«العولمة على ضوء التعارف»: الفرق بين المراجعتين

من Wiki Akhbar
اذهب إلى: تصفح، ابحث
(الاستلاب الخارجي)
(الثابت والمتغير في الهوية)
 
(٤٤ مراجعة متوسطة بواسطة مستخدمين اثنين آخرين غير معروضة)
سطر ١: سطر ١:
  
العولمة والهوية علي ضوء التعارف
+
'''بقلم إيمان شمس الدين'''
 
 
إيمان شمس الدين
 
  
  
سطر ١٢: سطر ١٠:
  
 
=الهوية=
 
=الهوية=
الهوية تعني جوهر الشيئ وحقيقته، ويعرفها الجرجاني في كتابه التعريفات: هي الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب.<ref>التعريفات –الشريف الجرجاني-,دار عالم الكتب-بيروت الطبعة الاولى-1407 ه- 1987م ص 314.</ref>  
+
الهوية تعني جوهر الشيء وحقيقته، ويعرفها الجرجاني في كتابه التعريفات: هي الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب.<ref>التعريفات –الشريف الجرجاني-,دار عالم الكتب-بيروت الطبعة الاولى-1407 ه- 1987م ص 314.</ref>  
  
فهوية الانسان ..أو الثقافة..أو الحضارة..هي جوهرها وحقيقتها. ولما كان في كل شيء من الأشياء – إنسانا أو ثقافة أو حضارة – الثوابت والمتغيرات، فإن هوية الشيء هي ثوابته التي تتجدد ولا تتغير، تنجلي وتفصح عن ذاتها دون أن تخلي مكانا لنقيضها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة<ref>مخاطر العولمة على الهوية الثقافية.د.محمد عمارة-دار نهضة مصر للطباعة والنشر –الطبعة الأولى – فبرلير 1999م</ref>.     
+
فهوية الانسان ..أو الثقافة..هي جوهرها وحقيقتها. ولما كان في كل شيء من الأشياء – إنسانا أو ثقافة – الثوابت والمتغيرات، فإن هوية الشيء هي ثوابته التي تتجدد ولا تتغير، تنجلى وتفصح عن ذاتها دون أن تخلي مكانا لنقيضها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة<ref>مخاطر العولمة على الهوية الثقافية.د.محمد عمارة-دار نهضة مصر للطباعة والنشر –الطبعة الأولى – فبرلير 1999م</ref>.     
  
 
والهوية دائما مجموع ثلاثة عناصر:  
 
والهوية دائما مجموع ثلاثة عناصر:  
 
# العقيدة التي توفر رؤية للوجود؛
 
# العقيدة التي توفر رؤية للوجود؛
 
# واللسان الذي يجري التعبير به أي اللغة؛
 
# واللسان الذي يجري التعبير به أي اللغة؛
# والتراث الثقافي الطويل المدى<ref>العولمة وعالم بلا هوية – محمود سمير المنير-دار الكلمة للنشر والتوزيع,المنصورة – مصر- الطبعة الأولى-1421 - 2000 –ص 146</ref>.
+
# والتراث الثقافي الطويل المدى
  
 
=أهمية الهوية للمجتمعات=
 
=أهمية الهوية للمجتمعات=
وتعتبر الهوية من الصيغ التعريفية لأي مجتمع حيث تعكس مدى حضارته أو تخلفه، من خلال ما تحمله من مفاهيم، تتلاقى وروح الإنسانية الجامعة التي تقف على أسس قيمية وأخلاقية رفيعة.
+
وتعتبر الهوية من الصيغ التعريفية لأي مجتمع حيث تعكس مدى رقيّه أو تخلفه، من خلال ما تحمله من مفاهيم، تتلاقى وروح الإنسانية الجامعة التي تقف على أسس قيمية وأخلاقية رفيعة.
  
فهي المُعَرِّف عن لغته وأصالتها وثقافته وعمقها وحضارته وشمولها، بل هي تعكس عن إنسانيته المتلاقية مع فطرته، وتعزز من قيمه وتحاكي الآخر الخارج عن ذاته، الداخلة في محتواه الديني والعقدي.
+
فهي المُعَرِّف عن لغته وأصالتها وثقافته وعمقها وحضارته وشمولها، بل هي تعكس إنسانيته المتلاقية مع فطرته، وتعزز من قيمه وتحاكي الآخر الخارج عن ذاته، الداخلة في محتواه الديني والعقدي.
  
 
إذا الهوية هي بطاقة تعريفية للمجتمع حول:
 
إذا الهوية هي بطاقة تعريفية للمجتمع حول:
سطر ٣٧: سطر ٣٥:
  
 
لذلك تعتبر الهوية المُعَرِّف الذي لا يمكن لأي مجتمع، أن يكون له وجود في هذا العالم بين المجتمعات دونها، وهي هوية العبور له نحو التقدم والتطور أو نحو التخلف والاندثار.
 
لذلك تعتبر الهوية المُعَرِّف الذي لا يمكن لأي مجتمع، أن يكون له وجود في هذا العالم بين المجتمعات دونها، وهي هوية العبور له نحو التقدم والتطور أو نحو التخلف والاندثار.
وأي محاولات تواجه ثوابت هذه الهوية وتحاول تمييعها أو سلبها، فإن ميزة الاختلاف في الهويات القائمة على أساس التعارف الذي يزيد رصيد المعرفة لدى الإنسان، ويزيد منسوبه العلمي والفكري، ويوسع لديه الآفاق، والقابليات في قبول الاخر والتعرف عليه والاستفادة الطرفانية من هذا التعارف، إن هذه المواجهة الحادة ستغير مسار التعارف إلى تصادم ورفض وانكفاء على الذات، وخلاف وتشتت.
+
 
 +
يتميز الاختلاف في الهويات القائمة على أساس التعارف أنه يزيد رصيد المعرفة لدى الإنسان، ويزيد منسوبه العلمي والفكري، ويوسع لديه الآفاق، والقابليات في قبول الاخر والتعرف عليه. إن أية محاولة لمواجهة ثوابت هذه الهوية أو تمييعها أو سلبها ستؤدي إلى تغيير المسار من التعارف إلى التصادم والرفض والانكفاء على الذات والتشتت.
  
 
=الهوية والانتماء=
 
=الهوية والانتماء=
 +
 
وحيث أن الهوية يكتسبها الإنسان من محيطه البيئي والثقافي والاجتماعي والأبوي، بالتالي سيكون لهذه الهوية الأثر الكبير في تحديد انتماءاته الآنية والمستقبلية.
 
وحيث أن الهوية يكتسبها الإنسان من محيطه البيئي والثقافي والاجتماعي والأبوي، بالتالي سيكون لهذه الهوية الأثر الكبير في تحديد انتماءاته الآنية والمستقبلية.
"ولقد وضح " أريك فروم<ref>عالم نفس وفيلسوف إنساني ألماني أمريكي يهودي</ref>  (١٩٠٠ ـ ١٩٨٠ م )  "الحاجة إلى الانتماء كأول وأهم الحاجات إلى الارتباط بالجذور، والحاجة إلى الهوية وإلى إطار توجيهي كي تكتمل الحاجات الإنسانية الموضوعية، التي أصبحت جزء من الطبيعة الإنسانية خلال عمليات التطور والارتقاء، والتي يحاول كل إنسان فيها السعي نحو الكمال وتحقيق الذات".
+
ولقد وضح أريك فروم<ref>عالم نفس وفيلسوف إنساني ألماني أمريكي يهودي</ref>  (١٩٠٠ ـ ١٩٨٠ م )  "الحاجة إلى الانتماء كأول وأهم الحاجات إلى الارتباط بالجذور، والحاجة إلى الهوية وإلى إطار توجيهي كي تكتمل الحاجات الإنسانية الموضوعية، التي أصبحت جزء من الطبيعة الإنسانية خلال عمليات التطور والارتقاء، والتي يحاول كل إنسان فيها السعي نحو الكمال وتحقيق الذات".
  
ويمكن تعريف الانتماء بأنه العلاقة الايجابية والحياتية التي تؤدى الى التحقق المتبادل، تنتفي منها المنفعة بمفهوم الربح والخسارة، وترتقى إلى العطاء بلا حدود الذى يصل إلى حد التضحية بالنفس.
+
ويمكن تعريف الانتماء بأنه العلاقة الايجابية والحياتية التي تؤدى الى التحقق المتبادل، تنتفي منها المنفعة بمفهوم الربح والخسارة، وترتقي إلى العطاء بلا حدود الذى يصل إلى حد التضحية بالنفس.
 
   
 
   
 
ويتجلى الانتماء بصورة عالية عندما يتعرض الوطن لأى اعتداء خارجي، والانتماء قد يكون طبيعي فطرى، خاصة عند الإنسان العادي بفعل الوجود الإنساني واستمرار البقاء فى ظل الوطن وضمن النظام الاجتماعي، وقد يكون انتماء عاطفيا تجاه موقف أو ظروف طارئة، ولكن أرقى انتماء هو الانتماء المنطقي الناتج عن المعرفة وإعمال العقل، ونسبة المنتمون منطقيا قليلة ولكنها دائما فاعلة ومؤثرة فى حركة المجتمعات"<ref>فتحي سيد فرج-الحوار المتمدن-المجتمع المدني – العدد 1588 - 2006 / 6 / 21</ref>.
 
ويتجلى الانتماء بصورة عالية عندما يتعرض الوطن لأى اعتداء خارجي، والانتماء قد يكون طبيعي فطرى، خاصة عند الإنسان العادي بفعل الوجود الإنساني واستمرار البقاء فى ظل الوطن وضمن النظام الاجتماعي، وقد يكون انتماء عاطفيا تجاه موقف أو ظروف طارئة، ولكن أرقى انتماء هو الانتماء المنطقي الناتج عن المعرفة وإعمال العقل، ونسبة المنتمون منطقيا قليلة ولكنها دائما فاعلة ومؤثرة فى حركة المجتمعات"<ref>فتحي سيد فرج-الحوار المتمدن-المجتمع المدني – العدد 1588 - 2006 / 6 / 21</ref>.
سطر ٥٢: سطر ٥٢:
 
وتكمن الخطورة في ذلك أن تصبح الهوية كما يقول د.محمد عابد الجابري (١٩٣٥ـ ٢٠١٠م)  ـ نزعة أطلق عليها إسم الهويانية، وهي النزعة التي ترفع شعار الهوية سواء كانت قومية أم إثنية أم طائفية..الخ
 
وتكمن الخطورة في ذلك أن تصبح الهوية كما يقول د.محمد عابد الجابري (١٩٣٥ـ ٢٠١٠م)  ـ نزعة أطلق عليها إسم الهويانية، وهي النزعة التي ترفع شعار الهوية سواء كانت قومية أم إثنية أم طائفية..الخ
  
لأن الهويانية ستجنح بصاحبها نحو التطرف، مما يكرس في المجتمع نزعة التطرف في الإنتماء لهذه الهوية، ويدفع به إلى ساحات الإلغاء والتهميش والتكفير، وهو ما لمسناه في عصرنا عند التكفيريين من كافة المذاهب بل عند المتطرفين اليهود(الصهاينة) والمتطرفين المسيحيين(الصهيومسيحية)، وداعش والوهابية وحركة ياسر الحبيب وأشكالها وغيرها من الحركات التكفيرية المنتمية للإسلام.
+
لأن الهويانية ستجنح بصاحبها نحو التطرف، مما يكرس في المجتمع نزعة التطرف في الإنتماء لهذه الهوية، ويدفع به إلى ساحات الإلغاء والتهميش والتكفير، وهو ما لمسناه في عصرنا عند التكفيريين من كافة المذاهب بل عند المتطرفين اليهود (الصهاينة) والمتطرفين المسيحيين (الصهيومسيحية)، والوهابية وحركة ياسر الحبيب وأشكالها وغيرها من الحركات التكفيرية المنتمية للإسلام.</big>
  
 
=أنماط الهوية=
 
=أنماط الهوية=
سطر ٧٥: سطر ٧٥:
  
 
=العولمة والعلمنة والهوية=
 
=العولمة والعلمنة والهوية=
تنوعت تعريفات العولمة بين المفكرين تنوعا كان أساسه منطلق كل منهم في رؤيته لمفهوم العولمة، أي المنطلق الفكري، فمنهم من رآها من منظور اقتصادي فقال أنهااستعمار بثوب جديد، ثوب تشكله المصالح الاقتصادية ويحمل قيما تدعم انتشار تلك المصالح، وآخر رآها من منظور ثقافي فقال أنها تعني نفي للآخر وإحلال الاختراق الثقافي وفرض نمط واحد للسلوك والاستهلاك، وبعضهم رآها من منظور عسكري وتقني.
+
تنوعت تعريفات العولمة بين المفكرين تنوعا كان أساسه منطلق كل منهم في رؤيته لمفهوم العولمة، أي المنطلق الفكري، فمنهم من رآها من منظور اقتصادي فقال أنها استعمار بثوب جديد، ثوب تشكله المصالح الاقتصادية ويحمل قيما تدعم انتشار تلك المصالح، وآخر رآها من منظور ثقافي فقال أنها تعني نفي للآخر وإحلال الاختراق الثقافي وفرض نمط واحد للسلوك والاستهلاك، وبعضهم رآها من منظور عسكري وتقني.
  
يرى الفرنسيون يرون في العولمة "صيغة مهذبة للأمركة التي تتجلى في ثلاثة رموز هو سيادة اللغــة الإنجليزية كلغة التقدم والاتجاه نحو العالمية، وسيطرة سينما هوليود وثقافتها الضحلة وإمكاناتها الضخمة، ومشروب الكوكاكولا وشطائر البرجر والكنتاكي"<ref>العولمة وعالم بلا هوية، د. محمود سمير المنير، دار الكلمة  للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م، ص: 129</ref>
+
الفرنسيون يرون في العولمة "صيغة مهذبة للأمركة التي تتجلى في ثلاثة رموز هو سيادة اللغــة الإنجليزية كلغة التقدم والاتجاه نحو العالمية، وسيطرة سينما هوليود وثقافتها الضحلة وإمكاناتها الضخمة، ومشروب الكوكاكولا وشطائر البرجر والكنتاكي"<ref>العولمة وعالم بلا هوية، د. محمود سمير المنير، دار الكلمة  للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م، ص: 129</ref>
 
   
 
   
 
والملاحظ من جملة التعاريف أنها تتفق على الهيمنة والسيطرة والإحلال والتمييع والتغيير, أي هو سعي دؤوب للتغيير، لا من أجل الإنسان وخدمته، بل تغيير ضده يهمشه هويةً وسلوكا وثقافة وفكرا، وعلى كافة المستويات الأخرى.
 
والملاحظ من جملة التعاريف أنها تتفق على الهيمنة والسيطرة والإحلال والتمييع والتغيير, أي هو سعي دؤوب للتغيير، لا من أجل الإنسان وخدمته، بل تغيير ضده يهمشه هويةً وسلوكا وثقافة وفكرا، وعلى كافة المستويات الأخرى.
سطر ١٠٢: سطر ١٠٢:
 
لذلك سيكون المستهدف الأكثر تأثرا في موجة ورياح العولمة هو الثقافة، والتي تتعلق بالبعد الديني للمجتمعات وهي مكون رئيس ومهم من مكونات الهوية المجتمعية والفردية.
 
لذلك سيكون المستهدف الأكثر تأثرا في موجة ورياح العولمة هو الثقافة، والتي تتعلق بالبعد الديني للمجتمعات وهي مكون رئيس ومهم من مكونات الهوية المجتمعية والفردية.
  
إن الإيديولوجيا القادرة على ذلك كله هي العلمانية، التي تسعى إلى فصل الدين ليس فقط عن الدولة، بل العلمانية الحالية تسعي لتكون شاملة، حيث جعلت من الدين في الغرب مجرد طقوس فردية يُؤَدى ضمن حدود جدار كنسية ضيقة الفكر والآفاق ومفرغة المحتوى قشرية. “ والعلمانية تعني المخالفة للقواعد الشرعية والتعاليم الدينية، والانسجام مع الروح الدنيوية والعرفية. فمادة العلمانية مرتبطة بالدنيا، ومنفصلة عن الروحانية، وغير دينية، وعامية، وعرفية، وأميّة، وخارجة عن الصوامع، ومخالفة للأمور الشرعية، ومنحازة إلى صيرورة الأشياء الدنيوية. وتعني التحرر من قيود القساوسة أو الرهبانية، وتعميم الملكية، وتخصيص الأمور على غير الروحانية، والخروج عن عالم الروحانية (فيما يتعلق بالقساوسة)، وعبادة الدنيا والانغماس في المادية، وإضفاء حالة من الدنيوية إلى العقائد أو المقامات الكنسية.<ref>انظر د. عباس آريان بور كاشااني، فرهنك كامل انكليسي فارسي، المادة (ATH).</ref>   
+
إن الإيديولوجيا القادرة على ذلك كله هي العلمانية، التي تسعى إلى فصل الدين ليس فقط عن الدولة، بل العلمانية الحالية تسعي لتكون شاملة، حيث جعلت من الدين في الغرب مجرد طقوس فردية يُؤَدى ضمن حدود جدار كنسية ضيقة الفكر والآفاق ومفرغة المحتوى قشرية. “ والعلمانية تعني المخالفة للقواعد الشرعية والتعاليم الدينية، والانسجام مع الروح الدنيوية. فمادة العلمانية مرتبطة بالدنيا، ومنفصلة عن الروحانية، وغير دينية، وعامية، وأميّة، وخارجة عن الصوامع، ومخالفة للأمور الشرعية، ومنحازة إلى صيرورة الأشياء الدنيوية. وتعني التحرر من قيود القساوسة أو الرهبانية، وتعميم الملكية، وتخصيص الأمور على غير الروحانية، والخروج عن عالم الروحانية (فيما يتعلق بالقساوسة)، وعبادة الدنيا والانغماس في المادية، وإضفاء حالة من الدنيوية إلى العقائد أو المقامات الكنسية.<ref>انظر د. عباس آريان بور كاشااني، فرهنك كامل انكليسي فارسي، المادة (ATH).</ref>   
  
 
والعَلمنة (secularization) كتعبير لوصف صيرورة إقصاء الدين، أو عملية "دَنيَوة" لمجال ما، فبدأ استخدامه في بريطانيا في نهاية الخمسينيات وبداية ستينيات القرن التاسع عشر، مع مصطلحات "علمنة الفن". وفي ألمانيا بعد ذلك بثلاثين عاما بدأ يدور صراع فكري في شأن "علمنة الأخلاق"، أي تحريرها من مرجعيتها اللاهوتية، وكانت من أعسر العمليات الفكرية تصَوّراً بالطبع، لأن الأخلاق ارتبطت بالدين في نظر أغلبية الناس في تلك المرحلة. لكنها تحولت إلى نموذج نظري (سيسيولوجي – اجتماعي) في فهم تطور المجتمع في القرن العشرين. ولغرض تمييز دلالات المصطلح من المفهوم كأنموذج نظري في العلوم الاجتماعية نجد بعض التعريفات التي تشير إلى الدلالات والاتجاهات الممكنة التالية:
 
والعَلمنة (secularization) كتعبير لوصف صيرورة إقصاء الدين، أو عملية "دَنيَوة" لمجال ما، فبدأ استخدامه في بريطانيا في نهاية الخمسينيات وبداية ستينيات القرن التاسع عشر، مع مصطلحات "علمنة الفن". وفي ألمانيا بعد ذلك بثلاثين عاما بدأ يدور صراع فكري في شأن "علمنة الأخلاق"، أي تحريرها من مرجعيتها اللاهوتية، وكانت من أعسر العمليات الفكرية تصَوّراً بالطبع، لأن الأخلاق ارتبطت بالدين في نظر أغلبية الناس في تلك المرحلة. لكنها تحولت إلى نموذج نظري (سيسيولوجي – اجتماعي) في فهم تطور المجتمع في القرن العشرين. ولغرض تمييز دلالات المصطلح من المفهوم كأنموذج نظري في العلوم الاجتماعية نجد بعض التعريفات التي تشير إلى الدلالات والاتجاهات الممكنة التالية:
سطر ١٣٢: سطر ١٣٢:
 
إن من أهم مخاطر العولمة هي تداعياتها على استلاب الهوية، يتم في الاستلاب الشامل تبلور نموذج مثيل في الهوية لتلك الهوية الوافدة التي يتم الترويج لها بطرق مختلفة، فيصبح نسخة طبق الأصل في التفكير والسلوك وطريقة الحياة تصل إلى درجة طريقة اللباس والطعام، وقد يصل الأمر إلى درجة استلاب الدين الذي ينتمي إليه بآخر بديل تأثرا بتلك الهوية الوافدة.
 
إن من أهم مخاطر العولمة هي تداعياتها على استلاب الهوية، يتم في الاستلاب الشامل تبلور نموذج مثيل في الهوية لتلك الهوية الوافدة التي يتم الترويج لها بطرق مختلفة، فيصبح نسخة طبق الأصل في التفكير والسلوك وطريقة الحياة تصل إلى درجة طريقة اللباس والطعام، وقد يصل الأمر إلى درجة استلاب الدين الذي ينتمي إليه بآخر بديل تأثرا بتلك الهوية الوافدة.
 
ومفهوم الاستلاب في البيئة العربية جاء تعريفهما كما ورد في القاموس المحيط:
 
ومفهوم الاستلاب في البيئة العربية جاء تعريفهما كما ورد في القاموس المحيط:
 +
 
- مفردة الاستلاب كالتالي:
 
- مفردة الاستلاب كالتالي:
 
سلبه سلبا أي اختلسه، وفلان ثوبه أخذه سلبا. السلب هو أخذ الشيء قهرا(ومنها السلب والنهب)، وقبل على حين غفلة وبسرعة. وأسلبت الشجرة ذهب حملها وسقط ورقها (تجردت وتعرّت). والأسلاب غنائم الحرب وأدوات القتلى والأسرى ومتاعهم، وحتى نسائهم وأطفالهم، والسليب المُسْتَلَب العقل، والوطن السليب المأخوذ عنوة ومن دون وجه حق.
 
سلبه سلبا أي اختلسه، وفلان ثوبه أخذه سلبا. السلب هو أخذ الشيء قهرا(ومنها السلب والنهب)، وقبل على حين غفلة وبسرعة. وأسلبت الشجرة ذهب حملها وسقط ورقها (تجردت وتعرّت). والأسلاب غنائم الحرب وأدوات القتلى والأسرى ومتاعهم، وحتى نسائهم وأطفالهم، والسليب المُسْتَلَب العقل، والوطن السليب المأخوذ عنوة ومن دون وجه حق.
  
- ومفردة الاغتراب يرد تعريفها كالآتي:  
+
- مفردة الاغتراب يرد تعريفها كالآتي:  
 
اغترب فلانا غُرباً وغربة نزح عن وطنه، وغربت النجوم توارت، والقوم غُرباً ذهبوا، وغَرَّبَ فُلان بَعُدَ ونزح عن الوطن، وفي سفره تمادى، وغرَّب فلاناً حَمَلَه على الغُربة، والغرب هو النزوح عن الوطن، والغريب البعيد عن وطنه.
 
اغترب فلانا غُرباً وغربة نزح عن وطنه، وغربت النجوم توارت، والقوم غُرباً ذهبوا، وغَرَّبَ فُلان بَعُدَ ونزح عن الوطن، وفي سفره تمادى، وغرَّب فلاناً حَمَلَه على الغُربة، والغرب هو النزوح عن الوطن، والغريب البعيد عن وطنه.
  
 
وإن كان هناك من يستخدم الاستلاب أو يستخدم الاغتراب كمشترك معنوي، فمن وجهة نظري أرى الاستلاب في بعده الثقافي محله العقل وحمولاته المعرفية الثقافية، أما الاغتراب فمحله الذات الإنسانية وعلاقة هذا الاغتراب في فقدان البعد المعنوي في الإنسان، ولعل كلا اللفظين يعضد بعضهما البعض، فاغتراب الإنسان عن ذاته وفقدانه للمعنوية، ونكرانه للوجود الروحي للإنسان كبعد مهم في تشكيل ذات الإنسان، يمهد الطريق للاستلاب الثقافي والمعرفي، والعكس بالعكس، فالاستلاب الثقافي تدريجيا يفقد الإنسان بعده المعنوي وفهمه للروح، ويمهد الطريق لاغترابه عن ذاته.
 
وإن كان هناك من يستخدم الاستلاب أو يستخدم الاغتراب كمشترك معنوي، فمن وجهة نظري أرى الاستلاب في بعده الثقافي محله العقل وحمولاته المعرفية الثقافية، أما الاغتراب فمحله الذات الإنسانية وعلاقة هذا الاغتراب في فقدان البعد المعنوي في الإنسان، ولعل كلا اللفظين يعضد بعضهما البعض، فاغتراب الإنسان عن ذاته وفقدانه للمعنوية، ونكرانه للوجود الروحي للإنسان كبعد مهم في تشكيل ذات الإنسان، يمهد الطريق للاستلاب الثقافي والمعرفي، والعكس بالعكس، فالاستلاب الثقافي تدريجيا يفقد الإنسان بعده المعنوي وفهمه للروح، ويمهد الطريق لاغترابه عن ذاته.
 +
 
الاستلاب أو الاغتراب الذي يهتم به البحث هنا بعد هذا السرد المختصر، هو المتداول في الفضاء المعرفي العربي والإسلامي، وهو التبعية للآخر، وانسلاخ من الذاتية الثقافية والخضوع في التبعية للآخر في حضارته وثقافته، أي هي علاقة بين حضارتين وثقافتين وهويتين مختلفتين، يخضع فيها الأضعف للأقوى وفق المفهوم المادي للقوة والضعف، والذي بات مؤثرا في دلالاته على مساحات الوعي العربي والإسلامي.
 
الاستلاب أو الاغتراب الذي يهتم به البحث هنا بعد هذا السرد المختصر، هو المتداول في الفضاء المعرفي العربي والإسلامي، وهو التبعية للآخر، وانسلاخ من الذاتية الثقافية والخضوع في التبعية للآخر في حضارته وثقافته، أي هي علاقة بين حضارتين وثقافتين وهويتين مختلفتين، يخضع فيها الأضعف للأقوى وفق المفهوم المادي للقوة والضعف، والذي بات مؤثرا في دلالاته على مساحات الوعي العربي والإسلامي.
 
وقد يكون الاستلاب الشامل هو انسلاخ الهوية عن بعدها الإنساني، وهيمنة البعد الديني بنصوصه أو القبلي بتراثه وعاداته وتقاليده، أو البعد الجنسي الذكوري أو الأنثوي، وغيرها من مظاهر الهيمنة ذات البعد الواحد، والتي تلغي أبعاد الإنسان الأخرى التي تحقق له الاتزان والاعتدال في التفكير والسلوك.
 
وقد يكون الاستلاب الشامل هو انسلاخ الهوية عن بعدها الإنساني، وهيمنة البعد الديني بنصوصه أو القبلي بتراثه وعاداته وتقاليده، أو البعد الجنسي الذكوري أو الأنثوي، وغيرها من مظاهر الهيمنة ذات البعد الواحد، والتي تلغي أبعاد الإنسان الأخرى التي تحقق له الاتزان والاعتدال في التفكير والسلوك.
سطر ١٤٥: سطر ١٤٧:
 
# من قبل الأنظمة الشمولية السلطوية الديكتاتورية المستبدة، "حيث يعرض المستبد نفسه في صورة كائن كلّي القدرة حر يفعل ما يشاء، كيف يشاء، ومتى يشاء (يعطي ويمنع، ويغضب ويصفح..) على غرار الآلهة" . وهنا يستلب الإنسان وعيه بذاته وحقوقه، ويصبح كما يقول دو لا بويسي (١٥٣٠م – ١٥٦٣م) في كتابه مقالة في العبودية الطوعية وترجمة أخرى المختارة: "لا وجود للعبودية إلا أنها طوعية"<ref>إتيان دي لا بويسي، العبودية الطوعية ص ٩٦. كاتب وقاضي فرنسي وموجد النظرية الفوضوية، ومؤسس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا</ref>  ويصف بويَسي قابلية الاستعباد قائلا: " حتى الطغاة أنفسهم يعجبون من قدرة الناس على احتمال رجل يسيء إليهم وهم يحرصون على أن يضعوا الدين أمامهم ليحتموا به، ولو استطاعوا لاقتبسوا شيئا من الألوهية لإسناد حياتهم الشريرة .  وهذه أجلى مظاهر الاستلاب الشامل للإنسان. إلا أن هذا الاستلاب لا يعود بالمطلق لقدرة المستبد، وإنما يشاركه في ذلك قابلية الاستعباد عن الشعوب التي تنصاح بإرادتها للقبول باستبداد هذا النظام وطغيانه
 
# من قبل الأنظمة الشمولية السلطوية الديكتاتورية المستبدة، "حيث يعرض المستبد نفسه في صورة كائن كلّي القدرة حر يفعل ما يشاء، كيف يشاء، ومتى يشاء (يعطي ويمنع، ويغضب ويصفح..) على غرار الآلهة" . وهنا يستلب الإنسان وعيه بذاته وحقوقه، ويصبح كما يقول دو لا بويسي (١٥٣٠م – ١٥٦٣م) في كتابه مقالة في العبودية الطوعية وترجمة أخرى المختارة: "لا وجود للعبودية إلا أنها طوعية"<ref>إتيان دي لا بويسي، العبودية الطوعية ص ٩٦. كاتب وقاضي فرنسي وموجد النظرية الفوضوية، ومؤسس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا</ref>  ويصف بويَسي قابلية الاستعباد قائلا: " حتى الطغاة أنفسهم يعجبون من قدرة الناس على احتمال رجل يسيء إليهم وهم يحرصون على أن يضعوا الدين أمامهم ليحتموا به، ولو استطاعوا لاقتبسوا شيئا من الألوهية لإسناد حياتهم الشريرة .  وهذه أجلى مظاهر الاستلاب الشامل للإنسان. إلا أن هذا الاستلاب لا يعود بالمطلق لقدرة المستبد، وإنما يشاركه في ذلك قابلية الاستعباد عن الشعوب التي تنصاح بإرادتها للقبول باستبداد هذا النظام وطغيانه
 
# من قبل الأصوليات الدينية المتطرفة، والعصبيات المذهبية، والقبلية، والعائلية.
 
# من قبل الأصوليات الدينية المتطرفة، والعصبيات المذهبية، والقبلية، والعائلية.
==الأصولية==
+
===الأصولية===
 
إن الأصولية تاريخيا كمفهوم نشأت من حركة بروتستانتية أميركية محافظة أطلقت على ذاتها هذه التسمية. ولقد نشأت في الحركة الألفية في القرن التاسع عشر، حيث برزت توقعّات بعودة المسيح.. وتؤكّد هذه الأصولية أن أساسيات الدين المسيحي تتمثل في التأويل الحرفي لنصوص الإنجيل، والعصمة عن الخطأ، والمفهوم بهذه الصيغة وسياقها، يحمل مكونا يرتبط بالعنف يصل في حده الأقصى إلى الإرهاب التكفيري.
 
إن الأصولية تاريخيا كمفهوم نشأت من حركة بروتستانتية أميركية محافظة أطلقت على ذاتها هذه التسمية. ولقد نشأت في الحركة الألفية في القرن التاسع عشر، حيث برزت توقعّات بعودة المسيح.. وتؤكّد هذه الأصولية أن أساسيات الدين المسيحي تتمثل في التأويل الحرفي لنصوص الإنجيل، والعصمة عن الخطأ، والمفهوم بهذه الصيغة وسياقها، يحمل مكونا يرتبط بالعنف يصل في حده الأقصى إلى الإرهاب التكفيري.
 
واستعمل مصطلح الأصولية إسلاميا للدلالة على العودة إلى أصول الدين الأولى وقواعده دون الأخذ في الحسبان بفارق الزمان والمكان ودون التفريق بين الثابت والمتغير، والتمسك بالجوهر بشكل نصي، اعتقادا وممارسة، وصولا إلى إصلاح حال المسلمين من خلال جعله مطابقا للأصول الأولى، والسير على خطى السلف الصالح الذي طبّق العقيدة بتمامها في السلوك والحياة، بطريقة لا تأخذ في الحسبان سياقات الحدث وظروفه الزمانية الخاصة، وصولاً إلى الخروج من الضلال وفساد أمر الأمة.. وهذا ما أعنيه بالأصولية بمعناها السلبي، وليس الأصولية بمعناها الإيجابي المتمثل بالأصالة والثوابت ووعي الزمان والمكان وفوارقهما
 
واستعمل مصطلح الأصولية إسلاميا للدلالة على العودة إلى أصول الدين الأولى وقواعده دون الأخذ في الحسبان بفارق الزمان والمكان ودون التفريق بين الثابت والمتغير، والتمسك بالجوهر بشكل نصي، اعتقادا وممارسة، وصولا إلى إصلاح حال المسلمين من خلال جعله مطابقا للأصول الأولى، والسير على خطى السلف الصالح الذي طبّق العقيدة بتمامها في السلوك والحياة، بطريقة لا تأخذ في الحسبان سياقات الحدث وظروفه الزمانية الخاصة، وصولاً إلى الخروج من الضلال وفساد أمر الأمة.. وهذا ما أعنيه بالأصولية بمعناها السلبي، وليس الأصولية بمعناها الإيجابي المتمثل بالأصالة والثوابت ووعي الزمان والمكان وفوارقهما
سطر ١٥٤: سطر ١٥٦:
 
والاستلاب الشامل الداخلي هنا تمارسه الأنظمة الشمولية التي تحول الفرد إلي عبد بطريقة غير مباشرة، فتفقده وعيه لذاته وقدراته، وتخلق منه من خلال مناهج التعليم والتربية، ومن خلال قوانينها الشمولية عبدا بشكل إنسان ظاهري، وظيفته الطاعة، وهذا ينطبق على السلطة السياسية، والدينية، والقبلية، والعائلية.
 
والاستلاب الشامل الداخلي هنا تمارسه الأنظمة الشمولية التي تحول الفرد إلي عبد بطريقة غير مباشرة، فتفقده وعيه لذاته وقدراته، وتخلق منه من خلال مناهج التعليم والتربية، ومن خلال قوانينها الشمولية عبدا بشكل إنسان ظاهري، وظيفته الطاعة، وهذا ينطبق على السلطة السياسية، والدينية، والقبلية، والعائلية.
 
هنا يسلب الإنسان بشكل كامل وعيه، بل إرادته، ويخضع بكل وجوده للمنهج الشمولي، بل يصبح جزء منه ومن منهجه، ليصل إلى درجة ممارسة نفس الطريقة الشمولية عبر محيطه، فهناك من سلم وجوده للآخرين يفكرون له ويقررون، حتى يقينه نابع من يقينياتهم، فهو يختار درب السلامة الوهمية في عدم التفكير وإعمال العقل، ليحرز اطمئنانا تسالميا ضمن الحشود.  
 
هنا يسلب الإنسان بشكل كامل وعيه، بل إرادته، ويخضع بكل وجوده للمنهج الشمولي، بل يصبح جزء منه ومن منهجه، ليصل إلى درجة ممارسة نفس الطريقة الشمولية عبر محيطه، فهناك من سلم وجوده للآخرين يفكرون له ويقررون، حتى يقينه نابع من يقينياتهم، فهو يختار درب السلامة الوهمية في عدم التفكير وإعمال العقل، ليحرز اطمئنانا تسالميا ضمن الحشود.  
وأما الدول الكبرى ومؤسساتها الدولية فهي تمارس استلاب خارجي وحينما يكون شاملا، فتكمن الخطورة في إعادة الاستعمار مجددا وهو ما يطرح في فرضيات "ما بعد الاستعمار".
+
===فكر ما بعد الاستعمار===
 +
تمارس الدول الكبرى ومؤسساتها الدولية استلاباً خارجياً وحينما يكون شاملا، فتكمن الخطورة في إعادة الاستعمار مجددا وهو ما يطرح في فرضيات "ما بعد الاستعمار".
 
فالفكر "ما بعد الاستعماري" قائم على فرضية تقول: إن نظريات وتيارات ما بعد الاستعمار ما كانت لتولد لو لم يكن المستهدَف منها أصلا، هو العقل الاستعماري نفسه. من أجل ذلك دأب مفكرون وعلماء اجتماع على تعريف نظرية "ما بعد الاستعمار" بأنها نظرية تهدف إلى تحليل كل ما أنتجته الثقافة الغربية باعتبارها خطابا مقصديًّا يحمل في طياته توجهّات استعمارية إزاء المجتمعات الأخرى... فالاستعمار التقليدي قد انتهى، وأن مرحلة من الهيمنة – تسمىّ أحياناً المرحلة - النيوإمبرالية – قد حلَّت وأنشأت ظروفاً مختلفةً تستدعى تحليلاً من نوع جديد .  
 
فالفكر "ما بعد الاستعماري" قائم على فرضية تقول: إن نظريات وتيارات ما بعد الاستعمار ما كانت لتولد لو لم يكن المستهدَف منها أصلا، هو العقل الاستعماري نفسه. من أجل ذلك دأب مفكرون وعلماء اجتماع على تعريف نظرية "ما بعد الاستعمار" بأنها نظرية تهدف إلى تحليل كل ما أنتجته الثقافة الغربية باعتبارها خطابا مقصديًّا يحمل في طياته توجهّات استعمارية إزاء المجتمعات الأخرى... فالاستعمار التقليدي قد انتهى، وأن مرحلة من الهيمنة – تسمىّ أحياناً المرحلة - النيوإمبرالية – قد حلَّت وأنشأت ظروفاً مختلفةً تستدعى تحليلاً من نوع جديد .  
 
وقد احتل الاستعمار، مكانة محورية في فكر النخب العربية والإسلامية التي تولت مهمة معرفية نقدية مركبة: نقد الغازي (المستَعمِر) ونقد النخب المتماهية معه داخل المجتمعات المستَعمرَة... وقد تركزَّت المسألة الأساسية التي عالجوها على مشكلة الاغتراب بوصف كونها غربة إنسان تلك المجتمعات عن ذاته الحضارية وهويته الوطنية في سياق تماهيه مع ثقافة الغرب ومعارفه. هذه الحالة المخصوصة من الاغتراب ستجد من يصفها بعبارة موفَّقة: "اقتلاع الذات بواسطة الذات إياها". وشرحها أن الثقافة الاستعمارية تتحول عن طريق الاغتراب إلى ضربٍ من ولاء نفسي، موصول باستيطان معرفي عن سابق إرادة ووعي. فالاغتراب كحالته القصوى هو أشبه بانصباب وعي المستعمِر في صميم وعي المستعمَر على النحو الذي يصبح المهَيْمَن عليه غافلا عن نفسه وعن مصيره وعن المكان الذي هو فيه. وفي هذه الحال يكفّ "المغترِبُ" عن أن يصبح سيد نفسه ويتحول إلى عبد لآلة العمل وخطاب مالكيها .
 
وقد احتل الاستعمار، مكانة محورية في فكر النخب العربية والإسلامية التي تولت مهمة معرفية نقدية مركبة: نقد الغازي (المستَعمِر) ونقد النخب المتماهية معه داخل المجتمعات المستَعمرَة... وقد تركزَّت المسألة الأساسية التي عالجوها على مشكلة الاغتراب بوصف كونها غربة إنسان تلك المجتمعات عن ذاته الحضارية وهويته الوطنية في سياق تماهيه مع ثقافة الغرب ومعارفه. هذه الحالة المخصوصة من الاغتراب ستجد من يصفها بعبارة موفَّقة: "اقتلاع الذات بواسطة الذات إياها". وشرحها أن الثقافة الاستعمارية تتحول عن طريق الاغتراب إلى ضربٍ من ولاء نفسي، موصول باستيطان معرفي عن سابق إرادة ووعي. فالاغتراب كحالته القصوى هو أشبه بانصباب وعي المستعمِر في صميم وعي المستعمَر على النحو الذي يصبح المهَيْمَن عليه غافلا عن نفسه وعن مصيره وعن المكان الذي هو فيه. وفي هذه الحال يكفّ "المغترِبُ" عن أن يصبح سيد نفسه ويتحول إلى عبد لآلة العمل وخطاب مالكيها .
سطر ١٨٩: سطر ١٩٢:
  
 
# الأنظمة السلطوية وشبه السلطوية المتحالفة ثقافيا والخاضعة معرفيا للسياسات الثقافية والمعرفية، التي تقرها مؤسسات دولية بقيادة هذه الدول الكبرى، لتخدم منهجها في عولمة منظومتها المعرفية والقيمية، ومفاهيمها وفلسفتها وهويتها الخاصة.
 
# الأنظمة السلطوية وشبه السلطوية المتحالفة ثقافيا والخاضعة معرفيا للسياسات الثقافية والمعرفية، التي تقرها مؤسسات دولية بقيادة هذه الدول الكبرى، لتخدم منهجها في عولمة منظومتها المعرفية والقيمية، ومفاهيمها وفلسفتها وهويتها الخاصة.
 
 
# قطاعات النخب العربية والإسلامية التي تماهت في مقاطع من التاريخ وفي أزمنة متعددة مع هذه الكولونيالية الفجة والتواطؤ مع تيار الهيمنة الغربي. "هؤلاء يمكن تسميتهم ب (طبقة الوكلاء comprador). هذا المصطلح الذي تم تطويره بطريقة أشمل في مرحلة ما بعد الكولونيالية ليشمل طبقة من الأكاديميين والكتاب والإبداعيين والفنانين – ممن يتنازلون عن استقلالهم الوطني باعتمادهم على القوة الإمبريالية ويجعلون رهانهم معها. لم يعد الأمر مقتصراً على أفرد البرجوازية المحلية الذين يدينون بأوضاعهم المتميزة للاحتكارات الأجنبية، ومن ثم يحافظون على مصلحتهم الراسخة في بقاء الاحتلال. تلك الفكرة عن طبقة الوكلاء والتي تفترض وجود هيكل تراتبي واضح ومتسلسل من العلاقات الثقافية والمادية غير المسلم بها . " فالافتراض الذي يذهب إلى أن طبقة الوكلاء متمايزة بالضرورة وبصورة يسهل تحديدها عن بقية المجتمع، هو افتراض محل جدل وشكك نسبيا ممن يحافظون على مقدرة أكثر تطورا في انخراطهم في الممارسات التواصلية الدولية التي تطرحها الهيمنة الاستعمارية، وممن يظهرون ميلاً أقل، بحكم ذلك، للنضال من أجل الاستقلال الثقافي والسياسي".  
 
# قطاعات النخب العربية والإسلامية التي تماهت في مقاطع من التاريخ وفي أزمنة متعددة مع هذه الكولونيالية الفجة والتواطؤ مع تيار الهيمنة الغربي. "هؤلاء يمكن تسميتهم ب (طبقة الوكلاء comprador). هذا المصطلح الذي تم تطويره بطريقة أشمل في مرحلة ما بعد الكولونيالية ليشمل طبقة من الأكاديميين والكتاب والإبداعيين والفنانين – ممن يتنازلون عن استقلالهم الوطني باعتمادهم على القوة الإمبريالية ويجعلون رهانهم معها. لم يعد الأمر مقتصراً على أفرد البرجوازية المحلية الذين يدينون بأوضاعهم المتميزة للاحتكارات الأجنبية، ومن ثم يحافظون على مصلحتهم الراسخة في بقاء الاحتلال. تلك الفكرة عن طبقة الوكلاء والتي تفترض وجود هيكل تراتبي واضح ومتسلسل من العلاقات الثقافية والمادية غير المسلم بها . " فالافتراض الذي يذهب إلى أن طبقة الوكلاء متمايزة بالضرورة وبصورة يسهل تحديدها عن بقية المجتمع، هو افتراض محل جدل وشكك نسبيا ممن يحافظون على مقدرة أكثر تطورا في انخراطهم في الممارسات التواصلية الدولية التي تطرحها الهيمنة الاستعمارية، وممن يظهرون ميلاً أقل، بحكم ذلك، للنضال من أجل الاستقلال الثقافي والسياسي".  
  
سطر ١٩٦: سطر ١٩٨:
 
سوف تعاني الدول المستَعمَرة من دلالات الازدواج الوجداني الحاد والذي يتجلى إما في التقليد أو في المناهضة بشدة أو بالهوس للحفاظ على الهويّة، أو الانفصام الثقافي أو للميل لجانب دون آخر في تلك الثنائية، مما يفضي إلى نشوء تطرف ولدته الإمبريالية في إطار صناعتها للعنصرية لتكون رمزاً إضافياً في بنيتها الإيديولوجية، وبالتالي التأكيد على أن أحد أهم قواعد استمرارية الإمبريالية وقوتها يكمن في خلق تلك الفرقة والتنازع الدائم بين الشعوب.  
 
سوف تعاني الدول المستَعمَرة من دلالات الازدواج الوجداني الحاد والذي يتجلى إما في التقليد أو في المناهضة بشدة أو بالهوس للحفاظ على الهويّة، أو الانفصام الثقافي أو للميل لجانب دون آخر في تلك الثنائية، مما يفضي إلى نشوء تطرف ولدته الإمبريالية في إطار صناعتها للعنصرية لتكون رمزاً إضافياً في بنيتها الإيديولوجية، وبالتالي التأكيد على أن أحد أهم قواعد استمرارية الإمبريالية وقوتها يكمن في خلق تلك الفرقة والتنازع الدائم بين الشعوب.  
  
والخلاصة هي إن الاستلاب الشامل محكم بثلاثية هي:
+
===الخلاصة===
 +
إن الاستلاب الشامل محكم بثلاثية هي:
  
 
# القوي العظمى وقوتها الناعمة والاستعمار العلمي والمعرفي؛
 
# القوي العظمى وقوتها الناعمة والاستعمار العلمي والمعرفي؛
سطر ٢٠٣: سطر ٢٠٦:
 
# الصراع الثنائي القائم على الاختلاف الطبيعي والثقافي كاللون واللغة والدين والمذهب.
 
# الصراع الثنائي القائم على الاختلاف الطبيعي والثقافي كاللون واللغة والدين والمذهب.
 
ومن وجهة نظري المرحلة الأولى في معالجة الاستلاب تكون بالانطلاق من نقد الذات ووعيها، وهذا يتطلب بداية فهم منظومة الحقوق على ضوء الواجبات، والنضال من أجل تحقيق وعي حقوقي يهدف لتحقيق الكرامية الإنسانية كمحور رئيسي لتحقيق العدل والحريات العادلة.
 
ومن وجهة نظري المرحلة الأولى في معالجة الاستلاب تكون بالانطلاق من نقد الذات ووعيها، وهذا يتطلب بداية فهم منظومة الحقوق على ضوء الواجبات، والنضال من أجل تحقيق وعي حقوقي يهدف لتحقيق الكرامية الإنسانية كمحور رئيسي لتحقيق العدل والحريات العادلة.
 +
  
 
=مخاطر تمييع الهوية=
 
=مخاطر تمييع الهوية=
سطر ٢٠٩: سطر ٢١٣:
 
==الثابت والمتغير في الهوية==
 
==الثابت والمتغير في الهوية==
  
من الثوابت المهمة والمحورية في الهوية هي القيم والأخلاق في بعدها النظري كمرجعية معيارية التي يستحسنها العقل، أو ما يستقبحه أيضا والتي أيضا يرفضها الشارع المقدس وفقا لقاعدة الحسن والقبح العقليين، أو وفق مبدئ المصلحة والمفسدة ضمن تشخيص يعود لمرجعية معرفية مشتركة.
+
>من الثوابت المهمة والمحورية في الهوية هي القيم والأخلاق في بعدها النظري كمرجعية معيارية التي يستحسنها العقل، أو ما يستقبحه أيضا والتي أيضا يرفضها الشارع المقدس وفقا لقاعدة الحسن والقبح العقليين، أو وفق مبدئ المصلحة والمفسدة ضمن تشخيص يعود لمرجعية معرفية مشتركة.
ومن الضروري العمل على صياغة مشروع إسلامي حضاري فعلي تعارفي، وليس انفعالي لتحصين الهوية مع الحذر في ذلك من عدم الوقوع فريسة العولمة أو التقوقع الهوياني. وهو ما يتطلب بذل جهد أكبر من قبل المتخصصين من العلماء والمثقفين والأكادميين والحقوققين، في رسم الخريطة العامة لهويتنا العربية والإسلامية الحضارية، ضمن أطر الحفاظ على الثوابت المعتد بها، ولكن بلغة عصرية قادرة على استخدام كافة الوسائل والقدرات والطاقات بما يحصن الهوية ويستقطب الأجيال نحوها.
+
ومن الضروري العمل على صياغة مشروع إسلامي حضاري فعلي تعارفي، وليس انفعالي لتحصين الهوية مع الحذر في ذلك من عدم الوقوع فريسة العولمة أو التقوقع الهوياني. وهو ما يتطلب بذل جهد أكبر من قبل المتخصصين من العلماء والمثقفين والأكاديميين والحقوققين، في رسم الخريطة العامة لهويتنا العربية والإسلامية الحضارية، ضمن أطر الحفاظ على الثوابت المعتد بها، ولكن بلغة عصرية قادرة على استخدام كافة الوسائل والقدرات والطاقات بما يحصن الهوية ويستقطب الأجيال نحوها.
  
 
لا نريد للهوية أن تصبح نزعة متطرفة صادة، تميل بنا نحو الشمولية وإنما نريدها فكرة اعتدال، تحافظ على الثوابت الحقيقية، وتنفتح على الجديد العصري المتناغم مع قيمنا، نريدها هوية قائمة على التعارف وعلى خطاب تواصلي، قائم على احترام خصوصيات الهويات المتبادل، وليس على أساس التخاصم والتعدي، ومحاولات الإلغاء.
 
لا نريد للهوية أن تصبح نزعة متطرفة صادة، تميل بنا نحو الشمولية وإنما نريدها فكرة اعتدال، تحافظ على الثوابت الحقيقية، وتنفتح على الجديد العصري المتناغم مع قيمنا، نريدها هوية قائمة على التعارف وعلى خطاب تواصلي، قائم على احترام خصوصيات الهويات المتبادل، وليس على أساس التخاصم والتعدي، ومحاولات الإلغاء.
سطر ٢٣١: سطر ٢٣٥:
 
          
 
          
 
# الأخلاق والقيم والمباديء:وهنا تمييع هذه الأسس السلوكية أو طمس معالمها وأبعادها المعنوية، بأبعاد ومعالم منفعية وقيم استهلاكية قائمة على الأنا وتقديس الذات بلا حدود أو أطر سيكون له أثر على:
 
# الأخلاق والقيم والمباديء:وهنا تمييع هذه الأسس السلوكية أو طمس معالمها وأبعادها المعنوية، بأبعاد ومعالم منفعية وقيم استهلاكية قائمة على الأنا وتقديس الذات بلا حدود أو أطر سيكون له أثر على:
أ:الأسرة، التي تعتبر نواة المجتمع ومحورها، والغرب اليوم يئن تحت ضربات النسوية التي حولت الأسرة من مؤسسة اجتماعية لها عمق روحي ومعنوي واجتماعي، إلى مؤسسة كرتونية هشة قابلة للذوبان وغير قادرة على إنتاج أجيال منتجة ونافعة، في بعديها المادي والمعنوي.ومثالها انتشار الزواج المثلي بل شرعنته دوليا .
+
أ:الأسرة، التي تعتبر نواة المجتمع ومحورها، والغرب اليوم يئن تحت ضربات النسوية التي حولت الأسرة من مؤسسة اجتماعية لها عمق روحي ومعنوي واجتماعي، إلى مؤسسة كرتونية هشة قابلة للذوبان وغير قادرة على إنتاج أجيال منتجة ونافعة، في بعديها المادي والمعنوي.ومثالها انتشار الزواج المثلي بل شرعنته دوليا.
 
ب: المرأة: واطلاق مشروع المساواة المطلقة، دون التمييز بين المناطق القابلة للمساواة والأخرى التي تحتاج إلى القابليات المرتبطة بطبيعة المرأة، أو بالأحري لا تقدم مفهوم العدالة علي مفهوم المساواة، في خلط بين الأصل والفرع،
 
ب: المرأة: واطلاق مشروع المساواة المطلقة، دون التمييز بين المناطق القابلة للمساواة والأخرى التي تحتاج إلى القابليات المرتبطة بطبيعة المرأة، أو بالأحري لا تقدم مفهوم العدالة علي مفهوم المساواة، في خلط بين الأصل والفرع،
 
إضافة إلى الإباحية وتحويل المرأة إلى سلعة استهلاكية رخيصة، تروج البضائع في الأسواق, وشرعنة الاختلاط على الطريقة الغربية، وليس على طريقة لا منع ولا اختلاط وإنما حريم.
 
إضافة إلى الإباحية وتحويل المرأة إلى سلعة استهلاكية رخيصة، تروج البضائع في الأسواق, وشرعنة الاختلاط على الطريقة الغربية، وليس على طريقة لا منع ولا اختلاط وإنما حريم.
 
ونقل المرأة من موقع صانعة الاجيال، إلى موقع إفسادها، بالتركيز على بعدها المادي وإهمال كنهها المعنوي وجوهرها الإنساني.
 
ونقل المرأة من موقع صانعة الاجيال، إلى موقع إفسادها، بالتركيز على بعدها المادي وإهمال كنهها المعنوي وجوهرها الإنساني.
والتأثير الأخلاقي هو أسرع من غيره، وقد أشارت دراسة في السعودية (لناصر الحميدي) إلى أن التأثير على الجوانب الأخلاقية يأتي في الدرجة الأولى، مثل: الترويج للإباحية، والاختلاط، وما إلى ذلك مما يخالف القيم الإسلامية، وإغراء النساء بتقليد الأزياء الغربية وأدوات الزينة، وكذلك التأثير على الروابط الأسرية  
+
والتأثير الأخلاقي هو أسرع من غيره، وقد أشارت دراسة في السعودية (لناصر الحميدي) إلى أن التأثير على الجوانب الأخلاقية يأتي في الدرجة الأولى، مثل: الترويج للإباحية، والاختلاط، وما إلى ذلك مما يخالف القيم الإسلامية، وإغراء النساء بتقليد الأزياء الغربية وأدوات الزينة، وكذلك التأثير على الروابط الأسرية
 
ج. فئة الشباب وخاصة المراهقين: وذلك من خلال عولمة اللباس واللغة والسلوك خاصة مع ميل هذه الفئة إلى إبراز ذاتها، وإثبات وجودها فتقوم هذه المؤسسات العابرة للقارات من أجل رفع القيمة الانتاجية بالعمل، على رفع القدرة الاستهلاكية في الأسواق، وحيث أن هذه الفئة تعتبر فئة هشة، فيتم استغلالها ومخاطبتها بكافة الوسائل الممكنة، من أجل النفاذ إلى آفاقها المعرفية وتغيير معالمها الثقافية وتمييعها، وتغيير ولاءاتها خاصة العقدية منها، وهو ما يشكل خطورة في تمييع الأجيال التي يقع على عاتقها مسؤولية الابداع والتطوير، وإكمال المسيرة الإنسانية نحو رقيها التكاملي.
 
ج. فئة الشباب وخاصة المراهقين: وذلك من خلال عولمة اللباس واللغة والسلوك خاصة مع ميل هذه الفئة إلى إبراز ذاتها، وإثبات وجودها فتقوم هذه المؤسسات العابرة للقارات من أجل رفع القيمة الانتاجية بالعمل، على رفع القدرة الاستهلاكية في الأسواق، وحيث أن هذه الفئة تعتبر فئة هشة، فيتم استغلالها ومخاطبتها بكافة الوسائل الممكنة، من أجل النفاذ إلى آفاقها المعرفية وتغيير معالمها الثقافية وتمييعها، وتغيير ولاءاتها خاصة العقدية منها، وهو ما يشكل خطورة في تمييع الأجيال التي يقع على عاتقها مسؤولية الابداع والتطوير، وإكمال المسيرة الإنسانية نحو رقيها التكاملي.
  
 
أما الأدوات المستخدمة في تمييع الهوية وعلمنة المجتمعات من خلال رياح العولمة فكثيرة أهمها:
 
أما الأدوات المستخدمة في تمييع الهوية وعلمنة المجتمعات من خلال رياح العولمة فكثيرة أهمها:
#الإعلام، ويعتبر الوسيلة الأكثر نفوذا إلى عمقنا الثقافي.  
+
# الإعلام، ويعتبر الوسيلة الأكثر نفوذا إلى عمقنا الثقافي.  
#التكنولوجيا بكافة أشكالها.
+
# التكنولوجيا بكافة أشكالها.
#السوق الشاملة للباس وغيرها  
+
# السوق الشاملة للباس وغيرها  
#كل وسائل الاتصال والتواصل.
+
# كل وسائل الاتصال والتواصل.
#النخب التي صنعت أفكارها الثقافة الغربية، بل صنعها الغرب وإعلامه.
+
# النخب التي صنعت أفكارها الثقافة الغربية، بل صنعها الغرب وإعلامه.
  
 
==الهوية بين التحصين والمنع==
 
==الهوية بين التحصين والمنع==
  
 
إن مواجهة أي مشروع فعل للتغيير تحت شعار الإقصاء والتهميش، قد توقع المتصدين في دائرة الانفعال أو رد الفعل، مما يدفعهم إلى الإفراط والتقوقع، وهو ما يعني وضع كثير من الخطوط الحمراء وإضفاء الكثير من الهالات القدسية على غير المقدسات، تحت شعار الحفاظ على الهوية، وهو ما قد يكون له رد فعل عكسي من قبل الأجيال فتتعرض الهوية إلى خطرين:
 
إن مواجهة أي مشروع فعل للتغيير تحت شعار الإقصاء والتهميش، قد توقع المتصدين في دائرة الانفعال أو رد الفعل، مما يدفعهم إلى الإفراط والتقوقع، وهو ما يعني وضع كثير من الخطوط الحمراء وإضفاء الكثير من الهالات القدسية على غير المقدسات، تحت شعار الحفاظ على الهوية، وهو ما قد يكون له رد فعل عكسي من قبل الأجيال فتتعرض الهوية إلى خطرين:
#خطر التمييع والتفريط؛
+
# خطر التمييع والتفريط؛
#خطر التقوقع والانغلاق.
+
# خطر التقوقع والانغلاق.
  
 
وكليهما لهما آثارا سلبية عظمى على كينونتنا الثقافية، بل على مسألة وجودنا كأمة فاعلة ومبدعة ذات حضارة متطورة ومتقدمة. ولأننا اليوم في عصر التعرية، تعرية الواقع وكشف لثام الحقيقة، من خلال الانتشار السريع للمعلومة، وتحول العالم إلى قرية صغيرة لم يعد فيها سرا، أو تمويها للواقع، وظهور تساؤلات جديدة بعد تقدم العلوم الإنسانية، أهمها العلاقة بين الله الإنسان وحدود هذه العلاقة، وتقدم سؤال الإنسان على سؤال الدين، بمعنى اليوم تدرس كل الظواهر بطريقة يكون محورها الإنسان، ومدى خدمته وتحقيق رفاهيته ومنفعته، بل ولذته التي باتت مفهوما للسعادة. فبات السؤال ليس ما هو الدين ووظيفتنا اتجاهه، بل من هو الإنسان وكيف يمكن للدين أو يخدم هذا الإنسان؟ وبات الله يحاكم لأجل الإنسان، بعد أن كان الأصل: أن يحاكم الإنسان لأجل الله، وللأسف أن من ينصب محاكمة الله هو الإنسان الذي بات يقيس كل الوجود وفق مقياسه الخاص به وبعقله، بعد أن اعتقد أن هذا التقدم العلمي وسيطرته على الكون، جعلت من عقله إلها مستقلا غنيا عن كل دعم وعون، متناسيا أن العقل محدود جدا، والمحدود لا يمكنه الإحاطة باللامحدود.
 
وكليهما لهما آثارا سلبية عظمى على كينونتنا الثقافية، بل على مسألة وجودنا كأمة فاعلة ومبدعة ذات حضارة متطورة ومتقدمة. ولأننا اليوم في عصر التعرية، تعرية الواقع وكشف لثام الحقيقة، من خلال الانتشار السريع للمعلومة، وتحول العالم إلى قرية صغيرة لم يعد فيها سرا، أو تمويها للواقع، وظهور تساؤلات جديدة بعد تقدم العلوم الإنسانية، أهمها العلاقة بين الله الإنسان وحدود هذه العلاقة، وتقدم سؤال الإنسان على سؤال الدين، بمعنى اليوم تدرس كل الظواهر بطريقة يكون محورها الإنسان، ومدى خدمته وتحقيق رفاهيته ومنفعته، بل ولذته التي باتت مفهوما للسعادة. فبات السؤال ليس ما هو الدين ووظيفتنا اتجاهه، بل من هو الإنسان وكيف يمكن للدين أو يخدم هذا الإنسان؟ وبات الله يحاكم لأجل الإنسان، بعد أن كان الأصل: أن يحاكم الإنسان لأجل الله، وللأسف أن من ينصب محاكمة الله هو الإنسان الذي بات يقيس كل الوجود وفق مقياسه الخاص به وبعقله، بعد أن اعتقد أن هذا التقدم العلمي وسيطرته على الكون، جعلت من عقله إلها مستقلا غنيا عن كل دعم وعون، متناسيا أن العقل محدود جدا، والمحدود لا يمكنه الإحاطة باللامحدود.
سطر ٢٦٢: سطر ٢٦٦:
  
 
فمكامن القوة في الهوية الإسلامية في كونها هوية قائمة على أسس أهمها:
 
فمكامن القوة في الهوية الإسلامية في كونها هوية قائمة على أسس أهمها:
#اللغة العالمية التي تعترف بالآخر تتلاقح معه وتتكامل
+
# اللغة العالمية التي تعترف بالآخر تتلاقح معه وتتكامل
#الحفاظ على الكرامة الإنسانية
+
# الحفاظ على الكرامة الإنسانية
#العقيدة القائمة على محور التوحيد، إذ لا استعباد ولا تهميش ولا إقصاء  
+
# العقيدة القائمة على محور التوحيد، إذ لا استعباد ولا تهميش ولا إقصاء  
#الأخوة في الانسانية أو الدين
+
# الأخوة في الانسانية أو الدين
#المخزون القيمي والأخلاقي الذي يحصن الإنسان ضد الانحرافات السلوكية في المجتمع، ويوازن بين متطلباته الروحية والمادية، وفق حدود قائمة على أساس المنفعة والمفسدة الانسانية.
+
# المخزون القيمي والأخلاقي الذي يحصن الإنسان ضد الانحرافات السلوكية في المجتمع، ويوازن بين متطلباته الروحية والمادية، وفق حدود قائمة على أساس المنفعة والمفسدة الانسانية.
#الرؤية الكونية القائمة على أساس محورية الانسان في الكون وخضوعه لخالق واحد
+
# الرؤية الكونية القائمة على أساس محورية الانسان في الكون وخضوعه لخالق واحد
#حرية تحاكي كل المصاديق، ولكن تضمن عدم التعدي على حريات الآخرين ومقدساتهم، منضبطة بحدود تحفظ وتصون كرامة الانسان، وتحفظ كينونته كخليفة الله على الأرض. وهذا أهم ما يميز الهوية الإسلامية.
+
# حرية تحاكي كل المصاديق، ولكن تضمن عدم التعدي على حريات الآخرين ومقدساتهم، منضبطة بحدود تحفظ وتصون كرامة الانسان، وتحفظ كينونته كخليفة الله على الأرض. وهذا أهم ما يميز الهوية الإسلامية.
  
 
==الهوية الاسلامية والانتماء الوطني==
 
==الهوية الاسلامية والانتماء الوطني==
سطر ٢٨٥: سطر ٢٨٩:
  
 
وبذلك يكون جسَر العلاقة بين الدين والوطن، أحدث نوعا من التصالح بين الذات والآخر، كي لا يعيش الفرد المسلم تناقضا ينعكس على استقراره النفسي، وبالتالي على سلوكه الاجتماعي إذ أن التناقض يربك البنية المعرفية والثقافية ويجعلها إما مفرطة أو مفِرطة.
 
وبذلك يكون جسَر العلاقة بين الدين والوطن، أحدث نوعا من التصالح بين الذات والآخر، كي لا يعيش الفرد المسلم تناقضا ينعكس على استقراره النفسي، وبالتالي على سلوكه الاجتماعي إذ أن التناقض يربك البنية المعرفية والثقافية ويجعلها إما مفرطة أو مفِرطة.
 +
  
 
=أساليب المواجهة وتحصين الذات ضمن أطر التعارف=
 
=أساليب المواجهة وتحصين الذات ضمن أطر التعارف=

المراجعة الحالية بتاريخ ١٨:١٦، ٣٠ يونيو ٢٠٢٢

بقلم إيمان شمس الدين


﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[١]

إن هذه الآية من أجلى الآيات والنصوص المقدسة التي تدعو إلى التعارف، وترفض أن يتحول التمايز الطبيعي بين البشر إلى مورد خلاف، واختلاف، وهيمنة، واستعباد. ولأن لكل إنسان هويته التي تشكل بصمته، فإن اختلاف البصمات عليه أن يكون قائما على مبدأ التعارف، وليس مبدأ الهيمنة والاستحواذ.

ولأن الهوية هي ما يتميز به الإنسان في كل جغرافيا، بالتالي هي محط هذا التعارف ومحوره، خاصة في بعدها الثقافي الذي يؤثر في تشكيل صبغة الإنسان العقلية والفكرية.

الهوية

الهوية تعني جوهر الشيء وحقيقته، ويعرفها الجرجاني في كتابه التعريفات: هي الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب.[٢]

فهوية الانسان ..أو الثقافة..هي جوهرها وحقيقتها. ولما كان في كل شيء من الأشياء – إنسانا أو ثقافة – الثوابت والمتغيرات، فإن هوية الشيء هي ثوابته التي تتجدد ولا تتغير، تنجلى وتفصح عن ذاتها دون أن تخلي مكانا لنقيضها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة[٣].

والهوية دائما مجموع ثلاثة عناصر:

  1. العقيدة التي توفر رؤية للوجود؛
  2. واللسان الذي يجري التعبير به أي اللغة؛
  3. والتراث الثقافي الطويل المدى

أهمية الهوية للمجتمعات

وتعتبر الهوية من الصيغ التعريفية لأي مجتمع حيث تعكس مدى رقيّه أو تخلفه، من خلال ما تحمله من مفاهيم، تتلاقى وروح الإنسانية الجامعة التي تقف على أسس قيمية وأخلاقية رفيعة.

فهي المُعَرِّف عن لغته وأصالتها وثقافته وعمقها وحضارته وشمولها، بل هي تعكس إنسانيته المتلاقية مع فطرته، وتعزز من قيمه وتحاكي الآخر الخارج عن ذاته، الداخلة في محتواه الديني والعقدي.

إذا الهوية هي بطاقة تعريفية للمجتمع حول:

  1. اللغة
  2. الثقافة
  3. الدين
  4. الحضارة
  5. العادات والتقاليد والأعراف.

وبطبيعة الحال فإن أي خلل يطرأ على هذه الهوية، هو بكل تأكيد سينعكس سلبا على مكونات المجتمع الثقافية والدينية، والتي ستغير من الممارسات السلوكية والفعل الاجتماعي، وستظهر لدينا ظواهر تخل باستقرار المجتمع وآدابه العامة.

بل قد يتعدى الحال إلى إحداث خلل في المنظومة الفكرية الإجتماعية المحلية ذات الجذور التاريخية، ولا نعني بالخلل إعادة صياغة الموروث وتجديد خطاباته، بل نقصد تغيير ثوابته وقيمه ومبادئه تحت ذريعة التجديد.

لذلك تعتبر الهوية المُعَرِّف الذي لا يمكن لأي مجتمع، أن يكون له وجود في هذا العالم بين المجتمعات دونها، وهي هوية العبور له نحو التقدم والتطور أو نحو التخلف والاندثار.

يتميز الاختلاف في الهويات القائمة على أساس التعارف أنه يزيد رصيد المعرفة لدى الإنسان، ويزيد منسوبه العلمي والفكري، ويوسع لديه الآفاق، والقابليات في قبول الاخر والتعرف عليه. إن أية محاولة لمواجهة ثوابت هذه الهوية أو تمييعها أو سلبها ستؤدي إلى تغيير المسار من التعارف إلى التصادم والرفض والانكفاء على الذات والتشتت.

الهوية والانتماء

وحيث أن الهوية يكتسبها الإنسان من محيطه البيئي والثقافي والاجتماعي والأبوي، بالتالي سيكون لهذه الهوية الأثر الكبير في تحديد انتماءاته الآنية والمستقبلية. ولقد وضح أريك فروم[٤] (١٩٠٠ ـ ١٩٨٠ م ) "الحاجة إلى الانتماء كأول وأهم الحاجات إلى الارتباط بالجذور، والحاجة إلى الهوية وإلى إطار توجيهي كي تكتمل الحاجات الإنسانية الموضوعية، التي أصبحت جزء من الطبيعة الإنسانية خلال عمليات التطور والارتقاء، والتي يحاول كل إنسان فيها السعي نحو الكمال وتحقيق الذات".

ويمكن تعريف الانتماء بأنه العلاقة الايجابية والحياتية التي تؤدى الى التحقق المتبادل، تنتفي منها المنفعة بمفهوم الربح والخسارة، وترتقي إلى العطاء بلا حدود الذى يصل إلى حد التضحية بالنفس.

ويتجلى الانتماء بصورة عالية عندما يتعرض الوطن لأى اعتداء خارجي، والانتماء قد يكون طبيعي فطرى، خاصة عند الإنسان العادي بفعل الوجود الإنساني واستمرار البقاء فى ظل الوطن وضمن النظام الاجتماعي، وقد يكون انتماء عاطفيا تجاه موقف أو ظروف طارئة، ولكن أرقى انتماء هو الانتماء المنطقي الناتج عن المعرفة وإعمال العقل، ونسبة المنتمون منطقيا قليلة ولكنها دائما فاعلة ومؤثرة فى حركة المجتمعات"[٥].

لذلك تعتبر الهوية المحدد الرئيس والداعم الأساس لتوجيه وترسيخ إنتماء الفرد والمجتمع، بل هي المؤثر الفعال في تطوير العمق الإنتمائي، وكما أن الثقافة هي القاعدة التي تؤسس للحضارة ثم يرفد كل منهما الآخر، فإن الهوية هي القاعدة التي ترسخ إنتماء الانسان وترفده. والإنتماء هو الذي يحدد ولاءات الانسان، وبالتالي يحرك سلوكه المجتمعي ويوجهه سلبا وإيجابا.

وتكمن الخطورة في ذلك أن تصبح الهوية كما يقول د.محمد عابد الجابري (١٩٣٥ـ ٢٠١٠م) ـ نزعة أطلق عليها إسم الهويانية، وهي النزعة التي ترفع شعار الهوية سواء كانت قومية أم إثنية أم طائفية..الخ

لأن الهويانية ستجنح بصاحبها نحو التطرف، مما يكرس في المجتمع نزعة التطرف في الإنتماء لهذه الهوية، ويدفع به إلى ساحات الإلغاء والتهميش والتكفير، وهو ما لمسناه في عصرنا عند التكفيريين من كافة المذاهب بل عند المتطرفين اليهود (الصهاينة) والمتطرفين المسيحيين (الصهيومسيحية)، والوهابية وحركة ياسر الحبيب وأشكالها وغيرها من الحركات التكفيرية المنتمية للإسلام.</big>

أنماط الهوية

والهوية مفهوم له مصاديق عديدة متكثرة، ولكنها متوحدة تحت عنوانها، وهي أنماط عديدة يتبناها إما مجتمع أو أمة أو حزب أو تيار، ولكن القرآن الكريم رسخ مفهوم الهوية المتكثرة تحت هوية جامعة عقديا وإنسانيا. ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير﴾[٦]

وأنماط الهوية:

  1. الهوية القومية: التي ينضوي تحتها شعار الانتماء القومي.
  2. الهوية الطائفية: التي ينضوي تحتها شعار الانتماء الطائفي، الذي يحمل إيديولوجيا معينة (كالمسيحية واليهودية والاسلامية والزرادشتية..الخ)
  3. الهوية المذهبية: التي ينضوي تحتها شعار الانتماء المذهبي (السني والشيعي والأباضي والزيدي...الخ)
  4. الهوية الحزبية: التي ينضوي تحتها شعار الانتماء الحزبي (مختلف الاحزاب).
  5. هوية ايديولوجية فكرية: التي ينضوي تحتها شعار الانتماء الفكري الايديولوجي(كالليبرالية والرأسمالية والشيوعية ..الخ)
  6. هوية قبلية: ينضوي تحتها شعار الانتماء القبلي القائم غالبا على نزعة التعصب.
  7. هوية وطنية: ينضوي تحت شعارها الانتماء إلى الوطن، وهي قائمة على أساس المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.

وهناك أنماط للهوية أخرى، إلا أن هذه أبرزها وأكثرها تداولا، وتحديدا للولاءات والانتماءات بل، وأكثرها دخولا في الصراعات عبر التاريخ. ولكل نمط هوياني قدرة على تحديد إنتماء وولاء الفرد في المجتمع، وقد تلغي هوية ما هوية أخرى، وبالتالي تؤثر على إنتماء الفرد، خاصة إذا فرضت إحدى الهويات نفسها وبقوة وبتعصب في واقع المجتمع ووعيه.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أننا أحوج ما يكون في عصرنا هذا إلى هوية تجمع كل أنماط الهويات المختلفة تحت مظلتها بلغة معتدلة وجامعة إنسانيا قائمة على التعارف على أساس الكرامة الإنسانية والتنافس والتسابق في سبيل تحقيق العدالة وتحقيق كرامة الإنسان دون النظر لتفاصيله الخاصة، لأن الهوية الإنسانية هي الهوية الثابتة التي لا تتغير عبر العصور ومدى التاريخ.

وتتعرض الهوية إلى تغيرات طبيعية، تطرأ عليها مع تجدد الحضارة والثقافة والتلاقح العالمي الثقافي والفكري، إذ انها هوية قابلة للتجدد والتوسع، إلا أن الخطورة تكمن في تغيير ثوابتها وإحلالها بثوابت وقيم أخرى غريبة على جسد مجتمعها، تؤدي إلى تمييعها وتذويبها، وبالتالي إلى تغييب ماضيها عن جيلها الحاضر، فيصبح جيلا بهوية اختلطت فيها المفاهيم والأسس وميعت، وبالتالي أثرت على إنتمائه وولائه، وذهبت به بعيدا نحو المجهول الذي قد يؤدي به إلى الضياع، وبالتالي ضياع مشروع الأمة أمام الأمم الأخرى. ولعل أقوى رياح عصفت بشراع هويتنا في عصرنا الحالي هي رياح العولمة.

العولمة والعلمنة والهوية

تنوعت تعريفات العولمة بين المفكرين تنوعا كان أساسه منطلق كل منهم في رؤيته لمفهوم العولمة، أي المنطلق الفكري، فمنهم من رآها من منظور اقتصادي فقال أنها استعمار بثوب جديد، ثوب تشكله المصالح الاقتصادية ويحمل قيما تدعم انتشار تلك المصالح، وآخر رآها من منظور ثقافي فقال أنها تعني نفي للآخر وإحلال الاختراق الثقافي وفرض نمط واحد للسلوك والاستهلاك، وبعضهم رآها من منظور عسكري وتقني.

الفرنسيون يرون في العولمة "صيغة مهذبة للأمركة التي تتجلى في ثلاثة رموز هو سيادة اللغــة الإنجليزية كلغة التقدم والاتجاه نحو العالمية، وسيطرة سينما هوليود وثقافتها الضحلة وإمكاناتها الضخمة، ومشروب الكوكاكولا وشطائر البرجر والكنتاكي"[٧]

والملاحظ من جملة التعاريف أنها تتفق على الهيمنة والسيطرة والإحلال والتمييع والتغيير, أي هو سعي دؤوب للتغيير، لا من أجل الإنسان وخدمته، بل تغيير ضده يهمشه هويةً وسلوكا وثقافة وفكرا، وعلى كافة المستويات الأخرى.

ولعلي أرى أن نقطة الانطلاق هو الاقتصاد والهيمنة الاقتصادية خاصة، إذا ما علمنا أن إيديولوجيا القوى العظمى قائمة على الفكر الرأسمالي، الذي يمثل العقيدة الاقتصادية التي يؤمن بها هؤلاء، واختصار الفكرة أنها سوق حرة مفتوحة لرؤوس الأموال، وهو ما يعني البحث عن أسواق جديدة دوما لترويج الانتاج وتحقيق أرباح أكثر، وهذا يتطلب أيضا إزالة كل العقبات التي قد تقف أمام هيمنة الشركات العابرة للقارات على الأسواق، وتحويل شعوب هذه الأسواق من شعوب فاعلة ومنتجة إلى شعوب منفعلة ومستهلكة، وهو ما يتطلب أن يمارس هذا القادم الآخر كل أنواع التمييع الثقافي والديني والاجتماعي، بشتى الوسائل المرغوبة لدى الآخر، وبسلوكيات ظاهرها يغلب عليه الظاهر الديني السلوكي القشري المفرغ من محتواه، لكي يستطيع أن ينفذ بسهولة ويسيطر ويحدث تغييرات مرحلية ولكنها نافذة في منظومتنا الثقافية والدينية.

وبقراءة سريعة لراهننا نستطيع القول إن النظام الرأسمالي كان له النصيب الأكبر في تشييد مشروع العولمة في ساحاتنا الاجتماعية. لأن الهيمنة الاقتصادية هي المفتاح الأول في نظرية ملء الفراغ وهي نظرية طرحت في كتيب عن السياسة المتبعة من قبل أمريكا في الشرق الأوسط أمر بإصداره الرئيس الأمريكي الأسبق “دوايت آيزنهاور” ( ١٨٩٠ ـ ١٩٦٩ م) و الذي حكم أمريكا من عام ١٩٥٣ ـ ١٩٦١م، حيث ارتبط اسمه بعد هذا الكتيب بسياسة “ملء الفراغ” أو ما سمي “بمبدأ آيزنهاور”، وقد أعلنه في الخامس من يناير ١٩٥٧م ، في رسالة إلى الكونجرس ركز فيها على أهمية سد الفراغ الذي نتج في المنطقة بعد انسحاب بريطانيا منها، وحدد الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط لمرحلة بعد حرب السويس تحت ذريعة احتواء التمدد السوفييتي باتجاه المنطقة.

وقد هيمنت نظرية "ملء الفراغ" على الفكر السياسي الغربي، بعد انسحاب المستعمر البريطاني من منطقتنا، وبات هذا الغرب بحاجة ماسة إلى ملء الفراغ الذي أحدثه هذا الانسحاب، وكان السبيل الأنجع والأقدر في ذلك كبديل له صورة حضارية وعمق استعماري جديد هو العولمة.

يقوم هذا المفهوم (ملء الفراغ) على أساس أنه بانسحاب بريطانيا من المنطقة العربية، كإحدى النتائج التي أسفرت عنها الحرب، فإن هذه المنطقة باتت في حالة فراغ، وأنه لابد للقوة الجديدة التي كان لتدخلها في الحرب الأثرُ القوي في انتصار الحلفاء، من أن تملأ هذا الفراغ، وأن هذه القوة الوليدة صارت هي الأحق بهذه المنطقة، وبمناطق أخرى من العالم، تمارس عليها سيادتها القانونية والثقافي والسياسية والاقتصادية.

في العصر الراهن،اُعيدت صياغة هذه النظرية بما يتلاءم ومقتضيات الوضع العالمي الجديد، وفي شكل ينسجم مع التطورات التي يشهدها العالم اليوم.

والفكر الرأسمالي قائم على إعادة تسويق الانتاج الغربي عبر الشركات الاحتكارية العابرة للقارات، وهو ما اصطدم مع الحصانة الثقافية التي تشكل هوية مجتمعاتنا كحائط صد، نظر له الغربي بعين الريبة بطريقة دفعته إلى كسر هذا الجدار الصامت بآليات ووسائل، استطاعت اختراق مجتمعاتنا، لا لأن الغرب متسلح بسلاح ثقافي تجاوزنا، ولكن لأن مجتمعاتنا هشة ثقافيا وفكريا، مما حدا بهذا القادم إلى التوغل بقوة وبدون أدنى مقاومة، مما كشف لنا عن ثغرات حقيقية في هويتنا ومدى حصانتها، مع هشاشة هذه الهوية التي طالتها يد التغيير والأفهام الخاطئة. لذلك كان الأجدى على المستوى العملي من وجهة نظر غربية، هو العمل على مشروع العولمة خاصة القيمية منها والعمل على تمييع ثقافتنا وخلط مفاهيمها، وتضييع حدودها وإحلالها بثقافة غربية قادرة على تهيأة أرضياتنا الاجتماعية، وإعادة تنميطها الاجتماعي لتتقبل كل ما ينتجه الغرب لنا، وتتحول إلى قدرة استهلاكية بحتة.

لقد كان العامل الاقتصادي هو المنطلق نحو العولمة والهيمنة، والإحلال والغربنة والعمل على طمس الهويات المجتمعية في العالم العربي والإسلامي، كان المحور الأهم الذي نشط لأجله الفكر الغربي ووضع له آليات وخطط ناجعة، ولكننا لا نستطيع إثبات فاعليتها العميقة رغم فاعليتها الظاهرية، لأنها مازالت في بداياتها.

ولا يمكن إنكار حقيقة مهمة، وهي أنه حتى الغرب وهو مهد نظرية العولمة، يعيش الصراع نفسه، أي الصراع بين العولمة والهوية، ولكن بنسب قد تختلف نسبيا عن ما نعيشه نحن من صراع، بات يشكل هاجسا على مستوى الدول وليس فقط الشعوب.

إن مخاطر العولمة تكمن بشكل محوري في مشروع الاستلاب الذي يمكن بل من المؤكد أن تتعرض له الهوية، سواء كان استلابا جزئيا أو استلابا شاملا، إلا أنني سأركز هنا على الاستلاب الشامل وتداعياته. لذلك سيكون المستهدف الأكثر تأثرا في موجة ورياح العولمة هو الثقافة، والتي تتعلق بالبعد الديني للمجتمعات وهي مكون رئيس ومهم من مكونات الهوية المجتمعية والفردية.

إن الإيديولوجيا القادرة على ذلك كله هي العلمانية، التي تسعى إلى فصل الدين ليس فقط عن الدولة، بل العلمانية الحالية تسعي لتكون شاملة، حيث جعلت من الدين في الغرب مجرد طقوس فردية يُؤَدى ضمن حدود جدار كنسية ضيقة الفكر والآفاق ومفرغة المحتوى قشرية. “ والعلمانية تعني المخالفة للقواعد الشرعية والتعاليم الدينية، والانسجام مع الروح الدنيوية. فمادة العلمانية مرتبطة بالدنيا، ومنفصلة عن الروحانية، وغير دينية، وعامية، وأميّة، وخارجة عن الصوامع، ومخالفة للأمور الشرعية، ومنحازة إلى صيرورة الأشياء الدنيوية. وتعني التحرر من قيود القساوسة أو الرهبانية، وتعميم الملكية، وتخصيص الأمور على غير الروحانية، والخروج عن عالم الروحانية (فيما يتعلق بالقساوسة)، وعبادة الدنيا والانغماس في المادية، وإضفاء حالة من الدنيوية إلى العقائد أو المقامات الكنسية.[٨]

والعَلمنة (secularization) كتعبير لوصف صيرورة إقصاء الدين، أو عملية "دَنيَوة" لمجال ما، فبدأ استخدامه في بريطانيا في نهاية الخمسينيات وبداية ستينيات القرن التاسع عشر، مع مصطلحات "علمنة الفن". وفي ألمانيا بعد ذلك بثلاثين عاما بدأ يدور صراع فكري في شأن "علمنة الأخلاق"، أي تحريرها من مرجعيتها اللاهوتية، وكانت من أعسر العمليات الفكرية تصَوّراً بالطبع، لأن الأخلاق ارتبطت بالدين في نظر أغلبية الناس في تلك المرحلة. لكنها تحولت إلى نموذج نظري (سيسيولوجي – اجتماعي) في فهم تطور المجتمع في القرن العشرين. ولغرض تمييز دلالات المصطلح من المفهوم كأنموذج نظري في العلوم الاجتماعية نجد بعض التعريفات التي تشير إلى الدلالات والاتجاهات الممكنة التالية: - انحسار الدين وتراجعه، وفقدان الرموز والعقائد والمؤسسات الدينية مكانتها ونفوذها؛ - تراجع أهمية الدين الاجتماعية في حياة البشر اليومية وفي إدارة شؤونهم المعيشية. - التركيز على الحياة المادية الزمنية، ومهمات الحاضر العملية، وتهميش الجانب الروحي؛ - انتقال ما كان وظائف للمؤسسات الدينية، كعملية إنتاج المعرفة ذاتها، وأنماط السلوك وحتى التربية والتعليم، إلى مؤسسات غير دينية؛ - نزع القداسة عن مجال بعد آخر؛ - فصل الدين عن المجتمع وظهور الإيمان الداخلي المحض غير الفاعل في المجتمع؛ - فصل المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية؛ - تحييد الدولة في الشأن الديني[٩].

كان للكنيسة دورا هاما في تنضيج مفهوم العلمانية حيث تطور المصطلح الكنسي ليعني ما يوجد خارج الكنيسة أو الدير. فدلالة "العلمانيون" بالغة الكنسية عموما، حتى عصرنا هذا هي أتباع الكنيسة من غير رجال الدين، أي رعاياها، وتاريخيا وضع الرهبان في مقابل "رجال الدين العلمانيين" الذين يعملون مع الشعب في المطرانيات والأسقفيات (Secular Clergy, Parish Clergy)، ولا يعتكفون أو يمضون وقتهم في الأديرة مثلما يفعل ال (Regular Clergy). وأضيف وصف علماني إلى الإكليروس نفسه "إكليروس علماني" لوصف رجال الدين الذين يعملون مع الناس العاديين في "الدنيا" خارج الدير. كما استخدم التعبير لاحقا للتمييز بين "المدني" والكنسي في الأراضي والممتلكات، ولا سيما في استخدام تعبير "علمنة" في وصف عملية مصادرة السلطات الزمنية أملاك الدولة واستملاكها. يميز بعد الاستخدامات الكنسية وما زال إلى يومنا هذا الزمني من الروحي، ليمنح الكلمة معنى دنيويا أرضيا، أي من هذا العالم الدنيوي الزمني. فزمني ضد أبدي، وضد روحي، ويعني "دنيويا مؤقتا"، ويعني واقعا في الزمان الفعلي، لا خارجه.. واستخدمت تعابير ك "قادة روحيون" في وصف الإكليروس، في مقابل "قادة زمنيون" لوصف السياسيين من المستشارين والقانونيين المحيطين بالملك أو الأمير. ومازال بعض الكنائس يستخدمها إلى يومنا هذا. الزمني هو الدنيوي، غير الروحي وغير الديني[١٠].

وعند الفرنسيين نجد استخداما للمعنى نفسه في المقابلة بين الإكليروس وغير الإكليروس في استخدامهم لفظ Laicise’ الفرنسي للدلالة على "علماني" أي اللائكية الذي يعود كلفظ في استخدامه إلى القرن التاسع عشر لا إلى فلسفة التنوير ، ولكن كأصل يعود إلى الأصل اليوناني Laos ويعني "شعب"، أو "عامة" و "عوام". والمقصود به في الفرنسية بداية كل من لا ينتمي إلى فئة رجال الدين. حيث استخدم هذا المصطلح في فرنسا في سياق الصراع لتطبيق التعليم الرسمي ضد التعليم الكنسي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ولكن سياقات مفهومه الموسع فكريا من دون اللفظ المعهود تعود إلى فلسفة التنوير وغيرها من الأفكار الحديثة . هناك نماذج نظرية متعددة لللائكية، تحددها ميشيلين ميلو في خمسة نماذج، تتقاطع في مبادئ كبرى هي:

  1. الفصل بين الدين والدولة؛
  2. حياد الدولة في الشؤون الدينية؛
  3. ضمان حرية المعتقد والفكر؛
  4. المساواة بين المواطنين مهما اختلفوا دينيا.

ويعتبر جان بوبيرو أن العلمنة تُشير إلى العملية الاجتماعية والثقافية والرمزية التي ينحرف خلالها الدور الاجتماعي للدين بوصفه إطاراً معياريّاً ويتحوّل ويتحلّل ويتألّف من جديد. يمكن أن يبقى الدين مُثيراً للاهتمام بالنسبة للأفراد والجماعات وهو لا يفرِض معاييره على المجتمع. لقد جرى تخليص التمثيلات الاجتماعية المُسيطِرة من الإشباع الديني بوساطة اللعبة المُعقّدة للديناميكية الاجتماعية؛ لذا، وبصورة نزّاعة tendanciellement، تكون العلمنة فعلاً «مستترة» وهذه عموماً نتيجة «غير مرغوبٍ فيها» (برأي ماكس فيبر) للتغييرات الاجتماعية. تُشير الليْئكة laïcisation إلى عملية «تُدخِل في السياسي إقصاء مؤسّساتيّاً للدين في الضبْط العامّ للمجتمع، وبخاصّة في سياق تعدّدي» (ميشلين ميلوت). إن الوجه غير الديني لهذا الضبْط يُترجم بشكل خاصّ في تفكيك النظام القانوني الدولي (واليوم تفكيك الاتّفاقات الدولية) من جهة، وتفكيك المعايير الدينية من جهة أخرى. إن عملية الليئكة تُعيد تهيئة العلاقات بين الدولة والأديان وتعمل بصورة نموذجية - مثالية لاستقلال السلطة السياسية عن الدين واستقلال السلطة الدينية عن السياسي ويضيف قائلا في التمييز بين مفهومي العلمنة والليئكة إن ضبْط الدين هو من شأن السلطة ويجب أن يستبطنه كل لاعب لكي يتمّ القبول به.

العولمة والاستلاب

إن من أهم مخاطر العولمة هي تداعياتها على استلاب الهوية، يتم في الاستلاب الشامل تبلور نموذج مثيل في الهوية لتلك الهوية الوافدة التي يتم الترويج لها بطرق مختلفة، فيصبح نسخة طبق الأصل في التفكير والسلوك وطريقة الحياة تصل إلى درجة طريقة اللباس والطعام، وقد يصل الأمر إلى درجة استلاب الدين الذي ينتمي إليه بآخر بديل تأثرا بتلك الهوية الوافدة. ومفهوم الاستلاب في البيئة العربية جاء تعريفهما كما ورد في القاموس المحيط:

- مفردة الاستلاب كالتالي: سلبه سلبا أي اختلسه، وفلان ثوبه أخذه سلبا. السلب هو أخذ الشيء قهرا(ومنها السلب والنهب)، وقبل على حين غفلة وبسرعة. وأسلبت الشجرة ذهب حملها وسقط ورقها (تجردت وتعرّت). والأسلاب غنائم الحرب وأدوات القتلى والأسرى ومتاعهم، وحتى نسائهم وأطفالهم، والسليب المُسْتَلَب العقل، والوطن السليب المأخوذ عنوة ومن دون وجه حق.

- مفردة الاغتراب يرد تعريفها كالآتي: اغترب فلانا غُرباً وغربة نزح عن وطنه، وغربت النجوم توارت، والقوم غُرباً ذهبوا، وغَرَّبَ فُلان بَعُدَ ونزح عن الوطن، وفي سفره تمادى، وغرَّب فلاناً حَمَلَه على الغُربة، والغرب هو النزوح عن الوطن، والغريب البعيد عن وطنه.

وإن كان هناك من يستخدم الاستلاب أو يستخدم الاغتراب كمشترك معنوي، فمن وجهة نظري أرى الاستلاب في بعده الثقافي محله العقل وحمولاته المعرفية الثقافية، أما الاغتراب فمحله الذات الإنسانية وعلاقة هذا الاغتراب في فقدان البعد المعنوي في الإنسان، ولعل كلا اللفظين يعضد بعضهما البعض، فاغتراب الإنسان عن ذاته وفقدانه للمعنوية، ونكرانه للوجود الروحي للإنسان كبعد مهم في تشكيل ذات الإنسان، يمهد الطريق للاستلاب الثقافي والمعرفي، والعكس بالعكس، فالاستلاب الثقافي تدريجيا يفقد الإنسان بعده المعنوي وفهمه للروح، ويمهد الطريق لاغترابه عن ذاته.

الاستلاب أو الاغتراب الذي يهتم به البحث هنا بعد هذا السرد المختصر، هو المتداول في الفضاء المعرفي العربي والإسلامي، وهو التبعية للآخر، وانسلاخ من الذاتية الثقافية والخضوع في التبعية للآخر في حضارته وثقافته، أي هي علاقة بين حضارتين وثقافتين وهويتين مختلفتين، يخضع فيها الأضعف للأقوى وفق المفهوم المادي للقوة والضعف، والذي بات مؤثرا في دلالاته على مساحات الوعي العربي والإسلامي. وقد يكون الاستلاب الشامل هو انسلاخ الهوية عن بعدها الإنساني، وهيمنة البعد الديني بنصوصه أو القبلي بتراثه وعاداته وتقاليده، أو البعد الجنسي الذكوري أو الأنثوي، وغيرها من مظاهر الهيمنة ذات البعد الواحد، والتي تلغي أبعاد الإنسان الأخرى التي تحقق له الاتزان والاعتدال في التفكير والسلوك.

الاستلاب الداخلي

فالإنسان قد يستلب بشكل شامل داخليا:

  1. من قبل الأنظمة الشمولية السلطوية الديكتاتورية المستبدة، "حيث يعرض المستبد نفسه في صورة كائن كلّي القدرة حر يفعل ما يشاء، كيف يشاء، ومتى يشاء (يعطي ويمنع، ويغضب ويصفح..) على غرار الآلهة" . وهنا يستلب الإنسان وعيه بذاته وحقوقه، ويصبح كما يقول دو لا بويسي (١٥٣٠م – ١٥٦٣م) في كتابه مقالة في العبودية الطوعية وترجمة أخرى المختارة: "لا وجود للعبودية إلا أنها طوعية"[١١] ويصف بويَسي قابلية الاستعباد قائلا: " حتى الطغاة أنفسهم يعجبون من قدرة الناس على احتمال رجل يسيء إليهم وهم يحرصون على أن يضعوا الدين أمامهم ليحتموا به، ولو استطاعوا لاقتبسوا شيئا من الألوهية لإسناد حياتهم الشريرة . وهذه أجلى مظاهر الاستلاب الشامل للإنسان. إلا أن هذا الاستلاب لا يعود بالمطلق لقدرة المستبد، وإنما يشاركه في ذلك قابلية الاستعباد عن الشعوب التي تنصاح بإرادتها للقبول باستبداد هذا النظام وطغيانه
  2. من قبل الأصوليات الدينية المتطرفة، والعصبيات المذهبية، والقبلية، والعائلية.

الأصولية

إن الأصولية تاريخيا كمفهوم نشأت من حركة بروتستانتية أميركية محافظة أطلقت على ذاتها هذه التسمية. ولقد نشأت في الحركة الألفية في القرن التاسع عشر، حيث برزت توقعّات بعودة المسيح.. وتؤكّد هذه الأصولية أن أساسيات الدين المسيحي تتمثل في التأويل الحرفي لنصوص الإنجيل، والعصمة عن الخطأ، والمفهوم بهذه الصيغة وسياقها، يحمل مكونا يرتبط بالعنف يصل في حده الأقصى إلى الإرهاب التكفيري. واستعمل مصطلح الأصولية إسلاميا للدلالة على العودة إلى أصول الدين الأولى وقواعده دون الأخذ في الحسبان بفارق الزمان والمكان ودون التفريق بين الثابت والمتغير، والتمسك بالجوهر بشكل نصي، اعتقادا وممارسة، وصولا إلى إصلاح حال المسلمين من خلال جعله مطابقا للأصول الأولى، والسير على خطى السلف الصالح الذي طبّق العقيدة بتمامها في السلوك والحياة، بطريقة لا تأخذ في الحسبان سياقات الحدث وظروفه الزمانية الخاصة، وصولاً إلى الخروج من الضلال وفساد أمر الأمة.. وهذا ما أعنيه بالأصولية بمعناها السلبي، وليس الأصولية بمعناها الإيجابي المتمثل بالأصالة والثوابت ووعي الزمان والمكان وفوارقهما

الاستلاب الخارجي

وقد يسلب بشكل شامل خارجيا من قبل النموذج الغربي المعرفي، الذي يحل بديلا. ويتعرض الإنسان عادة إلى خطر الاستلاب المزدوج، أي استلاب داخلي وآخر خارجي، فهناك خلط ناجم يراه د. موسى بن سماعين من جامعة باتنة في الجزائر، خلط ناجم عن المطابقة بين مسألة الهوية الثقافية والتراث، والاعتقاد أن الهوية مبدأ ثابت لا يتغير، ولا يدرك بشكل صحيح، إلا من خلال العودة إلى الماضي، والأخذ بقيم السلف، إذ كان رد الفعل لهذا الاعتقاد، تطرف حداثي أنكر التراث وقلل من شأن الهوية الخصوصية، وأباح الاندماج في الثقافة الغربية، والأصح أن مسألة الهوية الثقافية لا تحسم بالأخذ بواحد من الطرفين، ولا تكفي فيها العقلية السجالية، بل تتحدد الهوية الثقافية من خلال سياسة ثقافية ديموقراطية غير إقصائية. حيث رأى بن سماعين أن مناقشة مسألة الهوية الثقافية، يمكن أن تكون مثمرة متى تخلى العقل العربي عن تسطيح القضايا، وتحلى بالنظرة الموضوعية، التي تأخذ في الحسبان الوضع الحضاري للأمة والواقع السياسي السائد، لأن أي تطرف في تناول الموضوع، يخدم بالضرورة جهة ما على حساب فهم حقيقة الهوية الثقافية . والاستلاب الشامل الداخلي هنا تمارسه الأنظمة الشمولية التي تحول الفرد إلي عبد بطريقة غير مباشرة، فتفقده وعيه لذاته وقدراته، وتخلق منه من خلال مناهج التعليم والتربية، ومن خلال قوانينها الشمولية عبدا بشكل إنسان ظاهري، وظيفته الطاعة، وهذا ينطبق على السلطة السياسية، والدينية، والقبلية، والعائلية. هنا يسلب الإنسان بشكل كامل وعيه، بل إرادته، ويخضع بكل وجوده للمنهج الشمولي، بل يصبح جزء منه ومن منهجه، ليصل إلى درجة ممارسة نفس الطريقة الشمولية عبر محيطه، فهناك من سلم وجوده للآخرين يفكرون له ويقررون، حتى يقينه نابع من يقينياتهم، فهو يختار درب السلامة الوهمية في عدم التفكير وإعمال العقل، ليحرز اطمئنانا تسالميا ضمن الحشود.

فكر ما بعد الاستعمار

تمارس الدول الكبرى ومؤسساتها الدولية استلاباً خارجياً وحينما يكون شاملا، فتكمن الخطورة في إعادة الاستعمار مجددا وهو ما يطرح في فرضيات "ما بعد الاستعمار". فالفكر "ما بعد الاستعماري" قائم على فرضية تقول: إن نظريات وتيارات ما بعد الاستعمار ما كانت لتولد لو لم يكن المستهدَف منها أصلا، هو العقل الاستعماري نفسه. من أجل ذلك دأب مفكرون وعلماء اجتماع على تعريف نظرية "ما بعد الاستعمار" بأنها نظرية تهدف إلى تحليل كل ما أنتجته الثقافة الغربية باعتبارها خطابا مقصديًّا يحمل في طياته توجهّات استعمارية إزاء المجتمعات الأخرى... فالاستعمار التقليدي قد انتهى، وأن مرحلة من الهيمنة – تسمىّ أحياناً المرحلة - النيوإمبرالية – قد حلَّت وأنشأت ظروفاً مختلفةً تستدعى تحليلاً من نوع جديد . وقد احتل الاستعمار، مكانة محورية في فكر النخب العربية والإسلامية التي تولت مهمة معرفية نقدية مركبة: نقد الغازي (المستَعمِر) ونقد النخب المتماهية معه داخل المجتمعات المستَعمرَة... وقد تركزَّت المسألة الأساسية التي عالجوها على مشكلة الاغتراب بوصف كونها غربة إنسان تلك المجتمعات عن ذاته الحضارية وهويته الوطنية في سياق تماهيه مع ثقافة الغرب ومعارفه. هذه الحالة المخصوصة من الاغتراب ستجد من يصفها بعبارة موفَّقة: "اقتلاع الذات بواسطة الذات إياها". وشرحها أن الثقافة الاستعمارية تتحول عن طريق الاغتراب إلى ضربٍ من ولاء نفسي، موصول باستيطان معرفي عن سابق إرادة ووعي. فالاغتراب كحالته القصوى هو أشبه بانصباب وعي المستعمِر في صميم وعي المستعمَر على النحو الذي يصبح المهَيْمَن عليه غافلا عن نفسه وعن مصيره وعن المكان الذي هو فيه. وفي هذه الحال يكفّ "المغترِبُ" عن أن يصبح سيد نفسه ويتحول إلى عبد لآلة العمل وخطاب مالكيها .

وهذا أخطر أنواع الاستلاب، الذي يعتبر شاملا لأنه يُفقِد الفرد والمجتمع بمعرفته وذاته، ويصبح منقاداً لقيم ومعايير الثقافة الوافدة.

فالاستعمار هنا ليس عسكريا وإنما أخطر بكثير، إنه يُلْبِس استعماره ثوبا عقلانيا بنظريات تسحر بظاهرها عقول النخب العربية والإسلامية في منطقة تعاني من نير الاستبداد والتخلف وهدر الكرامات والحقوق، وبدل أن يدفع هذا النخب إلى النضال لأجل تحرير العقول والتخلص من كل أنواع الاستبداد بما فيها استبداد الاستعمار الثقافي، فإنهم ينغمسون إلى درجة فقدان الوعي بالذات في استعباد جديد لهذه العقلانية المدمرة أخلاقيا وقيميا، وبدل التخلص من قابلية الاستبداد والاستعباد، واستبدالها بقابلية الكرامة والعدالة والنضال الفكري لتحرير الإنسان من ذاته المستَعبَدة وقابلية هذه الذات للاستعباد والاستعمار فإنهم أغلبهم يكرسون هذه القابلية ولكن بعناوين عقلانية ومفاهيم تحمل أوعيتها دلالات المستَعمِر لها.

هي باختصار معركة وجود، وجود الإنسان ووعيه بذاته ونضاله اتجاه كل محاولات استلابه منها، ووجود الآخر الذي يريد أن يؤبِّد هيمنته من خلال عمليات استلاب واغتراب مكرورة ومطورة، من الاستعمار الجغرافي، إلي الاستعمار العلمي والفكري والثقافي، وهو استعمار ناعم لا يُوَلّد لدى الإنسان متواليات كالمقاومة والممانعة التي يُوَلِّدُها الاستعمار العسكري للجغرافيا، بل الاستعمار العلمي ينْسَل إلي لاوعي الفرد والمجتمع، ويشتت وعيه بذاته وهويته، ثم ينقض عليها ليسلبها ويحتل مجاله الإدراكي، ويصنع وعي يتناسب ونضاله لتأبيد وجوده في ذات الآخر، وبالتالي استمرار هيمنته، وعولمة قيمه ومعاييره لكل العالم.

وهذه المعركة الوجودية التي حددت طبيعة الأشياء وطبيعة المجتمع جرت على نحو بررت عقلانيا الاضطهاد والاستغلال، إلى درجة أن كثير من النخب في العالم العربي والإسلامي تحولت إلى أدوات هذا الاستغلال، بل إلي جنود في هذه المعركة الوجودية ومرتزقة في ساحات كي الوعي، واستغلال الاستبداد وهدر وقهر الإنسان في سلبه ذاته، وإحلال الذات الغربية فيها، حاملا شعارات العدالة والحرية والمساواة، لكن دون أن يقف أحدهم ليتساءل أي حرية وزي عدالة وأي حقوق وأي مساواة وأي كرامة؟!

فكما في الاستعمار العسكري للجغرافيا كان هناك مرتزقة وعملاء، فإن في الاستعمار العلمي غير المباشر هناك مرتزقة فكر وثقافة وعملاء، سواء أدركوا ارتزاقهم وعمالتهم أو لم يدركوا ذلك.

إن التحرير الحقيقي للإنسان من كل أنواع الاستلاب، لا يكون بالرضوخ للاستبداد بكافة أشكاله، ولا بالرضوخ للاستلاب بكافة أنواعه، إن التحرير يكون بالعودة إلى الذات، وفهم قدراتها ووظيفتها، وتحريرها بالعلم والوعي بإنصاف، وبإعادة بناء هوية تتناسب وأصالة القيم والمعايير فيها، هوية ذات بعد أخلاقي عالمي، لا تسعى للهيمنة وإنما للتعارف والتثاقف والاستفادة والعدالة للجميع، المنفعة للجميع، منفعة لا تقوم على المادة والتشييء، وإنما على تكريس قيمة الإنسان في بعديه المادي والمعنوي، بحيث يرفد كل بعد الآخر دون نزاع أو سيطرة لبعد على آخر.

فإن المعرفة الحقّة والعقل الحق يقتضيان السيطرة على غلواء الحواس، والتحرر من قهر الغير والسيطرة عليه، مهما كان هذا الغير، إنها عملية تحرر كبري من كل أنواع العبوديات لغير الله، إنها تحرر من النسبيات المطلقة للقيم والأخلاق، التي أخضعتها للتفضيل الشخصي، وللفردانية التي قتلت إنسانية الإنسان وأعلت قيمة الأنا الأنانية، فالعقلانية المنزوعة الأخلاق التي استبد بها جشع الاستيلاء والهيمنة، هي ذاتها التي تدفع العالم إلى الضلال وعدم اليقين المطلق وأن فن تكوين الحقائق أهم من امتلاك الحقائق، وتم رفض الدين مطلقا بحجة يقينياته ومسلماته وحقائقه المطلقة، في فهم مخل للدين تم تعميمه وفرضه تحت شعار العقلانية الطوباوية، وتنصيب الإنسان إله يضع معايير وقيم وأنظمة تدير الحياة كما يريد، بينما ليس لإله الكون وخالقه الحق في ذلك. فبعد أن كانت عقلانية ما سمي بالتنوير تسعى للكشف عن اللامعقول في واقعها الذي هيمنت عليه الكنيسة والسلطة المستبدة للملوك، باتت في راهننا غايتها الكبرى تشكيل واقع يتناسب ومصالحها بتسويغ اضطهاد الشعوب كسلوك مقبول ومعقول.

بعد انتهاء الحرب الباردة (1990) أخذت الليبرالية الجديدة فرصتها لكي "تؤدلج" انتصارها. واستطاعت عبر الإعلام البصري والسمعي أن تعيد إنتاج هيمنتها ثقافياً واقتصادياً ونمط حياة على نطاق العالم كله وقد جعلت العالم أرضاً منزوعة القيم[١٢].

إن الوهم الأبرز الذي هيمن ومازال على كثير من نخب العالم العربي والإسلامي هو ما يشاع مؤخرا أن الآلة الاستعمارية الما بعد حديثة (وأهمها آلة الاستعمار الثقافي والمعرفي) هي ضرورة للتخلص من الاستبداد في منطقتنا وإقامة أنظمة ديموقراطية، وهو الوهم الذي تهاوى مع ثورات الربيع العربي ومآ أفرزته من تفتيت للدول العربية ومجتمعاتها، وهيمنة للتيارات الإسلامية المتشددة التي مكنت المستعمر مجددا ليعود بجيوشه هذه المرة بذريعة تحرير أخرى من بطش الاستبداد الديني. وهذا لا يعني أبدا عدم وجود ثلمات في التراث الإسلامي، الذي يعود لأفهام البشر له، أو إلى رواية الملوك له، بل يعني رفض هذه المعالجات المشوهة للإشكاليات والمعضلات والأزمات التي نعاني منها في العالم العربية الإسلامي، ورفض لمنهج وطرق مواجهة الاستبداد والتخلف، باستبداد موازي وتخلف أعمق. إن الاستعمار في ثوبه الجديد هو استعمار بديل عما سبقه من أنماط استعمارية إلا أنه لم يقطع مع هذه الأنماط. ولعل ميزته اليوم أنه غزو فكري وثقافي لتشكيل منظومة محلية ذات جاذبية فكرية ومعرفية تتولى أغلب النخب في عالمنا العربي والإسلامي بنفسها تسويق ثقافة الهيمنة الاستعمارية وهي على قناعة بما تصنع. تلك اللعبة الإمبريالية تبدو في ظاهرها شديدة الحرص على الديمقراطية وحقوق الإنسان، حيث لا يستطيع كل من يراها مقاومة خطابها وآليات عملها، فهذا هو الأسلوب الجديد لاستمرارية الاستعمار الماكر ذي الدهاء الفائق، لفرض السيطرة على جميع المستويات الثقافية والإعلامية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية .

وعدم المقاومة هنا عائد إلي هيمنة قوى الاستعمار بتحالفتها مع قوى وأنظمة الاستبداد، التي مارست بعد استقلالها المزعوم كل أنواع التجهيل واستخدمت كل معاول الهدم للإنسان بقهره وهدر كرامته، فبات الخلاص الزائف لإنسان العصر في منطقتنا هو بالذوبان والاستلاب الكلي لذاته المقهورة المهدورة أمام هذه الثقافة الاستعمارية الوافدة بشعارات تلامس حاجته وتطلعاته كالحريات والحقوق، فلأنه استلب كليا أمام الاستبداد، فإن ثقافة الاستلاب باتت جزء من بنيته الفكرية، وبدل أن يتحرر من الاستلاب بالاستبداد، وقع فريسة استلاب آخر هو الاستعمار الثقافي والعلمي غير المباشر.

إن الإنسان في عصر الاستلاب يتخلى عن هويته بحجة التحرر من ماضيه والسعي نحو بناء حاضر ومستقبل أكثر عدالة وحرية.إلا أن هذه العدالة والحرية وهذه الحقوق، ليست منسوجة من منظومته القيمية والمعيارية، ولا من هويته محمولاتها الإيجابية، ولا من ثوابته الأصيلة، بل تم نسف كل ذلك لإحلال هوية جديدة تحمل ذات المفاهيم ( العدالة والحرية والحقوق) لكن تختلف في دلالاتها ومقاصدها تماما، وتهدف بالمجمل لاستعمار ثقافي وعلمي ومعرفي، تحقق من خلاله استمرارية استعمارها وهيمنتها وتأبيد وجودها بشكل عقلاني، وطرق ناعمة تضمن عدم توالد ممانعات ومقاومات لها تكشف خباياها، وتعيد رشد الإنسان ووعيه بذاته وهويته، بحيث تؤسس لمشروع حضاري تحرري مزدوج، خلاصي من الاستبداد والاستعمار غير المباشر، وتؤسس لرؤية حضارية نابعة من عمقها التاريخي، رؤية يتضمنها الانتقاد والمواجهة مع تجارب التاريخ البشرية، وبنيوية من ثوابتها وقيمها ومنظومة مبادئها ومعاييرها، لا تتنكر فيه لأصالتها ودينها، لكنها تؤسس لقراءة معاصرة مواكبة نهضوية بعيدة عن كل أنواع الاستلاب الداخلي والخارجي والجزئي والشامل.

وهذا يتطلب نضال طويل وبنيوي ووعي للإشكاليات المعرفية وفوارق الثقافات والمفاهيم الجذرية والفلسفية، وعدم الانجرار لجدليات "نحن" و "هم"، التي تعمق الفوارق المعرفية، وتمكن الآخر من التوغل أكثر بعد سد ثلمات مشروعه، في حرب ناعمة على العقول، وحرب تم عقلنتها لتؤثر حتى على النخب المناضلة ضد الاستعمار.

لعلّه من المفيد هنا أن ننقل ما قاله المبعوث البريطاني في مصر عام ١٨٥٩م "ألفرد سكاون" مخاطبا مجموعة المؤتمر الوطني المصري، وبشكل صريح وواضح المعالم والأهداف: "احذروا منا فإننا لا نريد لكم شيئا من الخير. لن تنالوا منا الدستور ولا حرية الصحافة ولا حرية التعليم ولا الحرية الشخصية. وما دمنا في مصر فالغرض الذي نسعى إليه من البقاء فيها هو أن نستغلها لمصلحة صناعتنا القطنية في مانشستر، وأن نستخدم أموالكم لتنمية مملكتنا الإفريقية في السودان.. لم يبق لكم عذر إذا انخدعتم في نياتنا بعد أن وضح الأمر فيها وضوحا تامًّا. فاحذروا أن تنساقوا إلى الرضى باستعباد بلادكم ودمارها"[١٣].

وهذا الكلام الموجه من قبل هذه الشخصية، والحضور الذي كان يمثل النخبة المؤثرة في المجتمع ووعيه، يعطينا دون أدنى شك مؤشرات كبيرة على حجم المسؤولية الملقاة على عاتق هذه النخب في العالم العربي والإسلامي، وإلى حجم النضال والمقاومة والرفض الذي يجب أن تقوم به على كافة المستويات وخاصة الثقافية منها، لتواجه خطر هذا الاستعمار العلمي والثقافي الذي يغزو عقول ووعي مجتمعاتنا بشكل ناعم ودقيق، بل الخطر يكمن في كيفية تقديم مشروع حقيقي ثقافي يواجه هذا الخطر الخارجي من جهة، وخطر الاستلاب الداخلي الذي يتمثل في:

  1. الأنظمة السلطوية وشبه السلطوية المتحالفة ثقافيا والخاضعة معرفيا للسياسات الثقافية والمعرفية، التي تقرها مؤسسات دولية بقيادة هذه الدول الكبرى، لتخدم منهجها في عولمة منظومتها المعرفية والقيمية، ومفاهيمها وفلسفتها وهويتها الخاصة.
  2. قطاعات النخب العربية والإسلامية التي تماهت في مقاطع من التاريخ وفي أزمنة متعددة مع هذه الكولونيالية الفجة والتواطؤ مع تيار الهيمنة الغربي. "هؤلاء يمكن تسميتهم ب (طبقة الوكلاء comprador). هذا المصطلح الذي تم تطويره بطريقة أشمل في مرحلة ما بعد الكولونيالية ليشمل طبقة من الأكاديميين والكتاب والإبداعيين والفنانين – ممن يتنازلون عن استقلالهم الوطني باعتمادهم على القوة الإمبريالية ويجعلون رهانهم معها. لم يعد الأمر مقتصراً على أفرد البرجوازية المحلية الذين يدينون بأوضاعهم المتميزة للاحتكارات الأجنبية، ومن ثم يحافظون على مصلحتهم الراسخة في بقاء الاحتلال. تلك الفكرة عن طبقة الوكلاء والتي تفترض وجود هيكل تراتبي واضح ومتسلسل من العلاقات الثقافية والمادية غير المسلم بها . " فالافتراض الذي يذهب إلى أن طبقة الوكلاء متمايزة بالضرورة وبصورة يسهل تحديدها عن بقية المجتمع، هو افتراض محل جدل وشكك نسبيا ممن يحافظون على مقدرة أكثر تطورا في انخراطهم في الممارسات التواصلية الدولية التي تطرحها الهيمنة الاستعمارية، وممن يظهرون ميلاً أقل، بحكم ذلك، للنضال من أجل الاستقلال الثقافي والسياسي".

مع استمرارية الهيمنة وإطفاق الصراع الداخلي للنخبة العربية لعبت الثنائية (binarism) دورها الأخطر في التصعيد بين اتجاهات النخب العربية، ما أدى إلي ضرب من عدم الاستقرار في المجتمعات المستَعمَرَة".إن الثنائيات غالبا وليدة الصراع بين "إما" "أو"، أو "مع" و "ضد"، أو "هم" و "نحن"، وأي محاولة للخروج من هذه الثنائيات بمشروع جامع يحاكي الاختلاف والتنوع، ويدعو للتعارف والتآلف والمشتركات، مع الحفاظ على الثوابت ومواكبة العصر بأصالة مستمدة من قيمنا، فإن ذلك سيواجه بحملة ترويجية إعلامية كبيرة للتشويه ولإفشال هذا المشروع، باستخدام الميديا وكثافة الصورة المزورة بالتالي سيتم تلقائيا استبعاد هذا المشروع باستخدام نفس هذه الأدوات الثنائية التي ترتكز على الفوارق البشرية الطبيعية سواء كانت فوارق في اللون أو الثقافة والدين والمذهب أو اللغة، لتستخدم كأدوات هدم وتفرقة، بالتالي يتمكن الاستعمار العلمي والمعرفي من استمراريته وبسط نفوذه على ساحات العقل والإدراك.

سوف تعاني الدول المستَعمَرة من دلالات الازدواج الوجداني الحاد والذي يتجلى إما في التقليد أو في المناهضة بشدة أو بالهوس للحفاظ على الهويّة، أو الانفصام الثقافي أو للميل لجانب دون آخر في تلك الثنائية، مما يفضي إلى نشوء تطرف ولدته الإمبريالية في إطار صناعتها للعنصرية لتكون رمزاً إضافياً في بنيتها الإيديولوجية، وبالتالي التأكيد على أن أحد أهم قواعد استمرارية الإمبريالية وقوتها يكمن في خلق تلك الفرقة والتنازع الدائم بين الشعوب.

الخلاصة

إن الاستلاب الشامل محكم بثلاثية هي:

  1. القوي العظمى وقوتها الناعمة والاستعمار العلمي والمعرفي؛
  2. الأنظمة الوظيفية سواء السلطوية أو شبه السلطوية؛
  3. النخب في العالم عربي والإسلامي "الوكلاء"
  4. الصراع الثنائي القائم على الاختلاف الطبيعي والثقافي كاللون واللغة والدين والمذهب.

ومن وجهة نظري المرحلة الأولى في معالجة الاستلاب تكون بالانطلاق من نقد الذات ووعيها، وهذا يتطلب بداية فهم منظومة الحقوق على ضوء الواجبات، والنضال من أجل تحقيق وعي حقوقي يهدف لتحقيق الكرامية الإنسانية كمحور رئيسي لتحقيق العدل والحريات العادلة.


مخاطر تمييع الهوية

لا نريد أن نكون مُفْرِطين في التوصيف أو مغالين في المواجهة، فنحن لا ننكر أن للعولمة إيجابياتها، ولكننا أيضا لا يمكننا أن نرى هذه الايجابيات بمنأى ومعزل عن السلبيات، ولكي نستطيع التقييم فلا بد أن يكون هناك ميزان للتقييم يحدد الضرر ويقيم الأولويات، بمعنى أن يرى الإيجابيات في ضوء السلبيات ويزن أيهما أكثر نفعا أو ضررا،, ومردود كل منهما على واقعنا الاجتماعي وعلى هويتنا كوعاء لقيمنا وثقافتنا ومبادئنا وعاداتنا وتقاليدنا وأعرافنا.

الثابت والمتغير في الهوية

>من الثوابت المهمة والمحورية في الهوية هي القيم والأخلاق في بعدها النظري كمرجعية معيارية التي يستحسنها العقل، أو ما يستقبحه أيضا والتي أيضا يرفضها الشارع المقدس وفقا لقاعدة الحسن والقبح العقليين، أو وفق مبدئ المصلحة والمفسدة ضمن تشخيص يعود لمرجعية معرفية مشتركة. ومن الضروري العمل على صياغة مشروع إسلامي حضاري فعلي تعارفي، وليس انفعالي لتحصين الهوية مع الحذر في ذلك من عدم الوقوع فريسة العولمة أو التقوقع الهوياني. وهو ما يتطلب بذل جهد أكبر من قبل المتخصصين من العلماء والمثقفين والأكاديميين والحقوققين، في رسم الخريطة العامة لهويتنا العربية والإسلامية الحضارية، ضمن أطر الحفاظ على الثوابت المعتد بها، ولكن بلغة عصرية قادرة على استخدام كافة الوسائل والقدرات والطاقات بما يحصن الهوية ويستقطب الأجيال نحوها.

لا نريد للهوية أن تصبح نزعة متطرفة صادة، تميل بنا نحو الشمولية وإنما نريدها فكرة اعتدال، تحافظ على الثوابت الحقيقية، وتنفتح على الجديد العصري المتناغم مع قيمنا، نريدها هوية قائمة على التعارف وعلى خطاب تواصلي، قائم على احترام خصوصيات الهويات المتبادل، وليس على أساس التخاصم والتعدي، ومحاولات الإلغاء.

"إن دور الأفكار التقدمية في تغيير الواقع، من شأنها أن تنير السبيل أمام قوى المقاومة وإعادة البناء المادي والروحي للإنسان العربي المنخور، ومواجهة الهيمنة والمحو المعلن في مشروع العولمة الإمبريالي. لكن ذلك مشروط بالدفاع عن هوية يشقها الجدل والفكر والنظر ...وتفتح على التاريخ والتناقض والآخر والحاضر، وتستوعب ماضيها استيعابا نقديا وتستحضر عناصر النزعة التحررية والاجتهادية فيه، وهو ما يجعلها هوية حية وقوية في مستطاعها المحاورة والمناورة، وفي متناولها الإقناع والإبداع، إقناع بنيها وذويها أولا، وإبداع الإضافة إلى الثقافة الإنسانية ورد التنميط العولمي والتعليب الاستهلاكي على أعقابه.. وعليه فإن مقاومة الغزو والمحو والإلحاق مسألة وجود، ولكن أيضا بات الخروج من قوقعة الهوية "المعصومة" والمختومة شرطا من شروط الدخول في عصر النهضة وتحقيق الانبعاث الحضاري العربي"

وعليه يكون الخطر الحقيقي كامن في تمييع البعد الثابت في الهوية، أو استغلال البعد المتغير استغلالا هداما ومؤثرا بشكل مباشر أو غير مباشر، على أبعادها الثابتة بما يعرض وجودنا إلى الخطر وليس فقط هويتنا. وتكمن مخاطر تمييع الهوية في أنها تهدد كيانات المجتمعات، وتعيد صياغة مكوناتها وتنميطها السلوكي والقيمي, وهذا بدوره سيكون له تداعيات على:

  1. اللغة: والتي هي لسان التواصل والخطاب في نقل التراث، والحفاظ عليه مما قد يغير من ملامحه ويحرف في صياغاته المستقبلية ويضر بالحقيقة وأصحابها. ويبين هنتجنتون في كتابه صدام الحضارات، أهمية اللغة في الصراع حيث إن توزع اللغات في العالم عبر التاريخ يعكس توزع القوة العالمية فاللغات الأوسع انتشاراً: الإنجليزية، الماندارين، الإسبانية، الفرنسية، العربية، الروسية. إما أنها أو كانت لغات دول إمبراطورية جعلت شعوباً أخرى تستخدم لغتها. كما أن التحولات في توزع القوة، تؤدي إلى تحولات في استخدام اللغات، حيث قرنان من القوة البريطانية والأمريكية الاستعمارية والتجارية والصناعية والعلمية والمالية، تركا ميراثاً ضخماً في التعليم العالي والتجارة والتقنية في أنحاء العالم
  1. القيم الدينية والوطنية: والتي يؤدي تمييعها إلى ذوبان الشعوب في قيم الآخر وهنا لنا تفصيل, فالغرب مادي الفكر أذاب الثنائيات القائمة بين الخالق والمخلوق، وجعل قطب العالم الإنسان بداية ثم أفنى الانسان لتسود الطبيعة كقطب حاكم ومهيمن, وخطورة الأمر هنا أن هذا الفكر المؤدلج يضرب أصول العقيدة ومخها ومحورها التوحيد، وتفتح الأبواب وتشرعها لسيطرة القوي على الضعيف وللاستعباد والرق بكافة الأساليب, وغياب الخالق يعني غياب كل القيم والمباديء التي جاءت لتحفظ الإنسان وتصون كرامته، وتجعله محور الخلقة والقطب الذي تدور حوله رحى الكون ليكون في خدمته ويكون الإنسان عبدا لله وحرا من أي عبودية أخرى.

والفكر المادي جاء أيضا بشعارات كالحرية وما تحمله من مخاطر مفاهيمية في الفكرالغربي، إذ تتعدى برؤيتها الإيديولوجية للحرية على كل المقدسات وتمتهنها تحت شعار الحرية، وهو شعار جبلت فطرت الانسان عليه وهذبها شرع الله تعالى, فالشعار يناغي الفطرة، ولكنه يطلق للانسان العنان دون حدود تهذيبية حافظة له ولمقدساته وكرامته. وهو ما سيؤثر حتما على انتمائه وولائه، ليتحول من انتماء وولاء لخالق الكون وكل ما شرعه، إلى انتماء وولاء للمخلوقين تسيطر عليهم الأهواء والأفكار المادية.

إن هذا العالم المادي لا يعرف المقدسات أو المطلقات أو الغائيات، وهدف الإنسان من الكون هو عملية التراكم والتحكم هذه، التي ستؤدي في نهاية الأمر إلى السيطرة على الأرض وهزيمة الطبيعة

إن المنظومة المعرفية الغربية المادية الحديثة بدأت بإعلان موت الإله باسم مركزية الإنسان، وانتهت بإعلان موت الإنسان باسم الطبيعة، والحقيقة المادية، وهذه هي الواحدية المادية: أن تصبح كل المخلوقات خاضعة تماماً لنفس القانون المادي الصارم، وأن يسود منطق الأشياء على الأشياء وعلى الإنسان، وهذا هو حجر الزاوية في المشروع المعرفي الغربي، ثمة قانون واحد وثقافة واحدة وإنسانية واحدة تكتسب وحدتها من كونها جزءاً من النظام الطبيعي، ولذا فإن ثمة نموذجاً واحداً للتطور، ويلاحظ أن حركة البناء الفكري المادي تتجه دائماً نحو تصفية الثنائيات التي نجمت عن الثنائية الدينية (الخالق / المخلوق) وعن الثنائية الهيومانية (الإنسان / الطبيعة)

  1. الأخلاق والقيم والمباديء:وهنا تمييع هذه الأسس السلوكية أو طمس معالمها وأبعادها المعنوية، بأبعاد ومعالم منفعية وقيم استهلاكية قائمة على الأنا وتقديس الذات بلا حدود أو أطر سيكون له أثر على:

أ:الأسرة، التي تعتبر نواة المجتمع ومحورها، والغرب اليوم يئن تحت ضربات النسوية التي حولت الأسرة من مؤسسة اجتماعية لها عمق روحي ومعنوي واجتماعي، إلى مؤسسة كرتونية هشة قابلة للذوبان وغير قادرة على إنتاج أجيال منتجة ونافعة، في بعديها المادي والمعنوي.ومثالها انتشار الزواج المثلي بل شرعنته دوليا. ب: المرأة: واطلاق مشروع المساواة المطلقة، دون التمييز بين المناطق القابلة للمساواة والأخرى التي تحتاج إلى القابليات المرتبطة بطبيعة المرأة، أو بالأحري لا تقدم مفهوم العدالة علي مفهوم المساواة، في خلط بين الأصل والفرع، إضافة إلى الإباحية وتحويل المرأة إلى سلعة استهلاكية رخيصة، تروج البضائع في الأسواق, وشرعنة الاختلاط على الطريقة الغربية، وليس على طريقة لا منع ولا اختلاط وإنما حريم. ونقل المرأة من موقع صانعة الاجيال، إلى موقع إفسادها، بالتركيز على بعدها المادي وإهمال كنهها المعنوي وجوهرها الإنساني. والتأثير الأخلاقي هو أسرع من غيره، وقد أشارت دراسة في السعودية (لناصر الحميدي) إلى أن التأثير على الجوانب الأخلاقية يأتي في الدرجة الأولى، مثل: الترويج للإباحية، والاختلاط، وما إلى ذلك مما يخالف القيم الإسلامية، وإغراء النساء بتقليد الأزياء الغربية وأدوات الزينة، وكذلك التأثير على الروابط الأسرية ج. فئة الشباب وخاصة المراهقين: وذلك من خلال عولمة اللباس واللغة والسلوك خاصة مع ميل هذه الفئة إلى إبراز ذاتها، وإثبات وجودها فتقوم هذه المؤسسات العابرة للقارات من أجل رفع القيمة الانتاجية بالعمل، على رفع القدرة الاستهلاكية في الأسواق، وحيث أن هذه الفئة تعتبر فئة هشة، فيتم استغلالها ومخاطبتها بكافة الوسائل الممكنة، من أجل النفاذ إلى آفاقها المعرفية وتغيير معالمها الثقافية وتمييعها، وتغيير ولاءاتها خاصة العقدية منها، وهو ما يشكل خطورة في تمييع الأجيال التي يقع على عاتقها مسؤولية الابداع والتطوير، وإكمال المسيرة الإنسانية نحو رقيها التكاملي.

أما الأدوات المستخدمة في تمييع الهوية وعلمنة المجتمعات من خلال رياح العولمة فكثيرة أهمها:

  1. الإعلام، ويعتبر الوسيلة الأكثر نفوذا إلى عمقنا الثقافي.
  2. التكنولوجيا بكافة أشكالها.
  3. السوق الشاملة للباس وغيرها
  4. كل وسائل الاتصال والتواصل.
  5. النخب التي صنعت أفكارها الثقافة الغربية، بل صنعها الغرب وإعلامه.

الهوية بين التحصين والمنع

إن مواجهة أي مشروع فعل للتغيير تحت شعار الإقصاء والتهميش، قد توقع المتصدين في دائرة الانفعال أو رد الفعل، مما يدفعهم إلى الإفراط والتقوقع، وهو ما يعني وضع كثير من الخطوط الحمراء وإضفاء الكثير من الهالات القدسية على غير المقدسات، تحت شعار الحفاظ على الهوية، وهو ما قد يكون له رد فعل عكسي من قبل الأجيال فتتعرض الهوية إلى خطرين:

  1. خطر التمييع والتفريط؛
  2. خطر التقوقع والانغلاق.

وكليهما لهما آثارا سلبية عظمى على كينونتنا الثقافية، بل على مسألة وجودنا كأمة فاعلة ومبدعة ذات حضارة متطورة ومتقدمة. ولأننا اليوم في عصر التعرية، تعرية الواقع وكشف لثام الحقيقة، من خلال الانتشار السريع للمعلومة، وتحول العالم إلى قرية صغيرة لم يعد فيها سرا، أو تمويها للواقع، وظهور تساؤلات جديدة بعد تقدم العلوم الإنسانية، أهمها العلاقة بين الله الإنسان وحدود هذه العلاقة، وتقدم سؤال الإنسان على سؤال الدين، بمعنى اليوم تدرس كل الظواهر بطريقة يكون محورها الإنسان، ومدى خدمته وتحقيق رفاهيته ومنفعته، بل ولذته التي باتت مفهوما للسعادة. فبات السؤال ليس ما هو الدين ووظيفتنا اتجاهه، بل من هو الإنسان وكيف يمكن للدين أو يخدم هذا الإنسان؟ وبات الله يحاكم لأجل الإنسان، بعد أن كان الأصل: أن يحاكم الإنسان لأجل الله، وللأسف أن من ينصب محاكمة الله هو الإنسان الذي بات يقيس كل الوجود وفق مقياسه الخاص به وبعقله، بعد أن اعتقد أن هذا التقدم العلمي وسيطرته على الكون، جعلت من عقله إلها مستقلا غنيا عن كل دعم وعون، متناسيا أن العقل محدود جدا، والمحدود لا يمكنه الإحاطة باللامحدود.

إذا هناك فرق بين التحصين الممنهج وفق أسس متوازنة ومعتدلة وآخذة في الحسبان كافة التغيرات العصرية، ولا تعتمد على لغة التهميش والإقصاء والرفض للآخر، بل تنهج خطى الغربلة والتمييز بين الغث والسمين والتلاقح الثقافي، المفيد الذي يثرينا ويضيف على مكوناتنا الثقافية، ما يمكن أن ينهض بها ويطورها وهو ما يتطلب تصدي الكفاءات والمتخصصين من العلماء والمثقفين، التصدي للنهوض بمشروع حضاري والحفاظ على هوية ثابتة الأصول بلغة متجددة تتكامل.

وفرق بين ذلك وبين المنع والتقوقع مما ينشئ ردة فعل عنيفة خاصة من فئة الشباب، الذين سيجدون فجوة كبيرة بين لغتهم العصرية وبين مكونهم الثقافي غير قادر على النهوض بهم، والإجابة على تساؤلاتهم وتلبية متطلباتهم الآنية الراهنة.

وبما أن هويتنا إسلامية وانتماءنا للإسلام الذي دعي إلى عالمية الهدف والغاية والوسيلة، وجاءت رسالته عالمية للناس كافة إلا "أن حضارة الإسلام قامت على القاسم المشترك بين حضارات العالم، فقبلت الآخر وتفاعلت معه أخذًا وعطاءً، بل إن حضارة الإسلام تعاملت مع الاختلاف بين البشر باعتباره من حقائق الكون. لذلك دعا الخطاب القرآني إلى اعتبار فوارق الجنس والدين واللغة من عوامل التعارف بين البشر. اتساقًا مع نفس المبادئ، يوحد الإسلام بين البشر جميعًا رجالاً ونساءً، في جزئيات محددة: أصل الخلق والنشأة، والكرامة الإنسانية والحقوق الإنسانية العامة، ووحدة الألوهية، وحرية الاختيار وعدم الإكراه، ووحدة القيم والمثل الإنسانية.

وتبدو الاختلافات جلية بين عالمية الإسلام ومفهوم "العولمة" المعاصر، فبينما تقوم الأولى على رد العالمية لعالمية الجنس البشري والقيم المطلقة، وتحترم خصوصيته وتفرد الشعوب والثقافات المحلية، ترتكز الثانية: على عملية "نفي" و "استبعاد" لثقافات الأمم والشعوب ومحاولة فرض ثقافة واحدة لدول تمتلك القوة المادية وتهدف عبر العولمة لتحقيق مكاسب السوق لا منافع البشر.

فمكامن القوة في الهوية الإسلامية في كونها هوية قائمة على أسس أهمها:

  1. اللغة العالمية التي تعترف بالآخر تتلاقح معه وتتكامل
  2. الحفاظ على الكرامة الإنسانية
  3. العقيدة القائمة على محور التوحيد، إذ لا استعباد ولا تهميش ولا إقصاء
  4. الأخوة في الانسانية أو الدين
  5. المخزون القيمي والأخلاقي الذي يحصن الإنسان ضد الانحرافات السلوكية في المجتمع، ويوازن بين متطلباته الروحية والمادية، وفق حدود قائمة على أساس المنفعة والمفسدة الانسانية.
  6. الرؤية الكونية القائمة على أساس محورية الانسان في الكون وخضوعه لخالق واحد
  7. حرية تحاكي كل المصاديق، ولكن تضمن عدم التعدي على حريات الآخرين ومقدساتهم، منضبطة بحدود تحفظ وتصون كرامة الانسان، وتحفظ كينونته كخليفة الله على الأرض. وهذا أهم ما يميز الهوية الإسلامية.

الهوية الاسلامية والانتماء الوطني

ثنائية الذات والآخر بين الجدلية والتعارف

ولعل أهم جدلية قد يعيشها الإنسان والفرد ضمن دائرة حدود الوطن، هي الجدلية القائمة بين الهوية الاسلامية وانتمائه الوطني وانتمائه العالمي، خاصة مع وجود مفاهيم في المنظومة الإسلامية، قد تتعارض ظاهرا مع مفهوم الأمة، مما يكرس الانتماء للأمة، ويقلل من فرص الانتماء للوطن بهوية وطنية جامعة.

وهذا ينشيء جدلية بين الذات والآخر، الذات المؤدلجة والآخر المواطني، إذ يخيل لتلك الذات للوهلة الأولى أن إسلاميتها تتعارض مع وطنيتها، وهو ما يخلق نوع من الخصومة في اللاوعي الإنساني وينعكس سلبا على بنيته المعرفية، وبالتالي سلوكه الاجتماعي. ويعيش الفرد حالة التناقض التي تجعل منه شخصية هشة، غير قادرة على المواجهة والتمييز واتخاذ القرارات السليمة فيما يخص هويته الوطنية وهويته الدينية.

إلا أن الإسلام وبشكل صريح وازن بين المواطنية الصالحة، والانتماء له كهوية تعريفية للفرد والمجتمع والأمة. واعتبر أن حب الأوطان من الإيمان وعمارة البلدان من حب الأوطان، وأن لا تعارض بين الانتماء للاسلام كهوية والانتماء للوطن أيضا، ووضع معاييرا تحدد الحد الفاصل بينمها وهو الحق والحقيقية. فجعل العلاقة في طول بعضها البعض، من خلال مبدأ الحقوق والواجبات من جهة، ومبدأ الحق والباطل من جهة أخرى، فأي تعارض بين الإنتماء للإسلام والانتماء للوطن هو تعارض يقع في هذه المنطقة.

فمثلا حينما يقوم وطني بتطبيع علاقاته مع الكيان الصهيوني، فإن ذلك يتعارض مع مبادئ الأمة الإسلامية ومبادئ عقيدتها في رفض الاستعمار، وضرورة الدفاع عن الأرض المغتصبة، فيكون انتمائي هنا للأمة وللإسلام مقدما على انتمائي للوطن، هذا مع ضرورة عدم الخلط بين الانتماء للوطن والانتماء للسلطة، فانتمائي لوطني يحتم علي مواجهة السلطة التي طبعت علاقتها مع الكيان الصهيوني، على ضوء انتمائي للإسلام وللإنسانية وقيمها الثابته التي ترفض الرضوخ للمختل، ولها الحق في مقاومة أي محتل.

وبذلك يكون جسَر العلاقة بين الدين والوطن، أحدث نوعا من التصالح بين الذات والآخر، كي لا يعيش الفرد المسلم تناقضا ينعكس على استقراره النفسي، وبالتالي على سلوكه الاجتماعي إذ أن التناقض يربك البنية المعرفية والثقافية ويجعلها إما مفرطة أو مفِرطة.


أساليب المواجهة وتحصين الذات ضمن أطر التعارف

ولكي نصون هويتنا من التمييع والتغريب السلبي، ونمنع كل ما هو دخيل فيها علينا، أن لا نمارس دور الوصاية على عقل الأجيال، بل دور المرشد والدليل الذي يربي علماء قادرين على الابداع والتنقيح، وليس جنودا طائعين عاجزين عن تمييز الغث من السمين. ولا يكون ذلك إلا من خلال:

  1. العودة إلى هويتنا الاسلامية المحصنة بتوحيد الله تعالى، وإعادة بناء الذات على أسس العقيدة السليمة الخالية من كل الشوائب، والدواخل الغير متوافقة مع لغة العقل والعصر وفهم النص. وإبراز حضارته وثقافته وقيمه الأصيلة التي تتوافق والعقل السليم، والتفريق بين فهم الدين وبين حقيقة الدين، وهذا التفريق لا يتم إلا بامتلاك الأدوات والمنهج الرصين في الوصول إلى فهم للنصوص مواكب وليس جامد.
  2. العناية بلغة القرآن وثقافته، وطرح أبعاده الاخلاقية ورؤاه الإنسانية القائمة على صيانة كرامة الإنسان.
  3. ضمان الحريات بكافة مصاديقها، مما يعزز القدرة على التلاقح السليم والقدرة على التعبير عن الرأي بصورة إنسانية، تصون الكرامة ولا تطال الأشخاص والمقدسات.
  4. التأسيس لمنظومة حقوق وواجبات على أساس العدالة والكرامة الإنسانية، مما يعزز من القيم والمبادئ التي تصون السلوك المجتمعي من الإنحراف.
  5. تصدي مؤسسات المجتمع اللأهلي لحملات توعية تؤسس لفكر رصين للجيل الشباب، ليمتلك بنية معرفية محصنة قادرة على مواجهة التحديات والانحرافات، والتلاقح مع ما هو مفيد وثري.
  6. العناية بالتربية والتعليم والتركيز على الخطاب المعتدل في مراكز التعليم كافة، والتعزيز من قيمة الهوية الاسلامية والوطنية في نفوس الأجيال، وإعادة بناء ثقتهم بذاتهم، وتجسير العلاقة بين الأجيال وقيم الاسلام العالمية الحضارية، من خلال التعريف بها وبمصاديقها ورجالاتها التاريخية والحاضرة.
  7. طرح النموذج التاريخي والمثال العصري له “المثل الأعلى”، ليشكل مرجعية شخصية قادرة على أن تكون قدوة للجيل الشاب، الذي يميل في فترة المراهقة للبحث عن قدوة يقتدي بها. وهو مطلب حقيقي في ظل القدوات المنحرفة المطروحة على ساحاتنا والتي تروج للفكر المنحرف والخطر على هويتنا.
  8. النهوض بمشروع إعلامي متكامل وبخطاب تعارفي متزن، يحاكي كل الأطياف ومشاربهم وفق منظومة فكرية متزنة ومتكاملة، تملتك نظريات إسلامية إنسانية حضارية تروج للقيم والمباديئ وتغربل الأعراف والتقاليد والتراث، وتزيل عنهم هالة التقديس وتحدد الحدود الإلهية في أطرها السليمة, يكون مشروعا عالميا خارج إطار الطائفة والمذهب والحزب، وأي انتماء لا يضم تحت ملته الإنسان بما هو إنسان.
  9. تنمية الروح العابدة الثائرة لا وفق القشور الظاهرية للعبادات، وإنما وفق الأداء السلوكي والمنهجي الكمي والكيفي الموازن بين بعد الداخل وتربيته وبعد الخارج وتنميته. والنأي بمفاهيمنا عن العبادة الظاهرية القشرية التي تعلمن المجتمع رغم رفضنا للعلمانية، لأنها تقصي حقيقة العبادات عن ساحات الفعل المجتمعي الخاصة بها وتؤطرها ضمن حدود الفرد أو جدران المسجد.”أنّ المساهمة في تنظيم شؤون الاجتماع البشري تنظيماً أخلاقيّاً هو مقصدٌ من مقاصد الدين، وأنّ البشر ليسوا على مستوىً واحد من الأداء الروحي. لهذا فهم يحتاجون إلى بيئةٍ اجتماعيّة حاضنة لنموّ الحياة الروحيّة فيها، والطقوس في وجودها الأصليّ تمثِّل هذه البيئة الحاضنة.

ومن خلال هذا كلِّه نتفادى تحويل الجوهر إلى صورةٍ، والصورة إلى جوهرٍ، ونتفادى التضحية بهما أو بأحدهما. لكنّنا نميِّز بين الوسائل والمقاصد، وندرك أنّ الصورة الطقوسيّة للعبادات هي وسائل وضعها الدين للوصول إلى مقاصد، وأنّ المقاصد هي المطلوب الأصلي، دون أن يعني ذلك إمكان التخلّي عن الوسائل؛ إذ قد تكشف الشريعة أحياناً عن حصريّة الوسيلة المُفْضِية إلى المقصد.

هذا ما يُنتج لنا أنّ الفقه وعلوم الشريعة لم يَعُدْ يمكن تقديمهما بمعزلٍ عن التربية الروحيّة، والعكس صحيح. وإنّ ما نعيش الكثيرَ منه اليوم من فصل الشريعة عن الروح هو الذي يفضي إلى حصر الشريعة بمخاطبة الجَسَد، وتنظيم مادّيات الحياة. وهذا ما يتطلَّب إعادة تكوين العلاقة بين الأخلاق والفقه. فعلاقة الجفاء أو التجاهل النسبيّ القائمة بين الطرفين غير مفهومة".

وهناك طرق ووسائل أخرى قد يكون نظرنا قاصر عنها إلا أننا وجدنا أن هذه الأساليب قد تكون الأهم في عالم أغرقته العولمة، لا لأنها تمتلك أرضية أيديولوجية وبنية معرفية فكرية رصينة تتناغم مع العقل، ولكن لأنها وجدت الأرضية الهشة الغير محصنة في مجتمعاتنا فاخترقتها وكادت أن تفتك بها، ولامتلاكها المكنة العلمية وهيمنتها على منابع المال ومواقع القوة الاقتصادية.

وعليه تقع المسؤولية على العلماء والمثقفين والمتخصصين في طرح مشروع فعل تعارفي تأسيسي وليس انفعال، لمواجهة الانحراف العولمي بطريقة تتلاقى مع مفيده، وترفض ضاره لتحفظ الهوية من أي تمييع يُغَيِّب مجتمعاتنا وأمتنا عن التاريخ والمستقبل، وينسف وجودها وكينونتها بين المجتمعات والأمم.

فالمعركة ليست معركة هويانية بقدر ما هي معركة وجود: "أكون أو لا أكون", ولكنها معركة فكر ونظريات وتطبيقات لا معركة سلاح وجند وعسكر. فالمعركة الفكرية تتطلب تجهيز نخب مبدعين مفكرين، والثانية تتطلب تجهيز جنود مطيعين, والإسلام بنى الإنسان كفكر وعقل ومنطق، وجعل السلاح وسيلة إذا اضطرته الظروف لذلك.

هوامش ومراجع

  1. الحجرات / 13
  2. التعريفات –الشريف الجرجاني-,دار عالم الكتب-بيروت الطبعة الاولى-1407 ه- 1987م ص 314.
  3. مخاطر العولمة على الهوية الثقافية.د.محمد عمارة-دار نهضة مصر للطباعة والنشر –الطبعة الأولى – فبرلير 1999م
  4. عالم نفس وفيلسوف إنساني ألماني أمريكي يهودي
  5. فتحي سيد فرج-الحوار المتمدن-المجتمع المدني – العدد 1588 - 2006 / 6 / 21
  6. الحجرات/13
  7. العولمة وعالم بلا هوية، د. محمود سمير المنير، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م، ص: 129
  8. انظر د. عباس آريان بور كاشااني، فرهنك كامل انكليسي فارسي، المادة (ATH).
  9. الدين والعلمانية في سياق تاريخي، عزمي بشارة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط١، ج٢ المجلد الأول، ص ٧٤،٧٥.
  10. د. عزمي بشارة، مصدر سابق، ص ٦٩، ٧٠.
  11. إتيان دي لا بويسي، العبودية الطوعية ص ٩٦. كاتب وقاضي فرنسي وموجد النظرية الفوضوية، ومؤسس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا
  12. محمود حيدر، ما بعد الاستعمار، مجلة الاستغراب، العدد ١٢، ٢٠١٨م
  13. ألفرد سكاون بلنت مخاطبا مجموعة المؤتمر الوطني المصري في اقتباس ورد بكتابه التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر الذي تفيد بيانات غلافه بأن الشيخ محمد عبد راجعه ووافق على ما فيه. ينتمي سكاون لأسرة عريقة تعمل بالسياسة والتمثيل الدبلوماسي في الدول الأوروبية، تحول بعد 1859 للترحال في البلاد الشرقية. كون حملة للدفاع عن الزعيم أحمد عرابي بدافع واجبه تجاه مواطنيه في المقام الأول وحقهم في الاطلاع على «الحقيقة الواقعة». ترجم الكتاب ونشر على حلقات بجريدة البلاغ ثم جمع في مجلد واحد دون تاريخ مدون. المصدر: محمد عبد الله عبد العال أحمد مصدر سابق.