن لماذا ترتبط القيمة السلبية والالم واللامعنى (التشاؤم، عدم الاندفاع نحو الحياة) بالموت. لماذا يفكر المكتئب بالموت. ولماذا يحاول بعض المكتئبين الانتحار. المكتئب يعرف احتمالات الموت ويراه في كل مكان. لكن هذا لا يعني بالضرورة الانتحار، اي إلغاء الذات، وموتها. المنتحر لا يريد إلغاء جسده، وإنما يريد إلغاء مشاعره وألمه واحساسه باللاجدوى. كل المشاعر والقيم السلبية مرتبطة بالالم. يمكن القول بان للسعادة اشكال، وللالم شكل واحد. للتفاؤل والحياة اشكال، وللتشاؤم والموت شكل واحد. ان احساسنا بالالم اعظم باربع مرات من احساسنا بالسعادة. ذاكرة الالم بأقوى وابقى من ذاكرة السعادة. انها ادوات البقاء. التفاؤل والالم هما ادوات البقاء. وككل المنظومات يجب ان يكون هناك توازن بين قطبي البقاء. والحقيقة هي ان العلاقة بينهما صفرية، فكلما قل التفاؤل زاد الالم. المكتئب يقع خارج منطقة التوازن الجيد بين القطبين. انه اقرب الى التشاؤم والالم منه الى التفاؤل وانعدام الالم (ليس السعادة، السعادة اكثر من مجرد انعدام الالم). المكتئب يريد ايقاف الالم والانتحار مجرد وسيلة. يقال ان من يقفز من جسر يشعر بالندم على فعلته حالما يترك جسده الجسر. اعتقد بان السبب هو ان السقوط يرفع نسبة الادرنالين في الجسم، وهو مركب مرتبط بالنساط والتفاؤل. اي ان المنتحر يستعيد توازنه الطبيعي المنحاز الى الحياة بسبب الادرنالين. هناك سبب آخر للانتحار. انه إلغاء الذات بسبب الاحساس بالذنب. احدى اهم القيم التي يعطيها الانسان هي قيمة ذاته كشخص. وهي قيمة مفتوحة بسبب حاجتنا الى التعلم بمساعدة معلم. المعلم يعطينا تغذية راجعة بان يعلمنا ان افعالنا جيدة وقيمتها ممتازة ويجب بالتالي حفظها وتكرارها. كثير من المكتئبين يعطون قيما سلبية لافعالهم دون الحاجة الى تأنيب المعلم. اعتقد ان هذا خلل عضوي. هذا الانحياز يصبح ماكينة شيطانية عندما ينضج الانسان وتتكون شخصيته حوالي سن المراهقة (يسمونه الانسان الحساس، لانه يعتقد ان افعاله كلها سيئة وان الناس يقيمونه بشكل سيء). ولذلك فان الاكتئاب العضوي السبب يبدأ في تلك العمر. ويمكن ان يسرع الاهل هذه العملية بان يقسوا على ابنائهم ولا يعطوهم الا تغذية راجعة سلبية. عند النضج تتراكم هذه القيم السيئة حتى تتحول الى شخصية الانسان نفسه. ان يكره نفسه لانه يحس بالذنب بسبب التقييمات السلبية. هذا الكره للذات قد يتحول الى انتحار لان الانسان يعتقد بانه لا يستحق ان يوجد كشخص، انه غير مرغوب فيه اما معنى الحياة بشكل عام فامره بسيط. اذا كنت مؤمنا فالاله يعطيك المعنى. واذا كنت ملحدا فلك الخيار. حتمية الموت لا تلغي المعنى. المعنى يمارسه الاحياء وليس الاموات. لكن دائما اسأل نفسك. لماذا انا منحاز الى اللامعنى. السبب الوحيد الذي ستجده ليس المنطق وان الموت هو الحقيقة الوحيدة (فلا موت دون حياة)، انه الالم وقلة التفاؤل، اي خلل في الانحياز الطبيعي نحو الحياة. انك ببساطة مكتئب ويجب ان تتعامل مع مشاعرك قبل كل شيء. اما اكتئاب عضوي او مشاكل الحياة. في الحالتين هناك دواء وادوات