«بين الاختلاف والتعارف في الإسلام»: الفرق بين المراجعتين
Alimohdasaad (نقاش | مساهمات) (←المبحث الثاني: التعارف الإنساني في ضوء المساواة الإنسانية والاختلاف) |
Alimohdasaad (نقاش | مساهمات) (←5- التعاون على الخير:) |
||
(٤٠ مراجعة متوسطة بواسطة نفس المستخدم غير معروضة) | |||
سطر ٩: | سطر ٩: | ||
السنة الدراسية: 2022/2023م | السنة الدراسية: 2022/2023م | ||
− | =ملخص البحث= | + | =<big>ملخص البحث</big>= |
− | <big>يروم البحث توضيح حقيقة الاختلاف في الشريعة الإسلامية وعلاقته بالتعارف؛ حيث يعتبر الاختلاف سنة الله في الخلق وهو مظهر من مظاهر الرحمة في الإسلام له مقاصده في تحقيق التعاون والتعايش والتعارف بين الناس؛ فالله تعالى خلق الخلق من أصل واحد ولكن خلقهم مختلفين في الجنس واللون واللغة والمكان...فكانوا شعوبا وقبائل متنوعة لا يربطهم إلا رابط الإنسانية الواحدة، هذا الرابط الذي يوحي بالتناغم والتكامل لا التناحر والتفرق؛ فما هي حدود هذا الاختلاف وكيفية تجاوزه واحتوائه حتى يصبح أداة للتعارف والتقارب، وما هي آليات التقارب المشروعة لتحقيق مقاصد الله تعالى في الخلق والنهوض بأمانة الاستخلاف؟ هذا ما حاولت معالجته في هذا البحث وذلك بالوقوف على إشكالية الاختلاف والدعوة إلى ضبطه بضوابط الرحمة والتعاون والتعارف بدل التقاتل والتناحر، فنقف من خلال هذه المناقشة على حقيقة الدعوة للتراحم في الإسلام وحدود الاتحاد والوحدة والتآلف إسهاما في تغيير الواقع المعيش وإصلاح الفكر المتطرف الذي يؤدي إلى التكفير والإقصاء بدل التعاون والبناء، وهذا ما يبيّن أهمية الموضوع لأنه يعالج موضوع الاختلاف في الإسلام من زاوية مقاصدية بربطه بمقصد التعارف المبني على المحبة والسلم والود والرحمة والتعاون لا على التناحر والتقاتل؛ فالتنوع في الإسلام مطلوب لكن دون تصادم كما إن الاتحاد مطلوب لكن دون إقصاء، وهذا ما غاب عن ثقافتنا التعاملية في الوقت الحاضر فمراعاة اختلافنا مع غيرنا أمر مطلوب وإرادة التعاون في ظل الاختلاف أمر مطلوب كذلك وهذا أهم ما خرجت به من هذا البحث.</big> | + | <big><big>يروم البحث توضيح حقيقة الاختلاف في الشريعة الإسلامية وعلاقته بالتعارف؛ حيث يعتبر الاختلاف سنة الله في الخلق وهو مظهر من مظاهر الرحمة في الإسلام له مقاصده في تحقيق التعاون والتعايش والتعارف بين الناس؛ فالله تعالى خلق الخلق من أصل واحد ولكن خلقهم مختلفين في الجنس واللون واللغة والمكان...فكانوا شعوبا وقبائل متنوعة لا يربطهم إلا رابط الإنسانية الواحدة، هذا الرابط الذي يوحي بالتناغم والتكامل لا التناحر والتفرق؛ فما هي حدود هذا الاختلاف وكيفية تجاوزه واحتوائه حتى يصبح أداة للتعارف والتقارب، وما هي آليات التقارب المشروعة لتحقيق مقاصد الله تعالى في الخلق والنهوض بأمانة الاستخلاف؟ هذا ما حاولت معالجته في هذا البحث وذلك بالوقوف على إشكالية الاختلاف والدعوة إلى ضبطه بضوابط الرحمة والتعاون والتعارف بدل التقاتل والتناحر، فنقف من خلال هذه المناقشة على حقيقة الدعوة للتراحم في الإسلام وحدود الاتحاد والوحدة والتآلف إسهاما في تغيير الواقع المعيش وإصلاح الفكر المتطرف الذي يؤدي إلى التكفير والإقصاء بدل التعاون والبناء، وهذا ما يبيّن أهمية الموضوع لأنه يعالج موضوع الاختلاف في الإسلام من زاوية مقاصدية بربطه بمقصد التعارف المبني على المحبة والسلم والود والرحمة والتعاون لا على التناحر والتقاتل؛ فالتنوع في الإسلام مطلوب لكن دون تصادم كما إن الاتحاد مطلوب لكن دون إقصاء، وهذا ما غاب عن ثقافتنا التعاملية في الوقت الحاضر فمراعاة اختلافنا مع غيرنا أمر مطلوب وإرادة التعاون في ظل الاختلاف أمر مطلوب كذلك وهذا أهم ما خرجت به من هذا البحث.</big> |
− | |||
− | =مقدمــــــــة= | + | <big>الكلمات المفتاحية: الاختلاف؛ التفرق؛ التعارف؛ الرحمة؛ التعاون؛ الاتحاد.</big> |
− | <big>الحمد لله الذي خلق الناس مختلفين متنوّعين ودعاهم إلى الاتفاق والاجتماع متعارفين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة لهم بدعوة الإسلام وعلى آله وصحبه الطيّبين الطاهرين وبعد: | + | </big> |
+ | |||
+ | =<big>مقدمــــــــة</big>= | ||
+ | <big><big>الحمد لله الذي خلق الناس مختلفين متنوّعين ودعاهم إلى الاتفاق والاجتماع متعارفين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة لهم بدعوة الإسلام وعلى آله وصحبه الطيّبين الطاهرين وبعد: | ||
يعتبر الاختلاف سنة الله في الخلق وهو مظهر من مظاهر الرحمة في الإسلام له مقاصده في تحقيق التعاون والتعايش والتعارف؛ فالله تعالى خلق الخلق من أصل واحد ولكن خلقهم مختلفين متنوعين قاصدا إلى التعاون والتعارف لا التفرق والتناحر؛ فمقصد الاختلاف في الإسلام هو التعارف المبني على المحبة والسلم والود والرحمة والتعاون على البناء والتعمير وتحقيق المصالح لا على التناحر والتقاتل وجلب المفاسد، فالإنسانية في إطار الأصل الواحد لها قواسم مشتركة ترسم طريق التعامل الإنساني المبني على المحبة والرفق واحترام الآخر وضبط التعامل معه في إطار المشترك الإنساني الذي يحمل البشر على احترام الإنسانية في أرواحها وأفكارها وديانتها وأموالها وأعراضها... لا أن يقضي عليها بالاعتداء والقتل وفرض القول الواحد والنوع الواحد والثقافة الواحدة... فالتنوع في الإسلام مطلوب لكن دون تفرق كما إن الاتحاد مطلوب لكن دون إقصاء، وهذا ما نراه غائبا عن ثقافتنا التعاملية المعاصرة، فمراعاة اختلاف الناس أمر مطلوب وإرادة التعاون في ظل الاختلاف أمر مطلوب كذلك؛ لذلك أردت من خلال هذه الورقة معالجة إشكالية الاختلاف والدعوة إلى ضبطه بضوابط الرحمة والتعاون والتعارف بدل التقاتل والتناحر. | يعتبر الاختلاف سنة الله في الخلق وهو مظهر من مظاهر الرحمة في الإسلام له مقاصده في تحقيق التعاون والتعايش والتعارف؛ فالله تعالى خلق الخلق من أصل واحد ولكن خلقهم مختلفين متنوعين قاصدا إلى التعاون والتعارف لا التفرق والتناحر؛ فمقصد الاختلاف في الإسلام هو التعارف المبني على المحبة والسلم والود والرحمة والتعاون على البناء والتعمير وتحقيق المصالح لا على التناحر والتقاتل وجلب المفاسد، فالإنسانية في إطار الأصل الواحد لها قواسم مشتركة ترسم طريق التعامل الإنساني المبني على المحبة والرفق واحترام الآخر وضبط التعامل معه في إطار المشترك الإنساني الذي يحمل البشر على احترام الإنسانية في أرواحها وأفكارها وديانتها وأموالها وأعراضها... لا أن يقضي عليها بالاعتداء والقتل وفرض القول الواحد والنوع الواحد والثقافة الواحدة... فالتنوع في الإسلام مطلوب لكن دون تفرق كما إن الاتحاد مطلوب لكن دون إقصاء، وهذا ما نراه غائبا عن ثقافتنا التعاملية المعاصرة، فمراعاة اختلاف الناس أمر مطلوب وإرادة التعاون في ظل الاختلاف أمر مطلوب كذلك؛ لذلك أردت من خلال هذه الورقة معالجة إشكالية الاختلاف والدعوة إلى ضبطه بضوابط الرحمة والتعاون والتعارف بدل التقاتل والتناحر. | ||
سطر ٢٢: | سطر ٢٤: | ||
وارتأيت لعرض الموضوع توظيف المنهج الاستقرائي التحليلي؛ حيث تبرز ضرورة إعمال الأول في جمع المادة العلمية من مظانها واستقراء جزئياتها وأقوال العلماء الخاصة بتعريف الاختلاف وبيان حقيقته وأنواعه، كما يبدو في تحديد معالم التّعارف وأسسه التي يقوم عليها وعلاقته بالاختلاف وتحقيق الأصلح، أما المنهج التحليلي فهو أداة لتوضيح حدود مشروعية الاختلاف واستنتاج ضوابطه، وربط تلك الضوابط بمقصد التعارف والتعاون في الإسلام، أما خطة البحث فقسّمتها إلى مبحثين الأول بعنوان: حقيقة الاختلاف بالتعرض إلى تعريفه وأنواعه وحكمه والثاني بعنوان: التعارف الإنساني في ضوء الاختلاف.</big> | وارتأيت لعرض الموضوع توظيف المنهج الاستقرائي التحليلي؛ حيث تبرز ضرورة إعمال الأول في جمع المادة العلمية من مظانها واستقراء جزئياتها وأقوال العلماء الخاصة بتعريف الاختلاف وبيان حقيقته وأنواعه، كما يبدو في تحديد معالم التّعارف وأسسه التي يقوم عليها وعلاقته بالاختلاف وتحقيق الأصلح، أما المنهج التحليلي فهو أداة لتوضيح حدود مشروعية الاختلاف واستنتاج ضوابطه، وربط تلك الضوابط بمقصد التعارف والتعاون في الإسلام، أما خطة البحث فقسّمتها إلى مبحثين الأول بعنوان: حقيقة الاختلاف بالتعرض إلى تعريفه وأنواعه وحكمه والثاني بعنوان: التعارف الإنساني في ضوء الاختلاف.</big> | ||
+ | </big> | ||
− | =<big>المبحث الأول: حقيقة الاختلاف</big>= | + | =<big><big>المبحث الأول: حقيقة الاختلاف</big></big>= |
− | <big>قبل التّفصيل في الموضوع لابد من الإحاطة بفقه الاختلاف من حيث تعريفه ثم معرفة أنواعه وحكم كل نوع كالآتي:</big> | + | <big><big>قبل التّفصيل في الموضوع لابد من الإحاطة بفقه الاختلاف من حيث تعريفه ثم معرفة أنواعه وحكم كل نوع كالآتي:</big></big> |
− | ==<big>المطلب الأول: تعريف الاختلاف</big>== | + | ==<big><big>المطلب الأول: تعريف الاختلاف</big></big>== |
− | <big>نعرّفه في اللغة والاصطلاح كالآتي: | + | <big><big>نعرّفه في اللغة والاصطلاح كالآتي: |
أولا- الاختلاف في اللغة: الاختلاف في اللغة مأخوذ من مادة "خلف" وتعني التّغير وأن يجيء شيء بعد شيء يقوم مقامه يقال: اختلف الناس في كذا والناس مختلفون لأن كل واحد منهم ينحي قول صاحبه ويقيم نفسه مقام الذي نحاه<ref>أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، ج2، ط3، مكتبة الخانجي، 1402هـ=1981م، مادة "خلف"، مصر، ص213، وأبو البقاء الكفوي، الكليات، تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري، ط2،مؤسسة الرسالة، 1419هـ= 1998م، بيروت، ص61-62.</ref>، والاختلاف أعم من الضد لأن كل ضدين مختلفين وليس كل مختلفين ضدين؛ فمثلاً: السواد والبياض ضدان ومختلفان أما الحمرة والخضرة فمختلفان وليسا ضدين<ref>الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دط، دار المعرفة، دت، بيروت، ص156</ref>؛ ومنه فالاختلاف في اللغة يدل على مطلق التغير سواء في الذوات أو المواد أو الأقوال. | أولا- الاختلاف في اللغة: الاختلاف في اللغة مأخوذ من مادة "خلف" وتعني التّغير وأن يجيء شيء بعد شيء يقوم مقامه يقال: اختلف الناس في كذا والناس مختلفون لأن كل واحد منهم ينحي قول صاحبه ويقيم نفسه مقام الذي نحاه<ref>أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، ج2، ط3، مكتبة الخانجي، 1402هـ=1981م، مادة "خلف"، مصر، ص213، وأبو البقاء الكفوي، الكليات، تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري، ط2،مؤسسة الرسالة، 1419هـ= 1998م، بيروت، ص61-62.</ref>، والاختلاف أعم من الضد لأن كل ضدين مختلفين وليس كل مختلفين ضدين؛ فمثلاً: السواد والبياض ضدان ومختلفان أما الحمرة والخضرة فمختلفان وليسا ضدين<ref>الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دط، دار المعرفة، دت، بيروت، ص156</ref>؛ ومنه فالاختلاف في اللغة يدل على مطلق التغير سواء في الذوات أو المواد أو الأقوال. | ||
سطر ٣٥: | سطر ٣٨: | ||
# الاختلاف ما يستند إلى دليل والخلاف ما لا يستند إلى دليل. | # الاختلاف ما يستند إلى دليل والخلاف ما لا يستند إلى دليل. | ||
# الاختلاف من آثار الرحمة و(المراد فيه الاجتهاد لاختلاف الناس في الهمم) والخلاف من آثار البدعة. | # الاختلاف من آثار الرحمة و(المراد فيه الاجتهاد لاختلاف الناس في الهمم) والخلاف من آثار البدعة. | ||
− | # | + | # الاختلاف ما وقع في محل يجوز فيه الاجتهاد والخلاف ما وقع في محل لا يجوز فيه الاجتهاد. |
− | # الاختلاف قد يوحي بشيء من التكامل والتناغم كما في قوله تعالى:{{قرآن نبذة|فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا}}[فاطر:27] أما الخلاف فإنه لا يوحي بذلك. | + | # الاختلاف قد يوحي بشيء من التكامل والتناغم كما في قوله تعالى:<big>{{قرآن نبذة|فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا}}</big>[فاطر:27] أما الخلاف فإنه لا يوحي بذلك. |
− | أما مادة الاختلاف فقد وردت في القرآن الكريم كثيرا منها قوله تعالى:{{قرآن نبذة|فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِم}}[مريم: 37]، وقوله:{{قرآن نبذة|يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}}[البقرة: 113]، وقال تعالى: {{قرآن نبذة|وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}}[لبقرة:213]، وقال تعالى: {{قرآن نبذة|وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ}}[الشورى:10]، وكذلك مادة الخلاف قال تعالى:{{قرآن نبذة|وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}}[هود:88]، وقال تعالى:{{قرآن نبذة|فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْر}}[النور:63]، وجاء بصيغة المصدر قال تعالى:{{قرآن نبذة|لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً}}[الإسراء: 76 ]، وقال تعالى: {{قرآن نبذة|وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاف}}[المائدة:33] وكلها تعني في القرآن الكريم المعارضة وعدم المماثلة.</big> | + | أما مادة الاختلاف فقد وردت في القرآن الكريم كثيرا منها قوله تعالى:<big>{{قرآن نبذة|فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِم}}</big>[مريم: 37]، وقوله:<big>{{قرآن نبذة|يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}}</big>[البقرة: 113]، وقال تعالى: <big>{{قرآن نبذة|وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}}</big>[لبقرة:213]، وقال تعالى: <big>{{قرآن نبذة|وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ}}</big>[الشورى:10]، وكذلك مادة الخلاف قال تعالى:<big>{{قرآن نبذة|وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}}</big>[هود:88]، وقال تعالى:<big>{{قرآن نبذة|فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْر}}</big>[النور:63]، وجاء بصيغة المصدر قال تعالى:<big>{{قرآن نبذة|لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً}}</big>[الإسراء: 76 ]، وقال تعالى: <big>{{قرآن نبذة|وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاف}}</big>[المائدة:33] وكلها تعني في القرآن الكريم المعارضة وعدم المماثلة.</big></big> |
− | ==<big>المطلب الثاني: أنواع الاختلاف وحكمه</big>== | + | ==<big><big>المطلب الثاني: أنواع الاختلاف وحكمه</big></big>== |
− | <big>إذا جئنا نتحدث عن حكم الاختلاف فهو موضوع متشعّب يصعب ضبط الكلام فيه لأنّ الشائع في كلام العلماء ارتباطه أساسا بالاختلاف الفقهي في الإسلام بينما يهمل الكلام عن الخلاف الفطري الإنساني الذي ظهرت آثاره بين الإنسانية بعد تقارب المسافات وزوال الحواجز في ضوء التكنولوجيا، ولذلك يختلف حكم الاختلاف حسب نوعه فهناك نوعين من الاختلاف الاختلاف الإنساني والاختلاف في المذاهب والأفكار ونبدأ بالأول:</big> | + | <big><big>إذا جئنا نتحدث عن حكم الاختلاف فهو موضوع متشعّب يصعب ضبط الكلام فيه لأنّ الشائع في كلام العلماء ارتباطه أساسا بالاختلاف الفقهي في الإسلام بينما يهمل الكلام عن الخلاف الفطري الإنساني الذي ظهرت آثاره بين الإنسانية بعد تقارب المسافات وزوال الحواجز في ضوء التكنولوجيا، ولذلك يختلف حكم الاختلاف حسب نوعه فهناك نوعين من الاختلاف الاختلاف الإنساني والاختلاف في المذاهب والأفكار ونبدأ بالأول:</big></big> |
− | ===<big>أولا- الاختلاف الكوني الإنساني:</big>=== | + | ===<big><big>أولا- الاختلاف الكوني الإنساني:</big></big>=== |
− | <big>هذا الاختلاف يتعلّق بأصل الإنسانية فهو من أصل الخلقة والتكوين، فالاختلاف الكوني هو سنة من سنن الله تعالى في الكون وآية من آياته وهو القانون الحاكم لوجود الموجودات من الجماد إلى النبات إلى الحيوان إلى الإنسان وحتى عالم الأفكار...<ref>محمد عمارة، العطاء الحضاري للإسلام، ط1، مكتبة الشروق، 1425هـ=2004م، القاهرة، ص (80)، وتوفيق بن عبد العزيز السديري، الاختلاف طريق التعارف، مقال على موقع السكينة www.assakina.net يوم:12-08-2017م.</ref> فالنّاظر في الواقع يجد الاختلاف بين البشر موجود لا محالة وهو فطرة وأن محاولة هدمه ضرب من الخيال، ولكن هذا الاختلاف يحكمه إطار واحد هو الأصل؛ فالإنسانية التي خلقها الله تعالى من نفس واحدة تتنوع إلى شعوب وقبائل وأمم وأجناس وألوان، وكذلك إلى شرائع وإلى مناهج في إطار المشترك الإنساني الواحد قال تعالى:{{قرآن نبذة|يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}}[النساء:01]، {{قرآن نبذة|وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}}[الروم:22]، {{قرآن نبذة|وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}}[ هود:118-119]، وقوله:{{قرآن نبذة|يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}}[الحجرات:13]. | + | <big><big>هذا الاختلاف يتعلّق بأصل الإنسانية فهو من أصل الخلقة والتكوين، فالاختلاف الكوني هو سنة من سنن الله تعالى في الكون وآية من آياته وهو القانون الحاكم لوجود الموجودات من الجماد إلى النبات إلى الحيوان إلى الإنسان وحتى عالم الأفكار...<ref>محمد عمارة، العطاء الحضاري للإسلام، ط1، مكتبة الشروق، 1425هـ=2004م، القاهرة، ص (80)، وتوفيق بن عبد العزيز السديري، الاختلاف طريق التعارف، مقال على موقع السكينة www.assakina.net يوم:12-08-2017م.</ref> فالنّاظر في الواقع يجد الاختلاف بين البشر موجود لا محالة وهو فطرة وأن محاولة هدمه ضرب من الخيال، ولكن هذا الاختلاف يحكمه إطار واحد هو الأصل؛ فالإنسانية التي خلقها الله تعالى من نفس واحدة تتنوع إلى شعوب وقبائل وأمم وأجناس وألوان، وكذلك إلى شرائع وإلى مناهج في إطار المشترك الإنساني الواحد قال تعالى:<big>{{قرآن نبذة|يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}}</big>[النساء:01]، <big>{{قرآن نبذة|وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}}</big>[الروم:22]، <big>{{قرآن نبذة|وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}}</big>[ هود:118-119]، وقوله:<big>{{قرآن نبذة|يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}}</big>[الحجرات:13]. |
− | وهكذا تشير الآيات إلى أن الاختلاف بين البشر سنة كونية وإنّ الأصل الواحد لا يمنع من التنوع فالاختلاف في إطار تلك الوحدة يعتبر تنوعا وتعددا، فالله تعالى خلق الناس أمة واحدة ومن أصل واحد ولكن مختلفين متنوعين في إطار تلك الوحدة الجامعة ولذلك قال: {{قرآن نبذة|وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}} [هود:119] قال الطبري -رحمه الله-: "وأولى الأقوال في تأويل ذلك قول من قال معنى ذلك ولا يزال الناس مختلفين في أديانهم وأهوائهم على أديان وملل وأهواء شتى إلا من رحم ربك"<ref>محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: محمود محمد شاكر،ج15، دط، مكتبة ابن تيمية، دت، القاهرة، ص534.</ref> وقال الرازي: "والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال"<ref>فخر الدين أبو بكر الرازي، التفسير الكبير، ج18، ط1، دار الفكر، 1501=1985م، بيروت، ص77.</ref>، ومعنى قوله تعالى: {{قرآن نبذة|وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}} أن الله تعالى جعل بني آدم مختلفين بعد أن كانوا أمّة واحدة أي على فطرة واحدة فركّب الله تعالى في الإنسان فطرة تجمعهم ثم خلق عقلا وجعله واردا على الفطرة، فشاءت حكمته تعالى أن يجعل من العقول نظاما واردا على الفطرة "فيطوّح بها في مسلك الضلالة أو يرفعها إلى مسلك الهدى"<ref>محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير،ج12، دط، دد، دت، ص187-188.</ref> وهو قول ابن عاشور، فباستقامة التفكير وضلالته يستقيم الإنسان أو يشقى ولكن جعل الله منها من يقبل الحق بحسب الفطرة، ثم إذا حجبت الفطرة أرسل الله الرسل والمصلحين للإرشاد والنصح وهذا معنى قوله تعالى:{{قرآن نبذة|كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}}[البقرة:213]. | + | وهكذا تشير الآيات إلى أن الاختلاف بين البشر سنة كونية وإنّ الأصل الواحد لا يمنع من التنوع فالاختلاف في إطار تلك الوحدة يعتبر تنوعا وتعددا، فالله تعالى خلق الناس أمة واحدة ومن أصل واحد ولكن مختلفين متنوعين في إطار تلك الوحدة الجامعة ولذلك قال: <big>{{قرآن نبذة|وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}}</big> [هود:119] قال الطبري -رحمه الله-: "وأولى الأقوال في تأويل ذلك قول من قال معنى ذلك ولا يزال الناس مختلفين في أديانهم وأهوائهم على أديان وملل وأهواء شتى إلا من رحم ربك"<ref>محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: محمود محمد شاكر،ج15، دط، مكتبة ابن تيمية، دت، القاهرة، ص534.</ref> وقال الرازي: "والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال"<ref>فخر الدين أبو بكر الرازي، التفسير الكبير، ج18، ط1، دار الفكر، 1501=1985م، بيروت، ص77.</ref>، ومعنى قوله تعالى: <big>{{قرآن نبذة|وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}}</big> أن الله تعالى جعل بني آدم مختلفين بعد أن كانوا أمّة واحدة أي على فطرة واحدة فركّب الله تعالى في الإنسان فطرة تجمعهم ثم خلق عقلا وجعله واردا على الفطرة، فشاءت حكمته تعالى أن يجعل من العقول نظاما واردا على الفطرة "فيطوّح بها في مسلك الضلالة أو يرفعها إلى مسلك الهدى"<ref>محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير،ج12، دط، دد، دت، ص187-188.</ref> وهو قول ابن عاشور، فباستقامة التفكير وضلالته يستقيم الإنسان أو يشقى ولكن جعل الله منها من يقبل الحق بحسب الفطرة، ثم إذا حجبت الفطرة أرسل الله الرسل والمصلحين للإرشاد والنصح وهذا معنى قوله تعالى:<big>{{قرآن نبذة|كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}}</big>[البقرة:213]. |
ويعني هذا أن الاختلاف وارد لا محالة بين بني البشر بسبب اختلاف العقول ولكن هناك ما يجمعهم ويلمّ شملهم وهو الفطرة السليمة التي خُلق عليها الإنسان وكانت من أصل واحد، قال ابن تيمية -رحمه الله-: "لا بد أن تقع الذنوب من هذه الأمة ولا بد أن يختلفوا؛ فإن هذا من لوازم الطبع البشري لا يمكن أن يكون بنو آدم إلا كذلك"<ref>سمير مثنى علي الأبارة، حكم الخلاف مقال على موقع: www.alukah.net نقلا عن:ابن تيمية، الفتاوى، ج4، ص150-151.</ref>، ففي إطار هذه الوحدة التي تضمن وحدة الكرامة والتكريم ووحدة الحقوق والتكليف ووحدة الحساب والجزاء يعيش الناس متحابون بإقامة العدل والذي تنمحي معه آثار هذا الاختلاف فبالرغم من الاختلاف قد نعيش متحابون متساوون بالعدل والتراحم والتعاون والتعارف وهذا ما أردت أن أفسّره. | ويعني هذا أن الاختلاف وارد لا محالة بين بني البشر بسبب اختلاف العقول ولكن هناك ما يجمعهم ويلمّ شملهم وهو الفطرة السليمة التي خُلق عليها الإنسان وكانت من أصل واحد، قال ابن تيمية -رحمه الله-: "لا بد أن تقع الذنوب من هذه الأمة ولا بد أن يختلفوا؛ فإن هذا من لوازم الطبع البشري لا يمكن أن يكون بنو آدم إلا كذلك"<ref>سمير مثنى علي الأبارة، حكم الخلاف مقال على موقع: www.alukah.net نقلا عن:ابن تيمية، الفتاوى، ج4، ص150-151.</ref>، ففي إطار هذه الوحدة التي تضمن وحدة الكرامة والتكريم ووحدة الحقوق والتكليف ووحدة الحساب والجزاء يعيش الناس متحابون بإقامة العدل والذي تنمحي معه آثار هذا الاختلاف فبالرغم من الاختلاف قد نعيش متحابون متساوون بالعدل والتراحم والتعاون والتعارف وهذا ما أردت أن أفسّره. | ||
− | وبهذا يفهم أن الله تعالى خلق الناس ليكونوا مختلفين متنوعين ولكن دعا إلى التعاون والتعارف والتّكامل والتفاهم والتعايش، ومعنى ذلك أنه ينكر إكراه الناس بأن يكونوا على لون واحد ونمط واحد للإنسانية، فالإنسانية تتمايز وتتنوع إلى شعوب وقبائل وأمم وأفراد وإلى ملل ونحل ومذاهب<ref>محمد عمارة، المرجع السابق، ص81.</ref> سواء في الدين أو الحكم أو الاقتصاد أو اللغة قال تعالى:{{قرآن نبذة|لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}}[المائدة: 48] وقال:{{قرآن نبذة|وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ | + | وبهذا يفهم أن الله تعالى خلق الناس ليكونوا مختلفين متنوعين ولكن دعا إلى التعاون والتعارف والتّكامل والتفاهم والتعايش، ومعنى ذلك أنه ينكر إكراه الناس بأن يكونوا على لون واحد ونمط واحد للإنسانية، فالإنسانية تتمايز وتتنوع إلى شعوب وقبائل وأمم وأفراد وإلى ملل ونحل ومذاهب<ref>محمد عمارة، المرجع السابق، ص81.</ref> سواء في الدين أو الحكم أو الاقتصاد أو اللغة قال تعالى:<big>{{قرآن نبذة|لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}}</big>[المائدة: 48] وقال:<big>{{قرآن نبذة|وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}}</big> [هود:118-119]، وكأن الإسلام ينكر المركزية الدينية والمركزية القانونية التي تريد العالم كله خاضعا لمنظومة قانونية واحدة؛ ومعنى ذلك أن الإسلام لا يريد الحياة على نمط واحد في الثقافات واللغات والحضارات والأفكار قال تعالى:<big>{{قرآن نبذة|وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}}</big>[الروم:22]، فالإسلام ينكر المركزية الحضارية التي تريد العالم حضارة واحدة لقسر العالم على نمط حضاري واحد بل الإسلام يريد العالم منتدى حضارات متعددة ومتميّزة، ويريد الإسلام لهذه الحضارات المتعددة أن تتفاعل وتتساند في كل ما هو مشترك إنساني عام، وحتى وحدة العرق والجنس ينكرها الإسلام، ويدعو إلى التعارف في ظل هذا الاختلاف؛ فالوحدة العرقية لا تثمر إلا عنصرية ممقوتة تريد العالم جنسا واحدا وعنصرا واحدا<ref>انظر: المرجع السابق، ص81-85.</ref>، ولذلك يجعل الإسلام من الاختلاف تنوعا هدفه التعارف لا التناحر والتفرق، كما ينكر الوحدة الكلية لكل البشرية حتى تقضي على التنوع والاختلاف. |
− | ولذلك يمكن استنتاج نظرة الإسلام للاختلاف فهي اختلاف في إطار وحدة جامعة، والتنوع هدفه التعارف فإذا تحوّل الاختلاف إلى تناحر جمعتهم وحدة الأصل والإنسانية، وإذا أدركوا الفطرة السليمة فالإسلام يجمعهم لأن الفطرة السليمة ما هي إلا الإسلام، وقد جبر الله صدع العرب بعد أن كانوا متفرقين بالإسلام قال تعالى:{{قرآن نبذة|وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ}}[آل عمران:103] فردهم إلى الفطرة التي فطرهم عليها، وكذلك الدين الإسلامي يرجع بالناس جميعا إلى الفطرة السليمة<ref>ابن عاشور، المصدر السابق، ج26، ص258.</ref>؛ فالإسلام بهذا يدعو إلى التنوع في إطار الأصل الواحد دون أن يكون ذلك طريقا إلى التناحر، فالوحدة مطلوبة دون قضاء على الاختلاف والاختلاف مقبول دون قضاء على الوحدة الجامعة؛ والسؤال كيف يكون ذلك؟. | + | ولذلك يمكن استنتاج نظرة الإسلام للاختلاف فهي اختلاف في إطار وحدة جامعة، والتنوع هدفه التعارف فإذا تحوّل الاختلاف إلى تناحر جمعتهم وحدة الأصل والإنسانية، وإذا أدركوا الفطرة السليمة فالإسلام يجمعهم لأن الفطرة السليمة ما هي إلا الإسلام، وقد جبر الله صدع العرب - بعد أن كانوا متفرقين - بالإسلام قال تعالى:<big>{{قرآن نبذة|وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ}}</big>[آل عمران:103] فردهم إلى الفطرة التي فطرهم عليها، وكذلك الدين الإسلامي يرجع بالناس جميعا إلى الفطرة السليمة<ref>ابن عاشور، المصدر السابق، ج26، ص258.</ref>؛ فالإسلام بهذا يدعو إلى التنوع في إطار الأصل الواحد دون أن يكون ذلك طريقا إلى التناحر، فالوحدة مطلوبة دون قضاء على الاختلاف والاختلاف مقبول دون قضاء على الوحدة الجامعة؛ والسؤال كيف يكون ذلك؟. |
− | نقول في ضوء تشريعات الإسلام المتكاملة لا يكون ذلك إلا بالحفاظ على السّلم والمحبة والوئام والتعاون وحماية حقوق الآخرين فهذه القيم تحمي الاختلاف حتى لا يتحول إلى تفرق، وتحمي الوحدة حتى يكون التفاهم | + | نقول في ضوء تشريعات الإسلام المتكاملة لا يكون ذلك إلا بالحفاظ على السّلم والمحبة والوئام والتعاون وحماية حقوق الآخرين فهذه القيم تحمي الاختلاف حتى لا يتحول إلى تفرق، وتحمي الوحدة حتى يكون التفاهم على سواء هذا في الاختلاف البشري الإنساني الكوني، أما في الاختلاف داخل الأمة الإسلامية وهو النوع الثاني من الاختلاف الكائن بين البشر والذي له أثره في واقع الناس اليوم فله حكمه الخاص كما سيأتي: |
+ | </big> | ||
</big> | </big> | ||
− | ===<big>ثانيا- اختلاف الأمة الإسلامية:</big>=== | + | ===<big><big>ثانيا- اختلاف الأمة الإسلامية:</big></big>=== |
+ | |||
+ | <big><big>هذا الاختلاف هو الاختلاف الواقع بين الناس داخل الأمة الإسلامية، وهو ما وقع من اختلاف وجدل في فهم نصوص الشريعة الإسلامية فإذا كان الاختلاف الكوني سنة؛ فهل الاختلاف العلمي الإسلامي سنة كذلك؟ | ||
+ | ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "اختلاف أمتي رحمة"<ref>الحديث لم يخرجه البخاري ولا مسلم، ولم يرد في الكتب الستة، وأورده السيوطي في الجامع الصغير، وقال: «لعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا». انظر:جلال الدين السيوطي، الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، ج1، ط1، دار الفكر، 1401هـ-1981م، بيروت، ص48.</ref> وقد اشتهر هذا الحديث بين الفرق والمذاهب الإسلامية وأتباعهم فهل الاختلاف الإسلامي كله رحمة؟ وليتضح الأمر اضطر إلى الحديث عن الاختلاف العقدي أولا ثم الاختلاف الفقهي ثانيا:</big> | ||
− | <big> | + | ====<big>الخلاف العقدي:</big>==== |
− | + | <big>وهو الخلاف الواقع في أصول الدين الإسلامي والقطعيات من أصوله فهذا الاختلاف مردود بالاتفاق لأنه يؤدي إلى الكفر والتفرقة والقطيعة والتناحر، وهو الاختلاف الذي وقع وتفرقّت بسببه الأمة إلى بضع وسبعين فرقة وشيعا، وهو الاختلاف الذي جاءت الآيات والأحاديث محذرة منه منها قوله تعالى:<big>{{قرآن نبذة|وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ}}</big> [آل عمران:105] فهذا الاختلاف مردود باتفاق العلماء<ref>أحمد مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي العام، مج1، ج1، ط9، الفكر، 1968م، دمشق، ص 211-213، وعمر سليمان الأشقر، نظرات في أصول الفقه، ط1، دار النفائس، 1419هـ-1999م، عمان، الأردن، ص383.</ref>،كما يلحق بهذا الاختلاف ما كان في القطعيات من كليات الشريعة الإسلامية وما هو معلوم من الضرورة منها المتمثلة في الثوابت الخمس ومقاصدها الخمسة: حفظ الدين النفس والعقل النسب والمال فهذه من ثوابت الشريعة والتي لا يمكن الاجتهاد فيها ولا الاختلاف<ref>مجدي محمد عاشور، الثابت والمتغير في فكر الإمام الشاطبي، ط1، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، 2002م، الإمارات، ص 19-20.</ref>، وقد ظهر الخلاف العقدي جليا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وبسببه انقسم المجتمع الإسلامي إلى فرق بعد أن كانوا أمة واحدة، وخاصة بعد حادثة التحكيم، فانقسم المجتمع بعد هذا الخلاف إلى شيعة هم أتباع الإمام علي رضي الله عنه وخوارج وهم من خرجوا عنه وعن عثمان قبله وأهل السنة والجماعة وهم البقية العظمى من المجتمع الإسلامي، وقد توسّع الخلاف بعد ذلك واتّحدت الخلافات السياسية مع العقدية حيث كانت لفكرة الجبر والاختيار مثلا معين سياسي فقد استخدمها بنو أمية ضد جمهور المسلمين ليبرّروا أعمالهم بإضافة الأمر إلى الله، وبذلك أصبحت القواعد العقدية قواعد سياسية بامتياز وبدأت الفتنة بالملوك ثم ختمت بالعامة؛ وقد قتل العامة وغيرهم واستحر القتل في الأمة بسبب هذه الأفكار، كما اقتنع الخوارج كذلك بفكرة تكفير فاعل الكبيرة ولم يبرروا رأي الجبريين وكوّنوا مذهبهم الذي جاء بأخطر النتائج وهو أن الفاسق غير مؤمن فيحل قتله وبالتالي كل من يخالف فكرتهم فهو فاسق ويجوز قتله فانقضوا على مخالفيهم يفشون فيهم القتل الذريع، في حين ظهر أهل السنة برعاية أعظم الفقهاء وعلى رأسهم أبوحنيفة والإمام مالك يقولون بأن فاعل الكبيرة غير كافر ثم ظهرت خلافات أخرى في قضايا العقيدة كتوحيد الذات والصفات وقضية خلق القرآن وغيرها وقد ختم هذا الخلاف بتدخل بعض الفقهاء في قضايا الكلام ولكن حسموه بالخروج عن السياسة والكلام في ضوء الأدلة الصحيحة والتي أرست قواعد العقيدة الصحيحة كما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده<ref>انظر: علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ط9، ج01، دار المعارف، دت، القاهرة، ص231-265.</ref>. وهكذا فإن للخلاف العقدي أثره الواضح في تفرق الأمة شيعا في ضوء الجهل حينا والتشدد المقيت حينا آخر، وإن التسرع في التكفير أكبر طامة بليت بها الأمة الإسلامية في ضوء الفهم الخاطئ لبعض فروع العقيدة ومقاصدها.</big> | |
− | + | ====<big><big>الاختلاف الفقهي:</big></big>==== | |
− | + | <big>وهو الاختلاف الوارد في الظنيات من الفقه الإسلامي وهذا الاختلاف هناك من أنكره مطلقا وألحقه بالخلاف العقدي وهو قول الظاهرية<ref>ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق: أحمد محمد شاكر، ج5، ط1، دار الآفاق الجديدة، 1400هـ-1980م، د.م، ص64.</ref> وبعض أتباعهم في هذا العصر منهم الدكتور محمد طلبة زايد الذي ألف كتابه خطيئة المذاهب، وجمال بن أحمد ابن شربادي في كتابه وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق<ref>جمال ابن أحمد الشربادي، وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق، ط2، دار الوطن، 1416هـ-1996م، الرياض، ص 299-380.</ref>، ومحمد عيد عباسي في كتابه بدعة التعصب المذهبي؛ وهذه الفئة قال فيها الشاطبي رأيهم مردود بالاتفاق<ref>أبو اسحاق الشاطبي، الموافقات، تحقيق: إبراهيم رمضان، ج(04)، ط6، دار المعرفة، 1425هـ-2004م، بيروت، ص539-540.</ref>؛ وهناك من قبل هذا الاختلاف ولم ينكره وقال إنه رحمة ولكن فيه الخطأ والصواب بمعنى لا يجب التّمادي فيه وإباحة كل اختلاف فإن التمادي فيه يؤدي إلى التناحر والتفرق وعلى رأسهم الشاطبي وابن عاشور العالمين المقاصديين الذين حاولا ضبطه بالمقاصد قال الشاطبي: "وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية حتى صار الخلاف في المسائل معدودا في حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم....فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها وهذا خطأ..."<ref>المصدر نفسه، ص508.</ref>، واستدل أصحاب هذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: "اختلاف أمتي رحمة"<ref>انظر: محمد باز مول، الاختلاف وما إليه، ط1، دار الهجرة،1995 م، الرياض، ص67-68.</ref> ومقتضى هذا القول أنه يجب عند اختلاف العلماء طلب الدليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الأصول منها...فإن استوت الأدلة وجب الميل على الأشباه، فإذا لم يبن ذلك وجب التوقف، ولم يجز القطع إلا بيقين"<ref>محمد عوامة، أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين، ط2، دار البشائر الإسلامية، 1418هـ، 1997م، د.م، ص 98.</ref>. وهذا يؤكد النظرة الوسطية للاختلاف في ضوء الأصل الواحد، فلا يجب الاختلاف حتى التناحر ولا الاتفاق حتى التضييق فكلاهما غلو وتطرف. | |
أما الخلاف الذي فيه شر فهو إتباع المستحبات والتعصب للخلاف الوارد فيها، والحل فيها إتباع المصلحة العامة وأن فعلها مستحب وتركها مستحب تأليفا للقلوب ولهذا قال ابن تيمية: "ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيّر بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متما وقال الخلاف شر"<ref>ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، دط، دار الحديث، دت، مصر، ص33-34.</ref>، وهو الخلاف الذي أطلق عليه ابن تيمية "خلاف التنوع" بحيث المخالفة فيه لا تقتضي المنافاة ولا تقتضي إبطال أحد القولين للآخر، فيكون كل قول للآخر نوعا لا ضدا<ref>عمر سليمان الأشقر، نظرات في أصول الفقه، ط1، دار النفائس، 1419هـ-1999م، عمان-الأردن، ص 385-387. نقلا عن: خلاف الأمة في العبادات، "مجموعة الرسائل المنيرية لابن تيمية، جـ1، ص 123-124".</ref>. والصحيح أن الاختلاف في الحقيقة هو في الطرق المؤدية إلى مقصد الشارع، وهنا تكمن الرحمة؛ إذ يفتح الباب للنظر والترجيح بين أقوال العلماء ويسلم من مخالفة الأدلة<ref>( )- الشاطبي، المصدر السابق، ج4، ص 576. (ط، دار الكتب العلمية).</ref>. فالشريعة إذن راعية للاختلاف وهو رحمة، وراعية للاتفاق وهو رحمة كذلك. | أما الخلاف الذي فيه شر فهو إتباع المستحبات والتعصب للخلاف الوارد فيها، والحل فيها إتباع المصلحة العامة وأن فعلها مستحب وتركها مستحب تأليفا للقلوب ولهذا قال ابن تيمية: "ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيّر بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متما وقال الخلاف شر"<ref>ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، دط، دار الحديث، دت، مصر، ص33-34.</ref>، وهو الخلاف الذي أطلق عليه ابن تيمية "خلاف التنوع" بحيث المخالفة فيه لا تقتضي المنافاة ولا تقتضي إبطال أحد القولين للآخر، فيكون كل قول للآخر نوعا لا ضدا<ref>عمر سليمان الأشقر، نظرات في أصول الفقه، ط1، دار النفائس، 1419هـ-1999م، عمان-الأردن، ص 385-387. نقلا عن: خلاف الأمة في العبادات، "مجموعة الرسائل المنيرية لابن تيمية، جـ1، ص 123-124".</ref>. والصحيح أن الاختلاف في الحقيقة هو في الطرق المؤدية إلى مقصد الشارع، وهنا تكمن الرحمة؛ إذ يفتح الباب للنظر والترجيح بين أقوال العلماء ويسلم من مخالفة الأدلة<ref>( )- الشاطبي، المصدر السابق، ج4، ص 576. (ط، دار الكتب العلمية).</ref>. فالشريعة إذن راعية للاختلاف وهو رحمة، وراعية للاتفاق وهو رحمة كذلك. | ||
سطر ٧٤: | سطر ٨١: | ||
وعليه فالاختلاف واقع لا محالة في فقه الدين الإسلامي أصولا وفروعا، ولكن التمادي فيه يؤدي إلى التفرق والتشرذم، فكيف يمكن أن نحول هذا الخلاف إلى تنوع وتفاهم، هذا ما سنبينه فيما يأتي ببيان قواعد التعارف في ضوء الاختلاف وهي قواعد عامة لاحتواء الاختلاف الكوني والإسلامي وأردت أن أمر على إشكالية تساوي الناس واختلافهم في الوقت نفسه: | وعليه فالاختلاف واقع لا محالة في فقه الدين الإسلامي أصولا وفروعا، ولكن التمادي فيه يؤدي إلى التفرق والتشرذم، فكيف يمكن أن نحول هذا الخلاف إلى تنوع وتفاهم، هذا ما سنبينه فيما يأتي ببيان قواعد التعارف في ضوء الاختلاف وهي قواعد عامة لاحتواء الاختلاف الكوني والإسلامي وأردت أن أمر على إشكالية تساوي الناس واختلافهم في الوقت نفسه: | ||
</big> | </big> | ||
− | </big> | + | </big></big> |
=<big>المبحث الثاني: التعارف الإنساني في ضوء المساواة الإنسانية والاختلاف</big>= | =<big>المبحث الثاني: التعارف الإنساني في ضوء المساواة الإنسانية والاختلاف</big>= | ||
− | <big>إذا كان الاختلاف سنة كونية وفطرة فكيف يحقّق التعارف المساواة الإنسانية على حقيقتها ويحافظ عليها ولذلك حق لنا أن نتعرف على المساواة الإنسانية ومعناها:</big> | + | <big><big>إذا كان الاختلاف سنة كونية وفطرة فكيف يحقّق التعارف المساواة الإنسانية على حقيقتها ويحافظ عليها ولذلك حق لنا أن نتعرف على المساواة الإنسانية ومعناها:</big></big> |
− | ==<big>المطلب الأول: المساواة الإنسانية والاختلاف</big>== | + | |
− | <big>تقوم المساواة الإنسانية على التساوي في أصل الخلق والتكريم للناس أجمعين بغض النظر عن أجناسهم وألوانهم وعرقهم وديانتهم ولاشك هذا يحملهم على التعامل بمساواة رغم الاختلاف هذا ما أردت الوقوف عليه وفق العناصر الآتية:</big> | + | ==<big><big>المطلب الأول: المساواة الإنسانية والاختلاف</big></big>== |
+ | <big><big>تقوم المساواة الإنسانية على التساوي في أصل الخلق والتكريم للناس أجمعين بغض النظر عن أجناسهم وألوانهم وعرقهم وديانتهم ولاشك هذا يحملهم على التعامل بمساواة رغم الاختلاف هذا ما أردت الوقوف عليه وفق العناصر الآتية:</big></big> | ||
+ | |||
+ | ===<big><big>أولا- حقيقة المساواة الإنسانية:</big></big>=== | ||
− | = | + | <big><big>خلق الله الإنسان في أحسن تقويم وكرمه بأن جعله خليفة له في هذه الأرض، ثم سخر له الكون وجعله تحت سلطانه قال تعالى في بعض آيات القرآن الكريم:<big>{{قرآن نبذة|اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}}</big> [الجاثية: 12-13] وإن هذا يدل على تكريم الإنسان منذ خلق في هذا الكون فقد خلق ليسوده ويسيطر عليه، وقد صرح القرآن بهذا التكريم الإنساني في آيات كثيرة منها ما جاء بصريح اللفظ في سورة الإسراء في قوله تعالى:<big>{{قرآن نبذة|ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}}</big> [الإسراء: 70]. |
+ | وإن هذا التكريم كما تدل الآيات والأحاديث ليس خاصا بعنصر دون عنصر ولا بجنس دون جنس بل الجميع سواء في حق التكريم<ref>محمد أبو زهرة، العلاقات الدولية في الإسلام، دط، دار الفكر العربي، 1415ه=1995م، القاهرة، ص20</ref>؛ وقد قال الله تعالى في سورة الحجرات: <big>{{قرآن نبذة|يأيها الناس}}</big> تذكيرا بأن أصلهم واحد فقد عدل الله تعالى بنداء الناس يوم ذاك بالمؤمنين ليذكرهم بأصلهم الواحد وأن الناس متساوون أمام خالقهم وأن التفاضل والتفاخر إنما يكون بالفضائل وإن التفاضل في الإسلام بزيادة التقوى<ref>ابن عاشور، التحرير والتنوير، المرجع السابق، ج26، ص258. </ref> كما أن قوله تعالى:<big>{{قرآن نبذة|إنا خلقناكم من ذكر وأنثى}}</big> كناية عن المساواة في أصل النوع الإنساني حتى لا يترفّع بعض الناس على بعض؛ فالأصل ألا يفضل بعضكم بعضا إلا بالكمال النفساني وهو الكمال الذي يرضاه الله لهم والذي جعل التقوى وسيلته ولذلك ناط التفاضل في التكريم بقوله "عند الله"؛ إذ لا اعتداد بتكريم لا يعبأ الله به، وهذا لا ينافي أن تكون للناس مكارم أخرى في المرتبة الثانية بعد التقوى مما شأنه أن يكون له أثر في تزكية في النفوس مثل حسن التربية ونقاء النسب والعلم والحضارة وحسن السّمعة...<ref>المرجع نفسه، ص261-263.</ref>، ويتفرع عن تكريم الله للإنسان أن الناس متساوون في الإنسانية مساواة الإخوة الذين ولدوا من أصل واحد وقد قال عنها ابن عاشور: "أول آثار الأخوة وأصدق شواهدها والتخلق بها والتدريب عليها أعلى مظاهر تمكّن معنى الأخوة من النفوس"<ref>ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، دط، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، دت، ص163. </ref> وتسمّى هذه بالمساواة الإنسانية وهي مساواة الإنسان لأخيه الإنسان بمجرد إنه إنسان وهو ما يسمّيه البعض "الإخاء الإنساني"<ref>محمد خيضر، الإسلام وحقوق الإنسان، دط، دت، دد، 1977م ، ص11.</ref> لأن الاختلاف فطرة كونية وسنة من سنن الكون والحياة وهو موجود في الخلقة ولا يعتبر من التّفاوت الذي ينقض المساواة سواء كمبدأ عام أو خاص في تشريعات الإسلام الفرعية؛ كما خاطب الله تعالى بها الجنس البشري كله <big>{{قرآن نبذة|يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}}</big> (النساء:01) ولذلك أردت الحديث عن الأخوة الإنسانية ومعناها: | ||
+ | </big></big> | ||
− | + | ===<big><big>ثانيا- الأخوة الإنسانية في ضوء الاختلاف:</big></big>=== | |
− | |||
− | |||
− | |||
− | <big>فالناس جميعا إخوة مهما اختلفت لغاتهم وأنسابهم وأوطانهم، فهم أبناء أب واحد وأم واحدة وهذا ما صرح به القرآن في عدة آيات منها قوله تعالى:{{قرآن نبذة|يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ}} [النساء:01]كما كثر في القرآن خطاب الناس بنسبتهم إلى آدم {{قرآن نبذة|يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا}} [الأعراف:26] {{قرآن نبذة|يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ}} [الأعراف:27] تذكيرا بحق الأخوة بين الناس فلا يعتدي أخ على أخ ولا يظلم أخ أخا؛ بل الإنسان والحيوان من عالم واحد، عالم الروح الذي يحس ويتحرك {{قرآن نبذة|وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}} [الأنعام:38]<ref>مصطفى السباعي، نظام السلم والحرب في الإسلام، ط2، 1419 هـ = 1998 م، مكتبة الوراق، الرياض، ص 03.</ref>. بل الكون كله من حيوان ونبات وجماد وأرض وأفلاك عوالم مخلوقة لإله واحد ورب واحد، وإن من واجب المسلم أن يتذكر هذه الحقيقة في صَلاته حين يقرأ الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة وفي أولها {{قرآن نبذة|الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}} [الفاتحة:01]<ref>المرجع نفسه، ص04.</ref> وهذا ما أقره الإسلام؛ فالإسلام اعتبر الناس جميعا أمة واحدة تجمعها الإنسانية وإذا فرقت الأهواء فالأصل واحد ولقد صرح القرآن بهذه الوحدة في آيات كثيرة وما دام الأصل واحدا فالوحدة شاملة، وقد جاء ذلك في عدة سور وقد جاء في سورة البقرة التصريح بأن الإنسانية أمة واحدة، فقد قرر أن الناس جميعا أمة واحدة وأن الاختلاف عارض ومنشؤه اختلاف الأهواء وأن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل بالهداية ليحكموا بأمر الله تعالى في هذا الاختلاف قال تعالى:{{قرآن نبذة|كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}} [البقرة:213] وقال في سورة الروم:{{قرآن نبذة|وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}}[ الروم: 22] وذكر في القرآن الكريم، بأنّه لم يكن اختلاف اللغات والألوان بمانع من الوحدة الإنسانية الجامعة بل إنّ هذا الاختلاف من سنن الله تعالى في خلق الإنسان إذ جعل فيه قوة يتكيّف بمقتضاها مع بيئته ويتجاوب، وقد صرح القرآن الكريم بذلك إذ قرر أن اختلاف الألسنة والألوان من مظاهر قدرة الله تعالى الغالبة في خلق الإنسان<ref>أبو زهرة، المرجع السابق، ص22.</ref>، ولذلك كان مطلق التكريم الإلهي لمطلق الإنسان {{قرآن نبذة|وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ}}[الإسراء:70] وليس هذا التكريم حكرا لشعب من الشعوب ولا لأبناء دين من الأديان أو حضارة من الحضارات ونفى الإسلام أن يكون التفاوت بين الناس بصفات عنصرية بل بصفات مناطة لكل الناس وهي التقوى {{قرآن نبذة|إن أكرمكم عند الله اتقاكم}}<ref>محمد عمارة، السماحة الإسلامية، في التنوير الإسلامي، ط1، شركة نهضة مصر، 2006م، مصر، ص09.</ref> وبهذه المساواة في القيمة الإنسانية التي تعتمد على الأصل الواحد والنسب الواحد لا يتصور في أحد من بني الإنسان أن يولد متميزا على غيره في الكرامة والقيمة أو فيما ينبغي له من حقوق وكيان<ref>محمد خيضر، المرجع السابق، ص11.</ref>؛ فلقد ولد الجميع في حالة متساوية في كل شيء ثم منح الجميع بعد ذلك أدوات التمايز ولذلك فالمساواة هو ما يتفرع عن الأصل الواحد وتكريم الله للإنسان ولذلك تجدني أتحدث عن دور التعارف في ضوء المساواة الإنسانية والاختلاف:</big> | + | <big><big>فالناس جميعا إخوة مهما اختلفت لغاتهم وأنسابهم وأوطانهم، فهم أبناء أب واحد وأم واحدة وهذا ما صرح به القرآن في عدة آيات منها قوله تعالى:<big>{{قرآن نبذة|يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ}}</big> [النساء:01]كما كثر في القرآن خطاب الناس بنسبتهم إلى آدم <big>{{قرآن نبذة|يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا}}</big> [الأعراف:26] <big>{{قرآن نبذة|يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ}}</big> [الأعراف:27] تذكيرا بحق الأخوة بين الناس فلا يعتدي أخ على أخ ولا يظلم أخ أخا؛ بل الإنسان والحيوان من عالم واحد، عالم الروح الذي يحس ويتحرك <big>{{قرآن نبذة|وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}}</big> [الأنعام:38]<ref>مصطفى السباعي، نظام السلم والحرب في الإسلام، ط2، 1419 هـ = 1998 م، مكتبة الوراق، الرياض، ص 03.</ref>. بل الكون كله من حيوان ونبات وجماد وأرض وأفلاك عوالم مخلوقة لإله واحد ورب واحد، وإن من واجب المسلم أن يتذكر هذه الحقيقة في صَلاته حين يقرأ الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة وفي أولها <big>{{قرآن نبذة|الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}}</big> [الفاتحة:01]<ref>المرجع نفسه، ص04.</ref> وهذا ما أقره الإسلام؛ فالإسلام اعتبر الناس جميعا أمة واحدة تجمعها الإنسانية وإذا فرقت الأهواء فالأصل واحد ولقد صرح القرآن بهذه الوحدة في آيات كثيرة وما دام الأصل واحدا فالوحدة شاملة، وقد جاء ذلك في عدة سور وقد جاء في سورة البقرة التصريح بأن الإنسانية أمة واحدة، فقد قرر أن الناس جميعا أمة واحدة وأن الاختلاف عارض ومنشؤه اختلاف الأهواء وأن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل بالهداية ليحكموا بأمر الله تعالى في هذا الاختلاف قال تعالى:<big>{{قرآن نبذة|كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}}</big> [البقرة:213] وقال في سورة الروم:<big>{{قرآن نبذة|وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}}</big>[ الروم: 22] وذكر في القرآن الكريم، بأنّه لم يكن اختلاف اللغات والألوان بمانع من الوحدة الإنسانية الجامعة بل إنّ هذا الاختلاف من سنن الله تعالى في خلق الإنسان إذ جعل فيه قوة يتكيّف بمقتضاها مع بيئته ويتجاوب، وقد صرح القرآن الكريم بذلك إذ قرر أن اختلاف الألسنة والألوان من مظاهر قدرة الله تعالى الغالبة في خلق الإنسان<ref>أبو زهرة، المرجع السابق، ص22.</ref>، ولذلك كان مطلق التكريم الإلهي لمطلق الإنسان <big>{{قرآن نبذة|وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ}}</big>[الإسراء:70] وليس هذا التكريم حكرا لشعب من الشعوب ولا لأبناء دين من الأديان أو حضارة من الحضارات ونفى الإسلام أن يكون التفاوت بين الناس بصفات عنصرية بل بصفات مناطة لكل الناس وهي التقوى <big>{{قرآن نبذة|إن أكرمكم عند الله اتقاكم}}</big><ref>محمد عمارة، السماحة الإسلامية، في التنوير الإسلامي، ط1، شركة نهضة مصر، 2006م، مصر، ص09.</ref> وبهذه المساواة في القيمة الإنسانية التي تعتمد على الأصل الواحد والنسب الواحد لا يتصور في أحد من بني الإنسان أن يولد متميزا على غيره في الكرامة والقيمة أو فيما ينبغي له من حقوق وكيان<ref>محمد خيضر، المرجع السابق، ص11.</ref>؛ فلقد ولد الجميع في حالة متساوية في كل شيء ثم منح الجميع بعد ذلك أدوات التمايز ولذلك فالمساواة هو ما يتفرع عن الأصل الواحد وتكريم الله للإنسان ولذلك تجدني أتحدث عن دور التعارف في ضوء المساواة الإنسانية والاختلاف:</big> |
+ | </big> | ||
− | ==<big>المطلب الثاني: أسس التعارف الإنساني</big>== | + | ==<big><big>المطلب الثاني: أسس التعارف الإنساني</big></big>== |
− | <big>فلاشك أن في العلم بوحدة البشر من شأنه أن يحمل الإنسان على أساس من التسامح الحقيقي واحترام حقوق الإنسانية؛ فالإسلام لا يعترف إلا بفارق واحد بين بني البشر هو التقوى وهي مرتبة الخير وجلب الصلاح للمجتمع، والإسلام ما جاء إلا للإصلاح ودفع الفساد والإصلاح ما هو إلا تحقيق المصلحة للناس؛ فلا يتصور في ظل هذه الوحدة أن يولد أي إنسان متميز عن الآخر، فلقد ولد الجميع متساوون في الحقوق، وهذا ما أقره الإسلام فالناس سواسية رغم الاختلاف ويجب العدل بين الناس في المعاملة انطلاقا من مبدأ الإخاء الإنساني الذي تحدثنا عنه، فالإسلام بنى علاقة الإنسان بأخيه على مبدأ المساواة المطلقة، حتى يستقر العدل ويسود الحق، وتنمحي كل آثاره من ظلم وإجحاف فلا تمييز بين فرد وآخر لأي اعتبار سوى التقوى والعمل الصالح، وحتى هذا الاعتبار لا يعطي لصاحبه حقا زائدا على غيره ولكنه فقط يفرض التقدير والاحترام له من المجتمع أما أن يحابى أو أن يكون عمله وتقواه وسيلة لنيل حق ليس له فهذا ما يرفضه الإسلام<ref>المرجع نفسه، ص 13. </ref>، قال عليه الصلاة السلام في خطبة الوداع: "أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآم وآدم من تراب"<ref>انظر: حديث حجة الوداع في صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، دار ابن كثير، بيروت، ط1، 2002م، كتاب المغازي، باب حجة الوداع برقم :4406، ج07، ص1079.</ref> حيث لا اعتبار ولا فرق بسبب الجنس أو العرق فلا أثر لاختلاف الألوان والصور والعرق والوطن في تقرير المساواة لأن الاختلاف في هذه الأمور فطرة كونية وسنة من سنن الكون والحياة. | + | <big><big>فلاشك أن في العلم بوحدة البشر من شأنه أن يحمل الإنسان على أساس من التسامح الحقيقي واحترام حقوق الإنسانية؛ فالإسلام لا يعترف إلا بفارق واحد بين بني البشر هو التقوى وهي مرتبة الخير وجلب الصلاح للمجتمع، والإسلام ما جاء إلا للإصلاح ودفع الفساد والإصلاح ما هو إلا تحقيق المصلحة للناس؛ فلا يتصور في ظل هذه الوحدة أن يولد أي إنسان متميز عن الآخر، فلقد ولد الجميع متساوون في الحقوق، وهذا ما أقره الإسلام فالناس سواسية رغم الاختلاف ويجب العدل بين الناس في المعاملة انطلاقا من مبدأ الإخاء الإنساني الذي تحدثنا عنه، فالإسلام بنى علاقة الإنسان بأخيه على مبدأ المساواة المطلقة، حتى يستقر العدل ويسود الحق، وتنمحي كل آثاره من ظلم وإجحاف فلا تمييز بين فرد وآخر لأي اعتبار سوى التقوى والعمل الصالح، وحتى هذا الاعتبار لا يعطي لصاحبه حقا زائدا على غيره ولكنه فقط يفرض التقدير والاحترام له من المجتمع أما أن يحابى أو أن يكون عمله وتقواه وسيلة لنيل حق ليس له فهذا ما يرفضه الإسلام<ref>المرجع نفسه، ص 13. </ref>، قال عليه الصلاة السلام في خطبة الوداع: "أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآم وآدم من تراب"<ref>انظر: حديث حجة الوداع في صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، دار ابن كثير، بيروت، ط1، 2002م، كتاب المغازي، باب حجة الوداع برقم :4406، ج07، ص1079.</ref> حيث لا اعتبار ولا فرق بسبب الجنس أو العرق فلا أثر لاختلاف الألوان والصور والعرق والوطن في تقرير المساواة لأن الاختلاف في هذه الأمور فطرة كونية وسنة من سنن الكون والحياة. |
− | فتعاليم القرآن منذ الوهلة الأولى تنص على حق الإنسان في المساواة بإقراره الوحدة المبدئية للبشر-كما قلنا- فالبشر كلهم خلقوا من نفس واحدة ولهم نفس التكريم {{قرآن نبذة|ولقد كرمنا بني آدم}} والمساواة الأولى في أصل البشر تضمن لهم المساواة في الحقوق والواجبات ولا فرق بين فئات المجتمع بسبب غير التقوى، وهي تبين وجود الأخوة الإنسانية بين بني البشر، وفي ضوء هذا التساوي في الاختلاف تتلخص الغاية من الاختلاف في التعارف والتواد فما معنى التعارف وما دوره في درء الخلاف؟</big> | + | فتعاليم القرآن منذ الوهلة الأولى تنص على حق الإنسان في المساواة بإقراره الوحدة المبدئية للبشر-كما قلنا- فالبشر كلهم خلقوا من نفس واحدة ولهم نفس التكريم {{قرآن نبذة|ولقد كرمنا بني آدم}} والمساواة الأولى في أصل البشر تضمن لهم المساواة في الحقوق والواجبات ولا فرق بين فئات المجتمع بسبب غير التقوى، وهي تبين وجود الأخوة الإنسانية بين بني البشر، وفي ضوء هذا التساوي في الاختلاف تتلخص الغاية من الاختلاف في التعارف والتواد فما معنى التعارف وما دوره في درء الخلاف؟</big></big> |
− | ===<big>أولا- تعريف التعارف:</big>=== | + | ===<big><big>أولا- تعريف التعارف:</big></big>=== |
− | <big>نعرف التعارف في اللغة والاصطلاح كمدخل حتى تتضح الصورة كالآتي: | + | <big><big>نعرف التعارف في اللغة والاصطلاح كمدخل حتى تتضح الصورة كالآتي: |
# لغة: التعارف لغة مأخوذ من مادة "عرف" ومنه المعرفة والعرفان، وتعني إدراك الشيء بتفكر وتدبر لأثره، وهو أخص من العلم ويضاده "الإنكار"، فيقال فلان يعرف الله ولا يقال يعلم الله، لأن معرفة البشر لله هي بتدبر آثاره دون إدراك ذاته، ويقال الله يعلم كذا ولا يقال يعرف كذا، وأصل عرفت أصبت عرفه أي رائحته، وتعارف القوم عرف بعضهم بعضا<ref>الراغب الأصفهاني، المصدر السابق، ص331.</ref> وهذا يعني أن التعارف معرفة الناس بعضهم بعضا وإن كانوا لا يعلمونهم، والمعرفة تكون بالأثر والتدبر. | # لغة: التعارف لغة مأخوذ من مادة "عرف" ومنه المعرفة والعرفان، وتعني إدراك الشيء بتفكر وتدبر لأثره، وهو أخص من العلم ويضاده "الإنكار"، فيقال فلان يعرف الله ولا يقال يعلم الله، لأن معرفة البشر لله هي بتدبر آثاره دون إدراك ذاته، ويقال الله يعلم كذا ولا يقال يعرف كذا، وأصل عرفت أصبت عرفه أي رائحته، وتعارف القوم عرف بعضهم بعضا<ref>الراغب الأصفهاني، المصدر السابق، ص331.</ref> وهذا يعني أن التعارف معرفة الناس بعضهم بعضا وإن كانوا لا يعلمونهم، والمعرفة تكون بالأثر والتدبر. | ||
# اصطلاحا: من بين التعاريف التي وقفت عليها أن التعارف هو:" أن يعرف الناس بعضهم بعضا بحسب انتسابهم جميعا إلى أب واحد وأم واحدة ثم بحسب الدين والشعوب والقبائل، بحيث يكون ذلك مدعاة للشفقة والألفة والوئام لا إلى التنافر والعصبية<ref>التعارف"، مقال على موقع: http://www.islambeacon.com" يوم:22-07-2017م.</ref>، وفي ضوء ما سبق يمكن تعريفه ب: "هو التعاون والتكامل بين بني البشر رغم الاختلاف" وحتى يتحقق هذا المقصد بين الناس فلابد من وسائل وطرق نجملها في الآتي:</big> | # اصطلاحا: من بين التعاريف التي وقفت عليها أن التعارف هو:" أن يعرف الناس بعضهم بعضا بحسب انتسابهم جميعا إلى أب واحد وأم واحدة ثم بحسب الدين والشعوب والقبائل، بحيث يكون ذلك مدعاة للشفقة والألفة والوئام لا إلى التنافر والعصبية<ref>التعارف"، مقال على موقع: http://www.islambeacon.com" يوم:22-07-2017م.</ref>، وفي ضوء ما سبق يمكن تعريفه ب: "هو التعاون والتكامل بين بني البشر رغم الاختلاف" وحتى يتحقق هذا المقصد بين الناس فلابد من وسائل وطرق نجملها في الآتي:</big> | ||
+ | </big> | ||
− | ===<big>ثانيا- وسائل التعارف وطرقه في ضوء الاختلاف:</big>=== | + | ===<big><big>ثانيا- وسائل التعارف وطرقه في ضوء الاختلاف:</big></big>=== |
− | <big>وهي وسائل متنوعة يعتبر السلام أساسها إضافة إلى الحوار والتعاون والحرية الدينية وترك التعصب كالآتي: | + | <big><big>وهي وسائل متنوعة يعتبر السلام أساسها إضافة إلى الحوار والتعاون والحرية الدينية وترك التعصب كالآتي:</big> |
− | + | ====<big><big>1- السلام طريق التعارف:</big></big>==== | |
− | يعتبر نداء القرآن الكريم في قول الله عز وجل:{{قرآن نبذة|يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}} [الحجرات: 13] ميثاقا عالميا للأمم والشعوب في ضوء الاختلاف؛ فقد جعل العلماء القصد من هذه الآية دعوة الناس إلى التعارف في ضوء الاختلاف، وهدم كل ما يفرق بينهم ولا يجمع، واستئصال نزعات الاستعلاء والاستكبار والتفاخر<ref>وهبة الزحيلي، قضايا الفقه والفكر المعاصر،ج01، ط1، دار الفكر، 1428=2007م، دمشق، ص646-647.</ref>، فاختلاف الشعوب في الأرض له غاية جليلة أرادها الله سبحانه وتعالى وهي التعارف وهذا التعارف لا يتحقق إلا في ضوء السلام لأن السلام يحقق لقاء الناس على مودة وتراحم؛ فالغاية الأساسية من الدعوة الإسلامية العالمية هو توطيد السلم وتقريره وتحقيق الأمن، ونشر الحرية والحق والعدالة، وبذل الجهد لمعرفة الآخر من أجل التعامل السلمي والتعايش والتعاون بين شعوب الأرض، وقد أكد القرآن على ذلك لدرجة أنه جعل هدف الخلق مشتملا على ضرورة تعرّف كل شعب أو جماعة على الآخرين وفي ذلك يقول تعالى: {{قرآن نبذة|وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}}، وهذا التعرف على الآخرين يتعلق بمعرفة طرائقهم في الفكر والاعتقاد والعمل والسلوك ويوسع من أفق معارفنا ويصل بنا إلى فهم سليم لوجودنا الإنساني وهذا يؤدي إلى فهم متبادل واحترام متبادل وتعاون متبادل من أجل سلام العالم وموجوداته<ref>محمود حمدي زقزوق، الإسلام وقضايا الحوار، ترجمة: مصطفى ماهر، دط، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1424هـ=2002م، مصر، ص201 بتصرف</ref>؛ فالإسلام يعتبر الإنسانية (البشرية) كلها أمة واحدة، ويعد الدين كله دينا واحدا، ويعد المؤمنين كلهم أمة واحدة، ويعد الإسلام هو الصورة النهائية والأخيرة لهذا الدين الواحد، فهو يصدق ما تقدمه ويهيمن عليه لأنه الصورة النهائية له {{قرآن نبذة|وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}} [المائدة: 48]، والمسلمون إذن مكلّفون بحكم هذه الوصاية تحقيق السلام في الأرض، وذلك بتحقيق مبادئه من العدل والمساواة والحرية ومن منع البغي وإزالة الظلم، وتحقيق التوازن الاجتماعي، والتعاون والتكافل، وإزالة أسباب الفرقة والخصام والنزاع، وسد الذرائع التي تدعو إلى قيام الطبقات وتميزها وصراعها<ref>سيد قطب، السلام العالمي والإسلام، ط12، دار الشروق، القاهرة، 1413هـ= 1993 م، ص (160)</ref>، والأصل في هذا كله ما جاء في القرآن الكريم من آيات تدعو إلى السلم والرحمة والمودة قال تعالى: {{قرآن نبذة|يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ | + | <big>يعتبر نداء القرآن الكريم في قول الله عز وجل:<big>{{قرآن نبذة|يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}}</big> [الحجرات: 13] ميثاقا عالميا للأمم والشعوب في ضوء الاختلاف؛ فقد جعل العلماء القصد من هذه الآية دعوة الناس إلى التعارف في ضوء الاختلاف، وهدم كل ما يفرق بينهم ولا يجمع، واستئصال نزعات الاستعلاء والاستكبار والتفاخر<ref>وهبة الزحيلي، قضايا الفقه والفكر المعاصر،ج01، ط1، دار الفكر، 1428=2007م، دمشق، ص646-647.</ref>، فاختلاف الشعوب في الأرض له غاية جليلة أرادها الله سبحانه وتعالى وهي التعارف وهذا التعارف لا يتحقق إلا في ضوء السلام لأن السلام يحقق لقاء الناس على مودة وتراحم؛ فالغاية الأساسية من الدعوة الإسلامية العالمية هو توطيد السلم وتقريره وتحقيق الأمن، ونشر الحرية والحق والعدالة، وبذل الجهد لمعرفة الآخر من أجل التعامل السلمي والتعايش والتعاون بين شعوب الأرض، وقد أكد القرآن على ذلك لدرجة أنه جعل هدف الخلق مشتملا على ضرورة تعرّف كل شعب أو جماعة على الآخرين وفي ذلك يقول تعالى: <big>{{قرآن نبذة|وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}}</big>، وهذا التعرف على الآخرين يتعلق بمعرفة طرائقهم في الفكر والاعتقاد والعمل والسلوك ويوسع من أفق معارفنا ويصل بنا إلى فهم سليم لوجودنا الإنساني وهذا يؤدي إلى فهم متبادل واحترام متبادل وتعاون متبادل من أجل سلام العالم وموجوداته<ref>محمود حمدي زقزوق، الإسلام وقضايا الحوار، ترجمة: مصطفى ماهر، دط، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1424هـ=2002م، مصر، ص201 بتصرف</ref>؛ فالإسلام يعتبر الإنسانية (البشرية) كلها أمة واحدة، ويعد الدين كله دينا واحدا، ويعد المؤمنين كلهم أمة واحدة، ويعد الإسلام هو الصورة النهائية والأخيرة لهذا الدين الواحد، فهو يصدق ما تقدمه ويهيمن عليه لأنه الصورة النهائية له <big>{{قرآن نبذة|وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}}</big> [المائدة: 48]، والمسلمون إذن مكلّفون بحكم هذه الوصاية تحقيق السلام في الأرض، وذلك بتحقيق مبادئه من العدل والمساواة والحرية ومن منع البغي وإزالة الظلم، وتحقيق التوازن الاجتماعي، والتعاون والتكافل، وإزالة أسباب الفرقة والخصام والنزاع، وسد الذرائع التي تدعو إلى قيام الطبقات وتميزها وصراعها<ref>سيد قطب، السلام العالمي والإسلام، ط12، دار الشروق، القاهرة، 1413هـ= 1993 م، ص (160)</ref>، والأصل في هذا كله ما جاء في القرآن الكريم من آيات تدعو إلى السلم والرحمة والمودة قال تعالى: <big>{{قرآن نبذة|يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}}</big> [البقرة: 208] وقال: <big>{{قرآن نبذة|وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}}</big>[الأنفال: 61] وقال: <big>{{قرآن نبذة|وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}}</big> [الأنفال: 72]، <big>{{قرآن نبذة|وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}}</big> [البقرة: 190]. وقال تعالى: <big>{{قرآن نبذة|لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}}</big> [الممتحنة 8-9].<ref>الزحيلي، المرجع السابق، ص647-648.</ref> ويقول المولى تعالى: <big>{{قرآن نبذة|فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}}</big> [آل عمران: 159]، وقال: <big>{{قرآن نبذة|وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}}</big>[الإسراء:107]، فالإسلام جاء لإقامة السلام في الأرض أي للإنسانية، ولكن دعا للسيف لمن يقف في وجه هذا السلام ويعكره بالفساد في الأرض والإفساد فيها<ref>انظر: السباعي، المرجع السابق، ص (01). بتصرف. ومجمع الفقه الإسلامي، الهند، الإرهاب والسلام، بحوث فقهية وعلمية حول الإرهاب والسلام العالمي من وجهة نظر الشريعة الإسلامية،ط1، دار الكتب العلمية، 2007م، بيروت، ص95.</ref>، والإفساد في الأرض منه الفساد العقدي الروحي، وإفساد العبادات والعادات لأنه في ضوء الإسلام يعم الرخاء والطمأنينة وبه تحفظ مصالح الناس. |
+ | </big> | ||
− | + | ====<big>2- لا إكراه في الدين (الحرية الدينية):</big>==== | |
− | وهو طريق لتحقيق التعارف وتحقيق طريقه الأول وهو السلام، وتبدو الحرية العقدية في ديننا في قاعدة لا إكراه في الدين، وهي قاعدة تمنع فرض العقائد على الإنسان بالقوة، وترشد إلى الدعوة والحوار والتعددية الدينية<ref>علي جمعة أحمد، المبادئ العامة والقيم في القرآن الكريم، بحث ضمن الموسوعة القرآنية المخصصة، دط، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، إشراف: محمود حمدي زقزوق، دت، مصر، ص84.</ref>؛ فالإسلام رغم كونه الدين المهيمن لم يكلف المسلمين إكراه غيرهم على اعتناق عقيدتهم {{قرآن نبذة|لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}}[البقرة: 256]؛ إنما كلفهم أولا حماية دينهم وحماية المؤمنين حتى لا يفتنوا عن دينهم، وإزالة كل قوة تمنع إيصاله، ثم كفالة حرية الاختيار في دخول هذا الدين أو تركه<ref>سيد قطب، المرجع السابق، ص (169)</ref>؛ بمعنى أن الحرية الاعتقادية متروكة لكل إنسان في شريعة الإسلام، لا بمعنى إقرار الضالين والكافرين على كفرهم، وإنما بمعنى ترك كل محاولات الإكراه أو الإجبار على تغيير المعتقد أو الدين أو المذهب، لأن ذلك لا ينفع ولا يفيد شيئا، فإنه سرعان ما يزول ظرف الإكراه ويعود الإنسان إلى ما كان عليه، ولأن توفير سبل الهداية وأسباب الانشراح للإسلام بيد الله تعالى، وهذا ما قرره القرآن الكريم صراحة في قوله تعالى: {{قرآن نبذة|لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}} [البقرة: 256]<ref>الزحيلي، قضايا الفقه والفكر، المرجع السابق، ص 572.</ref>. | + | <big>وهو طريق لتحقيق التعارف وتحقيق طريقه الأول وهو السلام، وتبدو الحرية العقدية في ديننا في قاعدة لا إكراه في الدين، وهي قاعدة تمنع فرض العقائد على الإنسان بالقوة، وترشد إلى الدعوة والحوار والتعددية الدينية<ref>علي جمعة أحمد، المبادئ العامة والقيم في القرآن الكريم، بحث ضمن الموسوعة القرآنية المخصصة، دط، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، إشراف: محمود حمدي زقزوق، دت، مصر، ص84.</ref>؛ فالإسلام رغم كونه الدين المهيمن لم يكلف المسلمين إكراه غيرهم على اعتناق عقيدتهم <big>{{قرآن نبذة|لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}}</big>[البقرة: 256]؛ إنما كلفهم أولا حماية دينهم وحماية المؤمنين حتى لا يفتنوا عن دينهم، وإزالة كل قوة تمنع إيصاله، ثم كفالة حرية الاختيار في دخول هذا الدين أو تركه<ref>سيد قطب، المرجع السابق، ص (169)</ref>؛ بمعنى أن الحرية الاعتقادية متروكة لكل إنسان في شريعة الإسلام، لا بمعنى إقرار الضالين والكافرين على كفرهم، وإنما بمعنى ترك كل محاولات الإكراه أو الإجبار على تغيير المعتقد أو الدين أو المذهب، لأن ذلك لا ينفع ولا يفيد شيئا، فإنه سرعان ما يزول ظرف الإكراه ويعود الإنسان إلى ما كان عليه، ولأن توفير سبل الهداية وأسباب الانشراح للإسلام بيد الله تعالى، وهذا ما قرره القرآن الكريم صراحة في قوله تعالى: <big>{{قرآن نبذة|لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}}</big> [البقرة: 256]<ref>الزحيلي، قضايا الفقه والفكر، المرجع السابق، ص 572.</ref>. |
− | فالدفاع عن إقامة العدل الديني والاجتماعي هو هدف الجهاد في الإسلام، وليس الإكراه؛ فالمفروض أن تكون دولة الإسلام – العادل- هي دولة ناشرة للسلام، مخرجة للناس من ظلم العباد إلى عدالة الإله الواحد الأحد الصمد فيتحقّق السّلام في الأفراد والضمائر والأسر والمجتمعات، ليتحقق سلام الإنسانية بهناء وينعم الإنسان لمجرد أنه إنسان بالسلام فهو من حقه، قال تعالى: {{قرآن نبذة|يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}} [النساء: 135] {{قرآن نبذة|وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}} [المائدة: 08]<ref>سيد قطب، المرجع السابق، ص (170 - 172) بتصرف كبير.</ref>، فهذه القاعدة الأولى وما يتفرع عنها: | + | فالدفاع عن إقامة العدل الديني والاجتماعي هو هدف الجهاد في الإسلام، وليس الإكراه؛ فالمفروض أن تكون دولة الإسلام – العادل- هي دولة ناشرة للسلام، مخرجة للناس من ظلم العباد إلى عدالة الإله الواحد الأحد الصمد فيتحقّق السّلام في الأفراد والضمائر والأسر والمجتمعات، ليتحقق سلام الإنسانية بهناء وينعم الإنسان لمجرد أنه إنسان بالسلام فهو من حقه، قال تعالى: <big>{{قرآن نبذة|يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}}</big> [النساء: 135] <big>{{قرآن نبذة|وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}}</big> [المائدة: 08]<ref>سيد قطب، المرجع السابق، ص (170 - 172) بتصرف كبير.</ref>، فهذه القاعدة الأولى وما يتفرع عنها:</big> |
− | + | ====<big>3- نبذ التعصب الديني والمذهبي:</big>==== | |
− | فقد اقتضت حكمته تعالى جعل الناس مختلفين وأن يوجد الاختلاف بين الناس في الملل والنحل والمذاهب والاعتقادات والأديان لمعرفة الحق من الباطل، ولإقرار الحرية وترك الاختيار والإرادة للإنسان قال تعالى: {{قرآن نبذة|وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}} [يونس: 99-100]. | + | <big>فقد اقتضت حكمته تعالى جعل الناس مختلفين وأن يوجد الاختلاف بين الناس في الملل والنحل والمذاهب والاعتقادات والأديان لمعرفة الحق من الباطل، ولإقرار الحرية وترك الاختيار والإرادة للإنسان قال تعالى: <big>{{قرآن نبذة|وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}}</big> [يونس: 99-100]. |
− | وهو دليل على ترك التعصب الديني الكريه، والترفع عن الأحقاد، لأن الإنسان لا يصح له أن يتجاوز السنن الإلهية وعليه أن يرضى بما رضي الله تعالى، فليس لأي أحد التسرع في تكفير الآخرين لأنه سلوك منفر ومبعد، كما ليس لأي مسلم إيذاء مشاعر الآخرين أو الاستعلاء عليهم أو احتقارهم أو التنكيل بهم حتى مع أشد الناس كفرا وهم المشركون الوثنيون لقوله تعالى: {{قرآن نبذة|وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }} [الأنعام: 108] أي أن سب الآلهة الباطلة أمام أتباعها مدعاة لسب الإله الحق، فيمنع ذلك سدا للذرائع<ref>الزحيلي، المرجع نفسه، ص 570-571.</ref>، وإنّ من صميم التعصب الدعوة إلى فكر معين وتكفير ما سواه والتعصب للرجال والأقوال، وتكفير المخالف ولو ترك مستحبا كما فعل المتعصبون للمذاهب في عصور الانحطاط يقول أبو الحسن الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين: "اختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضلل فيها بعضهم بعضا وتبرأ بعضهم من بعض فصاروا فرقا متباينين إلا أن الإسلام يجمعهم فيعمهم"<ref>علي بن اسماعيل الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق : هيلموت رتير، دار إحياء التراث، دت، بيروت، ص 201.</ref> وعلق ابن تيمية على ذلك بقوله " فهذا مذهبه وعليه أكثر الأصحاب ومن الأصحاب (أي الحنابلة) من كفر المخالفين، وأما الفقهاء فقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال " لا أرد شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية لأنهم يجيزون الكذب نصرة لبعضهم البعض على مخالفيهم، وأما أبو حنيفة رحمه الله فقد حكى الحاكم صاحب المختصر في كتاب المنتقى عن أبي حنيفة أنه لم يكفر أحد من أهل الملة وحكى أبو بكر الرازي عن الكرخي وغيره مثل ذلك والذي نختاره- أي ابن تيمية- أن لا نكفر أحدا من أهل القبلة....."<ref>تقي الدين عبد الحليم ابن تيمية، درء تعارض العقل والثقل، ج 01، دار الكتب العلمية، 1417 ه، بيروت، ص95.</ref> فمجرد الاختلاف في يخرج من الملة، بل عد صاحبه مجتهد مخطئ معذور ذا صلاح فهذا لا يشمله الوعيد بالهلاك كما لا يشمل المتأول الصالح.<ref>انظر: ابن تيمية، الفتاوى،ج03، ص179.</ref>، وفي كتابه "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية" والذي صنفه للرد على مقالات الإمامية ووجه لهم فيه نقدا لاذعا لم يخرجهم من دائرة الإسلام واعتبرهم من طوائف المسلمين وفي ذلك يقول شمس الدين الذهبي: [رأيت للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة رواها البيهقي، سمعت أبا حازم العبدوي، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول : "لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داره ببغداد دعاني فأتيته فقال :أشهد علي أني لا أكفر أحدا من أهل القبلة؛ لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات: قلت وبنحو هذا أَدين، وهكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: "أنا لا أكفر أحدا من الأمة، ويقول قال النبي صلى الله عليه وسلم : "سدّدوا وقاربوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على إلا مؤمن"]<ref>صحيح ابن حبان، كتاب الطهارة باب ذكر إثبات الإيمان للمحافظ على الوضوء ج03 ، ص 311 رقم الحديث 1037.</ref>. | + | وهو دليل على ترك التعصب الديني الكريه، والترفع عن الأحقاد، لأن الإنسان لا يصح له أن يتجاوز السنن الإلهية وعليه أن يرضى بما رضي الله تعالى، فليس لأي أحد التسرع في تكفير الآخرين لأنه سلوك منفر ومبعد، كما ليس لأي مسلم إيذاء مشاعر الآخرين أو الاستعلاء عليهم أو احتقارهم أو التنكيل بهم حتى مع أشد الناس كفرا وهم المشركون الوثنيون لقوله تعالى: <big>{{قرآن نبذة|وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }}</big> [الأنعام: 108] أي أن سب الآلهة الباطلة أمام أتباعها مدعاة لسب الإله الحق، فيمنع ذلك سدا للذرائع<ref>الزحيلي، المرجع نفسه، ص 570-571.</ref>، وإنّ من صميم التعصب الدعوة إلى فكر معين وتكفير ما سواه والتعصب للرجال والأقوال، وتكفير المخالف ولو ترك مستحبا كما فعل المتعصبون للمذاهب في عصور الانحطاط يقول أبو الحسن الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين: "اختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضلل فيها بعضهم بعضا وتبرأ بعضهم من بعض فصاروا فرقا متباينين إلا أن الإسلام يجمعهم فيعمهم"<ref>علي بن اسماعيل الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق : هيلموت رتير، دار إحياء التراث، دت، بيروت، ص 201.</ref> وعلق ابن تيمية على ذلك بقوله " فهذا مذهبه وعليه أكثر الأصحاب ومن الأصحاب (أي الحنابلة) من كفر المخالفين، وأما الفقهاء فقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال " لا أرد شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية لأنهم يجيزون الكذب نصرة لبعضهم البعض على مخالفيهم، وأما أبو حنيفة رحمه الله فقد حكى الحاكم صاحب المختصر في كتاب المنتقى عن أبي حنيفة أنه لم يكفر أحد من أهل الملة وحكى أبو بكر الرازي عن الكرخي وغيره مثل ذلك والذي نختاره- أي ابن تيمية- أن لا نكفر أحدا من أهل القبلة....."<ref>تقي الدين عبد الحليم ابن تيمية، درء تعارض العقل والثقل، ج 01، دار الكتب العلمية، 1417 ه، بيروت، ص95.</ref> فمجرد الاختلاف في يخرج من الملة، بل عد صاحبه مجتهد مخطئ معذور ذا صلاح فهذا لا يشمله الوعيد بالهلاك كما لا يشمل المتأول الصالح.<ref>انظر: ابن تيمية، الفتاوى،ج03، ص179.</ref>، وفي كتابه "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية" والذي صنفه للرد على مقالات الإمامية ووجه لهم فيه نقدا لاذعا لم يخرجهم من دائرة الإسلام واعتبرهم من طوائف المسلمين وفي ذلك يقول شمس الدين الذهبي: [رأيت للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة رواها البيهقي، سمعت أبا حازم العبدوي، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول : "لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داره ببغداد دعاني فأتيته فقال :أشهد علي أني لا أكفر أحدا من أهل القبلة؛ لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات: قلت وبنحو هذا أَدين، وهكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: "أنا لا أكفر أحدا من الأمة، ويقول قال النبي صلى الله عليه وسلم : "سدّدوا وقاربوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على إلا مؤمن"]<ref>صحيح ابن حبان، كتاب الطهارة باب ذكر إثبات الإيمان للمحافظ على الوضوء ج03 ، ص 311 رقم الحديث 1037.</ref>. |
فالخلاصة التي وصل إليها هؤلاء العلماء بعد رحلة طويلة أن الخلافات العقدية والفقهية بين المسلمين طالما أنها لم تخرجهم عن عبادة الله وحده، فلا يجب أن تكون مدخلا لإصدار أحكام التكفير المتبادلة، ولعل استشهاد ابن تيمية بالوضوء والصلاة - التي هي شعيرة توحيد الله عز وجل والخضوع له والثمرة الظاهرة للعقيدة -كان لتخليص معايير الالتزام بالعقيدة من كل التعقيدات التي أقحمتها الخلافات والجدالات الكلامية والمذهبية عليها<ref>طه جابر العلواني، من أدب الاختلاف إلى نبذ الخلاف، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1438ه= 2017ه، فرجينيا، ص 202-203.</ref> وعليه فالخلاف بين الفرق المختلفة من أهل القبلة لا يخرج من الملة لأن ما يجمع بينهم أكبر بكثير من الاختلافات الموجودة. وعليه فإن نبذ التعصب يؤدي إلى التعارف بين بني البشر كلهم وبين بني الإسلام كذلك. | فالخلاصة التي وصل إليها هؤلاء العلماء بعد رحلة طويلة أن الخلافات العقدية والفقهية بين المسلمين طالما أنها لم تخرجهم عن عبادة الله وحده، فلا يجب أن تكون مدخلا لإصدار أحكام التكفير المتبادلة، ولعل استشهاد ابن تيمية بالوضوء والصلاة - التي هي شعيرة توحيد الله عز وجل والخضوع له والثمرة الظاهرة للعقيدة -كان لتخليص معايير الالتزام بالعقيدة من كل التعقيدات التي أقحمتها الخلافات والجدالات الكلامية والمذهبية عليها<ref>طه جابر العلواني، من أدب الاختلاف إلى نبذ الخلاف، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1438ه= 2017ه، فرجينيا، ص 202-203.</ref> وعليه فالخلاف بين الفرق المختلفة من أهل القبلة لا يخرج من الملة لأن ما يجمع بينهم أكبر بكثير من الاختلافات الموجودة. وعليه فإن نبذ التعصب يؤدي إلى التعارف بين بني البشر كلهم وبين بني الإسلام كذلك. | ||
+ | </big> | ||
− | + | ====<big>4- اللجوء إلى الحوار بغية الاتفاق مع الاختلاف:</big>==== | |
− | فالحوار كذلك أداة لتجاوز الخلافات وتحقيق السلام والتعارف، وقد كان الإسلام دائما سباقا إلى الدعوة للحوار وخاصة عند اشتداد الخلاف، أي عند تحول الخلاف إلى جدال قال تعالى:{{قرآن نبذة|وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}} [العنكبوت:46] وقال:{{قرآن نبذة|ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}} [النحل: 125] وجعل الحكمة هي أساس الحوار البناء، ولا جدال في أن الحوار من شأنه أن يثري تبادل الأفكار والرؤى بين الحضارات، وهذا بدوره يثري الحوار، وقد شيدت عدة حضارات كالحضارة الأوروبية والإسلامية من خلال التفاعل الحضاري، كما استطاعت أوروبا في العصر الوسيط أن تتحرر من الفكر الاعتقادي الضيق عن طريق احتكاكها بالحضارات الأخرى، وبذلك استطاعت أوروبا أن تضع لنفسها منهجا وغيرت مسارها نحو التجديد، واليوم نجد الأمر على العكس من ذلك؛ فالعالم الإسلامي يجب عليه أن ينهج نفس النهج والتفاعل مع الحضارة الأوروبية وأخذ ما عندها من إنجازات علمية تكنولوجية، ولكن دون خسارة لذاتهم فالحفاظ على ذاتهم مطلوب من أجل التكيف مع متطلبات العصر وهذا الجزء غائب في المدنية الغربية<ref>محمود زقزوق، المرجع السابق، ص50. بتصرف</ref>. | + | <big>فالحوار كذلك أداة لتجاوز الخلافات وتحقيق السلام والتعارف، وقد كان الإسلام دائما سباقا إلى الدعوة للحوار وخاصة عند اشتداد الخلاف، أي عند تحول الخلاف إلى جدال قال تعالى:<big>{{قرآن نبذة|وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}}</big> [العنكبوت:46] وقال:<big>{{قرآن نبذة|ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}}</big> [النحل: 125] وجعل الحكمة هي أساس الحوار البناء، ولا جدال في أن الحوار من شأنه أن يثري تبادل الأفكار والرؤى بين الحضارات، وهذا بدوره يثري الحوار، وقد شيدت عدة حضارات كالحضارة الأوروبية والإسلامية من خلال التفاعل الحضاري، كما استطاعت أوروبا في العصر الوسيط أن تتحرر من الفكر الاعتقادي الضيق عن طريق احتكاكها بالحضارات الأخرى، وبذلك استطاعت أوروبا أن تضع لنفسها منهجا وغيرت مسارها نحو التجديد، واليوم نجد الأمر على العكس من ذلك؛ فالعالم الإسلامي يجب عليه أن ينهج نفس النهج والتفاعل مع الحضارة الأوروبية وأخذ ما عندها من إنجازات علمية تكنولوجية، ولكن دون خسارة لذاتهم فالحفاظ على ذاتهم مطلوب من أجل التكيف مع متطلبات العصر وهذا الجزء غائب في المدنية الغربية<ref>محمود زقزوق، المرجع السابق، ص50. بتصرف</ref>. |
− | إذن: فالحوار أسلوب راق للتعامل مع الآخر المخالف؛ فهو وسيلة للإقناع والبيان، وهو نوع من المجادلة بالحق وقد وردت في القرآن الكريم والسنة المطهرة أمثلة عديدة لحوارات مفيدة منها محاورة إبراهيم عليه السلام مع قومه ومحاورة موسى مع فرعون، ومحاورة قوم موسى المؤمنين مع قارون، كما أنه قد وردت الدعوة إلى الحوار مع أهل الكتاب في القرآن الكريم {{قرآن نبذة|قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}} [آل عمران: 64] وفي سنة المصطفى عليه السلام أمثلة كثيرة لهذه الحوارات مع الكفار ومع الجهلة ومع غيرهم مما يدل على أن الحوار أمر مشروع وأنه يتبوأ مكانة عالية في منهج الإسلام السمح في معاملة المخالفين<ref>حمزة بن حسن القعر، سماحة الإسلام في التعامل مع المخالف، بحث ضمن: بحوث ندوة أثر القرآن الكريم في تحقيق الوسطية ودفع الغلو، دط، د.د، دت، دم، ص100.</ref>، وهذا يبيّن أن الإسلام يرفض دعوى الصدام بين الحضارات ويدعو إلى الحوار بينها، ومن هذا يقول الله تعالى في آية الحجرات"لتعارفوا" ففي الحوار تستطيع الشعوب أن يتعرف كل منها على الآخر، وأن يثري بعضها بعضا عن طريق التبادل الحضاري والثقافي، فيدعو الإسلام إلى التنافس السلمي بين الحضارات في الخيرات، وقد كان الله قادرا على أن يخلق الناس جميعا أمة واحدة [غير مختلفة]، ولو كان قد حدث لما كان هناك ضرورة إلى حوار ديني أو حوار حضاري أو تنافس في الخيرات بين المجتمعات والله تعالى يقول: {{قرآن نبذة|لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا" "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}} [المائدة:48]<ref>محمود زقزوق، المرجع السابق، ص55. </ref>، ومنه فالحوار وسيلة لنقل المعارف والأخلاق والأفكار، والحضارة والثقافة وليس وسيلة للجدال والعنف والقتال حيث يسعى أتباع كل دين نشر دينهم على حساب ديانة الآخرين ويظهر التناحر بينهم أكثر عند التعصب والجهل بالحقائق، والحوار أفضل طريق ووسيلة لتفادي الحروب الدينية ونشر السلام الذي جاءت تنشده كل الأديان؛ بمعنى التعارف بين الأديان رغم الاختلاف. | + | إذن: فالحوار أسلوب راق للتعامل مع الآخر المخالف؛ فهو وسيلة للإقناع والبيان، وهو نوع من المجادلة بالحق وقد وردت في القرآن الكريم والسنة المطهرة أمثلة عديدة لحوارات مفيدة منها محاورة إبراهيم عليه السلام مع قومه ومحاورة موسى مع فرعون، ومحاورة قوم موسى المؤمنين مع قارون، كما أنه قد وردت الدعوة إلى الحوار مع أهل الكتاب في القرآن الكريم <big>{{قرآن نبذة|قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}}</big> [آل عمران: 64] وفي سنة المصطفى عليه السلام أمثلة كثيرة لهذه الحوارات مع الكفار ومع الجهلة ومع غيرهم مما يدل على أن الحوار أمر مشروع وأنه يتبوأ مكانة عالية في منهج الإسلام السمح في معاملة المخالفين<ref>حمزة بن حسن القعر، سماحة الإسلام في التعامل مع المخالف، بحث ضمن: بحوث ندوة أثر القرآن الكريم في تحقيق الوسطية ودفع الغلو، دط، د.د، دت، دم، ص100.</ref>، وهذا يبيّن أن الإسلام يرفض دعوى الصدام بين الحضارات ويدعو إلى الحوار بينها، ومن هذا يقول الله تعالى في آية الحجرات"لتعارفوا" ففي الحوار تستطيع الشعوب أن يتعرف كل منها على الآخر، وأن يثري بعضها بعضا عن طريق التبادل الحضاري والثقافي، فيدعو الإسلام إلى التنافس السلمي بين الحضارات في الخيرات، وقد كان الله قادرا على أن يخلق الناس جميعا أمة واحدة [غير مختلفة]، ولو كان قد حدث لما كان هناك ضرورة إلى حوار ديني أو حوار حضاري أو تنافس في الخيرات بين المجتمعات والله تعالى يقول: <big>{{قرآن نبذة|لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا" "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}}</big> [المائدة:48]<ref>محمود زقزوق، المرجع السابق، ص55. </ref>، ومنه فالحوار وسيلة لنقل المعارف والأخلاق والأفكار، والحضارة والثقافة وليس وسيلة للجدال والعنف والقتال حيث يسعى أتباع كل دين نشر دينهم على حساب ديانة الآخرين ويظهر التناحر بينهم أكثر عند التعصب والجهل بالحقائق، والحوار أفضل طريق ووسيلة لتفادي الحروب الدينية ونشر السلام الذي جاءت تنشده كل الأديان؛ بمعنى التعارف بين الأديان رغم الاختلاف. |
− | فالدعوة للتعارف في ضوء اختلاف الأديان لا تعني مجرد تجاوز الأديان بعضها لبعض، بل يعني ما هو أبعد من ذلك وهو التعاون والتعايش الإيجابي الفعال والتنافس فيما يجلب الخير للناس ويشير القرآن إلى ذلك بقوله: {{قرآن نبذة|لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}} [المائدة:48]، فاختلاف الأديان سنة كونية كذلك ولكن على الإنسان أن يجعل منها منطلقا للتعارف والتآخي لا للتناحر والتعادي وهي دعوة الإسلام في دستوره الخالد القرآن الكريم. | + | فالدعوة للتعارف في ضوء اختلاف الأديان لا تعني مجرد تجاوز الأديان بعضها لبعض، بل يعني ما هو أبعد من ذلك وهو التعاون والتعايش الإيجابي الفعال والتنافس فيما يجلب الخير للناس ويشير القرآن إلى ذلك بقوله: <big>{{قرآن نبذة|لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}}</big> [المائدة:48]، فاختلاف الأديان سنة كونية كذلك ولكن على الإنسان أن يجعل منها منطلقا للتعارف والتآخي لا للتناحر والتعادي وهي دعوة الإسلام في دستوره الخالد القرآن الكريم. |
− | ولعلّ إدراك أن الأديان كلها تشترك في الدعوة إلى رب واحد وكذلك لكل البشر أصل واحد كاف بأن نجعل الاختلافات بين البشر تمثل مصدر ثراء للبشرية، وأن رابطة البشرية والإخاء الإنساني كفيل بتحقيق التعاون وقبول بعضهم رغم الاختلاف فجوهر الإنسان واحد في كل زمان ومكان ومهمة الأديان إبراز هذه المعاني الإنسانية للناس، فالوعي بذلك من شأنه أن يؤكّد التقارب والتعارف بين الناس وليس التباغض والتباعد وهو ما أشار إليه القرآن في آية الحجرات دائما. قال تعالى: {{قرآن نبذة|قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}} [آل عمران:64] فالرسالة الأساسية لكل الأديان واحدة وهي تبين اتحاد الأديان في جوهرها وأما الاختلاف فهو بسبب العقل -كما قلنا سابقا- ولكن هذا الاختلاف تضبطه وحدة الأصل ووحدة الهدف فمنها تكون الإنسانية مشتركة في الأخوة الإنسانية والإيمانية وبها يكون التعارف والدعوة إلى الخير بدل التناحر والتقاتل فالإنسانية تجمع البشر كلهم وكذلك الأديان ولا يكون ذلك إلا بالسلام والتسامح والتعاون" {{قرآن نبذة|ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات}}. | + | ولعلّ إدراك أن الأديان كلها تشترك في الدعوة إلى رب واحد وكذلك لكل البشر أصل واحد كاف بأن نجعل الاختلافات بين البشر تمثل مصدر ثراء للبشرية، وأن رابطة البشرية والإخاء الإنساني كفيل بتحقيق التعاون وقبول بعضهم رغم الاختلاف فجوهر الإنسان واحد في كل زمان ومكان ومهمة الأديان إبراز هذه المعاني الإنسانية للناس، فالوعي بذلك من شأنه أن يؤكّد التقارب والتعارف بين الناس وليس التباغض والتباعد وهو ما أشار إليه القرآن في آية الحجرات دائما. قال تعالى: <big>{{قرآن نبذة|قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}}</big> [آل عمران:64] فالرسالة الأساسية لكل الأديان واحدة وهي تبين اتحاد الأديان في جوهرها وأما الاختلاف فهو بسبب العقل -كما قلنا سابقا- ولكن هذا الاختلاف تضبطه وحدة الأصل ووحدة الهدف فمنها تكون الإنسانية مشتركة في الأخوة الإنسانية والإيمانية وبها يكون التعارف والدعوة إلى الخير بدل التناحر والتقاتل فالإنسانية تجمع البشر كلهم وكذلك الأديان ولا يكون ذلك إلا بالسلام والتسامح والتعاون" <big>{{قرآن نبذة|ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات}}</big>. |
وحق لنا أن نقول أن الإسلام لم ينتشر نظامه في المشارق والمغارب إلا بفضل الحوار الهادف، فبالحوار والإقناع وإعطاء التصور الصحيح للإسلام، ومحاولة نقاش الآخرين واحترامهم تحقق انتصار الإسلام، وتم قبول دعوته السامية القائمة على البساطة والاعتقاد الصحيح، والتزام حقوق الإنسان، ولاسيما العمل بمقتضى العدالة والمساواة والحرية والإخاء الإنساني والمرونة.<ref>وهبة الزحيلي، قضايا الفقه والفكر، المرجع السابق، ص573.</ref> ودعوة الإسلام للحوار تدل على أن الإسلام قد جعل السلام قاعدته الأولى، وجعل القتال بأسباب ومبررات وضرورة. | وحق لنا أن نقول أن الإسلام لم ينتشر نظامه في المشارق والمغارب إلا بفضل الحوار الهادف، فبالحوار والإقناع وإعطاء التصور الصحيح للإسلام، ومحاولة نقاش الآخرين واحترامهم تحقق انتصار الإسلام، وتم قبول دعوته السامية القائمة على البساطة والاعتقاد الصحيح، والتزام حقوق الإنسان، ولاسيما العمل بمقتضى العدالة والمساواة والحرية والإخاء الإنساني والمرونة.<ref>وهبة الزحيلي، قضايا الفقه والفكر، المرجع السابق، ص573.</ref> ودعوة الإسلام للحوار تدل على أن الإسلام قد جعل السلام قاعدته الأولى، وجعل القتال بأسباب ومبررات وضرورة. | ||
− | 5- التعاون على الخير: فالتعاون كذلك قيمة وأساس يقوم عليه مقصد التعارف الصحيح، وهو وسيلة لنشر السلام والمحبة في العالم فهو أهم وسيلة للتعارف السلمي بحيث تكتمل مصالح الناس في ضوئه دون نكاية أو إجحاف، والتعاون الذي يُقيم العلاقات ويتممها لتكون في تحقيق الصَّالح العام للمجتمع الواحد وللمجتمع الدولي هو التعاون على البر والإحسان لا التعاون على الإثمِ والعدوان، قال تعالى: | + | </big> |
+ | |||
+ | ====<big>5- التعاون على الخير:</big>==== | ||
+ | <big>فالتعاون كذلك قيمة وأساس يقوم عليه مقصد التعارف الصحيح، وهو وسيلة لنشر السلام والمحبة في العالم فهو أهم وسيلة للتعارف السلمي بحيث تكتمل مصالح الناس في ضوئه دون نكاية أو إجحاف، والتعاون الذي يُقيم العلاقات ويتممها لتكون في تحقيق الصَّالح العام للمجتمع الواحد وللمجتمع الدولي هو التعاون على البر والإحسان لا التعاون على الإثمِ والعدوان، قال تعالى:<big>{{قرآن نبذة|وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}}</big> (المائدة: 02)<ref>أبو زهرة، العلاقات الدولية، المرجع السابق، ص (25-26).</ref>، والتعاون يعني التنافس على الخير والعمل على إشاعته وهو باب واسع من أبواب الرحمة دعا إليه القرآن وبين أثره العظيم في بناء الأمم ونشر الفضيلة قال تعالى: <big>{{قرآن نبذة|وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}}</big> وقال <big>{{قرآن نبذة|وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}}</big> [الحج:77] والتعاون يهيئ المناخ المناسب لإقامة جلائل الأعمال العلمية والتطبيقية بالقيام بأعمال جماعية نافعة للإنسانية رافعة للجماعة سواء الإسلامية أو الإنسانية، فهو وسيلة لتحقيق خير عظيم ومنافع جسيمة وتدعيم الروح الجماعية لدى المسلمين، ولذلك أمر الله به في كتابه العزيز؛ لكن قيده بأن يكون على البر والتقوى، لا تعاونا على الإثم والعدوان، والتعاون على البر يشمل كل ما فيه مصلحة وإقامة الخير في المجتمع، ودفع الفساد والإفساد في الأرض وخراب العمران وإثارة الفتنة والقتل...<ref>عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، الأخلاق الإسلامية وأسسها، ج02، ط5، دار القلم، 1420ه= 1999م، دمشق، ص202-203.</ref>. | ||
− | وقد زخر القرآن الكريم بالدعوة إلى فعل الخير وترك الشر قال تعالى: {{قرآن نبذة|فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ}} [البقرة: 148]، وقال أيضاً {{قرآن نبذة|يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصّالِحِينَ}} [آل عمران: 114]، وقال: {{قرآن نبذة|وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ}} [المائدة: 48]، {{قرآن نبذة|وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}} [التوبة: 88]، {{قرآن نبذة|إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً}} [الأنبياء: 90]، {{قرآن نبذة|أُولَئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَهاسابِقُونَ}} [المؤمنون: 61]، ومبنى الخير هو تحقيق المصلحة الدائمة ورعاية المصلحة الإنسانية التي أشاد بها الفقهاء في بيان ما يعرف بمقاصد الشريعة العامة وهي الأصول الخمسة الكلية التي لا تحل في كل دين، وهي رعاية الدين والنفس والعقل والعرض والمال<ref>وهبة الزحيلي، قيمة الخير العام، المرجع السابق، ص3-4.</ref> فالتعاون المطلوب هو كل ما يقيمها والإثم المذموم هو كل ما يعيقها. | + | وقد زخر القرآن الكريم بالدعوة إلى فعل الخير وترك الشر قال تعالى: <big>{{قرآن نبذة|فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ}}</big> [البقرة: 148]، وقال أيضاً <big>{{قرآن نبذة|يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصّالِحِينَ}}</big> [آل عمران: 114]، وقال: <big>{{قرآن نبذة|وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ}} [المائدة: 48]، {{قرآن نبذة|وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}}</big> [التوبة: 88]، <big>{{قرآن نبذة|إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً}} [الأنبياء: 90]، {{قرآن نبذة|أُولَئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَهاسابِقُونَ}}</big> [المؤمنون: 61]، ومبنى الخير هو تحقيق المصلحة الدائمة ورعاية المصلحة الإنسانية التي أشاد بها الفقهاء في بيان ما يعرف بمقاصد الشريعة العامة وهي الأصول الخمسة الكلية التي لا تحل في كل دين، وهي رعاية الدين والنفس والعقل والعرض والمال<ref>وهبة الزحيلي، قيمة الخير العام، المرجع السابق، ص3-4.</ref> فالتعاون المطلوب هو كل ما يقيمها والإثم المذموم هو كل ما يعيقها. |
فالتعاون إذن وسيلة لتحقيق التعارف وتجاوز الاختلافات في ضوء قيم المحبة والرحمة والوئام؛ وهو أهم أساس يقوم عليه السلام في الإسلام. | فالتعاون إذن وسيلة لتحقيق التعارف وتجاوز الاختلافات في ضوء قيم المحبة والرحمة والوئام؛ وهو أهم أساس يقوم عليه السلام في الإسلام. | ||
− | </big> | + | </big></big> |
− | =خاتمـة= | + | =<big>خاتمـة</big>= |
− | <big>مما سبق يتبين أن الاختلاف بين الناس سنة كونية ومقصد عظيم من خلق الناس رغم وحدة الأصل، مما يجعل الناس كلهم أمة واحدة رغم الاختلاف، وهذه المعادلة الصعبة تبين أن المقصود أساسا من الاختلاف هو التنوع والتعدد ليكون التفاعل والتعارف بين الناس، فالاختلاف مقبول والاتحاد في ضوئه أمر مطلوب ولذلك وقفت على النتائج الآتية: | + | <big><big>مما سبق يتبين أن الاختلاف بين الناس سنة كونية ومقصد عظيم من خلق الناس رغم وحدة الأصل، مما يجعل الناس كلهم أمة واحدة رغم الاختلاف، وهذه المعادلة الصعبة تبين أن المقصود أساسا من الاختلاف هو التنوع والتعدد ليكون التفاعل والتعارف بين الناس، فالاختلاف مقبول والاتحاد في ضوئه أمر مطلوب ولذلك وقفت على النتائج الآتية: |
1- يختلف حكم الاختلاف حسب نوعه، فقد يكون سنة كونية وآية من آيات الله في الخلق وهذا هو الاختلاف الكوني، وقد يكون مذموما إذا أدى إلى التفرق وخاصة اختلاف الأمة الإسلامية. | 1- يختلف حكم الاختلاف حسب نوعه، فقد يكون سنة كونية وآية من آيات الله في الخلق وهذا هو الاختلاف الكوني، وقد يكون مذموما إذا أدى إلى التفرق وخاصة اختلاف الأمة الإسلامية. | ||
سطر ١٦٢: | سطر ١٧٨: | ||
والله تعالى أعلى وأعلم | والله تعالى أعلى وأعلم | ||
+ | </big> | ||
</big> | </big> | ||
المراجعة الحالية بتاريخ ١٩:٤٤، ٢٣ سبتمبر ٢٠٢٢
بسم لله الرحمن الرحيم
إعداد: د. فريدة حايد
قسم الحقوق، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة محمد الصديق بن يحيى، الجزائر
السنة الدراسية: 2022/2023م
محتويات
ملخص البحث
يروم البحث توضيح حقيقة الاختلاف في الشريعة الإسلامية وعلاقته بالتعارف؛ حيث يعتبر الاختلاف سنة الله في الخلق وهو مظهر من مظاهر الرحمة في الإسلام له مقاصده في تحقيق التعاون والتعايش والتعارف بين الناس؛ فالله تعالى خلق الخلق من أصل واحد ولكن خلقهم مختلفين في الجنس واللون واللغة والمكان...فكانوا شعوبا وقبائل متنوعة لا يربطهم إلا رابط الإنسانية الواحدة، هذا الرابط الذي يوحي بالتناغم والتكامل لا التناحر والتفرق؛ فما هي حدود هذا الاختلاف وكيفية تجاوزه واحتوائه حتى يصبح أداة للتعارف والتقارب، وما هي آليات التقارب المشروعة لتحقيق مقاصد الله تعالى في الخلق والنهوض بأمانة الاستخلاف؟ هذا ما حاولت معالجته في هذا البحث وذلك بالوقوف على إشكالية الاختلاف والدعوة إلى ضبطه بضوابط الرحمة والتعاون والتعارف بدل التقاتل والتناحر، فنقف من خلال هذه المناقشة على حقيقة الدعوة للتراحم في الإسلام وحدود الاتحاد والوحدة والتآلف إسهاما في تغيير الواقع المعيش وإصلاح الفكر المتطرف الذي يؤدي إلى التكفير والإقصاء بدل التعاون والبناء، وهذا ما يبيّن أهمية الموضوع لأنه يعالج موضوع الاختلاف في الإسلام من زاوية مقاصدية بربطه بمقصد التعارف المبني على المحبة والسلم والود والرحمة والتعاون لا على التناحر والتقاتل؛ فالتنوع في الإسلام مطلوب لكن دون تصادم كما إن الاتحاد مطلوب لكن دون إقصاء، وهذا ما غاب عن ثقافتنا التعاملية في الوقت الحاضر فمراعاة اختلافنا مع غيرنا أمر مطلوب وإرادة التعاون في ظل الاختلاف أمر مطلوب كذلك وهذا أهم ما خرجت به من هذا البحث.
الكلمات المفتاحية: الاختلاف؛ التفرق؛ التعارف؛ الرحمة؛ التعاون؛ الاتحاد.
مقدمــــــــة
الحمد لله الذي خلق الناس مختلفين متنوّعين ودعاهم إلى الاتفاق والاجتماع متعارفين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة لهم بدعوة الإسلام وعلى آله وصحبه الطيّبين الطاهرين وبعد:
يعتبر الاختلاف سنة الله في الخلق وهو مظهر من مظاهر الرحمة في الإسلام له مقاصده في تحقيق التعاون والتعايش والتعارف؛ فالله تعالى خلق الخلق من أصل واحد ولكن خلقهم مختلفين متنوعين قاصدا إلى التعاون والتعارف لا التفرق والتناحر؛ فمقصد الاختلاف في الإسلام هو التعارف المبني على المحبة والسلم والود والرحمة والتعاون على البناء والتعمير وتحقيق المصالح لا على التناحر والتقاتل وجلب المفاسد، فالإنسانية في إطار الأصل الواحد لها قواسم مشتركة ترسم طريق التعامل الإنساني المبني على المحبة والرفق واحترام الآخر وضبط التعامل معه في إطار المشترك الإنساني الذي يحمل البشر على احترام الإنسانية في أرواحها وأفكارها وديانتها وأموالها وأعراضها... لا أن يقضي عليها بالاعتداء والقتل وفرض القول الواحد والنوع الواحد والثقافة الواحدة... فالتنوع في الإسلام مطلوب لكن دون تفرق كما إن الاتحاد مطلوب لكن دون إقصاء، وهذا ما نراه غائبا عن ثقافتنا التعاملية المعاصرة، فمراعاة اختلاف الناس أمر مطلوب وإرادة التعاون في ظل الاختلاف أمر مطلوب كذلك؛ لذلك أردت من خلال هذه الورقة معالجة إشكالية الاختلاف والدعوة إلى ضبطه بضوابط الرحمة والتعاون والتعارف بدل التقاتل والتناحر.
فما هي حدود الاختلاف وكيف يمكن ضبطه في ضوء مقصد التعارف في الإسلام؟ هذا ما أردت التركيز عليه ضمن هذه الإشكالية بهدف معرفة أصل الاختلاف الواقع بين الناس وأثره في تفرقهم واتحادهم، ومحاولة وضع ضوابط للاختلاف والخلاف في ضوء تعاليم الإسلام بالتنبيه إلى مقصد التعارف وأثره البالغ في حصر الخلاف وضبطه لقيامه على مبدأ السلام والمحبة والوئام والتعاون ونبذ الفرقة والشقاق والاعتداء والاستعباد وحمل الناس على لون واحد وقول واحد والتي تمثل عنصرية مقيتة جاء الإسلام ودعوته الأولى محوها ومحو آثارها بالدعوة إلى الإنصاف في التعامل والعدل في إطار المشترك الإنساني الواحد رغم الاختلاف؛ ولعل هذا يبيّن أهمية البحث في كونه يسهم في بيان أسس التعامل مع المخالف في ضوء علاقات دولية مبنية على المشاحنة والقتال وإقصاء المخالف وإرغامه على نوع فكر وحضارة في تغليب لمنطق القوة على منطق المحبة والسلام والتعاون، أما الإسلام فيدعو من خلال أحكامه إلى ضبط الخلاف بين الناس بضوابط الرحمة والمودة والتعاون على الخير وتمثّل هذه سبيل الخروج من الخلاف وتقبله، والأمر ذاته في الخلاف العلمي الواقع بين المسلمين فالمخالف في العقيدة لا يخرج من الملة إلا بيقين وأما الخلاف في الفقه فهو سبيل نهضة الأمة له دوره في توسيع دائرة الاجتهاد ولكن التعصب له مذموم دائما كما هي القاعدة العامة في الخلاف الإنساني الكوني.
وارتأيت لعرض الموضوع توظيف المنهج الاستقرائي التحليلي؛ حيث تبرز ضرورة إعمال الأول في جمع المادة العلمية من مظانها واستقراء جزئياتها وأقوال العلماء الخاصة بتعريف الاختلاف وبيان حقيقته وأنواعه، كما يبدو في تحديد معالم التّعارف وأسسه التي يقوم عليها وعلاقته بالاختلاف وتحقيق الأصلح، أما المنهج التحليلي فهو أداة لتوضيح حدود مشروعية الاختلاف واستنتاج ضوابطه، وربط تلك الضوابط بمقصد التعارف والتعاون في الإسلام، أما خطة البحث فقسّمتها إلى مبحثين الأول بعنوان: حقيقة الاختلاف بالتعرض إلى تعريفه وأنواعه وحكمه والثاني بعنوان: التعارف الإنساني في ضوء الاختلاف.
المبحث الأول: حقيقة الاختلاف
قبل التّفصيل في الموضوع لابد من الإحاطة بفقه الاختلاف من حيث تعريفه ثم معرفة أنواعه وحكم كل نوع كالآتي:
المطلب الأول: تعريف الاختلاف
نعرّفه في اللغة والاصطلاح كالآتي:
أولا- الاختلاف في اللغة: الاختلاف في اللغة مأخوذ من مادة "خلف" وتعني التّغير وأن يجيء شيء بعد شيء يقوم مقامه يقال: اختلف الناس في كذا والناس مختلفون لأن كل واحد منهم ينحي قول صاحبه ويقيم نفسه مقام الذي نحاه[١]، والاختلاف أعم من الضد لأن كل ضدين مختلفين وليس كل مختلفين ضدين؛ فمثلاً: السواد والبياض ضدان ومختلفان أما الحمرة والخضرة فمختلفان وليسا ضدين[٢]؛ ومنه فالاختلاف في اللغة يدل على مطلق التغير سواء في الذوات أو المواد أو الأقوال.
ثانيا- الاختلاف اصطلاحا: الخلاف والاختلاف اصطلاحا ضد الاتفاق وهو: "أن يذهب كل واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر"[٣] وفي تعريف: "أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو قوله"[٤] ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يقتضي التنازع استعير كذلك للمنازعة والمجادلة فعرفه الجرجاني بهذا المعنى بأنه: "منازعة تجري بين المتعارضين لتحقيق حق أو لإبطال باطل"[٥] وقد جعل منه طه جابر العلواني "مطلق التمايز والمغايرة في القول أو الرأي أو الحالة أو الهيئة أو الموقف"[٦] مما يعني وجود آراء ومذاهب متنوعة ومتباينة تختلف عن بعضها البعض، وقد فرّق بعض العلماء بين الخلاف وبين الاختلاف من وجوه نذكر منها[٧]:
- الاختلاف أن يكون الطريق مختلفا والمقصود واحدا والخلاف أن يكون كلاهما مختلفا.
- الاختلاف ما يستند إلى دليل والخلاف ما لا يستند إلى دليل.
- الاختلاف من آثار الرحمة و(المراد فيه الاجتهاد لاختلاف الناس في الهمم) والخلاف من آثار البدعة.
- الاختلاف ما وقع في محل يجوز فيه الاجتهاد والخلاف ما وقع في محل لا يجوز فيه الاجتهاد.
- الاختلاف قد يوحي بشيء من التكامل والتناغم كما في قوله تعالى:﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا﴾[فاطر:27] أما الخلاف فإنه لا يوحي بذلك.
أما مادة الاختلاف فقد وردت في القرآن الكريم كثيرا منها قوله تعالى:﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِم﴾[مريم: 37]، وقوله:﴿يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾[البقرة: 113]، وقال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾[لبقرة:213]، وقال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ﴾[الشورى:10]، وكذلك مادة الخلاف قال تعالى:﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾[هود:88]، وقال تعالى:﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْر﴾[النور:63]، وجاء بصيغة المصدر قال تعالى:﴿لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً﴾[الإسراء: 76 ]، وقال تعالى: ﴿وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاف﴾[المائدة:33] وكلها تعني في القرآن الكريم المعارضة وعدم المماثلة.
المطلب الثاني: أنواع الاختلاف وحكمه
إذا جئنا نتحدث عن حكم الاختلاف فهو موضوع متشعّب يصعب ضبط الكلام فيه لأنّ الشائع في كلام العلماء ارتباطه أساسا بالاختلاف الفقهي في الإسلام بينما يهمل الكلام عن الخلاف الفطري الإنساني الذي ظهرت آثاره بين الإنسانية بعد تقارب المسافات وزوال الحواجز في ضوء التكنولوجيا، ولذلك يختلف حكم الاختلاف حسب نوعه فهناك نوعين من الاختلاف الاختلاف الإنساني والاختلاف في المذاهب والأفكار ونبدأ بالأول:
أولا- الاختلاف الكوني الإنساني:
هذا الاختلاف يتعلّق بأصل الإنسانية فهو من أصل الخلقة والتكوين، فالاختلاف الكوني هو سنة من سنن الله تعالى في الكون وآية من آياته وهو القانون الحاكم لوجود الموجودات من الجماد إلى النبات إلى الحيوان إلى الإنسان وحتى عالم الأفكار...[٨] فالنّاظر في الواقع يجد الاختلاف بين البشر موجود لا محالة وهو فطرة وأن محاولة هدمه ضرب من الخيال، ولكن هذا الاختلاف يحكمه إطار واحد هو الأصل؛ فالإنسانية التي خلقها الله تعالى من نفس واحدة تتنوع إلى شعوب وقبائل وأمم وأجناس وألوان، وكذلك إلى شرائع وإلى مناهج في إطار المشترك الإنساني الواحد قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:01]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾[الروم:22]، ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾[ هود:118-119]، وقوله:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[الحجرات:13].
وهكذا تشير الآيات إلى أن الاختلاف بين البشر سنة كونية وإنّ الأصل الواحد لا يمنع من التنوع فالاختلاف في إطار تلك الوحدة يعتبر تنوعا وتعددا، فالله تعالى خلق الناس أمة واحدة ومن أصل واحد ولكن مختلفين متنوعين في إطار تلك الوحدة الجامعة ولذلك قال: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود:119] قال الطبري -رحمه الله-: "وأولى الأقوال في تأويل ذلك قول من قال معنى ذلك ولا يزال الناس مختلفين في أديانهم وأهوائهم على أديان وملل وأهواء شتى إلا من رحم ربك"[٩] وقال الرازي: "والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال"[١٠]، ومعنى قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ أن الله تعالى جعل بني آدم مختلفين بعد أن كانوا أمّة واحدة أي على فطرة واحدة فركّب الله تعالى في الإنسان فطرة تجمعهم ثم خلق عقلا وجعله واردا على الفطرة، فشاءت حكمته تعالى أن يجعل من العقول نظاما واردا على الفطرة "فيطوّح بها في مسلك الضلالة أو يرفعها إلى مسلك الهدى"[١١] وهو قول ابن عاشور، فباستقامة التفكير وضلالته يستقيم الإنسان أو يشقى ولكن جعل الله منها من يقبل الحق بحسب الفطرة، ثم إذا حجبت الفطرة أرسل الله الرسل والمصلحين للإرشاد والنصح وهذا معنى قوله تعالى:﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾[البقرة:213].
ويعني هذا أن الاختلاف وارد لا محالة بين بني البشر بسبب اختلاف العقول ولكن هناك ما يجمعهم ويلمّ شملهم وهو الفطرة السليمة التي خُلق عليها الإنسان وكانت من أصل واحد، قال ابن تيمية -رحمه الله-: "لا بد أن تقع الذنوب من هذه الأمة ولا بد أن يختلفوا؛ فإن هذا من لوازم الطبع البشري لا يمكن أن يكون بنو آدم إلا كذلك"[١٢]، ففي إطار هذه الوحدة التي تضمن وحدة الكرامة والتكريم ووحدة الحقوق والتكليف ووحدة الحساب والجزاء يعيش الناس متحابون بإقامة العدل والذي تنمحي معه آثار هذا الاختلاف فبالرغم من الاختلاف قد نعيش متحابون متساوون بالعدل والتراحم والتعاون والتعارف وهذا ما أردت أن أفسّره.
وبهذا يفهم أن الله تعالى خلق الناس ليكونوا مختلفين متنوعين ولكن دعا إلى التعاون والتعارف والتّكامل والتفاهم والتعايش، ومعنى ذلك أنه ينكر إكراه الناس بأن يكونوا على لون واحد ونمط واحد للإنسانية، فالإنسانية تتمايز وتتنوع إلى شعوب وقبائل وأمم وأفراد وإلى ملل ونحل ومذاهب[١٣] سواء في الدين أو الحكم أو الاقتصاد أو اللغة قال تعالى:﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾[المائدة: 48] وقال:﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود:118-119]، وكأن الإسلام ينكر المركزية الدينية والمركزية القانونية التي تريد العالم كله خاضعا لمنظومة قانونية واحدة؛ ومعنى ذلك أن الإسلام لا يريد الحياة على نمط واحد في الثقافات واللغات والحضارات والأفكار قال تعالى:﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾[الروم:22]، فالإسلام ينكر المركزية الحضارية التي تريد العالم حضارة واحدة لقسر العالم على نمط حضاري واحد بل الإسلام يريد العالم منتدى حضارات متعددة ومتميّزة، ويريد الإسلام لهذه الحضارات المتعددة أن تتفاعل وتتساند في كل ما هو مشترك إنساني عام، وحتى وحدة العرق والجنس ينكرها الإسلام، ويدعو إلى التعارف في ظل هذا الاختلاف؛ فالوحدة العرقية لا تثمر إلا عنصرية ممقوتة تريد العالم جنسا واحدا وعنصرا واحدا[١٤]، ولذلك يجعل الإسلام من الاختلاف تنوعا هدفه التعارف لا التناحر والتفرق، كما ينكر الوحدة الكلية لكل البشرية حتى تقضي على التنوع والاختلاف.
ولذلك يمكن استنتاج نظرة الإسلام للاختلاف فهي اختلاف في إطار وحدة جامعة، والتنوع هدفه التعارف فإذا تحوّل الاختلاف إلى تناحر جمعتهم وحدة الأصل والإنسانية، وإذا أدركوا الفطرة السليمة فالإسلام يجمعهم لأن الفطرة السليمة ما هي إلا الإسلام، وقد جبر الله صدع العرب - بعد أن كانوا متفرقين - بالإسلام قال تعالى:﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ﴾[آل عمران:103] فردهم إلى الفطرة التي فطرهم عليها، وكذلك الدين الإسلامي يرجع بالناس جميعا إلى الفطرة السليمة[١٥]؛ فالإسلام بهذا يدعو إلى التنوع في إطار الأصل الواحد دون أن يكون ذلك طريقا إلى التناحر، فالوحدة مطلوبة دون قضاء على الاختلاف والاختلاف مقبول دون قضاء على الوحدة الجامعة؛ والسؤال كيف يكون ذلك؟.
نقول في ضوء تشريعات الإسلام المتكاملة لا يكون ذلك إلا بالحفاظ على السّلم والمحبة والوئام والتعاون وحماية حقوق الآخرين فهذه القيم تحمي الاختلاف حتى لا يتحول إلى تفرق، وتحمي الوحدة حتى يكون التفاهم على سواء هذا في الاختلاف البشري الإنساني الكوني، أما في الاختلاف داخل الأمة الإسلامية وهو النوع الثاني من الاختلاف الكائن بين البشر والذي له أثره في واقع الناس اليوم فله حكمه الخاص كما سيأتي:
ثانيا- اختلاف الأمة الإسلامية:
هذا الاختلاف هو الاختلاف الواقع بين الناس داخل الأمة الإسلامية، وهو ما وقع من اختلاف وجدل في فهم نصوص الشريعة الإسلامية فإذا كان الاختلاف الكوني سنة؛ فهل الاختلاف العلمي الإسلامي سنة كذلك؟ ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "اختلاف أمتي رحمة"[١٦] وقد اشتهر هذا الحديث بين الفرق والمذاهب الإسلامية وأتباعهم فهل الاختلاف الإسلامي كله رحمة؟ وليتضح الأمر اضطر إلى الحديث عن الاختلاف العقدي أولا ثم الاختلاف الفقهي ثانيا:
الخلاف العقدي:
وهو الخلاف الواقع في أصول الدين الإسلامي والقطعيات من أصوله فهذا الاختلاف مردود بالاتفاق لأنه يؤدي إلى الكفر والتفرقة والقطيعة والتناحر، وهو الاختلاف الذي وقع وتفرقّت بسببه الأمة إلى بضع وسبعين فرقة وشيعا، وهو الاختلاف الذي جاءت الآيات والأحاديث محذرة منه منها قوله تعالى:﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ﴾ [آل عمران:105] فهذا الاختلاف مردود باتفاق العلماء[١٧]،كما يلحق بهذا الاختلاف ما كان في القطعيات من كليات الشريعة الإسلامية وما هو معلوم من الضرورة منها المتمثلة في الثوابت الخمس ومقاصدها الخمسة: حفظ الدين النفس والعقل النسب والمال فهذه من ثوابت الشريعة والتي لا يمكن الاجتهاد فيها ولا الاختلاف[١٨]، وقد ظهر الخلاف العقدي جليا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وبسببه انقسم المجتمع الإسلامي إلى فرق بعد أن كانوا أمة واحدة، وخاصة بعد حادثة التحكيم، فانقسم المجتمع بعد هذا الخلاف إلى شيعة هم أتباع الإمام علي رضي الله عنه وخوارج وهم من خرجوا عنه وعن عثمان قبله وأهل السنة والجماعة وهم البقية العظمى من المجتمع الإسلامي، وقد توسّع الخلاف بعد ذلك واتّحدت الخلافات السياسية مع العقدية حيث كانت لفكرة الجبر والاختيار مثلا معين سياسي فقد استخدمها بنو أمية ضد جمهور المسلمين ليبرّروا أعمالهم بإضافة الأمر إلى الله، وبذلك أصبحت القواعد العقدية قواعد سياسية بامتياز وبدأت الفتنة بالملوك ثم ختمت بالعامة؛ وقد قتل العامة وغيرهم واستحر القتل في الأمة بسبب هذه الأفكار، كما اقتنع الخوارج كذلك بفكرة تكفير فاعل الكبيرة ولم يبرروا رأي الجبريين وكوّنوا مذهبهم الذي جاء بأخطر النتائج وهو أن الفاسق غير مؤمن فيحل قتله وبالتالي كل من يخالف فكرتهم فهو فاسق ويجوز قتله فانقضوا على مخالفيهم يفشون فيهم القتل الذريع، في حين ظهر أهل السنة برعاية أعظم الفقهاء وعلى رأسهم أبوحنيفة والإمام مالك يقولون بأن فاعل الكبيرة غير كافر ثم ظهرت خلافات أخرى في قضايا العقيدة كتوحيد الذات والصفات وقضية خلق القرآن وغيرها وقد ختم هذا الخلاف بتدخل بعض الفقهاء في قضايا الكلام ولكن حسموه بالخروج عن السياسة والكلام في ضوء الأدلة الصحيحة والتي أرست قواعد العقيدة الصحيحة كما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده[١٩]. وهكذا فإن للخلاف العقدي أثره الواضح في تفرق الأمة شيعا في ضوء الجهل حينا والتشدد المقيت حينا آخر، وإن التسرع في التكفير أكبر طامة بليت بها الأمة الإسلامية في ضوء الفهم الخاطئ لبعض فروع العقيدة ومقاصدها.
الاختلاف الفقهي:
وهو الاختلاف الوارد في الظنيات من الفقه الإسلامي وهذا الاختلاف هناك من أنكره مطلقا وألحقه بالخلاف العقدي وهو قول الظاهرية[٢٠] وبعض أتباعهم في هذا العصر منهم الدكتور محمد طلبة زايد الذي ألف كتابه خطيئة المذاهب، وجمال بن أحمد ابن شربادي في كتابه وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق[٢١]، ومحمد عيد عباسي في كتابه بدعة التعصب المذهبي؛ وهذه الفئة قال فيها الشاطبي رأيهم مردود بالاتفاق[٢٢]؛ وهناك من قبل هذا الاختلاف ولم ينكره وقال إنه رحمة ولكن فيه الخطأ والصواب بمعنى لا يجب التّمادي فيه وإباحة كل اختلاف فإن التمادي فيه يؤدي إلى التناحر والتفرق وعلى رأسهم الشاطبي وابن عاشور العالمين المقاصديين الذين حاولا ضبطه بالمقاصد قال الشاطبي: "وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية حتى صار الخلاف في المسائل معدودا في حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم....فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها وهذا خطأ..."[٢٣]، واستدل أصحاب هذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: "اختلاف أمتي رحمة"[٢٤] ومقتضى هذا القول أنه يجب عند اختلاف العلماء طلب الدليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الأصول منها...فإن استوت الأدلة وجب الميل على الأشباه، فإذا لم يبن ذلك وجب التوقف، ولم يجز القطع إلا بيقين"[٢٥]. وهذا يؤكد النظرة الوسطية للاختلاف في ضوء الأصل الواحد، فلا يجب الاختلاف حتى التناحر ولا الاتفاق حتى التضييق فكلاهما غلو وتطرف. أما الخلاف الذي فيه شر فهو إتباع المستحبات والتعصب للخلاف الوارد فيها، والحل فيها إتباع المصلحة العامة وأن فعلها مستحب وتركها مستحب تأليفا للقلوب ولهذا قال ابن تيمية: "ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيّر بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متما وقال الخلاف شر"[٢٦]، وهو الخلاف الذي أطلق عليه ابن تيمية "خلاف التنوع" بحيث المخالفة فيه لا تقتضي المنافاة ولا تقتضي إبطال أحد القولين للآخر، فيكون كل قول للآخر نوعا لا ضدا[٢٧]. والصحيح أن الاختلاف في الحقيقة هو في الطرق المؤدية إلى مقصد الشارع، وهنا تكمن الرحمة؛ إذ يفتح الباب للنظر والترجيح بين أقوال العلماء ويسلم من مخالفة الأدلة[٢٨]. فالشريعة إذن راعية للاختلاف وهو رحمة، وراعية للاتفاق وهو رحمة كذلك.
وإذا جئنا نتحدث عن الخلاف الفقهي وأثره في المجتمع الإسلامي فإن جدوره تعود إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقعت وقائع بحضرته واختلف الصحابة في فهمها ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يصحح الفهم وقد ينزل الوحي ليزيل الخلاف، ومن هذه الوقائع اختلافهم في فهم أمره صلى الله عليه وسلم في غزوة بني قريضة حين قال: "لا يصلين أحد العصر إلاّ في بني قريظة " فاختلف الصحابة في فهم المقصود من الحديث فمنهم من صلى العصر في الطريق وبعضهم لم يصل إلا في بني قريضة ولم يؤنب الرسول صلى الله عليه وسلم الفريقين ...ثم بعد وفاته زادت الحوادث باتساع الدولة الإسلامية وظهرت نوازل احتاج فيها الصحابة للاجتهاد فكان الاختلاف بين الصحابة ثم زاد في عهد التّابعين وتابعيهم أين ظهر الخلاف جليا بين مدرستي الرأي والحديث ولكن هذه الاختلافات كانت في ضوء الأدلة الشرعية وفي أمور ظنية أو في غياب الأدلة فكان هذا الاختلاف وسيلة لاحتواء التشريع الإسلامي للقضايا الجديدة وقد أثبت الفقهاء في ضوء قواعد أصول الفقه ومقاصد الشريعة صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان ومرونتها فيما يتصل بحياة الناس العملية في إثبات بأن الشريعة ثابتة في أمور كلية ومتغيرة فيما يتعلق بمصالح الناس المتغيرة؛ فكان الاختلاف الفقهي رحمة للناس وسعة كبيرة لكل البقاع الأرضية حتى واقعنا اليوم وقد أدى ذلك إلى ترك ثروة تشريعية كبيرة حيرت كبار مشرعي القانون الوضعي ونحن نأخذ منها اليوم ونجتهد في ضوئها؛ ولم تؤدي هذه الاختلافات إلى القتل باسم الفقه بل كان الفقه متغير مع الحياة ومنظّر لها؛ أما ما شَانَ هذه الاجتهادات فهو التعصب المقيت لها وتقديسها وأئمتها فهذا ما عانت منه الأمة كثيرا ولكن ليس تقتيلا وتكفيرا وإنما تحجيرا للعقول وقتلها بسبب الجهل. وقد أدّى تعارف المدارس الفقهية على بعضها البعض فيما بعد والاطلاع على آرائها وأدلتها إلى التقارب فيما بينها حين ظهر ما يسمى بعلم الخلاف وهو علم الفقه المقارن في ثوبه الجديد الذي بدأ بدراسة الاختلافات في ضوء الأدلة والترجيح بينها ثم أصبح علما فقد ساعد كثيرا على تعارف المدارس على بعضها ودحض الخلافات بينها وهو الآن علم كذلك له قواعده وأثره في حصر الخلافات الكثيرة.
ومما زاد من التواصل الكبير من المدارس والتقارب بين آرائها ظهور مدرسة المقاصد في الاجتهاد فهي المدرسة التي حاولت الربط بين أصول الفقه وغايات التشريع لتكون نبراسا للمتفقهين في الدين وأداة للتقارب عند تطاير شرر الخلاف، فالمقاصد لها دور كبير في حصر الخلاف والتقليل منه وفي ذلك أمثلة كثيرة في ضوء تحكيم غايات الإسلام ومقاصده الكبرى وقد تبقى بعض الخلافات لا يمكن حصرها فهذا رحمة من الله تعالى بنا والمقصود منه استمرار الخلاف وليس تحجيرا فهو رحمة لا محالة وقد يكون الحكم فيه متغير مع تغير المكان والزمان والحال.[٢٩] قال ابن القيم-رحمه الله-: "ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعداوتهم، وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب، فكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف؛ فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية، ولكن إذا كان الأصل واحداً والغاية المطلوبة واحدة، والطريق المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافاً لا يضر"[٣٠].
وعليه فالاختلاف واقع لا محالة في فقه الدين الإسلامي أصولا وفروعا، ولكن التمادي فيه يؤدي إلى التفرق والتشرذم، فكيف يمكن أن نحول هذا الخلاف إلى تنوع وتفاهم، هذا ما سنبينه فيما يأتي ببيان قواعد التعارف في ضوء الاختلاف وهي قواعد عامة لاحتواء الاختلاف الكوني والإسلامي وأردت أن أمر على إشكالية تساوي الناس واختلافهم في الوقت نفسه: </big>
المبحث الثاني: التعارف الإنساني في ضوء المساواة الإنسانية والاختلاف
إذا كان الاختلاف سنة كونية وفطرة فكيف يحقّق التعارف المساواة الإنسانية على حقيقتها ويحافظ عليها ولذلك حق لنا أن نتعرف على المساواة الإنسانية ومعناها:
المطلب الأول: المساواة الإنسانية والاختلاف
تقوم المساواة الإنسانية على التساوي في أصل الخلق والتكريم للناس أجمعين بغض النظر عن أجناسهم وألوانهم وعرقهم وديانتهم ولاشك هذا يحملهم على التعامل بمساواة رغم الاختلاف هذا ما أردت الوقوف عليه وفق العناصر الآتية:
أولا- حقيقة المساواة الإنسانية:
خلق الله الإنسان في أحسن تقويم وكرمه بأن جعله خليفة له في هذه الأرض، ثم سخر له الكون وجعله تحت سلطانه قال تعالى في بعض آيات القرآن الكريم:﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 12-13] وإن هذا يدل على تكريم الإنسان منذ خلق في هذا الكون فقد خلق ليسوده ويسيطر عليه، وقد صرح القرآن بهذا التكريم الإنساني في آيات كثيرة منها ما جاء بصريح اللفظ في سورة الإسراء في قوله تعالى:﴿ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70]. وإن هذا التكريم كما تدل الآيات والأحاديث ليس خاصا بعنصر دون عنصر ولا بجنس دون جنس بل الجميع سواء في حق التكريم[٣١]؛ وقد قال الله تعالى في سورة الحجرات: ﴿يأيها الناس﴾ تذكيرا بأن أصلهم واحد فقد عدل الله تعالى بنداء الناس يوم ذاك بالمؤمنين ليذكرهم بأصلهم الواحد وأن الناس متساوون أمام خالقهم وأن التفاضل والتفاخر إنما يكون بالفضائل وإن التفاضل في الإسلام بزيادة التقوى[٣٢] كما أن قوله تعالى:﴿إنا خلقناكم من ذكر وأنثى﴾ كناية عن المساواة في أصل النوع الإنساني حتى لا يترفّع بعض الناس على بعض؛ فالأصل ألا يفضل بعضكم بعضا إلا بالكمال النفساني وهو الكمال الذي يرضاه الله لهم والذي جعل التقوى وسيلته ولذلك ناط التفاضل في التكريم بقوله "عند الله"؛ إذ لا اعتداد بتكريم لا يعبأ الله به، وهذا لا ينافي أن تكون للناس مكارم أخرى في المرتبة الثانية بعد التقوى مما شأنه أن يكون له أثر في تزكية في النفوس مثل حسن التربية ونقاء النسب والعلم والحضارة وحسن السّمعة...[٣٣]، ويتفرع عن تكريم الله للإنسان أن الناس متساوون في الإنسانية مساواة الإخوة الذين ولدوا من أصل واحد وقد قال عنها ابن عاشور: "أول آثار الأخوة وأصدق شواهدها والتخلق بها والتدريب عليها أعلى مظاهر تمكّن معنى الأخوة من النفوس"[٣٤] وتسمّى هذه بالمساواة الإنسانية وهي مساواة الإنسان لأخيه الإنسان بمجرد إنه إنسان وهو ما يسمّيه البعض "الإخاء الإنساني"[٣٥] لأن الاختلاف فطرة كونية وسنة من سنن الكون والحياة وهو موجود في الخلقة ولا يعتبر من التّفاوت الذي ينقض المساواة سواء كمبدأ عام أو خاص في تشريعات الإسلام الفرعية؛ كما خاطب الله تعالى بها الجنس البشري كله ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (النساء:01) ولذلك أردت الحديث عن الأخوة الإنسانية ومعناها:
ثانيا- الأخوة الإنسانية في ضوء الاختلاف:
فالناس جميعا إخوة مهما اختلفت لغاتهم وأنسابهم وأوطانهم، فهم أبناء أب واحد وأم واحدة وهذا ما صرح به القرآن في عدة آيات منها قوله تعالى:﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء:01]كما كثر في القرآن خطاب الناس بنسبتهم إلى آدم ﴿يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا﴾ [الأعراف:26] ﴿يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف:27] تذكيرا بحق الأخوة بين الناس فلا يعتدي أخ على أخ ولا يظلم أخ أخا؛ بل الإنسان والحيوان من عالم واحد، عالم الروح الذي يحس ويتحرك ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [الأنعام:38][٣٦]. بل الكون كله من حيوان ونبات وجماد وأرض وأفلاك عوالم مخلوقة لإله واحد ورب واحد، وإن من واجب المسلم أن يتذكر هذه الحقيقة في صَلاته حين يقرأ الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة وفي أولها ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:01][٣٧] وهذا ما أقره الإسلام؛ فالإسلام اعتبر الناس جميعا أمة واحدة تجمعها الإنسانية وإذا فرقت الأهواء فالأصل واحد ولقد صرح القرآن بهذه الوحدة في آيات كثيرة وما دام الأصل واحدا فالوحدة شاملة، وقد جاء ذلك في عدة سور وقد جاء في سورة البقرة التصريح بأن الإنسانية أمة واحدة، فقد قرر أن الناس جميعا أمة واحدة وأن الاختلاف عارض ومنشؤه اختلاف الأهواء وأن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل بالهداية ليحكموا بأمر الله تعالى في هذا الاختلاف قال تعالى:﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة:213] وقال في سورة الروم:﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾[ الروم: 22] وذكر في القرآن الكريم، بأنّه لم يكن اختلاف اللغات والألوان بمانع من الوحدة الإنسانية الجامعة بل إنّ هذا الاختلاف من سنن الله تعالى في خلق الإنسان إذ جعل فيه قوة يتكيّف بمقتضاها مع بيئته ويتجاوب، وقد صرح القرآن الكريم بذلك إذ قرر أن اختلاف الألسنة والألوان من مظاهر قدرة الله تعالى الغالبة في خلق الإنسان[٣٨]، ولذلك كان مطلق التكريم الإلهي لمطلق الإنسان ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ﴾[الإسراء:70] وليس هذا التكريم حكرا لشعب من الشعوب ولا لأبناء دين من الأديان أو حضارة من الحضارات ونفى الإسلام أن يكون التفاوت بين الناس بصفات عنصرية بل بصفات مناطة لكل الناس وهي التقوى ﴿إن أكرمكم عند الله اتقاكم﴾[٣٩] وبهذه المساواة في القيمة الإنسانية التي تعتمد على الأصل الواحد والنسب الواحد لا يتصور في أحد من بني الإنسان أن يولد متميزا على غيره في الكرامة والقيمة أو فيما ينبغي له من حقوق وكيان[٤٠]؛ فلقد ولد الجميع في حالة متساوية في كل شيء ثم منح الجميع بعد ذلك أدوات التمايز ولذلك فالمساواة هو ما يتفرع عن الأصل الواحد وتكريم الله للإنسان ولذلك تجدني أتحدث عن دور التعارف في ضوء المساواة الإنسانية والاختلاف:
المطلب الثاني: أسس التعارف الإنساني
فلاشك أن في العلم بوحدة البشر من شأنه أن يحمل الإنسان على أساس من التسامح الحقيقي واحترام حقوق الإنسانية؛ فالإسلام لا يعترف إلا بفارق واحد بين بني البشر هو التقوى وهي مرتبة الخير وجلب الصلاح للمجتمع، والإسلام ما جاء إلا للإصلاح ودفع الفساد والإصلاح ما هو إلا تحقيق المصلحة للناس؛ فلا يتصور في ظل هذه الوحدة أن يولد أي إنسان متميز عن الآخر، فلقد ولد الجميع متساوون في الحقوق، وهذا ما أقره الإسلام فالناس سواسية رغم الاختلاف ويجب العدل بين الناس في المعاملة انطلاقا من مبدأ الإخاء الإنساني الذي تحدثنا عنه، فالإسلام بنى علاقة الإنسان بأخيه على مبدأ المساواة المطلقة، حتى يستقر العدل ويسود الحق، وتنمحي كل آثاره من ظلم وإجحاف فلا تمييز بين فرد وآخر لأي اعتبار سوى التقوى والعمل الصالح، وحتى هذا الاعتبار لا يعطي لصاحبه حقا زائدا على غيره ولكنه فقط يفرض التقدير والاحترام له من المجتمع أما أن يحابى أو أن يكون عمله وتقواه وسيلة لنيل حق ليس له فهذا ما يرفضه الإسلام[٤١]، قال عليه الصلاة السلام في خطبة الوداع: "أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآم وآدم من تراب"[٤٢] حيث لا اعتبار ولا فرق بسبب الجنس أو العرق فلا أثر لاختلاف الألوان والصور والعرق والوطن في تقرير المساواة لأن الاختلاف في هذه الأمور فطرة كونية وسنة من سنن الكون والحياة.
فتعاليم القرآن منذ الوهلة الأولى تنص على حق الإنسان في المساواة بإقراره الوحدة المبدئية للبشر-كما قلنا- فالبشر كلهم خلقوا من نفس واحدة ولهم نفس التكريم ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾ والمساواة الأولى في أصل البشر تضمن لهم المساواة في الحقوق والواجبات ولا فرق بين فئات المجتمع بسبب غير التقوى، وهي تبين وجود الأخوة الإنسانية بين بني البشر، وفي ضوء هذا التساوي في الاختلاف تتلخص الغاية من الاختلاف في التعارف والتواد فما معنى التعارف وما دوره في درء الخلاف؟
أولا- تعريف التعارف:
نعرف التعارف في اللغة والاصطلاح كمدخل حتى تتضح الصورة كالآتي:
- لغة: التعارف لغة مأخوذ من مادة "عرف" ومنه المعرفة والعرفان، وتعني إدراك الشيء بتفكر وتدبر لأثره، وهو أخص من العلم ويضاده "الإنكار"، فيقال فلان يعرف الله ولا يقال يعلم الله، لأن معرفة البشر لله هي بتدبر آثاره دون إدراك ذاته، ويقال الله يعلم كذا ولا يقال يعرف كذا، وأصل عرفت أصبت عرفه أي رائحته، وتعارف القوم عرف بعضهم بعضا[٤٣] وهذا يعني أن التعارف معرفة الناس بعضهم بعضا وإن كانوا لا يعلمونهم، والمعرفة تكون بالأثر والتدبر.
- اصطلاحا: من بين التعاريف التي وقفت عليها أن التعارف هو:" أن يعرف الناس بعضهم بعضا بحسب انتسابهم جميعا إلى أب واحد وأم واحدة ثم بحسب الدين والشعوب والقبائل، بحيث يكون ذلك مدعاة للشفقة والألفة والوئام لا إلى التنافر والعصبية[٤٤]، وفي ضوء ما سبق يمكن تعريفه ب: "هو التعاون والتكامل بين بني البشر رغم الاختلاف" وحتى يتحقق هذا المقصد بين الناس فلابد من وسائل وطرق نجملها في الآتي:
ثانيا- وسائل التعارف وطرقه في ضوء الاختلاف:
وهي وسائل متنوعة يعتبر السلام أساسها إضافة إلى الحوار والتعاون والحرية الدينية وترك التعصب كالآتي:
1- السلام طريق التعارف:
يعتبر نداء القرآن الكريم في قول الله عز وجل:﴿يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير﴾ [الحجرات: 13] ميثاقا عالميا للأمم والشعوب في ضوء الاختلاف؛ فقد جعل العلماء القصد من هذه الآية دعوة الناس إلى التعارف في ضوء الاختلاف، وهدم كل ما يفرق بينهم ولا يجمع، واستئصال نزعات الاستعلاء والاستكبار والتفاخر[٤٥]، فاختلاف الشعوب في الأرض له غاية جليلة أرادها الله سبحانه وتعالى وهي التعارف وهذا التعارف لا يتحقق إلا في ضوء السلام لأن السلام يحقق لقاء الناس على مودة وتراحم؛ فالغاية الأساسية من الدعوة الإسلامية العالمية هو توطيد السلم وتقريره وتحقيق الأمن، ونشر الحرية والحق والعدالة، وبذل الجهد لمعرفة الآخر من أجل التعامل السلمي والتعايش والتعاون بين شعوب الأرض، وقد أكد القرآن على ذلك لدرجة أنه جعل هدف الخلق مشتملا على ضرورة تعرّف كل شعب أو جماعة على الآخرين وفي ذلك يقول تعالى: ﴿وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا﴾، وهذا التعرف على الآخرين يتعلق بمعرفة طرائقهم في الفكر والاعتقاد والعمل والسلوك ويوسع من أفق معارفنا ويصل بنا إلى فهم سليم لوجودنا الإنساني وهذا يؤدي إلى فهم متبادل واحترام متبادل وتعاون متبادل من أجل سلام العالم وموجوداته[٤٦]؛ فالإسلام يعتبر الإنسانية (البشرية) كلها أمة واحدة، ويعد الدين كله دينا واحدا، ويعد المؤمنين كلهم أمة واحدة، ويعد الإسلام هو الصورة النهائية والأخيرة لهذا الدين الواحد، فهو يصدق ما تقدمه ويهيمن عليه لأنه الصورة النهائية له ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: 48]، والمسلمون إذن مكلّفون بحكم هذه الوصاية تحقيق السلام في الأرض، وذلك بتحقيق مبادئه من العدل والمساواة والحرية ومن منع البغي وإزالة الظلم، وتحقيق التوازن الاجتماعي، والتعاون والتكافل، وإزالة أسباب الفرقة والخصام والنزاع، وسد الذرائع التي تدعو إلى قيام الطبقات وتميزها وصراعها[٤٧]، والأصل في هذا كله ما جاء في القرآن الكريم من آيات تدعو إلى السلم والرحمة والمودة قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة: 208] وقال: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[الأنفال: 61] وقال: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الأنفال: 72]، ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190]. وقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة 8-9].[٤٨] ويقول المولى تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159]، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الإسراء:107]، فالإسلام جاء لإقامة السلام في الأرض أي للإنسانية، ولكن دعا للسيف لمن يقف في وجه هذا السلام ويعكره بالفساد في الأرض والإفساد فيها[٤٩]، والإفساد في الأرض منه الفساد العقدي الروحي، وإفساد العبادات والعادات لأنه في ضوء الإسلام يعم الرخاء والطمأنينة وبه تحفظ مصالح الناس.
2- لا إكراه في الدين (الحرية الدينية):
وهو طريق لتحقيق التعارف وتحقيق طريقه الأول وهو السلام، وتبدو الحرية العقدية في ديننا في قاعدة لا إكراه في الدين، وهي قاعدة تمنع فرض العقائد على الإنسان بالقوة، وترشد إلى الدعوة والحوار والتعددية الدينية[٥٠]؛ فالإسلام رغم كونه الدين المهيمن لم يكلف المسلمين إكراه غيرهم على اعتناق عقيدتهم ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾[البقرة: 256]؛ إنما كلفهم أولا حماية دينهم وحماية المؤمنين حتى لا يفتنوا عن دينهم، وإزالة كل قوة تمنع إيصاله، ثم كفالة حرية الاختيار في دخول هذا الدين أو تركه[٥١]؛ بمعنى أن الحرية الاعتقادية متروكة لكل إنسان في شريعة الإسلام، لا بمعنى إقرار الضالين والكافرين على كفرهم، وإنما بمعنى ترك كل محاولات الإكراه أو الإجبار على تغيير المعتقد أو الدين أو المذهب، لأن ذلك لا ينفع ولا يفيد شيئا، فإنه سرعان ما يزول ظرف الإكراه ويعود الإنسان إلى ما كان عليه، ولأن توفير سبل الهداية وأسباب الانشراح للإسلام بيد الله تعالى، وهذا ما قرره القرآن الكريم صراحة في قوله تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256][٥٢]. فالدفاع عن إقامة العدل الديني والاجتماعي هو هدف الجهاد في الإسلام، وليس الإكراه؛ فالمفروض أن تكون دولة الإسلام – العادل- هي دولة ناشرة للسلام، مخرجة للناس من ظلم العباد إلى عدالة الإله الواحد الأحد الصمد فيتحقّق السّلام في الأفراد والضمائر والأسر والمجتمعات، ليتحقق سلام الإنسانية بهناء وينعم الإنسان لمجرد أنه إنسان بالسلام فهو من حقه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [النساء: 135] ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 08][٥٣]، فهذه القاعدة الأولى وما يتفرع عنها:
3- نبذ التعصب الديني والمذهبي:
فقد اقتضت حكمته تعالى جعل الناس مختلفين وأن يوجد الاختلاف بين الناس في الملل والنحل والمذاهب والاعتقادات والأديان لمعرفة الحق من الباطل، ولإقرار الحرية وترك الاختيار والإرادة للإنسان قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [يونس: 99-100].
وهو دليل على ترك التعصب الديني الكريه، والترفع عن الأحقاد، لأن الإنسان لا يصح له أن يتجاوز السنن الإلهية وعليه أن يرضى بما رضي الله تعالى، فليس لأي أحد التسرع في تكفير الآخرين لأنه سلوك منفر ومبعد، كما ليس لأي مسلم إيذاء مشاعر الآخرين أو الاستعلاء عليهم أو احتقارهم أو التنكيل بهم حتى مع أشد الناس كفرا وهم المشركون الوثنيون لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 108] أي أن سب الآلهة الباطلة أمام أتباعها مدعاة لسب الإله الحق، فيمنع ذلك سدا للذرائع[٥٤]، وإنّ من صميم التعصب الدعوة إلى فكر معين وتكفير ما سواه والتعصب للرجال والأقوال، وتكفير المخالف ولو ترك مستحبا كما فعل المتعصبون للمذاهب في عصور الانحطاط يقول أبو الحسن الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين: "اختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضلل فيها بعضهم بعضا وتبرأ بعضهم من بعض فصاروا فرقا متباينين إلا أن الإسلام يجمعهم فيعمهم"[٥٥] وعلق ابن تيمية على ذلك بقوله " فهذا مذهبه وعليه أكثر الأصحاب ومن الأصحاب (أي الحنابلة) من كفر المخالفين، وأما الفقهاء فقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال " لا أرد شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية لأنهم يجيزون الكذب نصرة لبعضهم البعض على مخالفيهم، وأما أبو حنيفة رحمه الله فقد حكى الحاكم صاحب المختصر في كتاب المنتقى عن أبي حنيفة أنه لم يكفر أحد من أهل الملة وحكى أبو بكر الرازي عن الكرخي وغيره مثل ذلك والذي نختاره- أي ابن تيمية- أن لا نكفر أحدا من أهل القبلة....."[٥٦] فمجرد الاختلاف في يخرج من الملة، بل عد صاحبه مجتهد مخطئ معذور ذا صلاح فهذا لا يشمله الوعيد بالهلاك كما لا يشمل المتأول الصالح.[٥٧]، وفي كتابه "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية" والذي صنفه للرد على مقالات الإمامية ووجه لهم فيه نقدا لاذعا لم يخرجهم من دائرة الإسلام واعتبرهم من طوائف المسلمين وفي ذلك يقول شمس الدين الذهبي: [رأيت للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة رواها البيهقي، سمعت أبا حازم العبدوي، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول : "لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داره ببغداد دعاني فأتيته فقال :أشهد علي أني لا أكفر أحدا من أهل القبلة؛ لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات: قلت وبنحو هذا أَدين، وهكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: "أنا لا أكفر أحدا من الأمة، ويقول قال النبي صلى الله عليه وسلم : "سدّدوا وقاربوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على إلا مؤمن"][٥٨].
فالخلاصة التي وصل إليها هؤلاء العلماء بعد رحلة طويلة أن الخلافات العقدية والفقهية بين المسلمين طالما أنها لم تخرجهم عن عبادة الله وحده، فلا يجب أن تكون مدخلا لإصدار أحكام التكفير المتبادلة، ولعل استشهاد ابن تيمية بالوضوء والصلاة - التي هي شعيرة توحيد الله عز وجل والخضوع له والثمرة الظاهرة للعقيدة -كان لتخليص معايير الالتزام بالعقيدة من كل التعقيدات التي أقحمتها الخلافات والجدالات الكلامية والمذهبية عليها[٥٩] وعليه فالخلاف بين الفرق المختلفة من أهل القبلة لا يخرج من الملة لأن ما يجمع بينهم أكبر بكثير من الاختلافات الموجودة. وعليه فإن نبذ التعصب يؤدي إلى التعارف بين بني البشر كلهم وبين بني الإسلام كذلك.
4- اللجوء إلى الحوار بغية الاتفاق مع الاختلاف:
فالحوار كذلك أداة لتجاوز الخلافات وتحقيق السلام والتعارف، وقد كان الإسلام دائما سباقا إلى الدعوة للحوار وخاصة عند اشتداد الخلاف، أي عند تحول الخلاف إلى جدال قال تعالى:﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [العنكبوت:46] وقال:﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: 125] وجعل الحكمة هي أساس الحوار البناء، ولا جدال في أن الحوار من شأنه أن يثري تبادل الأفكار والرؤى بين الحضارات، وهذا بدوره يثري الحوار، وقد شيدت عدة حضارات كالحضارة الأوروبية والإسلامية من خلال التفاعل الحضاري، كما استطاعت أوروبا في العصر الوسيط أن تتحرر من الفكر الاعتقادي الضيق عن طريق احتكاكها بالحضارات الأخرى، وبذلك استطاعت أوروبا أن تضع لنفسها منهجا وغيرت مسارها نحو التجديد، واليوم نجد الأمر على العكس من ذلك؛ فالعالم الإسلامي يجب عليه أن ينهج نفس النهج والتفاعل مع الحضارة الأوروبية وأخذ ما عندها من إنجازات علمية تكنولوجية، ولكن دون خسارة لذاتهم فالحفاظ على ذاتهم مطلوب من أجل التكيف مع متطلبات العصر وهذا الجزء غائب في المدنية الغربية[٦٠].
إذن: فالحوار أسلوب راق للتعامل مع الآخر المخالف؛ فهو وسيلة للإقناع والبيان، وهو نوع من المجادلة بالحق وقد وردت في القرآن الكريم والسنة المطهرة أمثلة عديدة لحوارات مفيدة منها محاورة إبراهيم عليه السلام مع قومه ومحاورة موسى مع فرعون، ومحاورة قوم موسى المؤمنين مع قارون، كما أنه قد وردت الدعوة إلى الحوار مع أهل الكتاب في القرآن الكريم ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64] وفي سنة المصطفى عليه السلام أمثلة كثيرة لهذه الحوارات مع الكفار ومع الجهلة ومع غيرهم مما يدل على أن الحوار أمر مشروع وأنه يتبوأ مكانة عالية في منهج الإسلام السمح في معاملة المخالفين[٦١]، وهذا يبيّن أن الإسلام يرفض دعوى الصدام بين الحضارات ويدعو إلى الحوار بينها، ومن هذا يقول الله تعالى في آية الحجرات"لتعارفوا" ففي الحوار تستطيع الشعوب أن يتعرف كل منها على الآخر، وأن يثري بعضها بعضا عن طريق التبادل الحضاري والثقافي، فيدعو الإسلام إلى التنافس السلمي بين الحضارات في الخيرات، وقد كان الله قادرا على أن يخلق الناس جميعا أمة واحدة [غير مختلفة]، ولو كان قد حدث لما كان هناك ضرورة إلى حوار ديني أو حوار حضاري أو تنافس في الخيرات بين المجتمعات والله تعالى يقول: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا" "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [المائدة:48][٦٢]، ومنه فالحوار وسيلة لنقل المعارف والأخلاق والأفكار، والحضارة والثقافة وليس وسيلة للجدال والعنف والقتال حيث يسعى أتباع كل دين نشر دينهم على حساب ديانة الآخرين ويظهر التناحر بينهم أكثر عند التعصب والجهل بالحقائق، والحوار أفضل طريق ووسيلة لتفادي الحروب الدينية ونشر السلام الذي جاءت تنشده كل الأديان؛ بمعنى التعارف بين الأديان رغم الاختلاف.
فالدعوة للتعارف في ضوء اختلاف الأديان لا تعني مجرد تجاوز الأديان بعضها لبعض، بل يعني ما هو أبعد من ذلك وهو التعاون والتعايش الإيجابي الفعال والتنافس فيما يجلب الخير للناس ويشير القرآن إلى ذلك بقوله: ﴿لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا﴾ [المائدة:48]، فاختلاف الأديان سنة كونية كذلك ولكن على الإنسان أن يجعل منها منطلقا للتعارف والتآخي لا للتناحر والتعادي وهي دعوة الإسلام في دستوره الخالد القرآن الكريم.
ولعلّ إدراك أن الأديان كلها تشترك في الدعوة إلى رب واحد وكذلك لكل البشر أصل واحد كاف بأن نجعل الاختلافات بين البشر تمثل مصدر ثراء للبشرية، وأن رابطة البشرية والإخاء الإنساني كفيل بتحقيق التعاون وقبول بعضهم رغم الاختلاف فجوهر الإنسان واحد في كل زمان ومكان ومهمة الأديان إبراز هذه المعاني الإنسانية للناس، فالوعي بذلك من شأنه أن يؤكّد التقارب والتعارف بين الناس وليس التباغض والتباعد وهو ما أشار إليه القرآن في آية الحجرات دائما. قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:64] فالرسالة الأساسية لكل الأديان واحدة وهي تبين اتحاد الأديان في جوهرها وأما الاختلاف فهو بسبب العقل -كما قلنا سابقا- ولكن هذا الاختلاف تضبطه وحدة الأصل ووحدة الهدف فمنها تكون الإنسانية مشتركة في الأخوة الإنسانية والإيمانية وبها يكون التعارف والدعوة إلى الخير بدل التناحر والتقاتل فالإنسانية تجمع البشر كلهم وكذلك الأديان ولا يكون ذلك إلا بالسلام والتسامح والتعاون" ﴿ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات﴾.
وحق لنا أن نقول أن الإسلام لم ينتشر نظامه في المشارق والمغارب إلا بفضل الحوار الهادف، فبالحوار والإقناع وإعطاء التصور الصحيح للإسلام، ومحاولة نقاش الآخرين واحترامهم تحقق انتصار الإسلام، وتم قبول دعوته السامية القائمة على البساطة والاعتقاد الصحيح، والتزام حقوق الإنسان، ولاسيما العمل بمقتضى العدالة والمساواة والحرية والإخاء الإنساني والمرونة.[٦٣] ودعوة الإسلام للحوار تدل على أن الإسلام قد جعل السلام قاعدته الأولى، وجعل القتال بأسباب ومبررات وضرورة.
5- التعاون على الخير:
فالتعاون كذلك قيمة وأساس يقوم عليه مقصد التعارف الصحيح، وهو وسيلة لنشر السلام والمحبة في العالم فهو أهم وسيلة للتعارف السلمي بحيث تكتمل مصالح الناس في ضوئه دون نكاية أو إجحاف، والتعاون الذي يُقيم العلاقات ويتممها لتكون في تحقيق الصَّالح العام للمجتمع الواحد وللمجتمع الدولي هو التعاون على البر والإحسان لا التعاون على الإثمِ والعدوان، قال تعالى:﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة: 02)[٦٤]، والتعاون يعني التنافس على الخير والعمل على إشاعته وهو باب واسع من أبواب الرحمة دعا إليه القرآن وبين أثره العظيم في بناء الأمم ونشر الفضيلة قال تعالى: ﴿وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾ وقال ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج:77] والتعاون يهيئ المناخ المناسب لإقامة جلائل الأعمال العلمية والتطبيقية بالقيام بأعمال جماعية نافعة للإنسانية رافعة للجماعة سواء الإسلامية أو الإنسانية، فهو وسيلة لتحقيق خير عظيم ومنافع جسيمة وتدعيم الروح الجماعية لدى المسلمين، ولذلك أمر الله به في كتابه العزيز؛ لكن قيده بأن يكون على البر والتقوى، لا تعاونا على الإثم والعدوان، والتعاون على البر يشمل كل ما فيه مصلحة وإقامة الخير في المجتمع، ودفع الفساد والإفساد في الأرض وخراب العمران وإثارة الفتنة والقتل...[٦٥].
وقد زخر القرآن الكريم بالدعوة إلى فعل الخير وترك الشر قال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ﴾ [البقرة: 148]، وقال أيضاً ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصّالِحِينَ﴾ [آل عمران: 114]، وقال: ﴿وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ﴾ [المائدة: 48]، ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [التوبة: 88]، ﴿إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً﴾ [الأنبياء: 90]، ﴿أُولَئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَهاسابِقُونَ﴾ [المؤمنون: 61]، ومبنى الخير هو تحقيق المصلحة الدائمة ورعاية المصلحة الإنسانية التي أشاد بها الفقهاء في بيان ما يعرف بمقاصد الشريعة العامة وهي الأصول الخمسة الكلية التي لا تحل في كل دين، وهي رعاية الدين والنفس والعقل والعرض والمال[٦٦] فالتعاون المطلوب هو كل ما يقيمها والإثم المذموم هو كل ما يعيقها. فالتعاون إذن وسيلة لتحقيق التعارف وتجاوز الاختلافات في ضوء قيم المحبة والرحمة والوئام؛ وهو أهم أساس يقوم عليه السلام في الإسلام.
خاتمـة
مما سبق يتبين أن الاختلاف بين الناس سنة كونية ومقصد عظيم من خلق الناس رغم وحدة الأصل، مما يجعل الناس كلهم أمة واحدة رغم الاختلاف، وهذه المعادلة الصعبة تبين أن المقصود أساسا من الاختلاف هو التنوع والتعدد ليكون التفاعل والتعارف بين الناس، فالاختلاف مقبول والاتحاد في ضوئه أمر مطلوب ولذلك وقفت على النتائج الآتية:
1- يختلف حكم الاختلاف حسب نوعه، فقد يكون سنة كونية وآية من آيات الله في الخلق وهذا هو الاختلاف الكوني، وقد يكون مذموما إذا أدى إلى التفرق وخاصة اختلاف الأمة الإسلامية.
2- رغم كون الاختلاف بين الناس سنة كونية إلا أن المعتبر منه هو ما يؤدي إلى التعارف والتعاون والتفاهم بين الشعوب.
3- القصد إلى جعل الناس على نمط واحد في الحياة وحضارة واحدة تعصب ممقوت وعنصرية ممقوتة رفضها الإسلام في ضوء دعوته إلى التعارف.
4- الاختلاف العقدي في الأمة الإسلامية لا يخرج من الملة مادام الناس كلهم أهل قبلة والتسرع في التكفير يؤدي إلى تشتت المسلمين وتفرّق الأمة.
5- الاختلاف الفقهي مظهر من مظاهر عظمة التشريع الإسلامي ومرونته وهو في الحقيقة اختلاف في طريق الاجتهاد وتحقيق غايته بما يحقق مقصد الرحمة في التعامل والاختلاف.
6- المساواة في القيمة الإنسانية يفرض تساوي الناس جميعا في الحقوق والواجبات، وأنه لا فرق بين الناس إلا بالتقوى والعمل الصالح، وأن العدل هو أساس التعامل بين الشعوب المختلفة المتحدة في الأصل أساسا.
7- التعارف هو التكامل بين جميع الناس رغم اختلافهم، ولا يتحقق التعارف إلا في ضوء التعاون ونبذ التعصب وترك الإكراه الديني واعتماد الحوار؛ وهذه تمثّل أهم أسس السلام الذي يؤدي إلى التعارف المنشود، والأمة الإسلامية بحاجة إلى هذا التعارف حتى تسترد هيبتها وتبني حضارتها من جديد.
وفي ضوء ما سبق أوصي بالتعاون بين الناس على اختلاف مشاربهم، ونشر المحبة والسلام؛ فالسلام طريق التعارف الصحيح وهو سبيل بناء الحضارات في ضوء الاختلاف.
والله تعالى أعلى وأعلم
هوامش ومراجع
- ↑ أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، ج2، ط3، مكتبة الخانجي، 1402هـ=1981م، مادة "خلف"، مصر، ص213، وأبو البقاء الكفوي، الكليات، تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري، ط2،مؤسسة الرسالة، 1419هـ= 1998م، بيروت، ص61-62.
- ↑ الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دط، دار المعرفة، دت، بيروت، ص156
- ↑ أحمد بن محمد الفيومي، المصباح المنير، دط، مكتبة لبنان، 1987م، بيروت، ص69.
- ↑ الراغب الأصفهاني، المصدر السابق، ص156.
- ↑ علي بن محمد الشريف الجرجاني، التعريفات، دط، مكتبة لبنان، 1400ه= 1985م، بيروت، ص106.
- ↑ طه جابر العلواني، أدب الاختلاف في الإسلام، ط5، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1413هـ-1998م، فرجينيا، ص22.
- ↑ محمد أبو غدير، فقه الاختلاف، مفهومه وأسبابه وآدابه وإدارته، مقال على موقع: http://www.islamtoday.net يوم:01-08-2017م. الساعة: 17:30.
- ↑ محمد عمارة، العطاء الحضاري للإسلام، ط1، مكتبة الشروق، 1425هـ=2004م، القاهرة، ص (80)، وتوفيق بن عبد العزيز السديري، الاختلاف طريق التعارف، مقال على موقع السكينة www.assakina.net يوم:12-08-2017م.
- ↑ محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: محمود محمد شاكر،ج15، دط، مكتبة ابن تيمية، دت، القاهرة، ص534.
- ↑ فخر الدين أبو بكر الرازي، التفسير الكبير، ج18، ط1، دار الفكر، 1501=1985م، بيروت، ص77.
- ↑ محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير،ج12، دط، دد، دت، ص187-188.
- ↑ سمير مثنى علي الأبارة، حكم الخلاف مقال على موقع: www.alukah.net نقلا عن:ابن تيمية، الفتاوى، ج4، ص150-151.
- ↑ محمد عمارة، المرجع السابق، ص81.
- ↑ انظر: المرجع السابق، ص81-85.
- ↑ ابن عاشور، المصدر السابق، ج26، ص258.
- ↑ الحديث لم يخرجه البخاري ولا مسلم، ولم يرد في الكتب الستة، وأورده السيوطي في الجامع الصغير، وقال: «لعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا». انظر:جلال الدين السيوطي، الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، ج1، ط1، دار الفكر، 1401هـ-1981م، بيروت، ص48.
- ↑ أحمد مصطفى الزرقا، المدخل الفقهي العام، مج1، ج1، ط9، الفكر، 1968م، دمشق، ص 211-213، وعمر سليمان الأشقر، نظرات في أصول الفقه، ط1، دار النفائس، 1419هـ-1999م، عمان، الأردن، ص383.
- ↑ مجدي محمد عاشور، الثابت والمتغير في فكر الإمام الشاطبي، ط1، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، 2002م، الإمارات، ص 19-20.
- ↑ انظر: علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ط9، ج01، دار المعارف، دت، القاهرة، ص231-265.
- ↑ ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق: أحمد محمد شاكر، ج5، ط1، دار الآفاق الجديدة، 1400هـ-1980م، د.م، ص64.
- ↑ جمال ابن أحمد الشربادي، وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق، ط2، دار الوطن، 1416هـ-1996م، الرياض، ص 299-380.
- ↑ أبو اسحاق الشاطبي، الموافقات، تحقيق: إبراهيم رمضان، ج(04)، ط6، دار المعرفة، 1425هـ-2004م، بيروت، ص539-540.
- ↑ المصدر نفسه، ص508.
- ↑ انظر: محمد باز مول، الاختلاف وما إليه، ط1، دار الهجرة،1995 م، الرياض، ص67-68.
- ↑ محمد عوامة، أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين، ط2، دار البشائر الإسلامية، 1418هـ، 1997م، د.م، ص 98.
- ↑ ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، دط، دار الحديث، دت، مصر، ص33-34.
- ↑ عمر سليمان الأشقر، نظرات في أصول الفقه، ط1، دار النفائس، 1419هـ-1999م، عمان-الأردن، ص 385-387. نقلا عن: خلاف الأمة في العبادات، "مجموعة الرسائل المنيرية لابن تيمية، جـ1، ص 123-124".
- ↑ ( )- الشاطبي، المصدر السابق، ج4، ص 576. (ط، دار الكتب العلمية).
- ↑ انظر: للمتحدثة رسالتها لنيل شهادة الماجستير لم تنشر بعد بعنوان: دور المقاصد في التقليل من الخلاف بين الفقهاء، جامعة الأمير عبد القادر، قسنطينة، الجزائر، سنة:2008-2009م فقد درست الموضوع ووقفت على بعض الأمثلة.
- ↑ ابن قيم الجوزية، الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، علي بن محمد الدخيل الله، دط،ج02، دار العاصمة، الرياض، ص519.
- ↑ محمد أبو زهرة، العلاقات الدولية في الإسلام، دط، دار الفكر العربي، 1415ه=1995م، القاهرة، ص20
- ↑ ابن عاشور، التحرير والتنوير، المرجع السابق، ج26، ص258.
- ↑ المرجع نفسه، ص261-263.
- ↑ ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، دط، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، دت، ص163.
- ↑ محمد خيضر، الإسلام وحقوق الإنسان، دط، دت، دد، 1977م ، ص11.
- ↑ مصطفى السباعي، نظام السلم والحرب في الإسلام، ط2، 1419 هـ = 1998 م، مكتبة الوراق، الرياض، ص 03.
- ↑ المرجع نفسه، ص04.
- ↑ أبو زهرة، المرجع السابق، ص22.
- ↑ محمد عمارة، السماحة الإسلامية، في التنوير الإسلامي، ط1، شركة نهضة مصر، 2006م، مصر، ص09.
- ↑ محمد خيضر، المرجع السابق، ص11.
- ↑ المرجع نفسه، ص 13.
- ↑ انظر: حديث حجة الوداع في صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، دار ابن كثير، بيروت، ط1، 2002م، كتاب المغازي، باب حجة الوداع برقم :4406، ج07، ص1079.
- ↑ الراغب الأصفهاني، المصدر السابق، ص331.
- ↑ التعارف"، مقال على موقع: http://www.islambeacon.com" يوم:22-07-2017م.
- ↑ وهبة الزحيلي، قضايا الفقه والفكر المعاصر،ج01، ط1، دار الفكر، 1428=2007م، دمشق، ص646-647.
- ↑ محمود حمدي زقزوق، الإسلام وقضايا الحوار، ترجمة: مصطفى ماهر، دط، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1424هـ=2002م، مصر، ص201 بتصرف
- ↑ سيد قطب، السلام العالمي والإسلام، ط12، دار الشروق، القاهرة، 1413هـ= 1993 م، ص (160)
- ↑ الزحيلي، المرجع السابق، ص647-648.
- ↑ انظر: السباعي، المرجع السابق، ص (01). بتصرف. ومجمع الفقه الإسلامي، الهند، الإرهاب والسلام، بحوث فقهية وعلمية حول الإرهاب والسلام العالمي من وجهة نظر الشريعة الإسلامية،ط1، دار الكتب العلمية، 2007م، بيروت، ص95.
- ↑ علي جمعة أحمد، المبادئ العامة والقيم في القرآن الكريم، بحث ضمن الموسوعة القرآنية المخصصة، دط، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، إشراف: محمود حمدي زقزوق، دت، مصر، ص84.
- ↑ سيد قطب، المرجع السابق، ص (169)
- ↑ الزحيلي، قضايا الفقه والفكر، المرجع السابق، ص 572.
- ↑ سيد قطب، المرجع السابق، ص (170 - 172) بتصرف كبير.
- ↑ الزحيلي، المرجع نفسه، ص 570-571.
- ↑ علي بن اسماعيل الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق : هيلموت رتير، دار إحياء التراث، دت، بيروت، ص 201.
- ↑ تقي الدين عبد الحليم ابن تيمية، درء تعارض العقل والثقل، ج 01، دار الكتب العلمية، 1417 ه، بيروت، ص95.
- ↑ انظر: ابن تيمية، الفتاوى،ج03، ص179.
- ↑ صحيح ابن حبان، كتاب الطهارة باب ذكر إثبات الإيمان للمحافظ على الوضوء ج03 ، ص 311 رقم الحديث 1037.
- ↑ طه جابر العلواني، من أدب الاختلاف إلى نبذ الخلاف، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1438ه= 2017ه، فرجينيا، ص 202-203.
- ↑ محمود زقزوق، المرجع السابق، ص50. بتصرف
- ↑ حمزة بن حسن القعر، سماحة الإسلام في التعامل مع المخالف، بحث ضمن: بحوث ندوة أثر القرآن الكريم في تحقيق الوسطية ودفع الغلو، دط، د.د، دت، دم، ص100.
- ↑ محمود زقزوق، المرجع السابق، ص55.
- ↑ وهبة الزحيلي، قضايا الفقه والفكر، المرجع السابق، ص573.
- ↑ أبو زهرة، العلاقات الدولية، المرجع السابق، ص (25-26).
- ↑ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، الأخلاق الإسلامية وأسسها، ج02، ط5، دار القلم، 1420ه= 1999م، دمشق، ص202-203.
- ↑ وهبة الزحيلي، قيمة الخير العام، المرجع السابق، ص3-4.