«تعقيب: هل الدولة التعارفية "مثالية"؟»: الفرق بين المراجعتين

من Wiki Akhbar
اذهب إلى: تصفح، ابحث
(ثامناً)
(مقدمة)
سطر ٣: سطر ٣:
 
'''د. علي محمد أسعد'''
 
'''د. علي محمد أسعد'''
  
=مقدمة=
+
=<big>مقدمة</big>=
تشكّلَ انطباعٌ لدى بعض قرّاء كتاب الدولة التعارفية قبل طباعته وبعدها، مفاده أن موضوع الكتاب هو دعوة "مثالية" تشبه الدعوة إلى "المدينة الفاضلة" وأنه لا يصلح إلا للمجتمعات المثالية. ويكاد يكون هذا النقد الرئيس الذي اعترض الكتاب فلابد من التوقف الجاد عنده وبحثه والاستفادة منه.
+
<big>تشكّلَ انطباعٌ لدى بعض قرّاء كتاب الدولة التعارفية قبل طباعته وبعدها، مفاده أن موضوع الكتاب هو دعوة "مثالية" تشبه الدعوة إلى "المدينة الفاضلة" وأنه لا يصلح إلا للمجتمعات المثالية. ويكاد يكون هذا النقد الرئيس الذي اعترض الكتاب فلابد من التوقف الجاد عنده وبحثه والاستفادة منه.
  
 
في البداية، لابد من الإشارة إلى أنّ مفردة «المثالية» – لغةً – لا تعني الخيالية ولا تعني «عدم الواقعية». فالمثالية صفة تُطلق على كل ما هو أفضل وأرقى وأنسب لكنّ أصحاب هذا النقد أرادوا المعنى السائد أي عدم الواقعية.
 
في البداية، لابد من الإشارة إلى أنّ مفردة «المثالية» – لغةً – لا تعني الخيالية ولا تعني «عدم الواقعية». فالمثالية صفة تُطلق على كل ما هو أفضل وأرقى وأنسب لكنّ أصحاب هذا النقد أرادوا المعنى السائد أي عدم الواقعية.
  
يُطلِقُ البعض صفة «المثالية» عادةً كذريعة لإجهاض الفكرة أو للتهرب من دراستها وتطبيقها وتحمُّل مصاعبها. لكنّ السادة الناقدين لم يفعلوا ذلك بل بذلوا جهوداً استثنائية وقدموا نقداً بنّاءً في مقالات رصينة تعصف الأذهان. وقد انتهى العصف الذهني لدى كاتب هذه السطور إلى التعقيب التالي:
+
يُطلِقُ البعض صفة «المثالية» عادةً كذريعة لإجهاض الفكرة أو للتهرب من دراستها وتطبيقها وتحمُّل مصاعبها. لكنّ السادة الناقدين لم يفعلوا ذلك بل بذلوا جهوداً استثنائية وقدموا نقداً بنّاءً في مقالات رصينة تعصف الأذهان. وقد انتهى العصف الذهني لدى كاتب هذه السطور إلى التعقيب التالي:</big>
  
 
=تعقيب على شُبهة "المثالية"=
 
=تعقيب على شُبهة "المثالية"=

مراجعة ٠٦:٤٨، ٣١ أغسطس ٢٠٢٢

"المثالية" في مشروع الدولة التعارفية

د. علي محمد أسعد

مقدمة

تشكّلَ انطباعٌ لدى بعض قرّاء كتاب الدولة التعارفية قبل طباعته وبعدها، مفاده أن موضوع الكتاب هو دعوة "مثالية" تشبه الدعوة إلى "المدينة الفاضلة" وأنه لا يصلح إلا للمجتمعات المثالية. ويكاد يكون هذا النقد الرئيس الذي اعترض الكتاب فلابد من التوقف الجاد عنده وبحثه والاستفادة منه.

في البداية، لابد من الإشارة إلى أنّ مفردة «المثالية» – لغةً – لا تعني الخيالية ولا تعني «عدم الواقعية». فالمثالية صفة تُطلق على كل ما هو أفضل وأرقى وأنسب لكنّ أصحاب هذا النقد أرادوا المعنى السائد أي عدم الواقعية.

يُطلِقُ البعض صفة «المثالية» عادةً كذريعة لإجهاض الفكرة أو للتهرب من دراستها وتطبيقها وتحمُّل مصاعبها. لكنّ السادة الناقدين لم يفعلوا ذلك بل بذلوا جهوداً استثنائية وقدموا نقداً بنّاءً في مقالات رصينة تعصف الأذهان. وقد انتهى العصف الذهني لدى كاتب هذه السطور إلى التعقيب التالي:

تعقيب على شُبهة "المثالية"

أولاً

يقتضي أي بحث أو نقاش علمي أن يؤخذ في الحسبان بعُنصُرَيْ الزمان والمكان. وعليه فإن ما هو "مثالي" وغير واقعي في مكان أو زمان معين قد يكون واقعياً جداً وقابلاً للتطبيق في مكان أو زمان آخر، بل ومعمولٌ به أصلاً في مكان ثالث. لذا يفضل عند القول عن فكرة ما أنها غير واقعية - تحديد الزمان والمكان كَأَنْ نقول مثلاً: إنَّ الدولة التعارفية غير واقعية في هذا البلد العربي، الأوروبي أو ذاك، في هذا العصر أو العصور السابقة.

ثانياً

إن التعارف هنا لا يُعتَمد بصفته فضيلة أو سلوكاً أخلاقياً بل باعتباره فطرةً أو ضرورةً إنسانية أو قانوناً اجتماعياً. ولو كانت الأخلاق أو التقوى شرطاً مسبقاً للمشاركة في التعارف لأمكننا القول إنَّ الدعوة غير واقعية لعدم توفر هذا الشرط إلا في نطاق محدود للغاية. قد لا تكون التقوى مبتغى كل المشاركين في التعارف، وليس بالضرورة أن يكونوا أتقياء أو أخلاقيين جميعاً. سيكون التعارف بالنسبة للبعض مجرد وظيفة اجتماعية فردية داخل الجماعة التي ينتمي إليها أو يعمل معها. فاللاعب الرياضي – مثلاً – قد يشارك في المباريات ويسجّل هدفاً ولو لم يمتلك روحاً رياضية ولا روح العمل كفريق. فالتعارف لا يستلزم أن يكون المتعارفون مثاليين ابتداءً.

ثالثاً

في الواقع، يلجأ الجميع -الأخيار والأشرار- للتعارف عندما يعجزون عن إيجاد حل لمشكلة كبرى أو يواجهون أزمة خانقة، سياسيةً كانتْ أو اقتصادية أو عسكرية، فتجدهم يتخلّون مؤقتاً عن التفرُّد بالقرار والفوقية والانعزالية ويشكّلون على عجل ما يسمى «خليّة الأزمة» وهي ليستْ سوى خليّةٍ تشاورية أو تشاركية أي تعارفية بامتياز، فهل هي خيار "مثالي" أم واقعي ومعمولٌ به؟

رابعاً

إنَّ الدعوة للتعارف لا يستجيب لها الجميع عادةً وإذا استجابوا فقد لا يلتزمون جميعاً بمخرجات التعارف (الأعراف) وسيبقى هناك من يرفض المشاركة بالتعارف أو يرفض الالتزام بتطبيق الأعراف. لذلك ليس لدينا أوهام ولا آمال مثالية مفرطة في التفاؤل حول مشاركة الناس في التعارف والتزامهم بتطبيق الأعراف رغم أن مصلحتهم تقتضي ذلك، فالتاريخ يروي الكثير عن إعراض الناس وعدم اكتراثهم لشؤونهم وعدم تحملهم للمسؤولية تجاه قضاياهم. وهذا ما دفع أفلاطون للقول: (الثمن الذي يدفعه الطيبون لقاء لامبالاتهم بالشؤون العامة هو أن يحكمهم الأشرار).

خامساً

إنّ الإجراءات العملية المذكورة في الفصل الرابع ستثبت أن التعارف عملية مجتمعية واقعية جداً وممكنة وسهلة. ومعظم هذه الإجراءات معمولٌ بها في بعض الدول الأوروبية مثل السويد وسويسرا وبريطانيا. ولقد تبيَّن للباحث قبل الانتهاء من كتابة هذا البحث أن بريطانيا لا تملك دستوراً مدوَّناً لكنها منذ 1200 عام تتخِّذ من «العُرف» قاعدة دستورية. وبفضل الأعراف الدستورية شيَّد الإنكليز بريطانيا «العظمى» التي "لا تغيب عنها الشمس".

كما أنَّ مؤسسات المجتمع المدني معروفة وموجودة في الواقع وما هي سوى مؤسسات تعارفية شكلاً ومضموناً، وقد ذُكِرتْ مفصلة في الفصل الخامس من الكتاب. وهناك نماذج واقعية أخرى مشهودة في مجال الحوكمة والمأسسة قائمة على التعارف والعُرف مثل برامج التنمية المستدامة والمنظمات التطوعية ولجنة الأزمات الدولية الشهيرة، ولجان الكوارث سواء المحلية أو الإقليمية أو الدولية.

سادساً

عندما دعا المفكرون في أوروبا لتطبيق صيغة الحكم الديموقراطي بعد سقوط حكم الكنيسة، كانت بالنسبة لكثير من الناس صيغةً "مثالية" وغير قابلة للتطبيق ولكن مع الممارسة أصبحت مألوفة وسلسة، فالمجتمعات الغربية أصبحتْ مجتمعات ديموقراطية وتشكّلتْ فيها الأحزاب الساسية واختارتْ مبدأ الترشُّح والانتخاب أو الاقتراع فأفرزتْ هذه المجتمعات أنظمة حكم ديموقراطية. وهكذا سيكون الأمر مع الصيغة التعارفية فالدولة التعارفية تتحقق مع انتشار ثقافة التعارف والشورى والتفويض والبيعة وتجنُّب التناكر والتنافر والتفرد وتزكية النفس التي تتجلى بالتشاوف وحب الظهور والسعي للمناصب، فتكون هذه الدولة حصيلة التدرُّب على المشاركة في وضع عُرْف لكلِّ شأن من شؤون الحياة، وتحويل الأعراف إلى منظومة قانونية توضع موضع التطبيق. هكذا يصبح المجتمع تعارفياً ويفرز نظام حكم تعارفي أيضاً.

ثم إنَّ "الإجراءات التعارفية" لتداول السلطة واختيار القيادة السياسية (التعارف السياسي) ليستْ أصعب ولا أقل واقعية من الإجراءات الديموقراطية مهما كان عدد السكان وتوزعهم الجغرافي، ومهما تنوّعتْ ثقافاتهم، فالتنوع لا يتعارض مع التعارف بل هو علَّة التعارف أصلاً ولا يمكن استيعابه إلا بالتعارف ولا يمكن للمختلِفين والمتنوعين أن يتحمّل بعضهم بعضاً إلا إذا تربّتْ نفوسهم على أن "الاختلاف" أصلٌ خَلْقي وأنَّ التعارف حاجة وضرورة وشرط من شروط تطور المجتمعات.

سابعاً

أنزل الله تعالى الكتب السماوية على رُسُلٍ وبعث أنبياء يعيشون أصلاً في مجتمعات جاهلية فاسدة وليستْ مثالية، فالمجتمعات المثالية ليستْ بحاجة لرسالات سماوية ورسل وأنبياء لهدايتها إلى التعارف والإحسان والعدل.

إذا صحَّ الاعتقاد بأنَّ القرآن مصدرٌ صالحٌ للاستلهام والاستنباط وخاصةً في مجال علم الاجتماع الإنساني - وهو برأيي صحيح - فلابد أن تكون عملية "التعارف" وصناعة "العُرْف" و"الحكم التعارفي" مبادئ واقعية وقابلة للتطبيق وستكون في المستقبل القريب من أهم أسس علم الاجتماع الإنساني والسياسي وذلك باجتهاد المختصين لملء الفراغ في هذا العلم، وخاصةً أنها مبادئ مجرّبة وإنْ بمسميات أخرى على نطاق محدود.

ثامناً

إنّ عدم التفات المسلمين إلى آية التعارف أو عدم استنباط دلالاتها حرمهم من خيرات هذه الآية فافتقرتْ علاقاتهم للتعارف فيما بينهم كما افتقرتْ علاقاتهم مع غيرهم لعقد اجتماعي يقوم على التعارف. هذا يفسّر حرمانهم من حق المشاركة في صياغة أعرافهم ودساتير بلدانهم وإدارة شؤونهم واختيار قيادات دولهم ومنظوماتها الاقتصادية. حقاً إنَّ آية التعارف هي "الآية المظلومة عند المسلمين وفقهائهم".