«التعارف والأسرة»: الفرق بين المراجعتين
Alimohdasaad (نقاش | مساهمات) (←أولا- مفهوم الخطبة ودورها التعارفي) |
Alimohdasaad (نقاش | مساهمات) (←2- دور الزواج في التعارف) |
||
(١٧ مراجعة متوسطة بواسطة نفس المستخدم غير معروضة) | |||
سطر ٥: | سطر ٥: | ||
==مقدمـــــة== | ==مقدمـــــة== | ||
− | التعارف آلية التوافق الإنساني وطريق لبناء العلاقات على الخير والمودة والتسامح والرقي وحفظ الأرواح والأنفس والثمرات وترك كل ما من شأنه انتهاك حُرمة الإنسان الذي كرّمه الله على سائر المخلوقات «ولقد كرّمنا بني آدم»[....]، فخلق الله الشّعوب لغاية التعارف على الحق والرّقي والازدهار والمودة والرحمة التي زُرِعتْ في الإنسان منذ بداية خلقه وذلك من خلال تكوين الأسرة التي هي عماد المجتمع قال تعالى: | + | التعارف آلية التوافق الإنساني وطريق لبناء العلاقات على الخير والمودة والتسامح والرقي وحفظ الأرواح والأنفس والثمرات وترك كل ما من شأنه انتهاك حُرمة الإنسان الذي كرّمه الله على سائر المخلوقات «ولقد كرّمنا بني آدم»[....]، فخلق الله الشّعوب لغاية التعارف على الحق والرّقي والازدهار والمودة والرحمة التي زُرِعتْ في الإنسان منذ بداية خلقه وذلك من خلال تكوين الأسرة التي هي عماد المجتمع قال تعالى: '''{{قرآن نبذة|يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}}''' [الحجرات: 13]، وقال أيضا: '''{{قرآن نبذة|خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}}''' [الروم:21]، وأيضا: '''{{قرآن نبذة|وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}}''' [النساء:51]. |
إذاً يمكن القول أن جذور الدعوة للتعارف تبدأ في الدعوة للزواج ليكون لبنة بناء مجتمع يقوم على الأخلاق والقيم وليس على المصالح أو مجرد قضاء الشهوة والوطر! ولذلك يبدو التعارف كمقصد قيمي من مقاصد الزواج ومظهر من مظاهر رقيّه في الإسلام ليكون طريقا لخلق المجتمعات والشعوب وتواصلها. | إذاً يمكن القول أن جذور الدعوة للتعارف تبدأ في الدعوة للزواج ليكون لبنة بناء مجتمع يقوم على الأخلاق والقيم وليس على المصالح أو مجرد قضاء الشهوة والوطر! ولذلك يبدو التعارف كمقصد قيمي من مقاصد الزواج ومظهر من مظاهر رقيّه في الإسلام ليكون طريقا لخلق المجتمعات والشعوب وتواصلها. | ||
سطر ١٤: | سطر ١٤: | ||
===1- تعريف الخطبة=== | ===1- تعريف الخطبة=== | ||
− | الخطبة في الأساس هي المدخل للزواج | + | الخطبة في الأساس هي المدخل للزواج<ref>عبد الرحمن الصابوني، نظام الأسرة وحل مشكلاتها في ضوء الإسلام، ط1، دار الفكر، 1422ه=2001، بيروت، ص55. ماجد أبو رخية وعبد الله الجبوري، فقه الزواج والطلاق وماعليه العمل في قانون الأحوال الشخصية، دط، دار النشر العلمي1427=2006م، جامعة الشارقة، ص19.</ref> تُكيّف بأنّها وعد بالزواج وتتم باتفاق الطرفين. يعرفها الفقهاء بأنها: "التماس الرجل النكاح من امرأة تحل له شرعا وإظهار الرغبة في زواج امرأة يحلّ نكاحها وموافقتها على ذلك"<ref>رمضان علي السيد الشرنباصي، أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية، دط، منشورات الحلبي الحقوقية، 2002م، بيروت، ص70.</ref> فهي لا ترقى لدرجة العقد وإن تمت برضا الطرفين. ويجوز لكل واحد العدول عنها إذا لم يحدث التوافق، وهذه الخطوة قبل الزواج مشروعة بالكتاب والسنة كما جرى بها عرف المسلمين وتجذرت في عاداتهم وقد قُنّنتْ في كل مدونات الأحوال الشخصية لما لها من أهمية في الزواج. |
− | ولاشك أن لتشريع الخطبة مقاصد وغايات أهمها على الإطلاق مقصد التعارف والذي له خصوصيته في الخطبة وما تبعه من تأسيس للمودة والرحمة والتي لها دورها في بناء علاقة تزاوجية دائمة تقوم على الأخلاق والقيم وليس على التنازع والتناحر: | + | ولاشك أن لتشريع الخطبة مقاصد وغايات أهمها على الإطلاق مقصد التعارف والذي له خصوصيته في الخطبة وما تبعه من تأسيس للمودة والرحمة والتي لها دورها في بناء علاقة تزاوجية دائمة تقوم على الأخلاق والقيم وليس على التنازع والتناحر: |
===2- مقصد الخطبة=== | ===2- مقصد الخطبة=== | ||
− | بالتساؤل عن هدف تشريع الخطبة كفترة قبل الزواج يلحظ المرء مقصدها في التعارف كمقصد أساسي فهي وسيلة لتعارف الخاطبين وعائلتيهما مما يؤدي إلى الانسجام ونشر الألفة والمحبة والتواد بينهما فهو مقصد مهم من مقاصد الزواج وكذلك مقصد مهم آخر وهو حفظ النسل. تُكيّف الخطبة بأنها وعد بالزواج يستحب الوفاء به ولكن لا يرقى إلى درجة العقد الملزم للطرفين، كما أنه ليس هناك تحديد لمدتها بما يبين أنّ أمر الخطبة والمدة متروك للطرفين وهنا يكون التعارف بحيث يمكن للطرفين أن يعرف نسبة توافق الطباع وكيفية التعامل والتصرف؛ فهذه المدة تمكّن الطرفين من الوقوف على حقيقة الطرف الآخر فإما أن يحدث التراضي أو الانفصال فإنْ كان التلاقي فهو تحقيق لمصلحة للطّرفين وإن كان الانفصال فهو درء للمفسدة عنهما. قال (صلى الله عليه وسلم): "الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف" | + | بالتساؤل عن هدف تشريع الخطبة كفترة قبل الزواج يلحظ المرء مقصدها في التعارف كمقصد أساسي فهي وسيلة لتعارف الخاطبين وعائلتيهما مما يؤدي إلى الانسجام ونشر الألفة والمحبة والتواد بينهما فهو مقصد مهم من مقاصد الزواج وكذلك مقصد مهم آخر وهو حفظ النسل. تُكيّف الخطبة بأنها وعد بالزواج يستحب الوفاء به ولكن لا يرقى إلى درجة العقد الملزم للطرفين، كما أنه ليس هناك تحديد لمدتها بما يبين أنّ أمر الخطبة والمدة متروك للطرفين وهنا يكون التعارف بحيث يمكن للطرفين أن يعرف نسبة توافق الطباع وكيفية التعامل والتصرف؛ فهذه المدة تمكّن الطرفين من الوقوف على حقيقة الطرف الآخر فإما أن يحدث التراضي أو الانفصال فإنْ كان التلاقي فهو تحقيق لمصلحة للطّرفين وإن كان الانفصال فهو درء للمفسدة عنهما. قال (صلى الله عليه وسلم): "الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"<ref>ذكره البخاري في صحيحه، تعليقا، كتاب الأنبياء، باب الأرواح جنود مجندة، برقم:3336.</ref>. |
===3- وسائل التعارف وضوابطه: للتعارف وسائل وضوابط منها=== | ===3- وسائل التعارف وضوابطه: للتعارف وسائل وضوابط منها=== | ||
سطر ٣٤: | سطر ٣٤: | ||
'''ب – تقديم الهدية:''' | '''ب – تقديم الهدية:''' | ||
− | الهدية تفتح القلوب وتشرحها وتدمج الأرواح مما يمهد للود في العلاقة الزوجية، وقيمة الهدية في معناها لا في ثمنها فلا إسراف ولا تقتير بل يختار الخفيف البسيط وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:"تهادوا تحابوا" | + | الهدية تفتح القلوب وتشرحها وتدمج الأرواح مما يمهد للود في العلاقة الزوجية، وقيمة الهدية في معناها لا في ثمنها فلا إسراف ولا تقتير بل يختار الخفيف البسيط وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:"تهادوا تحابوا"<ref>أخرجه البيهقي في سننه الكبرى، ج06، ص169 برقم: 11047. </ref>. |
'''ج– الإشعار بالحب من الطرفين:''' | '''ج– الإشعار بالحب من الطرفين:''' | ||
يقصد به التصرفات المباحة كتقديم الخدمات وتلبية الاحتياجات وقد يكون كذلك بالأقوال المباحة بالتعبير بالرغبة في الاستقرار والتضحية، لكن الحب الحقيقي لا يمكن تصوره إلا بعد الزواج فهناك يكون تبادل المنافع الحقيقي وترجمة المشاعر إلى حقيقة. | يقصد به التصرفات المباحة كتقديم الخدمات وتلبية الاحتياجات وقد يكون كذلك بالأقوال المباحة بالتعبير بالرغبة في الاستقرار والتضحية، لكن الحب الحقيقي لا يمكن تصوره إلا بعد الزواج فهناك يكون تبادل المنافع الحقيقي وترجمة المشاعر إلى حقيقة. | ||
− | إن هذه الأمور قبل الزواج ما هي إلا غرائز فطرية في الرجل والمرأة فلابد أن يكون هناك حد يقفان عنده لا يتجاوزه كل طرف حتى لا تصل الأمور إلى ما لا يحمد عقباه | + | إن هذه الأمور قبل الزواج ما هي إلا غرائز فطرية في الرجل والمرأة فلابد أن يكون هناك حد يقفان عنده لا يتجاوزه كل طرف حتى لا تصل الأمور إلى ما لا يحمد عقباه<ref>انظر: إشارات لهذه الضوابط دون تفصيل في عبد الرحمن عبد الخالق، الزواج في ظل الإسلام، دط، مطبعة الأمانة، 1979م، القاهرة ص26، وشيرين زهير أبو عبدو، معالم الأسرة المسلمة في القرآن الكريم، رسالة ماجستير، 1431ه=2010م، الجامعة الإسلامية، غزة، ص14-15.</ref>؛ وهكذا فالخطبة وسيلة للتعارف المقبول المنضبط بضوابط الشرع لما له من دور في بناء علاقة قوامها الود والتراحم الحقيقي؛ فالخطبة تعتبر وسيلة لتحقيق غاية وهي الزّواج، مقصدها تعرّف الخاطبين على بعضهما البعض وتحقيق الرضا الذي به يتم التّعارف التام ومن ثمّ إنشاء عقد الزّواج وتحقيق التّساكن... ومنه تحقق السّعادة وحسن العشرة وداوم العلاقة. |
إن التعارف وفق هذه الضوابط ذو أهمية كونه: | إن التعارف وفق هذه الضوابط ذو أهمية كونه: | ||
− | - يتيح التّروي مما يظنّ معه توفير قدر أكير من الانسجام والتفاهم بين الزّوجين وهو مقصود هام شرع له الزّواج، وقد كانت الخطبة معروفة لدى الأمم جميعا وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم كإشارة إلى مشروعيتها في قوله تعالى: | + | - يتيح التّروي مما يظنّ معه توفير قدر أكير من الانسجام والتفاهم بين الزّوجين وهو مقصود هام شرع له الزّواج، وقد كانت الخطبة معروفة لدى الأمم جميعا وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم كإشارة إلى مشروعيتها في قوله تعالى: '''{{قرآن نبذة|وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ}}''' [البقرة: 235]. |
- سبيل إلى دراسة أخلاق وطبائع وميول الطرفين ولكن بالقدر المسموح به شرعا وهو كاف، فإذا وجد أمكن الإقدام على الزّواج الذي هو رابطة دائمة في الحياة وإلا فالتراجع أفضل. | - سبيل إلى دراسة أخلاق وطبائع وميول الطرفين ولكن بالقدر المسموح به شرعا وهو كاف، فإذا وجد أمكن الإقدام على الزّواج الذي هو رابطة دائمة في الحياة وإلا فالتراجع أفضل. | ||
− | ==ثانيا-الزواج وفطرة التزاوج بين الجنسين | + | ==ثانيا-الزواج وفطرة التزاوج بين الجنسين== |
+ | ===1- إقرار الزوجية في الحياة=== | ||
− | فالإسلام دين الفطرة راعى في سننه فطرة الزواج فشرعها لمقاصد سامية وهي تحقيق السكينة والمودة والرحمة بين الزوجين تمهيدا لإعمار الأرض وتحقيق خلافة الإنسان؛ فالإنسانية التي خلقها الله تعالى من نفس واحدة تتنوع إلى شعوب وقبائل وأمم وأجناس وألوان، وكذلك إلى شرائع وإلى مناهج في إطار المشترك الإنساني الواحد قال تعالى: | + | فالإسلام دين الفطرة راعى في سننه فطرة الزواج فشرعها لمقاصد سامية وهي تحقيق السكينة والمودة والرحمة بين الزوجين تمهيدا لإعمار الأرض وتحقيق خلافة الإنسان؛ فالإنسانية التي خلقها الله تعالى من نفس واحدة تتنوع إلى شعوب وقبائل وأمم وأجناس وألوان، وكذلك إلى شرائع وإلى مناهج في إطار المشترك الإنساني الواحد قال تعالى: '''{{قرآن نبذة|يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء}} [النساء:01]، وقال:{{قرآن نبذة|يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}}[الحجرات:13]'''، وهكذا تشير الآيات إلى أن الاختلاف في الجنس كذلك سنة كونية وإن الأصل الواحد لا يمنع من التنوع فمن الاختلاف بين الجنسين خلق التنوع وأول مظاهر الاختلاف خلق الذكر والأنثى، وبتزاوجهما يكون تنوع الإنسانية الواحدة إلى شعوب وقبائل وأمم وأفراد وإلى ملل ونحل ومذاهب وديانات وفلسفات وثقافات، فالله تعالى خلق الناس ليكونوا مختلفين متنوعين ولكن دعا إلى التعاون والتعارف والتكامل والتفاهم والتعايش قي إطار ذلك الاختلاف ومعنى ذلك أنه ينكر إكراه الناس بأن يكونوا على لون واحد ونمط واحد للإنسانية قال تعالى: '''{{قرآن نبذة|وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}}''' [المائدة: 48] وكذلك ينكر إكراه الناس بأنْ يكونوا على "جنس واحد". |
− | ولذلك يجعل الإسلام من اختلاف الجنسين تنوعا هدفه التعارف والتعاون والتكامل لا التناحر والتنافر والتناكر. تنصُّ الآيات على أن جميع البشر خُلقوا من ذكر وأنثى أي من رجل وامرأة ما يعني ضرورة وجود فروق فطرية بين الجنسين فهناك العديد من الاختلافات الفطرية موجودة بين الجنسين نتيجة لعوامل بيولوجية وظيفية، ويظهر هذا الفرق واضحًا في القدرة على الولادة والحمل والإرضاع واختلاف الهرمونات... وهذه الاختلافات جميعها قد تكون السبب في الاختلاف بين الجنسين لمقصد التّنوع الذي يتبعه التعارف والتعاون والتسامح لا التنافر والتصادم، فالتفوق ليس بالجنس وإنما بالعمل الصالح وميزان الله تعالى عادل حتى بين الذكر والأنثى فالكل يجني ثمرة عمله التي قدم على حسب مسؤولياته | + | ولذلك يجعل الإسلام من اختلاف الجنسين تنوعا هدفه التعارف والتعاون والتكامل لا التناحر والتنافر والتناكر. تنصُّ الآيات على أن جميع البشر خُلقوا من ذكر وأنثى أي من رجل وامرأة ما يعني ضرورة وجود فروق فطرية بين الجنسين فهناك العديد من الاختلافات الفطرية موجودة بين الجنسين نتيجة لعوامل بيولوجية وظيفية، ويظهر هذا الفرق واضحًا في القدرة على الولادة والحمل والإرضاع واختلاف الهرمونات... وهذه الاختلافات جميعها قد تكون السبب في الاختلاف بين الجنسين لمقصد التّنوع الذي يتبعه التعارف والتعاون والتسامح لا التنافر والتصادم، فالتفوق ليس بالجنس وإنما بالعمل الصالح وميزان الله تعالى عادل حتى بين الذكر والأنثى فالكل يجني ثمرة عمله التي قدم على حسب مسؤولياته '''{{قرآن نبذة|فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}}''' [آل عمران: 195] وبهذا فللزواج دور كبير في التعارف. |
− | 2- دور الزواج في التعارف | + | ===2- دور الزواج في التعارف=== |
+ | الزواج سنة كونية يعني في حقيقته تلك العلاقة التي تربط بين الذكر والأنثى فتؤسس لأسرة أساسها المودة والرحمة والسكن والاستقرار، هدفه حماية الحقوق وكفالة الواجبات وقيام علاقات متعددة ناشرة للرحمة والتعاون... كما له أثر في حفظ النّسل والكيان الاجتماعي الإنساني، فهو العلاقة التي نظّمها الإسلام واعتنى بها في أحكامه بهدف بناء مجتمع سليم وهو يدعو لوجود نسل من علاقة مشروعة وأن يلتقي الرجل والمرأة على مُثُل كاملة، ولا تكون هذه المُثُل كاملة إلا في إطار عقد زواج صحيح وقد حثّ الإسلام على تكوين الأسرة بالزواج فقال تعالى: '''{{قرآن نبذة|وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً}}''' [سورة النحل: 72]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاعَ منكم الباءَةَ فليتزوّج)<ref>رواه البخاري، كتاب النكاح، باب قول النبي (صلى الله عليه وسلم): ((من استطاع منكم الباءة فليتزوج...))، حديث رقم "5065"، ص 1050.</ref> لهذا يحدثنا القرآن الكريم عن اقتران آدم عليه السلام بزوجته بعد خلقه فكانت اللبنة الأولى لتأسيس البشرية قال تعالى: '''{{قرآن نبذة|وَقُلْنَا يَٰٓـَٔادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ}}''' في تشريع لسنة التزاوج التي تؤسس لاجتماع إنساني صحيح "حيث إن انتظام أمر العائلات في الأمة أساس حضارتها وانتظام جامعتها" كما قال ابن عاشور. | ||
− | فالزواج لحد الآن فطرة يحددها ميل كل طرف إلى الآخر لتحدث المودة ثم الرحمة ثم بناء مجتمع. إذ لا يعتبر مجرد علاقة غريزية جنسية بحتة هدفها الإمتاع بل هدفها تكوين مجتمع المودة والرحمة والإحصان والرقي والازدهار والخلق الحسن الذي يقوم على التعاون وتبادل المنافع وتحصيل المصالح ودرء المفاسد مما يجسد قيم التعارف الحقيقي في المجتمعات ليكون البناء والتشييد لا الإفساد والتخريب، فالزواج لبنة في بناء الأسر المترابطة ثم القبائل والشعوب وهو تماما ما أشارت إليه آية التعارف | + | فالزواج لحد الآن فطرة يحددها ميل كل طرف إلى الآخر لتحدث المودة ثم الرحمة ثم بناء مجتمع. إذ لا يعتبر مجرد علاقة غريزية جنسية بحتة هدفها الإمتاع بل هدفها تكوين مجتمع المودة والرحمة والإحصان والرقي والازدهار والخلق الحسن الذي يقوم على التعاون وتبادل المنافع وتحصيل المصالح ودرء المفاسد مما يجسد قيم التعارف الحقيقي في المجتمعات ليكون البناء والتشييد لا الإفساد والتخريب، فالزواج لبنة في بناء الأسر المترابطة ثم القبائل والشعوب وهو تماما ما أشارت إليه آية التعارف فلا يتحقق التعارف إلا بالزواج وبناء المجتمعات فالزواج أصل تكوين النسل وتفريع القرابة بفروعها وأصولها واستتبع ذلك ضبط نظام الصهر والذي له الأثر الجليل في تكوين نظام العشيرة فالقبيلة فالأمة فمن نظام النكاح تتكون الأمومة والأبوة والبنوة ومن هذا تتكون الأخوة وما دونها من صور العُصْبة، فنرى في مجموع ذلك حباً ووداً ولطفاً ورحمةً وتعاونًا وتناسلاً واتحاداً وإقامة لنظام العائلة ثم لنظام القبيلة ثم الأمة، وفي خلال تلك المعاني كلها معان كثيرة من الخير والصلاح والعلم والحضارة"<ref>المرجع نفسه.</ref> فالزواج أساس تفريع العلاقات والتي سماها الإسلام قرابة والتي تتفرع إلى قرابة نسب وصهر قال تعالى: '''{{قرآن نبذة|فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا}}''' (الفرقان: 45) موصياً بها ورافعاً من قدرها لدورها في دوام النسل وتفرعه، كذلك لبناء المجتمعات ولدوامها على قيم العفّة أضفى عليها ضوابط حافظة من التفسّخ والانحلال. |
− | فالزواج إذن في الإسلام طريق لتكوين مجتمع قال تعالى: | + | فالزواج إذن في الإسلام طريق لتكوين مجتمع قال تعالى: '''{{قرآن نبذة|وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً}}''' [النحل:72]، فاعتراف الإسلام بالعلاقة الجنسية له مقاصده في حفظ النوع الإنساني من الاندثار وإعمار الأرض وتكثير من يعبد الله تعالى ويوحّده وتحقيق التعارف ونشر الرحمة بين بني الإنسان ويظهر ذلك في قوله تعالى: '''{{قرآن نبذة|يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}}''' [النساء:01] فالآية تبين أن الزواج هو أساس استمرارية النوع الإنساني وبقائه وهو ما تدعّمه نصوص كثيرة من الكتاب والسنة<ref>انظر كتابي: مقاصد أحكام الأسرة – دراسة في ضوء قانون الأسرة الجزائري- ط1، دار المجدد، سطيف، 2020 ص47فما بعدها.</ref> ولذلك حث عليه الإسلام ورغَّب فيه، وقد كان للزواج دور في توسيع دائرة القرابة فلا تقتصر على قرابة النسب من الأمومة والأبوة بل استتبع ذلك وجود قرابة من نوع آخر هي الصهر حين أصبح الغريب قريبا باسم علاقة الزواج فتحددت علاقات ودية ناشرة للرحمة والتعاون والمودة والإحصان ومنه ينشأ النسل وتتكون الأمم والشعوب بهدف التعارف. |
==خـــــاتــمــة== | ==خـــــاتــمــة== | ||
سطر ٦٢: | سطر ٦٤: | ||
من السابق أدركنا مقصد حث الإسلام على تكوين الزواج لأنه أساس تكوين المجتمع ككل من أفراد تجمع بينهم علاقات اجتماعية (الأبوة والبنوة والأخوة والعمومة.....)، وتكون بينهم التزامات وواجبات وهذا ما سعى إليه في أحكامه مؤكدا على ضرورة قيام مجتمع على أطر شرعية صحيحة ثم على قيم أخلاقية أساسها المودة والرحمة....، فحث على الزواج من أجل تكوين أسرة ثم مجتمع حفاظاً على تناسل البشرية إضافة إلى معاني أخرى نلمسها في حمايته للأسرة منها التعارف الإسلامي الذي يضمن الحفاظ على النسل والأنساب والأعراض حمايةً للمجتمع من الأمراض النفسية والجسدية، وحفظ الانتماء والانتساب وما يتبعه من حماية الأعراض وهذا ما له أثره في المجتمع وأثره الاجتماعي الكوني ككل. | من السابق أدركنا مقصد حث الإسلام على تكوين الزواج لأنه أساس تكوين المجتمع ككل من أفراد تجمع بينهم علاقات اجتماعية (الأبوة والبنوة والأخوة والعمومة.....)، وتكون بينهم التزامات وواجبات وهذا ما سعى إليه في أحكامه مؤكدا على ضرورة قيام مجتمع على أطر شرعية صحيحة ثم على قيم أخلاقية أساسها المودة والرحمة....، فحث على الزواج من أجل تكوين أسرة ثم مجتمع حفاظاً على تناسل البشرية إضافة إلى معاني أخرى نلمسها في حمايته للأسرة منها التعارف الإسلامي الذي يضمن الحفاظ على النسل والأنساب والأعراض حمايةً للمجتمع من الأمراض النفسية والجسدية، وحفظ الانتماء والانتساب وما يتبعه من حماية الأعراض وهذا ما له أثره في المجتمع وأثره الاجتماعي الكوني ككل. | ||
وعليه فالتعارف في الإسلام مربوط بحفظ القيم والأخلاق والسلوك، ومنها يحفظ النوع الإنساني والاجتماع البشري الكوني لتحقيق خلافة الإنسان في الكون من خلال القيام بوظيفة التناسل المحفوظة بقيم الإسلام. | وعليه فالتعارف في الإسلام مربوط بحفظ القيم والأخلاق والسلوك، ومنها يحفظ النوع الإنساني والاجتماع البشري الكوني لتحقيق خلافة الإنسان في الكون من خلال القيام بوظيفة التناسل المحفوظة بقيم الإسلام. | ||
+ | |||
+ | ==مراجع== |
المراجعة الحالية بتاريخ ١٤:٢٨، ٢٨ يوليو ٢٠٢٢
مقصد التعارف من خلال أحكام الأسرة –الخطبة والزواج أنموذجا-
د. فريـدة حايـد - أستاذة جامعية - الجزائر
مقدمـــــة
التعارف آلية التوافق الإنساني وطريق لبناء العلاقات على الخير والمودة والتسامح والرقي وحفظ الأرواح والأنفس والثمرات وترك كل ما من شأنه انتهاك حُرمة الإنسان الذي كرّمه الله على سائر المخلوقات «ولقد كرّمنا بني آدم»[....]، فخلق الله الشّعوب لغاية التعارف على الحق والرّقي والازدهار والمودة والرحمة التي زُرِعتْ في الإنسان منذ بداية خلقه وذلك من خلال تكوين الأسرة التي هي عماد المجتمع قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13]، وقال أيضا: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم:21]، وأيضا: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النساء:51].
إذاً يمكن القول أن جذور الدعوة للتعارف تبدأ في الدعوة للزواج ليكون لبنة بناء مجتمع يقوم على الأخلاق والقيم وليس على المصالح أو مجرد قضاء الشهوة والوطر! ولذلك يبدو التعارف كمقصد قيمي من مقاصد الزواج ومظهر من مظاهر رقيّه في الإسلام ليكون طريقا لخلق المجتمعات والشعوب وتواصلها. وقد بنى الإسلام الأسرة على اختلاف الجنسين بما يحقق التكامل والتعاون والمودة وينشر الرحمة بين الذكر والأنثى وقرابتهما فيؤدي إلى التعارف والتقارب والتناسل خدمةً للإنسانية والتي تبدأ من خلال بناء الأسرة ثم القبيلة ثم الدولة ثم الإنسانية. يتحقق مقصد التعارف حقيقةً من خلال تنظيم تقارب الجنسين وضرورة ضبطه يقيم المودة والرحمة والتعاون والتي تكون بين الجنسين الذكر والأنثى أولا ثم بين العائلات والناس جميعا؛ فالمقصد من خلق الذكر والأنثى يتمثّل في التراحم والتواد والتكامل والتعاون على كل بر وتقوى ولا يكون ذلك إلا في ضوء التزاوج والتناسل إعمارا للأرض وتحقيقا لخلافة الإنسان الحقة وهذا يقودني للحديث عن تشريع الزواج الذي هو فطرة في الأساس وأهميته في بناء مجتمع التعارف:
أولا- مفهوم الخطبة ودورها التعارفي
جاء الإسلام لتحقيق مصالح النّاس ودفع المفاسد عنهم وقد نظم جميع حاجات الناس وشؤونهم وعلاقاتهم فيما بينهم وربط علاقات الناس بما يضمن تواصلهم ورقيهم ومنها علاقة الزواج إذ هو أحد طرق التعارف بين الناس لأنه أساس تكوين الأسرة التي تكوّن المجتمعات الإنسانية. يبدأ الزواج من تمام التعارف بين الذكر والأنثى وقد سمّاه الله تعالى ميثاقا غليظا لقيمته العالية، وبناه على الخطبة التي تعتبر مدخلا للزواج. فالتعارف هو المقصد الأصلي للخطبة وقد ارتأيت أن أبدأ بالخطبة ودورها التعارفي:
1- تعريف الخطبة
الخطبة في الأساس هي المدخل للزواج[١] تُكيّف بأنّها وعد بالزواج وتتم باتفاق الطرفين. يعرفها الفقهاء بأنها: "التماس الرجل النكاح من امرأة تحل له شرعا وإظهار الرغبة في زواج امرأة يحلّ نكاحها وموافقتها على ذلك"[٢] فهي لا ترقى لدرجة العقد وإن تمت برضا الطرفين. ويجوز لكل واحد العدول عنها إذا لم يحدث التوافق، وهذه الخطوة قبل الزواج مشروعة بالكتاب والسنة كما جرى بها عرف المسلمين وتجذرت في عاداتهم وقد قُنّنتْ في كل مدونات الأحوال الشخصية لما لها من أهمية في الزواج. ولاشك أن لتشريع الخطبة مقاصد وغايات أهمها على الإطلاق مقصد التعارف والذي له خصوصيته في الخطبة وما تبعه من تأسيس للمودة والرحمة والتي لها دورها في بناء علاقة تزاوجية دائمة تقوم على الأخلاق والقيم وليس على التنازع والتناحر:
2- مقصد الخطبة
بالتساؤل عن هدف تشريع الخطبة كفترة قبل الزواج يلحظ المرء مقصدها في التعارف كمقصد أساسي فهي وسيلة لتعارف الخاطبين وعائلتيهما مما يؤدي إلى الانسجام ونشر الألفة والمحبة والتواد بينهما فهو مقصد مهم من مقاصد الزواج وكذلك مقصد مهم آخر وهو حفظ النسل. تُكيّف الخطبة بأنها وعد بالزواج يستحب الوفاء به ولكن لا يرقى إلى درجة العقد الملزم للطرفين، كما أنه ليس هناك تحديد لمدتها بما يبين أنّ أمر الخطبة والمدة متروك للطرفين وهنا يكون التعارف بحيث يمكن للطرفين أن يعرف نسبة توافق الطباع وكيفية التعامل والتصرف؛ فهذه المدة تمكّن الطرفين من الوقوف على حقيقة الطرف الآخر فإما أن يحدث التراضي أو الانفصال فإنْ كان التلاقي فهو تحقيق لمصلحة للطّرفين وإن كان الانفصال فهو درء للمفسدة عنهما. قال (صلى الله عليه وسلم): "الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"[٣].
3- وسائل التعارف وضوابطه: للتعارف وسائل وضوابط منها
أ- التزاور المنضبط: يجوز للطرفين التزاور ويكون في بيت أحدهما أي بحضور أحد المحارم مما يحدث الانسجام والتوافق والتفاهم بينهما ولهذه الوسيلة ضوابط:
أ1- الالتزام بالزي الساتر وعدم إظهار المفاتن وهذا سدا لذريعة الوقوع في الفاحشة ولأن الخطبة مجرد وعد بالزواج لا إلزام فيها ولأن الطرفين أجنبيين عن بعضهما.
أ2- وجود أحد المحارم مثل الأم، الأخت...منعا للخلوة.
أ3- عدم التوسع في الكلام: فلا يجب التوسع في الكلام والنظر بشهوة بل يقتصر على الكلام العادي بعيداً عن البذاءة والتحدث عما يفيد كالحديث عن الأخبار وعش الزوجية والأبناء وتربيتهم وعن نوع العمل الذي سيمارسه كل طرف، ويجب التبسيط في الكلام حتى لا يكون غش بين الطرفين. فتباح الزيارة في فترة الخطبة تدعيما للتعارف لكن يجب أن لا تكثر حتى لا تزيد عن الحد المطلوب.
ب – تقديم الهدية:
الهدية تفتح القلوب وتشرحها وتدمج الأرواح مما يمهد للود في العلاقة الزوجية، وقيمة الهدية في معناها لا في ثمنها فلا إسراف ولا تقتير بل يختار الخفيف البسيط وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:"تهادوا تحابوا"[٤].
ج– الإشعار بالحب من الطرفين:
يقصد به التصرفات المباحة كتقديم الخدمات وتلبية الاحتياجات وقد يكون كذلك بالأقوال المباحة بالتعبير بالرغبة في الاستقرار والتضحية، لكن الحب الحقيقي لا يمكن تصوره إلا بعد الزواج فهناك يكون تبادل المنافع الحقيقي وترجمة المشاعر إلى حقيقة. إن هذه الأمور قبل الزواج ما هي إلا غرائز فطرية في الرجل والمرأة فلابد أن يكون هناك حد يقفان عنده لا يتجاوزه كل طرف حتى لا تصل الأمور إلى ما لا يحمد عقباه[٥]؛ وهكذا فالخطبة وسيلة للتعارف المقبول المنضبط بضوابط الشرع لما له من دور في بناء علاقة قوامها الود والتراحم الحقيقي؛ فالخطبة تعتبر وسيلة لتحقيق غاية وهي الزّواج، مقصدها تعرّف الخاطبين على بعضهما البعض وتحقيق الرضا الذي به يتم التّعارف التام ومن ثمّ إنشاء عقد الزّواج وتحقيق التّساكن... ومنه تحقق السّعادة وحسن العشرة وداوم العلاقة. إن التعارف وفق هذه الضوابط ذو أهمية كونه:
- يتيح التّروي مما يظنّ معه توفير قدر أكير من الانسجام والتفاهم بين الزّوجين وهو مقصود هام شرع له الزّواج، وقد كانت الخطبة معروفة لدى الأمم جميعا وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم كإشارة إلى مشروعيتها في قوله تعالى: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ [البقرة: 235].
- سبيل إلى دراسة أخلاق وطبائع وميول الطرفين ولكن بالقدر المسموح به شرعا وهو كاف، فإذا وجد أمكن الإقدام على الزّواج الذي هو رابطة دائمة في الحياة وإلا فالتراجع أفضل.
ثانيا-الزواج وفطرة التزاوج بين الجنسين
1- إقرار الزوجية في الحياة
فالإسلام دين الفطرة راعى في سننه فطرة الزواج فشرعها لمقاصد سامية وهي تحقيق السكينة والمودة والرحمة بين الزوجين تمهيدا لإعمار الأرض وتحقيق خلافة الإنسان؛ فالإنسانية التي خلقها الله تعالى من نفس واحدة تتنوع إلى شعوب وقبائل وأمم وأجناس وألوان، وكذلك إلى شرائع وإلى مناهج في إطار المشترك الإنساني الواحد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء﴾ [النساء:01]، وقال:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾[الحجرات:13]، وهكذا تشير الآيات إلى أن الاختلاف في الجنس كذلك سنة كونية وإن الأصل الواحد لا يمنع من التنوع فمن الاختلاف بين الجنسين خلق التنوع وأول مظاهر الاختلاف خلق الذكر والأنثى، وبتزاوجهما يكون تنوع الإنسانية الواحدة إلى شعوب وقبائل وأمم وأفراد وإلى ملل ونحل ومذاهب وديانات وفلسفات وثقافات، فالله تعالى خلق الناس ليكونوا مختلفين متنوعين ولكن دعا إلى التعاون والتعارف والتكامل والتفاهم والتعايش قي إطار ذلك الاختلاف ومعنى ذلك أنه ينكر إكراه الناس بأن يكونوا على لون واحد ونمط واحد للإنسانية قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [المائدة: 48] وكذلك ينكر إكراه الناس بأنْ يكونوا على "جنس واحد".
ولذلك يجعل الإسلام من اختلاف الجنسين تنوعا هدفه التعارف والتعاون والتكامل لا التناحر والتنافر والتناكر. تنصُّ الآيات على أن جميع البشر خُلقوا من ذكر وأنثى أي من رجل وامرأة ما يعني ضرورة وجود فروق فطرية بين الجنسين فهناك العديد من الاختلافات الفطرية موجودة بين الجنسين نتيجة لعوامل بيولوجية وظيفية، ويظهر هذا الفرق واضحًا في القدرة على الولادة والحمل والإرضاع واختلاف الهرمونات... وهذه الاختلافات جميعها قد تكون السبب في الاختلاف بين الجنسين لمقصد التّنوع الذي يتبعه التعارف والتعاون والتسامح لا التنافر والتصادم، فالتفوق ليس بالجنس وإنما بالعمل الصالح وميزان الله تعالى عادل حتى بين الذكر والأنثى فالكل يجني ثمرة عمله التي قدم على حسب مسؤولياته ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران: 195] وبهذا فللزواج دور كبير في التعارف.
2- دور الزواج في التعارف
الزواج سنة كونية يعني في حقيقته تلك العلاقة التي تربط بين الذكر والأنثى فتؤسس لأسرة أساسها المودة والرحمة والسكن والاستقرار، هدفه حماية الحقوق وكفالة الواجبات وقيام علاقات متعددة ناشرة للرحمة والتعاون... كما له أثر في حفظ النّسل والكيان الاجتماعي الإنساني، فهو العلاقة التي نظّمها الإسلام واعتنى بها في أحكامه بهدف بناء مجتمع سليم وهو يدعو لوجود نسل من علاقة مشروعة وأن يلتقي الرجل والمرأة على مُثُل كاملة، ولا تكون هذه المُثُل كاملة إلا في إطار عقد زواج صحيح وقد حثّ الإسلام على تكوين الأسرة بالزواج فقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ [سورة النحل: 72]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاعَ منكم الباءَةَ فليتزوّج)[٦] لهذا يحدثنا القرآن الكريم عن اقتران آدم عليه السلام بزوجته بعد خلقه فكانت اللبنة الأولى لتأسيس البشرية قال تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَٰٓـَٔادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ﴾ في تشريع لسنة التزاوج التي تؤسس لاجتماع إنساني صحيح "حيث إن انتظام أمر العائلات في الأمة أساس حضارتها وانتظام جامعتها" كما قال ابن عاشور.
فالزواج لحد الآن فطرة يحددها ميل كل طرف إلى الآخر لتحدث المودة ثم الرحمة ثم بناء مجتمع. إذ لا يعتبر مجرد علاقة غريزية جنسية بحتة هدفها الإمتاع بل هدفها تكوين مجتمع المودة والرحمة والإحصان والرقي والازدهار والخلق الحسن الذي يقوم على التعاون وتبادل المنافع وتحصيل المصالح ودرء المفاسد مما يجسد قيم التعارف الحقيقي في المجتمعات ليكون البناء والتشييد لا الإفساد والتخريب، فالزواج لبنة في بناء الأسر المترابطة ثم القبائل والشعوب وهو تماما ما أشارت إليه آية التعارف فلا يتحقق التعارف إلا بالزواج وبناء المجتمعات فالزواج أصل تكوين النسل وتفريع القرابة بفروعها وأصولها واستتبع ذلك ضبط نظام الصهر والذي له الأثر الجليل في تكوين نظام العشيرة فالقبيلة فالأمة فمن نظام النكاح تتكون الأمومة والأبوة والبنوة ومن هذا تتكون الأخوة وما دونها من صور العُصْبة، فنرى في مجموع ذلك حباً ووداً ولطفاً ورحمةً وتعاونًا وتناسلاً واتحاداً وإقامة لنظام العائلة ثم لنظام القبيلة ثم الأمة، وفي خلال تلك المعاني كلها معان كثيرة من الخير والصلاح والعلم والحضارة"[٧] فالزواج أساس تفريع العلاقات والتي سماها الإسلام قرابة والتي تتفرع إلى قرابة نسب وصهر قال تعالى: ﴿فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا﴾ (الفرقان: 45) موصياً بها ورافعاً من قدرها لدورها في دوام النسل وتفرعه، كذلك لبناء المجتمعات ولدوامها على قيم العفّة أضفى عليها ضوابط حافظة من التفسّخ والانحلال.
فالزواج إذن في الإسلام طريق لتكوين مجتمع قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ [النحل:72]، فاعتراف الإسلام بالعلاقة الجنسية له مقاصده في حفظ النوع الإنساني من الاندثار وإعمار الأرض وتكثير من يعبد الله تعالى ويوحّده وتحقيق التعارف ونشر الرحمة بين بني الإنسان ويظهر ذلك في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النساء:01] فالآية تبين أن الزواج هو أساس استمرارية النوع الإنساني وبقائه وهو ما تدعّمه نصوص كثيرة من الكتاب والسنة[٨] ولذلك حث عليه الإسلام ورغَّب فيه، وقد كان للزواج دور في توسيع دائرة القرابة فلا تقتصر على قرابة النسب من الأمومة والأبوة بل استتبع ذلك وجود قرابة من نوع آخر هي الصهر حين أصبح الغريب قريبا باسم علاقة الزواج فتحددت علاقات ودية ناشرة للرحمة والتعاون والمودة والإحصان ومنه ينشأ النسل وتتكون الأمم والشعوب بهدف التعارف.
خـــــاتــمــة
من السابق أدركنا مقصد حث الإسلام على تكوين الزواج لأنه أساس تكوين المجتمع ككل من أفراد تجمع بينهم علاقات اجتماعية (الأبوة والبنوة والأخوة والعمومة.....)، وتكون بينهم التزامات وواجبات وهذا ما سعى إليه في أحكامه مؤكدا على ضرورة قيام مجتمع على أطر شرعية صحيحة ثم على قيم أخلاقية أساسها المودة والرحمة....، فحث على الزواج من أجل تكوين أسرة ثم مجتمع حفاظاً على تناسل البشرية إضافة إلى معاني أخرى نلمسها في حمايته للأسرة منها التعارف الإسلامي الذي يضمن الحفاظ على النسل والأنساب والأعراض حمايةً للمجتمع من الأمراض النفسية والجسدية، وحفظ الانتماء والانتساب وما يتبعه من حماية الأعراض وهذا ما له أثره في المجتمع وأثره الاجتماعي الكوني ككل. وعليه فالتعارف في الإسلام مربوط بحفظ القيم والأخلاق والسلوك، ومنها يحفظ النوع الإنساني والاجتماع البشري الكوني لتحقيق خلافة الإنسان في الكون من خلال القيام بوظيفة التناسل المحفوظة بقيم الإسلام.
مراجع
- ↑ عبد الرحمن الصابوني، نظام الأسرة وحل مشكلاتها في ضوء الإسلام، ط1، دار الفكر، 1422ه=2001، بيروت، ص55. ماجد أبو رخية وعبد الله الجبوري، فقه الزواج والطلاق وماعليه العمل في قانون الأحوال الشخصية، دط، دار النشر العلمي1427=2006م، جامعة الشارقة، ص19.
- ↑ رمضان علي السيد الشرنباصي، أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية، دط، منشورات الحلبي الحقوقية، 2002م، بيروت، ص70.
- ↑ ذكره البخاري في صحيحه، تعليقا، كتاب الأنبياء، باب الأرواح جنود مجندة، برقم:3336.
- ↑ أخرجه البيهقي في سننه الكبرى، ج06، ص169 برقم: 11047.
- ↑ انظر: إشارات لهذه الضوابط دون تفصيل في عبد الرحمن عبد الخالق، الزواج في ظل الإسلام، دط، مطبعة الأمانة، 1979م، القاهرة ص26، وشيرين زهير أبو عبدو، معالم الأسرة المسلمة في القرآن الكريم، رسالة ماجستير، 1431ه=2010م، الجامعة الإسلامية، غزة، ص14-15.
- ↑ رواه البخاري، كتاب النكاح، باب قول النبي (صلى الله عليه وسلم): ((من استطاع منكم الباءة فليتزوج...))، حديث رقم "5065"، ص 1050.
- ↑ المرجع نفسه.
- ↑ انظر كتابي: مقاصد أحكام الأسرة – دراسة في ضوء قانون الأسرة الجزائري- ط1، دار المجدد، سطيف، 2020 ص47فما بعدها.