«التعارف في الإستدلال الفقهي»: الفرق بين المراجعتين

من Wiki Akhbar
اذهب إلى: تصفح، ابحث
(مقدمة)
(مقدمة)
سطر ٣٦: سطر ٣٦:
 
ثم أشارت إلى بحوث سابقة لأعلام معاصرين التفتوا إلى قيمة هذه الآية الشريفة ودلالتها في استنباط بعض المسائل الشرعية المهمة والحساسة فقالت: {{اقتباس|'''(بحث محمد أبو زهرة في كتابه القيّم [العلاقات الدولية في الإسلام]، فهو أوّل من أشار إلى التعارف بوصفه إحدى دعائم العلاقات الدولية في الإسلام، وبيّن أسسه، ومن كتابه أخذنا فكرة البحث الأولى، فله فضل السبق والتأصيل، وكل مَن كتب بعده عالة عليه. بحث نادية محمود مصطفى [العلاقات الدولية في الإسلام: نحو تأصيل من منظور الفقه الحضاري] المنشور في مجلة المسلم المعاصر سنة 2009م، وفيه أثارت الكاتبة تساؤلات كثيرة عن كيفية التحوّل من التأصيل الفقهي إلى التأصيل الحضاري للعلاقات الدولية)'''.|<ref>المرجع نفسه</ref>}}
 
ثم أشارت إلى بحوث سابقة لأعلام معاصرين التفتوا إلى قيمة هذه الآية الشريفة ودلالتها في استنباط بعض المسائل الشرعية المهمة والحساسة فقالت: {{اقتباس|'''(بحث محمد أبو زهرة في كتابه القيّم [العلاقات الدولية في الإسلام]، فهو أوّل من أشار إلى التعارف بوصفه إحدى دعائم العلاقات الدولية في الإسلام، وبيّن أسسه، ومن كتابه أخذنا فكرة البحث الأولى، فله فضل السبق والتأصيل، وكل مَن كتب بعده عالة عليه. بحث نادية محمود مصطفى [العلاقات الدولية في الإسلام: نحو تأصيل من منظور الفقه الحضاري] المنشور في مجلة المسلم المعاصر سنة 2009م، وفيه أثارت الكاتبة تساؤلات كثيرة عن كيفية التحوّل من التأصيل الفقهي إلى التأصيل الحضاري للعلاقات الدولية)'''.|<ref>المرجع نفسه</ref>}}
  
وبعد هذا كله، نجد أن الفقيه الإمامي المعاصر السيد محمد حسين فضل الله (ت1431هـ/2010م) يؤسس ما أسماه (فقه التعارف) كباب من الأبواب الفقهية التي تحتاج إلى تأصيل وبحث وتطوير، وتحويل إلى حالة ثقافية يتفاعل معها الناس بصورة إيجابية، بدلاً من أن تكون حبيسة التنظير، فرسم المعالم الأولية لهذا الباب ضمن حوار أجري معه ووجّه إليه من خلاله السؤال التالي: '''(يؤسّس النص القرآني صيغة للتعارف والتعايش في الاجتماع البشري، مبنية على الأمن والتسامح والسلم الأهلي، في آيات متعددة، منها قوله: {{قرآن نبذة|يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}} [الحجرات:13]. ما هي الأصول المنهجية لفقه التعارف التي تستوحونها من القرآن الكريم؟ وما هي مرتكزات ثقافة التعايش مع الآخر الداخلي.. وأساليب التفاهم والحوار مع الآخر المختلف التي يشي بها النص القرآني؟)'''.|<ref>حوار أجري مع الفقيه السيد محمد حسين فضل الله (ت1431هـ/2010م).</ref>}}
+
وبعد هذا كله، نجد أن الفقيه الإمامي المعاصر السيد محمد حسين فضل الله (ت1431هـ/2010م) يؤسس ما أسماه (فقه التعارف) كباب من الأبواب الفقهية التي تحتاج إلى تأصيل وبحث وتطوير، وتحويل إلى حالة ثقافية يتفاعل معها الناس بصورة إيجابية، بدلاً من أن تكون حبيسة التنظير، فرسم المعالم الأولية لهذا الباب ضمن حوار أجري معه ووجّه إليه من خلاله السؤال التالي: {{اقتباس|'''(يؤسّس النص القرآني صيغة للتعارف والتعايش في الاجتماع البشري، مبنية على الأمن والتسامح والسلم الأهلي، في آيات متعددة، منها قوله: {{قرآن نبذة|يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}} [الحجرات:13]. ما هي الأصول المنهجية لفقه التعارف التي تستوحونها من القرآن الكريم؟ وما هي مرتكزات ثقافة التعايش مع الآخر الداخلي.. وأساليب التفاهم والحوار مع الآخر المختلف التي يشي بها النص القرآني؟)'''.|<ref>حوار أجري مع الفقيه السيد محمد حسين فضل الله (ت1431هـ/2010م).</ref>}}
  
 
فأجاب: {{اقتباس|'''(إن هذه الآية الكريمة التي هي الأساس في فقه التعارف، تؤكد عدة مسائل مهمة: الأولى: تأكيد واقعية الخصوصيات الإنسانية القومية والعرقية والجغرافية؛ لأنها تمثّل واقع الوجود الإنساني الذي لا يمكن إلغاؤه، لأن الإلغاء لا يغير شيئاً من طبيعة المسألة الذاتية أو من تأثيراتها الموضوعية، باعتبار أن تلك الخصوصيات تدخل في تكوين الذات في العمق، ولا تمثّل حالة هامشية، ما يعني أن العمل على إلغاء أو طمس الخصوصيات في التعامل الإنساني يؤدّي إلى مشكلة كبيرة عملياً ونفسياً، وإن كان الاستغراق في الخصوصيات في المقابل يؤدي بدوره إلى مشاكل إضافية. الثانية: إن الإسلام يشجع على تحريك الخصوصيات بوجهها الإيجابي، وخصوصاً في دائرتها الداخلية التي تدفع الإنسان إلى التفاعل عاطفياً وعملياً مع مَن يشاركونه تلك الخصوصيات والقضايا المتعلقة بها، ولكن شرط أن لا تتحول تلك المشاركة إلى عقدة عصبية تأخذ ميلاً عدوانياً تجاه الآخرين، بحيث تبتعد عن الخط الذي وضعه الإسلام في تشريعه للقاعدة التي تقوم عليها العلاقات الإنسانية وتتحرك في مشاريعها العامة والخاصة، وعند ذلك، تصبح الخصوصيات فاصلاً يفصل كل فئة من الناس، الذين لا يشاركونها فيها. ولعلّ أبلغ تعبير عن هذه الفكرة، هو ما ورد في الحديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام حول العصبية، حيث قال: [إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم][الكافي، ج:3، ص:308، حديث:7]. الثالثة: إن تنوّع الخصوصيات الإنسانية قد يتمظهر في تنوع الخبرات العلمية والعملية، ما يجعل من كل شعب حاجةً للشعب الآخر من خلال ما يمكن أن يحصل عليه من الخبرة التي يفتقدها في ذاتية ظروفة وأوضاعه، وليقدم له ما يملكه هو من خبرة مختلفة يحتاج إليها. وفي ضوء ذلك، يتم التعارف من موقع الحاجات المتبادلة، فينتج التقارب والتلاقي اللذان تكتشف الشعوب من خلالهما وجود أمور مشتركة يلتقون عليها، بحيث يجدون أكثر من فرصة للتعاون فيها، وبذلك تنشأ العلاقات الإنسانية على أكثر من صعيد ثقافي وعلمي وسياسي وأمني. إن التعارف يمثل وسيلة لاكتشاف الآخر، فيما يملكه من معارف، أو يعيشه من أوضاع، أو يخطط له من مشاريع، أو يتطلع إليه من طموحات، الأمر الذي يفتح أكثر من نافذة معرفية على طبيعة الشعب الآخر، ومن ثم على أسس التعاون المتنوع معه.. ونستوحي من ذلك، أن الإسلام لا يضع حاجزاً بين الناس في كل مواقع اللقاء في القضايا المشتركة، حتى مع اختلافهم في القضايا الأخرى، وقد طرح الكلمة السواء كعنوان للتعايش مع الآخر في قوله تعالى: {{قرآن نبذة|قُلْ يَٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍۢ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِۦ شَيْـًٔا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِ}} [آل عمران:64]، كما طرح الجدال بالتي هي أحسن مع أهل الكتاب، كعنوان للحوار والتفاهم مع الآخر المختلف، قال تعالى: {{قرآن نبذة|وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}} [العنكبوت:46]. وهذا الأسلوب في الجدال يمثِّل وجهاً من وجوه الخطِّ العالمي للدعوة في الإسلام: {{قؤآن نبذة|ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}} [النحل:125]. ما يوحي بأن الآخر المختلف لا يمثل الإنسان الذي ننفصل عنه أو نبتعد عن العلاقة معه، بل إنه يمثل الإنسان الذي يدخل في مسؤوليتنا الحركية الثقافية الإنسانية، كإنسان يملك فكراً نلتقي معه فيه في ما نملك من فكر، كما يملك فكراً مختلفاً أو خطاً مختلفاً نتحاور معه حوله، من خلال ما نملكه من فكر مختلف أو خط مختلف عنه، في تجربة تعارف متحرك تستند إلى العناصر الإنسانية المشتركة. في هذا المجال، نلاحظ أن الدعوة الإسلامية القرآنية على مستوى المنهج، تركِّز على كسب الأصدقاء، واعتماد الأسلوب الحكيم الذي يحوِّل الأعداء إلى أصدقاء، وذلك هو قوله تعالى: {{قرآن نبذة|وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}} [فصِّلت:34]، فيكون الأسلوب الإنساني الأحسن في معالجة مشكلة العلاقة مع الإنسان المختلف، وسيلةً من وسائل التعارف الذي يشدّ الناس بعضهم إلى بعض في علاقة صداقة حميمة'''.|<ref>المرجع نفسه.</ref>}}
 
فأجاب: {{اقتباس|'''(إن هذه الآية الكريمة التي هي الأساس في فقه التعارف، تؤكد عدة مسائل مهمة: الأولى: تأكيد واقعية الخصوصيات الإنسانية القومية والعرقية والجغرافية؛ لأنها تمثّل واقع الوجود الإنساني الذي لا يمكن إلغاؤه، لأن الإلغاء لا يغير شيئاً من طبيعة المسألة الذاتية أو من تأثيراتها الموضوعية، باعتبار أن تلك الخصوصيات تدخل في تكوين الذات في العمق، ولا تمثّل حالة هامشية، ما يعني أن العمل على إلغاء أو طمس الخصوصيات في التعامل الإنساني يؤدّي إلى مشكلة كبيرة عملياً ونفسياً، وإن كان الاستغراق في الخصوصيات في المقابل يؤدي بدوره إلى مشاكل إضافية. الثانية: إن الإسلام يشجع على تحريك الخصوصيات بوجهها الإيجابي، وخصوصاً في دائرتها الداخلية التي تدفع الإنسان إلى التفاعل عاطفياً وعملياً مع مَن يشاركونه تلك الخصوصيات والقضايا المتعلقة بها، ولكن شرط أن لا تتحول تلك المشاركة إلى عقدة عصبية تأخذ ميلاً عدوانياً تجاه الآخرين، بحيث تبتعد عن الخط الذي وضعه الإسلام في تشريعه للقاعدة التي تقوم عليها العلاقات الإنسانية وتتحرك في مشاريعها العامة والخاصة، وعند ذلك، تصبح الخصوصيات فاصلاً يفصل كل فئة من الناس، الذين لا يشاركونها فيها. ولعلّ أبلغ تعبير عن هذه الفكرة، هو ما ورد في الحديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام حول العصبية، حيث قال: [إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم][الكافي، ج:3، ص:308، حديث:7]. الثالثة: إن تنوّع الخصوصيات الإنسانية قد يتمظهر في تنوع الخبرات العلمية والعملية، ما يجعل من كل شعب حاجةً للشعب الآخر من خلال ما يمكن أن يحصل عليه من الخبرة التي يفتقدها في ذاتية ظروفة وأوضاعه، وليقدم له ما يملكه هو من خبرة مختلفة يحتاج إليها. وفي ضوء ذلك، يتم التعارف من موقع الحاجات المتبادلة، فينتج التقارب والتلاقي اللذان تكتشف الشعوب من خلالهما وجود أمور مشتركة يلتقون عليها، بحيث يجدون أكثر من فرصة للتعاون فيها، وبذلك تنشأ العلاقات الإنسانية على أكثر من صعيد ثقافي وعلمي وسياسي وأمني. إن التعارف يمثل وسيلة لاكتشاف الآخر، فيما يملكه من معارف، أو يعيشه من أوضاع، أو يخطط له من مشاريع، أو يتطلع إليه من طموحات، الأمر الذي يفتح أكثر من نافذة معرفية على طبيعة الشعب الآخر، ومن ثم على أسس التعاون المتنوع معه.. ونستوحي من ذلك، أن الإسلام لا يضع حاجزاً بين الناس في كل مواقع اللقاء في القضايا المشتركة، حتى مع اختلافهم في القضايا الأخرى، وقد طرح الكلمة السواء كعنوان للتعايش مع الآخر في قوله تعالى: {{قرآن نبذة|قُلْ يَٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍۢ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِۦ شَيْـًٔا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِ}} [آل عمران:64]، كما طرح الجدال بالتي هي أحسن مع أهل الكتاب، كعنوان للحوار والتفاهم مع الآخر المختلف، قال تعالى: {{قرآن نبذة|وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}} [العنكبوت:46]. وهذا الأسلوب في الجدال يمثِّل وجهاً من وجوه الخطِّ العالمي للدعوة في الإسلام: {{قؤآن نبذة|ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}} [النحل:125]. ما يوحي بأن الآخر المختلف لا يمثل الإنسان الذي ننفصل عنه أو نبتعد عن العلاقة معه، بل إنه يمثل الإنسان الذي يدخل في مسؤوليتنا الحركية الثقافية الإنسانية، كإنسان يملك فكراً نلتقي معه فيه في ما نملك من فكر، كما يملك فكراً مختلفاً أو خطاً مختلفاً نتحاور معه حوله، من خلال ما نملكه من فكر مختلف أو خط مختلف عنه، في تجربة تعارف متحرك تستند إلى العناصر الإنسانية المشتركة. في هذا المجال، نلاحظ أن الدعوة الإسلامية القرآنية على مستوى المنهج، تركِّز على كسب الأصدقاء، واعتماد الأسلوب الحكيم الذي يحوِّل الأعداء إلى أصدقاء، وذلك هو قوله تعالى: {{قرآن نبذة|وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}} [فصِّلت:34]، فيكون الأسلوب الإنساني الأحسن في معالجة مشكلة العلاقة مع الإنسان المختلف، وسيلةً من وسائل التعارف الذي يشدّ الناس بعضهم إلى بعض في علاقة صداقة حميمة'''.|<ref>المرجع نفسه.</ref>}}

مراجعة ٠٧:٢٢، ٦ فبراير ٢٠٢٢

بسم الله الرحمن الرحيم

تطوّر توظيف آية التعارف في البحث الفقهي

علي حسن غلوم

مقدمة

الغاية من هذه الورقة الاطلاع على كيفية توظيف الفقهاء، القدماء منهم والمعاصرين، من المدارس الإسلامية المختلفة للآية الشريفة مدار البحث، وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:13] في استنباط الأحكام الشرعية المختلفة، ومدى حضورها -المحتمل- كمصدر للخروج بقاعدةٍ فقهيةٍ ما، يمكن توظيفها في عملية الاستنباط، ولربما يؤدي البحث في هذا الإطار إلى تكوين تصوّر أوّلي حول تطوّر نظرة الفقهاء إلى هذه الآية الشريفة، والعامل المؤثّر في ذلك، وارتباط الآية الشريفة بمقاصد الشريعة وتأثيرها في تغيّر فتاوى الفقهاء واجتهاداتهم في المسائل ذات البُعد الإنساني العام والمرتبطة بالمسائل الولائية والسياسية والاجتماعية، وفي ما له علاقة بالتمايز بين أحكام الجنسين، الذكر والأنثى، في إطار المواريث والعقوبات والديات وغيرها.

وعند تتبعي لموارد استدلال فقهاء المسلمين في بحوثهم ودراساتهم بهذه الآية الشريفة في الأبواب الفقهية المختلفة ضمن عشرات المصادر المتوفرة من خلال برامج البحث الآلي والمستوعبة لكثير من أمهات المصادر، تبيّن لي الضعف الواضح لحضور هذه الآية في مقام الاستدلال في المسائل الفقهية الفردية والعامة وغيابها عن غالبية المصادر القديمة إلى زمن قريب جداً لا يتجاوز القرن، ثم سرعان ما تتحول خلال القرن الأخير إلى واحدة من أهم النصوص التي يمكن الاعتماد عليها في تقديم اجتهادات فقهية تتعلّق بمسائل هامة تنتظر من الإسلاميين، فقهاء ومفكرين، أن يبيّنوا فيها ما يمكن أن يمثّل الرؤية الإسلامية حولها، وذلك من قبيل العلاقات السياسية الدولية والعولمة والوحدة الإسلامية وغير ذلك.

ولربما برّر بعض الفقهاء ضعف حضور آية (التعارف) فيما سبق إلى كونها من الآيات القرآنية التي لا يكون لسانها لسان البيان الفقهي، ولذا لم يلتفت إليها الفقهاء كثيراً عند الاستنباط، على الرغم من أنها قد تكون بمثابة إحدى القواعد الكبيرة والمهمة التي من خلالها يمكن رسم الإطار العام لبعض المسائل، وتحديد مسار عملية الاستنباط وإعادة قراءة النصوص الفقهية المباشرة والخاصة ببعض المسائل ذات البعد الاجتماعي أو السياسي أو الإنساني من خلالها.

فعلى سبيل المثال، لو قارنا بين قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة:6]، وقوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء:87]، وقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185]، من جهة، وبين قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:13]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:90]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:92]، من جهة أخرى، لتَبيّن لنا الفارق بين المجموعتين، ففي الأولى نجد أن المضمون واضح الدلالة على كونه مضموناً ذا بُعد شرعي وبصورة مباشرة، بينما المجموعة الثانية تحتاج إلى تأمّل، لأن خطابها ليس خطاب تبيين مسألة شرعية معينة، بل تتضمّن أطراً ذات بُعد فلسفي فكري أو أخلاقي، الأمر الذي قد يغيب عن ذهن الفقيه، أو لا يلتفت إليه ضمن الآلية المقرَّرة في عملية الاستنباط.

وهذا – بدوره - أثّر في عملية حصر آيات الأحكام، أي الآيات الخاصة ببيان الأحكام الشرعية والتي تُمثّل مرجعاً في هذا الإطار، فقد يضيف أحد الفقهاء مجموعة من الآيات، بينما لا يُدرجها فقيه آخر ضمن القائمة. وإلى هذا المعنى تشير (موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (ع) تحت عنوان (آيات الأحكام - نماذج من آيات الأحكام) إذ قالت:
«(لقد ثبّتت بعض الآيات أسساً ومبادئ عامّة قد لا يتبادر إلى الذهن في الوهلة الأولى كونها من الأحكام الفقهيّة، إلّا أنّه يمكن أن تترتّب عليها بعض الآثار العمليّة المؤثّرة في تحديد الاتّجاه العامّ للشريعة تجاه جملة من المسائل، نظير قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾، إذ وضعت الآية أساساً للتعامل ومعياراً للتفاضل بين الناس، فليس هو الفارق التكويني والاختلاف الظاهري، بل الملاك هو مقدار ما يتحلّى به الإنسان من قيمة جوهرية وحقيقيّة ألا وهي التقوى).» – [١]

وإذ كان من المؤكد أن هذه الآية الشريفة ليست الوحيدة في هذا الإطار، إلا أن هذه الموسوعة قدّمتها كشاهد ومثال أوّل ووحيد عليها، بما قد يدلّ على مدى غيابها عن عملية الاستنباط الفقهي، بعد اكتشاف أهميتها ومحوريتها في كونها من الأسس والمبادئ العامة المؤثّرة في تحديد الاتّجاه العامّ للشريعة تجاه جملة من المسائل بحسب تعبير الموسوعة، وسيتبيّن معنا خلال هذه الورقة بعض الأمثلة على توظيف هذه الآية الشريفة خلال القرن الأخير في استنباط بعض المسائل السياسية والاجتماعية وحتى الطبية، بما يمثّل قفزة نوعية في العناية بها من قبل بعض الفقهاء المعاصرين.

ومع طرح موضوع (العولمة) خلال تسعينيات القرن العشرين بشكل كبير وواسع ومؤثّر، ولما لها من ارتدادات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية وغيرها، كان لابد للفقهاء المسلمين من أن يقدّموا رؤيتَهم في هذه القضية الجديدة في عنوانها وأدواتها، وإن أمكن ادّعاء أنها كانت مطروحة مسبقاً ضمن الحديث عن عالمية الدين الإسلامي، وقيام أمة إسلامية واحدة على الأرض، والمسألة المهدوية وعالمية دولة العدل وأمثال ذلك.

وتعتبر آية (التعارف) واحدة من أهم النصوص الإسلامية التي أسعفت الفقهاء والمفكرين الإسلاميين في تقديم رؤيتهم وقراءتهم لهذا الموضوع العالمي.

ولذا نجد الفقيه المعاصر الشيخ د. حيدر حب الله يكتب في مقال له تحت عنوان (العـولـمة وعالـميّة الـدين):
«(الأمر الآخر الذي يمكن أن تجري ملاحظته في المنظومة الدينية هو عناصر التمايز الاجتماعي في التصور الديني، فإذا كانت الليبرالية بأشكالها القديمة والحديثة لا تتمكّن من الاستغناء عن عمالقة المال لأنّها تصنّفهم تلقائياً كأرقامٍ متقدّمةٍ في المجتمع فإن الدين بإعطائه القيمة للعلم والتقوى كمائزٍ تفضيليٍّ في المجتمع يقصي المال عن تحوله إلى عنصر تمايز ذا اعتبارٍ اجتماعيٍّ تفضيليٍّ إلا من حيث التوظيف التقوائي له وإن لم يكن يرى فيه شرّاً مطلقاً ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:13]، وهذا يعني فرز المجتمع على أساسٍ مغايرٍ للفرز الغربي؛ فليس العالَم فقير وغني أو غني فقط حينما يتجاهل الفقير كلياً بل هو عالِم وجاهل وتقي وغير تقي… وهذا التقسيم الجديد يقلّص من دخالة رجال المال - من حيث هم رجال مال - في اتخاذ القرار ويضع لمواقفهم ونفوذهم حدوداً تقتضيها الأبعاد العلمية والإيمانية، وهي أبعادٌ من شأنها أن تمنع رأس المال وأصحابه من تدمير الديمقراطية وممارسة إرهابٍ وفرضٍ وقمعٍ من نوعٍ آخر).» – [٢]
وننتقل من (العولمة) إلى قضايا الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب، حيث نجد أن آية التعارف تأتي كواحدة من النصوص الأهم في تأسيس القاعدة فيها، فإذا كان القرآن الكريم يقر ثلاثة أنواع من الوحدة هي: وحدة البشر، وحدة الاديان التوحيدية، وحدة الأمة الإسلامية، فإن آية (التعارف) لا غنى عنها في تأسيس الفكرة الأولى، والتي تؤدي تبعاً لتأسيس الفكرة الثانية والثالثة ضمن قاعدة الأولوية، وفي ذلك يقول الفقيه الإمامي المعاصر الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني في مقال له بعنوان (الوحدة الإسلامية):
«(وأما التقريب بين المذاهب الإسلامية فتعبير عن بذل الجهود العلمية في سبيل إزالة الفوارق التي باعدت بين المذاهب الإسلامية وأئمتها وأتباعها، وجعلتهم ينظرون إلى المذاهب كأنها أديان مختلفة وكأن أتباعها أتباع أديان وأمم شتى وليسوا أمة واحدة. وكذلك تحسين العلاقة بين الأئمة وعلماء المذاهب وتكوين الجو الهاديء والتعارف بينهم على أساس المشتركات بين المذاهب التي تشكل تسعين بالمائة أو أكثر، ليتبادلوا الآراء فيما اختلفوا فيه - وهي أقل من المشتركات بكثير - ولاسيما المسائل الفقهية والأصولية وغيرها... إحياء القوميات القديمة لدى الشعوب المسلمة حيلة استعمارية، فإذا غلبت على شعور القومية الإسلامية التي هي أساس وحدتهم وتضامنهم، فسوف يرجعون إلى جاهليتهم، ويبتعدون عن إسلامهم وأمتهم. ونحن نؤكّد أن الإسلام لم يأت ليزيل القوميات بل اعترف بها كأمر واقع في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ فالقوميات محترمة ما لم تقم قبال التقوى التي بها قوام الأمة الإسلامية الواحدة حسب ما تقدم. وهذا جار في الأحزاب والجمعيات مما هي مثار التعصب والفرقة).» – [٣]

وكان لبروز ما يُعرف بعنوان (الفقه المقاصدي) دوره في تكثيف توظيف آية (التعارف) في مديات واسعة بما يعكس كونها واحدة من الآيات التي ترسم معالم الحالة المقاصدية في التشريع الإسلامية، وأهميتها في استنباط الأحكام الشرعية على مستوى القواعد العامة، بينما كانت هذه الآية غائبة عن أذهان كثير من الفقهاء على مدى قرون ضمن آلية استنباطهم للمسائل المختلفة ذات الأبعاد الاجتماعية أو السياسية أو القانونية أو غيرها.

وقد كتبت د. فريدة حايد من الجزائر في بحثها تحت عنوان (مقصد التعارف وأثره في القانون الدولي الإسلامي):
«(يهدف البحث إلى بيان أثر التعارف بين الشعوب والأمم، بوصفه مقصداً يتصل بالقيم الناظمة لبناء العلاقات الدولية في الإسلام، والإسهام في تأصيل فقه العالم والإنسانية جمعاء، في ظل اختلاف المصالح والحاجات. ويبيّن البحث ضرورة بناء مقصد التعارف على قيم الحضارة ومعاني الإسلام السامية التي من بينها فقه التعارف وما يقوم عليه من أسس تُعنى بالوحدة الإنسانية في ظل الاختلاف والتنوع).» – [٤]
ثم أضافت في مقدمة بحثها:
«(يعدّ الإسلام تشريعاً شاماً لمختلف مناحي الحياة والإنسانية، وهو يحدد معالم التعامل مع الآخر المخالف وفق قواعد أصوله العامة التي تجعله صالحاً لكل زمان ومكان، وتجعل منه قانوناً شاملاً يرعى مصالح الناس وحقوقهم المتنوعة. وإذا كنا نأمل أن يسود الإسلام بوصفه ديناً اختاره الله تعالى لجميع الخلق، فيجب مراعاة أسس التعامل الإنساني العالمي، والتركيز على قيم الإسلام السمحة في التعامل مع الآخر، مسلم أو غير مسلم، فالرحمة والتسامح والعدل بوصفها مضامين الحق في الإسلام هي السبيل إلى تحقيقه، ومضامين آيات دستوره تُنبئنا كل مرة بحلول ناجعة، وإن غابت عن أذهاننا، فإن لما يُتلى دائماً أثره وصداه في فكر الإنسان، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [49 :13] [الحجرات:13] يُنبئ بأن الاختلاف في اللون والجنس واللسان والبلد هو وسيلة للتعارف والتعاون، وأن التعامل بين الخلق جميعاً لا يكون على أساس هذه الفوارق، وإنما يكون ذلك بالتعرف إلى الآخرين والتقرب إليهم، تحقيقاً لمبدأ إنسانية الإنسان، وحِفظ نظام الحياة الاجتماعية بين الناس، والنهوض بالمجتمع. أما إذا غلب علينا الضعف والتراخي فيجب إفساح المجال لمعرفة الآخر، وتعرّف ما عنده من أجل الارتقاء. وعلى هذا، فإن التعارف يؤسس لعلاقة وطيدة مع الآخرين، ويُفضي إلى التكامل حيناً، والتدافع حيناً آخر ضمن إطار المحبة والتعاون والحق. وفي حال ثبت التعدّي فالدفاع مطلوب لا محالة، ولمّا كانت الدعوة إلى الحق مقصد الجميع، وعالمية التوجه التعارفي أبرز خصائص الإسلام، فقد تصدّينا لمعالجة موضوع البحث بمحاولة الإجابة على التساؤل الآتي: ما أثر التعارف في العلاقات الدولية في الإسلام؟).» – [٥]
وأضافت بعد ذلك في بيان قصور الفقه الإسلامي عن الاستفادة من هذه الآية الشريفة ومثيلاتها فقالت:
«(وتتمثل أهمية البحث في بيان أثر القيم في العلاقات الدولية والقانون الدولي الإسلامي في عصرنا الحاضر، إذ يشهد العالم تغيّراً متسارعاً في بنائه واحتياجاته، ما يتطلّب سَنّ قانون شامل للإنسانية جمعاء، وترسيخ قيم العدل والمساواة والتسامح بين البشر، من دون تمييز، وهذا ما جاء به الإسلام في سننه وتعاليمه وتشريعاته، غير أن ما أصاب فقهنا من جمود وتخلّف وإقصاء للتشريع الإسلامي عن الواقع جعل الكتابة في هذا النوع من الفقه متأخرة بالرغم مما نحوزه من تشريع عام وقواعد شاملة. وبحثنا يروم تقصّي إحدى القيم المؤثّرة في هذا الفقه، وهي التعارف ، وبيان أسسه التي تحفظ الإسلام وتحفظ علاقاته بالآخرين، مسلمين أو غير مسلمين).» – [٦]
ثم أشارت إلى بحوث سابقة لأعلام معاصرين التفتوا إلى قيمة هذه الآية الشريفة ودلالتها في استنباط بعض المسائل الشرعية المهمة والحساسة فقالت:
«(بحث محمد أبو زهرة في كتابه القيّم [العلاقات الدولية في الإسلام]، فهو أوّل من أشار إلى التعارف بوصفه إحدى دعائم العلاقات الدولية في الإسلام، وبيّن أسسه، ومن كتابه أخذنا فكرة البحث الأولى، فله فضل السبق والتأصيل، وكل مَن كتب بعده عالة عليه. بحث نادية محمود مصطفى [العلاقات الدولية في الإسلام: نحو تأصيل من منظور الفقه الحضاري] المنشور في مجلة المسلم المعاصر سنة 2009م، وفيه أثارت الكاتبة تساؤلات كثيرة عن كيفية التحوّل من التأصيل الفقهي إلى التأصيل الحضاري للعلاقات الدولية).» – [٧]
وبعد هذا كله، نجد أن الفقيه الإمامي المعاصر السيد محمد حسين فضل الله (ت1431هـ/2010م) يؤسس ما أسماه (فقه التعارف) كباب من الأبواب الفقهية التي تحتاج إلى تأصيل وبحث وتطوير، وتحويل إلى حالة ثقافية يتفاعل معها الناس بصورة إيجابية، بدلاً من أن تكون حبيسة التنظير، فرسم المعالم الأولية لهذا الباب ضمن حوار أجري معه ووجّه إليه من خلاله السؤال التالي:
«(يؤسّس النص القرآني صيغة للتعارف والتعايش في الاجتماع البشري، مبنية على الأمن والتسامح والسلم الأهلي، في آيات متعددة، منها قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:13]. ما هي الأصول المنهجية لفقه التعارف التي تستوحونها من القرآن الكريم؟ وما هي مرتكزات ثقافة التعايش مع الآخر الداخلي.. وأساليب التفاهم والحوار مع الآخر المختلف التي يشي بها النص القرآني؟).» – [٨]
فأجاب:
«(إن هذه الآية الكريمة التي هي الأساس في فقه التعارف، تؤكد عدة مسائل مهمة: الأولى: تأكيد واقعية الخصوصيات الإنسانية القومية والعرقية والجغرافية؛ لأنها تمثّل واقع الوجود الإنساني الذي لا يمكن إلغاؤه، لأن الإلغاء لا يغير شيئاً من طبيعة المسألة الذاتية أو من تأثيراتها الموضوعية، باعتبار أن تلك الخصوصيات تدخل في تكوين الذات في العمق، ولا تمثّل حالة هامشية، ما يعني أن العمل على إلغاء أو طمس الخصوصيات في التعامل الإنساني يؤدّي إلى مشكلة كبيرة عملياً ونفسياً، وإن كان الاستغراق في الخصوصيات في المقابل يؤدي بدوره إلى مشاكل إضافية. الثانية: إن الإسلام يشجع على تحريك الخصوصيات بوجهها الإيجابي، وخصوصاً في دائرتها الداخلية التي تدفع الإنسان إلى التفاعل عاطفياً وعملياً مع مَن يشاركونه تلك الخصوصيات والقضايا المتعلقة بها، ولكن شرط أن لا تتحول تلك المشاركة إلى عقدة عصبية تأخذ ميلاً عدوانياً تجاه الآخرين، بحيث تبتعد عن الخط الذي وضعه الإسلام في تشريعه للقاعدة التي تقوم عليها العلاقات الإنسانية وتتحرك في مشاريعها العامة والخاصة، وعند ذلك، تصبح الخصوصيات فاصلاً يفصل كل فئة من الناس، الذين لا يشاركونها فيها. ولعلّ أبلغ تعبير عن هذه الفكرة، هو ما ورد في الحديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام حول العصبية، حيث قال: [إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم][الكافي، ج:3، ص:308، حديث:7]. الثالثة: إن تنوّع الخصوصيات الإنسانية قد يتمظهر في تنوع الخبرات العلمية والعملية، ما يجعل من كل شعب حاجةً للشعب الآخر من خلال ما يمكن أن يحصل عليه من الخبرة التي يفتقدها في ذاتية ظروفة وأوضاعه، وليقدم له ما يملكه هو من خبرة مختلفة يحتاج إليها. وفي ضوء ذلك، يتم التعارف من موقع الحاجات المتبادلة، فينتج التقارب والتلاقي اللذان تكتشف الشعوب من خلالهما وجود أمور مشتركة يلتقون عليها، بحيث يجدون أكثر من فرصة للتعاون فيها، وبذلك تنشأ العلاقات الإنسانية على أكثر من صعيد ثقافي وعلمي وسياسي وأمني. إن التعارف يمثل وسيلة لاكتشاف الآخر، فيما يملكه من معارف، أو يعيشه من أوضاع، أو يخطط له من مشاريع، أو يتطلع إليه من طموحات، الأمر الذي يفتح أكثر من نافذة معرفية على طبيعة الشعب الآخر، ومن ثم على أسس التعاون المتنوع معه.. ونستوحي من ذلك، أن الإسلام لا يضع حاجزاً بين الناس في كل مواقع اللقاء في القضايا المشتركة، حتى مع اختلافهم في القضايا الأخرى، وقد طرح الكلمة السواء كعنوان للتعايش مع الآخر في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍۢ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِۦ شَيْـًٔا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِ﴾ [آل عمران:64]، كما طرح الجدال بالتي هي أحسن مع أهل الكتاب، كعنوان للحوار والتفاهم مع الآخر المختلف، قال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [العنكبوت:46]. وهذا الأسلوب في الجدال يمثِّل وجهاً من وجوه الخطِّ العالمي للدعوة في الإسلام: قالب:قؤآن نبذة [النحل:125]. ما يوحي بأن الآخر المختلف لا يمثل الإنسان الذي ننفصل عنه أو نبتعد عن العلاقة معه، بل إنه يمثل الإنسان الذي يدخل في مسؤوليتنا الحركية الثقافية الإنسانية، كإنسان يملك فكراً نلتقي معه فيه في ما نملك من فكر، كما يملك فكراً مختلفاً أو خطاً مختلفاً نتحاور معه حوله، من خلال ما نملكه من فكر مختلف أو خط مختلف عنه، في تجربة تعارف متحرك تستند إلى العناصر الإنسانية المشتركة. في هذا المجال، نلاحظ أن الدعوة الإسلامية القرآنية على مستوى المنهج، تركِّز على كسب الأصدقاء، واعتماد الأسلوب الحكيم الذي يحوِّل الأعداء إلى أصدقاء، وذلك هو قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصِّلت:34]، فيكون الأسلوب الإنساني الأحسن في معالجة مشكلة العلاقة مع الإنسان المختلف، وسيلةً من وسائل التعارف الذي يشدّ الناس بعضهم إلى بعض في علاقة صداقة حميمة.» – [٩]
«وقد نلتقي في هذا الخط - المنهج - بالحديث الشريف: [اطلبوا العلم ولو في الصين]، حيث يدعو المسلمين في إيحاءاته الواسعة، إلى الاستفادة من الآخرين الذين قد نختلف معهم في العقيدة، ولكنهم يملكون علماً نحتاج إليه، فنتعارف معهم للحصول عليه، ونتمثّل ذلك في كلمة الإمام علي عليه السلام في طلب الحكمة حتى من الإنسان المختلف: [خذ الحكمة أنّى كانت، فإن الحكمة تكون في صدق المنافق فتلجلج في صدره حتى تخرج]، [الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق] [قصار الحكم/79-80]. وفي ضوء ذلك كله، يمكن تلخيص هذه الفكرة بالتأكيد على ثقافة التعايش الداخلي في اللقاء على واقع الوفاق، والحوار في مواقع الخلاف في الخصوصيات المختلفة في المتفرقات الجزئية، وفي الانفتاح على الآخر المختلف في إيجاد قاعدة للتفاهم التي تركز على الفهم المتبادل الذي يجعلنا نفهم وجهة نظره، كما هو في دائرته الفكرية، وفي الجدال معه حول الخلافات العامة والخاصة بالأساليب الإنسانية التي تحترم في الإنسان إنسانيته التي تفتح عقله وقلبه، وهو ما يعبِّر عنه القرآن الكريم بالتي هي أحسن).» – [١٠]

بعد هذه المقدمة، نستعرض مجموعة من الموارد التي تم فيها توظيف آية (التعارف) من قبل الفقهاء المسلمين قديماً وحديثاً، ويمكن أن نكتشف من خلالها كيف تطوّر حضور هذه الآية الشريفة في عملية الاستنباط خلال القرن الماضي بشكل واضح وكبير، بعد أن كان دورها محصوراً في عناوين ضيقة ومحددة. وسأقوم بعرض الموارد وتصنيفها وفق الأبواب المختلفة مع شيء من التعليق.

أحكام الجهاد

في كتاب (المبسوط) للشيخ محمد بن الحسن الطوسي، وهو من فقهاء الإمامية (ت 460هـ/1067م)، ضمن (كتاب الجهاد وسيرة الإمام - فصل: في أقسام الغزاة) قال: (الغزاة على ضربين: المتطوعة وهم الذين إذا نشطوا غزوا، وإذا لم ينشطوا اشتغلوا بمعايشهم.... والضرب الثاني: هم الذين أرصدوا أنفسهم للجهاد.... ويستحب للإمام أن يجعل العسكر قبايل وطوايف وحزباً حزباً، ويجعل على كل قوم عريفاً عريفاً لقوله تعالى [وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا]، والنبي صلى الله عليه وآله عرّف عام خيبر على كل عشرة عريفاً).[١١]

ونجد الفقيه والقاضي الشافعي المعاصر للشيخ الطوسي، علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (ت 450هـ/1058) في كتابه الأحكام السلطانية يستشهد بالآية في بيان مسئوليات (الإمام) أي حاكم الدولة، لا ضمن أحكام الجهاد، فقال: (ويلزم الإمام من أمور الأمة عشرة أشياء: الرابع: أن يعرّف على الفريقين العرفاء، وينقب عليهم النُّقَبَاءَ، لِيَعْرِفَ مِنْ عُرَفَائِهِمْ وَنُقَبَائِهِمْ أَحْوَالَهُمْ، وَيَقْرَبُونَ عليه إذا دعاهم. وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيه. وقال تعالى: [وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا]).[١٢]

وبمثل هذا الكلام والمورد، استشهد بالآية القاضي الحنبلي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء (ت458هـ/1066م) في كتابه (الأحكام السلطانية).

وقال بمثله الفقيه الإمامي المعاصر علي أصغر مرواريد في موسوعته (الينابيع الفقهية)، في (كتاب الجهاد – كتاب قتال أهل البغي): (ويستحب للإمام أن يجعل العسكر قبائل وطوائف وحزباً حزباً، ويجعل على كل قوم عريفاً لقوله تعالى: [وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا]، والنبي صلى الله عليه وآله عرّف عام خيبر على كل عشرة عريفاً).[١٣]

وجاء نفس هذا المضمون تقريباً ولكن ضمن بحث آخر من البحوث الفقهية من كتاب الجهاد، وهو الخاص باتخاذ الديوان، أي السجلّ الذي تُدوَّن فيها أسماء القبائل ورؤساؤها ممن يمكن توظيفهم في الحروب لاحقاً، وما يخص عطاياهم وما إلى ذلك.

قال الفقيه الإمامي الحسن بن يوسف بن مُطهّر المعروف بالعلامة الحلي (ت 726هـ) في كتابه تذكرة الفقهاء، ضمن (كتاب الجهاد – أقسام الغزاة): (مسألة 155 : ينبغي للإمام أن يتّخذ الديوان - وهو الدفتر الذي فيه أسماء القبائل قبيلة قبيلة - ويكتب عطاياهم ، ويجعل لكلّ قبيلة عريفاً، ويجعل لهم علامة بينهم ويعقد لهم ألوية، لأنّ النبي صلّى اللَّه عليه وآله عرّف عام خيبر على كلّ عشرة عريفاً، وجعل يوم فتح مكّة للمهاجرين شعاراً، وللأوس شعاراً، وللخزرج شعاراً، امتثالا لقوله تعالى ﴿وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا﴾).[١٤]وكرر هذا المضمون في كتابه الآخر (منتهى المطلب).[١٥]

وجاء بعده بعدة قرون الفقيه الإمامي الشيخ محمد حسن النجفي الملقب بصاحب الجواهر، (ت1266هـ / 1850م) وذكر نفس المضمون في (كتاب الجهاد – استحباب اتخاذ ديوان فيه أسماء المرصدين) ضمن موسوعته (جواهر الكلام)، قال: (وينبغي للإمام عليه السلام اتخاذ ديوان فيه أسماء المرصدين وأسماء القبائل، ويكتب عطاياهم، ويجعل لكل قبيلة عريفاً، ويجعل لهم علامة بينهم، ويعقد لهم الألوية، بل روى الزُّهري عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه عرّف عام خيبر على كل عشرة عريفاً، وجعل يوم فتح مكة للمهاجرين شعاراً، وللأوس شعاراً، وللخزرج شعاراً، عملاً بقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا﴾).[١٦]

فيتضح مما سبق أن الآية كانت دليلاً مركزياً في مسألة تعيين (العرفاء: رؤساء المجاميع العسكرية)، وكأنهم استفادوا من قوله تعالى (لِتَعارَفُوا) عنوان (العُرفاء) ليكونوا بمثابة رؤساء ومسئولين عن مجموعة من الأفراد لتنتظم أمورُهم، وينقادون لهم، ويلتزمون بتنفيذ أوامرهم، وهو ما قد يكون بعيداً جداً عن مفهوم الآية المباشر، وعن المسائل المحتمل أن يتم توظيفها فيها، على الرغم من أن الشيخ الطوسي نفسه قال في تفسير الآية في كتابه التفسيري (التبيان الجامع لعلوم القرآن): ([لِتَعارَفُوا] معناه جعلكم كذلك لتعارفوا، فيعرف بعضكم بعضاً) وهو المعنى الظاهر للآية الشريفة.[١٧]

العام والخاص من بحوث أصول الفقه

ووظف إمام الشافعية محمد بن إدريس الشافعيّ المطَّلِبيّ القرشيّ (ت204هـ /820م) الآية الشريفة في بحث أصولي حول العام والخاص، وأنه إذا وردت آية في أوّلها لفظ عامّ فيجوز أن يكون في آخرها لفظ خاصّ، وذلك في (باب بيان ما أُنزل من الكتاب عام الظاهر وهو يجمع العام والخصوص) من كتابه (الرسالة): (قال الله تبارك وتعالى ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ فأما العموم منها ففي قول الله ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ فكل نفس خوطبت بهذا في زمان رسول الله وقبله وبعده مخلوقة من ذكر وأنثى، وكلها شعوب وقبائل. والخاص منها في قول الله [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] لأن التقوى تكون على مَن عَقَلها وكان من أهلها من البالغين من بني آدم دون المخلوقين من الدواب سواهم، ودون المغلوبين على عقولهم منهم، والأطفال الذين لم يبلغوا وعقل التقوى منهم فلا يجوز أن يوصف بالتقوى وخلافها، إلا مَن عَقَلها وكان من أهلها أو خالفها فكان من غير أهلها).[١٨]

وعاد لتوظيفها في نفس البحث الأصولي في (كتاب جماع العلم - باب حكاية قول الطائفة التي ردّت الأخبار كلها) من كتاب الأم: (أرأيت العام في القرآن كيف جعلته عامّاً مرة وخاصاً أخرى؟ قلت له: لسان العرب واسع، وقد تنطق بالشئ عامّاً تريد به الخاص فيبين في لفظها، ولست أصير في ذلك بخبر إلا بخبر لازم، وكذلك أنزل في القرآن فبيّن في القرآن مرّة وفي السنة أخرى. قال: فاذكر منها شيئاً. قلت: قال الله عز وجل [اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ] فكان مخرجاً بالقول عامّاً يراد به العام، وقال: [إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] فكل نفس مخلوقة من ذكر وأنثى فهذا عام، يراد به العام، وفيه الخصوص وقال: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ فالتقوى وخلافها لا تكون إلا للبالغين غير المغلوبين على عقولهم).[١٩]

أحكام النكاح

استدل بعض الفقهاء بهذه الآية الشريفة في مسألة اجتماعية ضمن بحثهم حول اشتراط كون الزوج كفؤاً للزوجة.

ففي (المدونة الكبرى) لإمام المالكية مالك بن أنس الحميري المدني (ت179هـ/795م)، ضمن (كتاب النكاح - في إنكاح الأولياء): ([ قلت ] أرأيت إن كان كفؤاً في الدين ولم يكن كفؤاً لها في المال، فرضيت به، وأبى الولي أن يرضى، أيزوّجها منه السلطان أم لا؟ [ قال ]: ما سمعت من مالك في هذا شيئاً إلا أني سألت مالكاً عن نكاح الموالي في العرب فقال: لا بأس بذلك، ألا ترى إلى ما قال الله في كتابه ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾؟ [ قلت ] أرأيت إن رضيت بعبد وهي امرأة من العرب وأبى الأب أو الولي أن يزوّجها وهي ثيّب، أ يزوّجها منه السلطان أم لا؟ [ قال ] لم أسمع من مالك فيه شيئاً إلا ما أخبرتك. [ قال ] ولقد قيل لمالك: إنّ بعض هؤلاء القوم فرّقوا بين عربية ومولاة. فأعظم ذلك إعظاماً شديداً وقال: أهل الاسلام كلهم بعضهم لبعض أكفاء لقول الله في التنزيل ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾).[٢٠]

وبمثل ذلك عمل الفقيه المعاصر علي أصغر مرواريد في (كتاب النكاح - باب اختيار الأزواج ومن يتولى العقد عليهن) في موسوعته (الينابيع الفقهية): (قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}}، فهذا يدل على أن المؤمنين أكفاء في عقد النكاح كما أنهم متكافئون في الدماء، فمتى خطب المؤمن إلى غيره بنته وبذل لها من الصداق السنّة المحمدية وكان عنده يسار بقدر ما يقوم بأمرها والإنفاق عليها وكان مرضياً غير مرتكب لجور، فلم يزوّجه، كان عاصياً، ويكره أن يُزوِّج متظاهراً بالفسق).[٢١]

ونجد الفقيه الحنبلي الشيخ أحمد بن عبدالحليم الحراني المعروف بشيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ /1328م) في (كتاب النكاح - باب المحرمات من النكاح) من موسوعة (المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام)، يستشهد بالآية الشريفة في مقام تصحيح النكاح مع اختلاف المستوى المادي والبُعد النَّسَبي بين الزوجين، قال: (وقال الشيخ تقي الدين) أي ابن تيمية (لم أجد نصاً عن الإمام أحمد رحمه الله ببطلان النكاح لفقر أو رق، ولم أجد عنه أيضاً نصاً بإقرار النكاح مع عدم الدين والمنصب خلافاً. واختار أن النسب لا اعتبار به في الكفاءة، واستدل الشيخ تقي الدين بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [ 13 / 49 ]. وعنه: لا تزوج قرشية بغير قرشي ولا هاشمية بغير هاشمي، وردَّ الشيخ تقي الدين رحمه الله هذه الرواية، وقال: ليس في كلام الإمام أحمد رضي الله عنه ما يدلّ عليها، وإنما المنصوص عنه في رواية الجماعة: أن قريشاً بعضهم لبعض أكفاء).[٢٢]

وكذلك الفقيه الأزهري المعاصر سيد سابق (ت1420هـ/2000م) في باب (الزواج - الكفاءة في الزواج) من كتابه (فقه السنة): (اعتبار الكفاءة بالاستقامة والخلُق: وذهب جماعة إلى أن الكفاءة معتبرة، ولكن اعتبارها بالاستقامة والخلق خاصة، فلا اعتبار لنسب، ولا لصناعة، ولا لغنى، ولا لشئ آخر، فيجوز للرجل الصالح الذي لا نسب له أن يتزوج المرأة النسيبة، ولصاحب الحرفة الدنيئة أن يتزوج المرأة الرفيعة القدر، ولمن لا جاه له أن يتزوج صاحبة الجاه والشهرة، وللفقير أن يتزوج المثرية الغنية - ما دام مسلماً عفيفاً - وأنه ليس لأحد من الأولياء الاعتراض، ولا طلب التفريق. وإن كان غير مستوفي الدرجة مع الولي الذي تولى العقد ما دام الزواج كان عن رضى منها، فإذا لم يتوفر شرط الاستقامة عند الرجل فلا يكون كفئاً للمرأة الصالحة، ولها الحق في طلب فسخ العقد إذا كانت بكراً وأجبرها أبوها على الزواج من الفاسق. وفي بداية المجتهد: ولم يختلف المذهب - المالكية - أن البكر إذا زوجها الأب من شارب الخمر، وبالجملة من فاسق، أن لها أن تمنع نفسها من النكاح، وينظر الحاكم في ذلك، فيفرّق بينهما، وكذلك إذا زوّجها ممن مالُه حرام، أو ممن هو كثير الحلف بالطلاق، واستدل أصحاب هذا المذهب بما يأتي: 1 - إن الله تعالى قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، ففي هذه الآية تقرير أن الناس متساوون في الخَلق، وفي القيمة الإنسانية، وأنه لا أحد أكرم من أحد إلا من حيث تقوى الله عز وجل، بأداء حق الله وحق الناس).[٢٣]

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قام بتوظيف الآية الفقيه والمتصوف الحنبلي عبد الرحمن بن أبي بكر بن داود، الدمشقيّ الصالحي (ت٨٥٦ هـ/١٤٥٢م) في الفصل 36 من كتابه (الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وتحت عنوان (استحباب تواضع الآمر الناهي في أمره ونهيه بلا افتخار أو تعاظم): (قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. ذكر المفسرون - عند تفسير هذه الآية- عن أبي معاوية، أنه قال: [لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ] هو من لم يجزع من ذلها ولم ينافس في عزها، وإن ارفعهم عند الله أشدهم تواضعًا، وأعزهم غدًا ألزمهم لذل اليوم. وقال تعالى: ﴿{{{1}}}﴾-225، كتب الفقيه المعاصر السيد محمد سلطان مصطفى الموسوي الكلانتر (ت1420هـ / 1999م): (هناك اعتراض على الإسلام من ناحية اعترافه بقانون الرقية -استعباد إنسان لمثله- الأمر الذي يتنافى والمعهود من روح العدالة الإسلامية التي تتحكم في جميع قوانينه وأحكامه وانتظاماته: [لا ضرر ولا ضرار في الإسلام]، [البشر كلهم سواسية]، [لا فضل لعربي على عجمي]، [ولا لعجمي على عربي]، [ولا لأبيض على أسود]، [ولا لأسود على أبيض]، حديثاً مشهوراً عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فالناس كلهم من ولد آدم أخوة سواء. وقال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾. ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾.... ومما أخذه الإسلام تدبيراً لمبارزة قانون الاستعباد البشري أن حارب فلسفته الدارجة، فقال : [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى] أي كلكم من أب واحد ومن أم واحدة، وكلكم أخوة وبنو أب واحد. [وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ] مختلفة في العادات، وفق اختلاف الأصقاع والبيئات [لِتَعَارَفُوا] ليتعرف بعضكم إلى بعض، ويسعى كل أمة في ترفيع مستواها على أختها، وبذلك يتدرج الإنسان على مدارج المدنية الراقية، إلى غيرها من آيات. وأعلن الرسول الأعظم: لا فضل لأبيضكم على أسودكم، كما لا فضل لعربي على عجمي. والبشر سواسية من ولد أب واحد وأم واحدة، إلى غيرها من مضامين متحدة الهدف مأثورة عن النبي والأئمة عليهم السلام. هكذا حارب الإسلام فكرة الاستعباد فلسفياً. وهي مبارزة جذرية، تقطع أصول الاستعباد، وتذهب بفروعها هباء. وبذلك ألغى قانون الرقّية الذي كان يعترف به العالم المتمدن إلى حدّ ذاك. نعم استثنى واحدة من موارد الاستعباد التي كانت دارجة حينذاك، وهذا مما لا بد منه في قانون الاجتماع العام، وبصالح العبيد أنفسهم، وهذا ما نروم تفصيله في هذا المجال).

وجاء في (موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (ع)، مؤسسة دائرة المعارف الفقه الإسلامي) تحت عنوان (إنسان - حقّ الحرّية): (حقّ الحرّية أكثر الحقوق التصاقاً بالحياة، ولذا يعتبر من الحقوق الأساسية للإنسان، وهو حقّ من الحقوق الفردية والاجتماعية، فإنّ الإنسان بالحرّية يمتاز عن غيره من الكائنات الحيّة، وهذا الحقّ يمنح الإنسان السلطة في التصرّف والفعل عن إرادة دون أيّ إجبار أو إكراه، وحقّ الحرّية عام وشامل، كما أنّ الحقوق المترتّبة عليه متعدّدة لها عناوين مختلفة، وهي كالتالي: أ - التحرّر من الرقّية والعبودية: يولد الإنسان حرّاً ويجب أن يعيش حرّاً، فلا يجوز في الإسلام استرقاق الأحرار أو استعبادهم لمنافاة ذلك لروح العدالة الإسلامية وتكريم الإنسان المذكور في قوله تعالى : [وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ]، فلا يجوز لقوم أو شعب استعباد قوم أو شعب آخر؛ إذ لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، وكذا لا فضل لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلّا بالتقوى، قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ﴾. وقد حارب الإسلام القومية والشعوبية والعنصرية التي كانت بعض الأمم المتحضّرة تؤمن بها وتعتقد أنّ العنصر الأبيض أفضل من العنصر الأسود جنساً ووصفاً وخلقة، وأنّ الأسود مخلوق لخدمة الأبيض، وأنكر الإسلام ذلك أشدّ الإنكار، فهو يرى أنّ الناس كلّهم متساوون في الإنسانية والتكريم، سواء كانوا عرباً أو عجماً، بيضاً أو سوداً، وجعل الملاك في أفضلية بعضهم على الآخر إسلامهم وإيمانهم وتقواهم، وألغى نظام الرقّية الذي يعترف به العالم المتحضّر وحاربه لكنه تدرّج في ذلك ولم يلغه دفعة واحدة، وعليه كانت القاعدة الأولية في الإسلام هي الحرّية كما نصّ على ذلك في رواية عبد اللَّه بن سنان، قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: [كان علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: الناس كلّهم أحرار]. نعم، استثنى الإسلام من الرقّ مورداً واحداً جوّز فيه الاستعباد، وهو فيما لو قامت الحرب بين المسلمين والكفّار فوقع الكفّار في الأسر، فإنّه لا يصحّ تخلية سبيلهم ليرجعوا إلى ما كانوا عليه من منابذة الإسلام من جديد، فإنّ فكّ أسرهم نقض للغرض، ولا يلتزم به أحد من العقلاء، ولا يصحّ قتلهم جميعاً، فينحصر الأمر في إبقائهم وتربيتهم وتعليمهم الإسلام، فإنّ ذلك خير لهم من القتل والحبس الذي هو الآخر له مضارّه وتكاليفه الخاصة على الدولة الإسلامية، فيفرّقهم الإسلام بين المسلمين ليتكفّل كلّ واحد منهم مهمة تعليم كلّ واحد من هؤلاء الأسرى لعلّهم يهتدون إلى الصراط المستقيم ومعالم الشريعة فيكونوا صالحين، ويستفيد منهم المجتمع بعدما كان يخشى الناس غائلتهم وفسادهم وإفسادهم. على أنّ الإسلام يعامل هؤلاء العبيد معاملة العمّال لا كما يتعامل معهم غير المسلمين، حيث كانوا يستغلّون منافعهم ويفرضون عليهم ما لا يطيقون ممّا يعرّض حياتهم للمخاطر، بل يعبثون أحياناً بحياتهم لغرض التسلية، وهذا ما أدّى إلى التصوّر الخاطئ في حقّ الإسلام ، وأنّه يعامل العبيد مثل هذه المعاملة، والإسلام بما يحمل روح العدل والإنصاف لا يرتضي لهؤلاء البقاء تحت نير العبودية، بل شجّع على العتق من جانب وضيّق من هذه الظاهرة من جانب آخر، حتى أنّ الفقهاء بحثوا ذلك في كتاب من الفقه تحت عنوان كتاب العتق، وأمّا الرقّ فلم يرد له عنوان فضلًا عن كتاب إلّا في كتاب الجهاد حيث بحثوه في أسطر).[٢٥]

وما سبق بمثابة قفزة نوعية ملحوظة في الاستفادة من مدلول الآية الشريفة على مسألة متعلقة بحقوق الإنسان إذ لم ترد في استدلالات الفقهاء ضمن بحوثهم المتعلقة بأحكام الرق والعتق.

مشروعية علم النسب

في كتاب (الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية) للفقيه الحنبلي سليمان بن عبد القوي الطوفي الصرصي (ت716هـ/1316م): (﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[ الحجرات : 13 ] هذا في مشروعية علم النسب وتفاصيله في الكتب).[٢٦]

وحول حكم معرفة الأنساب ذكر قدماء فقهاء المسلمين أن منه ما يكون تعلمه فرض كفاية أو مستحباً إذا كان وسيلة إلى فرض كفاية أو أصل مشروعية معرفة الأنساب من الأمور الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، ثم منها ما يكون تعلّمه واجباً؛ لكونه وسيلة إلى واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو مستحب. واستدلوا على كلامهم هذا من الآية الشريفة، وفي ذلك قال الفقيه المالكي يوسف بن عبد البر (463هـ/978م) في (الإنباه على قبائل الرواة) وهو يشير إلى الآية: (وفيه دليل واضح على تعلّم الأنساب).[٢٧]

الأحكام المتعلقة بإدارة الدولة الإسلامية

يبدو أن حضور آية التعارف كدليل من الأدلة المعتمد عليها في استنباط المسائل ذات البُعد السياسي عند القدماء من الفقهاء المسلمين كان حضوراً خجولاً، ولربما اقتصر على مسألة الشروط التي يجب توافرها في الخليفة (الحاكم)، وإلى هذه المسألة أشار د. حسين محمد المحيميد تحت عنوان (بحث الاجتهاد المقاصدي وأثره في مسائل السياسة الشرعية) حيث قال: (الفريق الثاني: وقد ذهبوا إلى عدم اشتراط القرشية كشرط من شروط الانعقاد في الخليفة، وقد قال بهذا القول جمهور المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة، كما قال به ضرار. قال ابن حزم: [ذهبت الخوارج كلها وجمهور المعتزلة وبعض المرجئة إلى أنها جائزة، في كل مَن قام بالكتاب والسنة، قرشياً كان أو عربياً أو بان عبد، وقال ضرار بن عمرو الغطفاني: إذا اجتمع حبشي وقرشي كلاهما قائم بالكتاب والسنة، قالوا وجب أن يُقدَّم الحبشي، لأنه أسهل لخلعه إذا حاد عن الطريقة].[٢٨] ومن أهل السنة ربما يكون الإمام الجويني أحد القائلين بهذا حيث قال: [ومن شرائطها عند أصحابنا أن يكون الإمام من قريش... وهذا مما يخالف فيه بعض الناس، وللاحتمال فيه عندي مجال]. بل إن إمام الحرمين قد قرر أن غير القرشي إذا وجدت فيه الكفاية فإنه يقدم على القرشي الذي يفتقر إلى ذلك حيث قال: [ما قولكم في قرشي ليس بذي دراية، ولا بذي كفاية إذا عاصره عالم كاف تقي، فمن أولى بالأمر منهما؟ قلنا: لا نقدم إلا الكافي التقي العالم، ومن لا كفاية فيه فلا احتفال به، ولا اعتداد بمكانه أصلاً]. ويقول الإمام الآمدي: [ولعمري، إن هذا الشرط واقع في محل الاجتهاد]. وإلى هذا الرأي مال جُلّ المعاصرين، منهم الإمام أبوزُهرة، والأستاذ المبارك، والأستاذ الريس، ومحمد أسد، والدكتور القرضاوي، والشيخ عبدالوهاب خلاف، والشيخ المودودي، والأستاذ حسين بن محسن جابر، وغيرهم كثير. وقد استدل من ذهب إلى هذا القول بعدة أدلة منها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:آية13]، فقد جعل الله تعالى الأفضلية والإكرام بالتقوى والعمل الصالح، لا بالنسب ونحوه، بل وردت أحاديث كثيرة تحذّر من التفاخر بالأحساب والأنساب، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: [أربع من أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركوهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة]).

ثم عاد الباحث عند الترجيح بين الآراء ليقدّم استشهاداً مكرراً بآية (التعارف) في كونها فيصلاً في حسم المسألة فقال: (إذا لاحظنا أن الإسلام جعل المساواة مقصداً أساسياً من مقاصده، وحث عليه وطبقه عملياً في عصوره الذهبية، فلا مجال للقول بأن النسب هو شرط من شروط الانعقاد، يقول الأستاذ الريس: [لكن يبدو من العجيب حقاً أن يكون الإسلام قد أصر على وجوب تحقيق شرط النسب وخص قبيلة معينة وهي قريش بهذا الامتياز وحصر فيهم هذا الأمر، وذلك في الوقت الذي تتوارد فيه الآيات والأحاديث داعية إلى مبدأ المساواة، مؤكدة هذا المعنى، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:آية13]، وغيرها كثير من الحقائق الثابتة تاريخياً أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمّر أسامة بن زيد مولاه على كبار المهاجرين والأنصار]).[٢٩]

ومع قيام تجربة الحكومة الإسلامية -وفق المذهب الإمامي- المعاصرة، والانفتاح على قضايا كثيرة تتعلق بنظام الحكم، ومسئوليات الحاكم والمحكوم، وحقوق الإنسان، والمسائل الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية والإعلامية لا بلحاظها الفردي بل العام، وضمن ما يُعرف بعنوان (فقه الدولة)، وإعادة (إنتاج) الفقه ضمن مخاضات هذه التجربة وتمظهراتها الجديدة، تبرز هذه آية (التعارف) كواحدة من أهم المصادر لاستنباط قاعدة فقهية أو للاستدلال بها بشكل مباشر في تلك المسائل.

من هنا نجد الفقيه الإمامي المعاصر الشيخ حسين علي منتظري (ت1431هـ/2009م) في كتابه (دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية)وتحت عنوان (المساواة أمام القانون) يكتب: (يتميّز الحكم الإسلامي عن غيره بأنّه لا يفرّق فيه بين أفراد المجتمع وطبقاته في تطبيق القوانين الحقوقيّة والجزائيّة عليهم وإِخضاعهم لها. فلا فرق فيه بين القويّ والضعيف، والرئيس والمرؤوس، والراعي والرعيّة، والعربي والأعجمي، والأسود والأحمر، والغنيّ والفقير، بل والبرّ والفاجر. فالقانون للجميع واحد والحاكم واحد والمحكمة واحدة. نعم ، للتّقوى كرامتها وقداستها المعنوية كما قال اللّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ وعن رسول اللّه [صلى الله عليه وآله وسلم]: [أيّها الناس، ألا إِنّ ربّكم واحد وإنّ أباكم واحد. ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ ولا عجميّ على عربي، ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إِلاّ بالتقوى]. كما أنّ الأعمال والمناصب لا تُنال إِلاّ بالقابليّات والمؤهّلات وليست جزافية كما مرّ آنفاً، ولكن القوانين الحقوقيّة والجزائية شاملة للجميع على وزان واحد، ولا يوجب الاختلاف في النسب أو اللون أو الوطن أو اللغة أو المنصب تفاوتاً فيها).[٣٠]

وبعد أن استعرض شواهد عديدة في هذا الباب قال: (وخلاصة الكلام أنّ الإسلام جاء والبشر أجناس متفرّقون يتعادون ويتفاضلون في الأنساب والألوان واللغات والأوطان، والأديان والمذاهب والمشارب، والشعوب والقبائل، والحكومات والسياسات، يقاتل كلّ فريق منهم من خالفه في شيء من هذه العلاقات البشرية، فدعاهم إلى الوحدة والتآخي والمساواة أمام القوانين العادلة الصالحة لحفظ الحقوق وإِعطاء كلّ ذي حقّ حقّه. فمن الأسف عدم معرفة المسلمين لبرامج الإسلام وعدم التفاتهم إِلى مزاياها، واغترارهم بما ورد من الغرب والشرق).[٣١]

وهكذا نجد الفقيه الإمامي المعاصر الشيخ محمد إسحاق الفياض في كتابه (المسائل الطبية)، ص ١١٣-118، وهو يجيب حول سؤال متعلّق بحكم المعالجة الطبية من خلال (الخلايا الجذعية) يقدّم مقدمة ذات بُعد فكري تتضمن الاعتماد على هذه الآية الشريفة في استنتاج أن الإسلام اتخذ ميزاناً واحداً للقيم الإنسانية وكرامتها حيث قال: (قبل أن نجيب عن هذه الأسئلة ينبغي تقديم نقطتين أساسيتين، أن الإسلام دين عالمي أبدي، لا يختص بزمان دون زمان، وبعصر دون عصر، وبطائفة دون أخرى، ثم إن الدين الإسلامي يمثل جانبين من حياة الإنسان: الأول، جانب العقيدة وهو الإيمان باللّه وحده لا شريك له، الثاني، جانب العمل والسلوك الخارجي .........).[٣٢]

ثم قال: (وأما الحكومات الإسلامية بالمعنى الصحيح فهي قائمة على أساس مبدأ الدين ونظامها نظام إسلامي في كافة مفاصل الدولة، وهي حكومة عدل وحق، وهي حكومة ضد العنصرية واللون والجنس، وتؤكد على تساوي الجميع في الحقوق بدون إمتياز بالجنس واللون والعنصر، لأن الإسلام جعل ميزاناً واحداً للقيم الإنسانية وكرامتها بمقتضى نص قوله تعالى: [إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ]، فإن الآية الكريمة تنادي بأعلى صوتها إن ميزان كرامة الإنسان إنما هو بالتقوى، وهو الإستقامة في الدين والاعتدال والتهذيب في السلوك والنزاهة والكفاءة والصدق والصفاء والأمانة وهكذا. فإن كل من يكون متلبساً بهذا الصفات فهو واجد للقيم والمُثل الإنسانية، ويمتاز عن غيره ممن لا يكون واجداً لها، سواء أكان أسوداً أم أبيضاً، رجلاً أم امرأة، عربياً كان أم أعجمياً، أمريكياً كان أم أوربياً وهكذا، لأن قيمة الإنسان من منظور الإسلام إنما هو بتلبسه بهذه الصفات التي هي صفات الإنسان لا باللون والجنس والعنصر).[٣٣]

وفي كتاب السياسة الشرعية من تأليف (مناهج جامعة المدينة العالمية)، حول (القواعد التي أرساها النبي [صلى الله عليه وآله وسلم] بمكة) استدلال بآية (التعارف) على المساواة أمام القانون: (والقاعدة الثالثة من القواعد التي حاول وجاهد النبي [صلى الله عليه وسلم] أن يرسيها في مكة هي: اتخاذ التقوى بدلًا من العصبية القبلية أساسًا لبناء قيمٍ أخلاقية سامية تتعدى مجالاتها حدود القبيلة، وتتسع في نفس الوقت لا لتشمل العرب فحسب بل وجميع الأمم المجاورة لهم أيضًا، فالتقوى في الإسلام تقرر مقاييس أخلاقية جديدة، لبناء مجتمعٍ لا تسوده المقاييس القبلية الله -تبارك وتعالى- يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: من الآية: ١٣] فإذن: الله -تبارك وتعالى- يبين في هذه الآية أن أساس التفاضل بين البشر إنما هو تقوى الله -تبارك وتعالى- والعمل الصالح، وأن التمايز عن طريق الجنس أو اللغة أو الدين أو غير ذلك كل ذلك أمور لا ينظر إليها الإسلام وإنما ينظر إلى التقوى فقط [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]. والنبي [صلى الله عليه وسلم] أيضًا يبين أنه ليس لأبيض على أسود فضل إلا بالتقوى والعمل الصالح، ويقول [صلى الله عليه وسلم]: [الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى] ولذلك شريعة الإسلام جاءت لتسوي بين الناس، وأنهم متساوون فيما بينهم أمام الله -تبارك وتعالى- لكن الذي يميز بين فردٍ وآخر إنما هو التقوى التي نص عليها الله -تبارك وتعالى- في الآية التي ذكرناها [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] فالشعوب والقبائل في الإسلام ليست وحدات منعزلة، وإنما هي تكون مجتمعات يستوي الناس فيها أمام الإسلام بصرف النظر عن أصلهم وجنسهم، وأن الفارق بين الناس هو فارق أخلاقي، لا يقوم على أساس الوراثة، كما دعت إليه العصبية القبلية، وأن كل فردٍ ينال ما يشاء من رفعت لا على أساس الحسب والنسب والثراء، ولكن على قدر كسبه وبره وتقواه. وبدأت التقوى في الإسلام وما حوته من مقاييس أخلاقية، تنظم العلاقات بين الناس على قواعد جديدة، وتخرجهم من ظلمات النظم القبلية التي بلغت مساوئها حدًا قاتلًا في مجتمع مكة، فالنظم الإسلامية التي تقررها التقوى، تستنكر المادية المرزولة التي اقترنت بالنظام القبلي في مكة، حيث الناس قد ألهاهم التكاثر بجمع المال، وعده وحبه حبًا جمًا مع سلبٍ لمال اليتيم، وعدم الحض على طعام المسكين، وإغراق في الموبقات، وإساءة إلى العلاقات الاجتماعية بين الأهل، والميل مع الهوى في معاملة الناس اقتصاديًا وأدبيًا. هذا هو ما كان عليه الحال في الجاهلية الحال في الجاهلية كان قائمًا على حب المال حب الثروة، ظلم القوي للضعيف، لكن جاءت التقوى لتبين أن الناس سواسية، وأنه لا فضل لإنسانٍ على آخر إلا بالتقوى، وأنه ليس هناك تمايز على أساس الحسب والنسب والثراء).[٣٤]

وقال أستاذ الفقه المقارن وعميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر حسن علي الشاذلي (ت١٤٣٩هـ/٢٠١٨م)، في في المبحث الرابع من كتابه (الجنايات في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون) وتحت عنوان (عقوبة القتل العمد في الفقه الإسلامي، المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي)، ضمن تأييد الفتوى بـ (قتل الحر بالعبد مطلقاً): (ثالثاً: أن القول بعدم القصاص بين الحر والعبد يساعد على تفشي الجرائم وقتل السادة العبيد دون أن تقع عليهم عقوبة رادعة لهم وزاجرة لغيرهم عن مثل هذا العمل المحرم، وهذا يتنافى مع حكمة مشروعية القصاص؛ وهي إحياء النفوس، قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، ومع عموم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، وقوله [صلى الله عليه وسلم]: [لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى]).[٣٥]

ولا شك أن مثل هذه الشواهد في هذا الباب مما يعرف بعنوان (فقه الدولة) أو (السياسة الشرعية) أو ما شابه، يعدّ تطوّراً ملحوظاً في العناية بدلالة الآية والتوسع في توظيفها في عملية الاجتهاد والاستنباط في الأبواب المختلفة مما لم نلحظه لدى القدماء والمتأخرين من الفقهاء، بينما نجد لها حظاً وافراً لدى المعاصرين منهم.

وتحت عنوان (الجنسية المجتمعية في النظام الإسلامي) ذكرت (موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (ع)، مؤسسة دائرة المعارف الفقه الإسلامي): (المراد بالجنسية هنا الرباط القانوني السياسي الذي يربط الفرد بالدولة، وهو مصطلح قانوني جديد بدأ بالظهور في بدايات القرن التاسع عشر، مع ظهور مبدأ القوميات في أوربا؛ لذا فإنّ هذا المصطلح غير متداول في أبحاث فقهائنا، ولابدّ من الإشارة إلى أنّ هناك موقفين تجاه هذه المسألة عند المفكّرين الإسلاميين: موقف من ينكر وجود فكرة الجنسية في الإسلام ويعتبر أنّه لا جنسية في الإسلام، بل إنّ المسلم لا جنسية له؛ لأنّ الإسلام دين وجنسية، وموقف من يعتبر أنّ مضمون ومفهوم الجنسية وجد في الإسلام، وأنّ فقهاء المسلمين تناولوا موضوع وطرق اكتساب الجنسية وكذلك أسباب فقدها، لكنّهم استخدموا للدلالة عليها أسماء أخرى - كالرعية مثلًا - بالإضافة إلى تشريع طريق تحصيل الإقامة المؤقّتة أو المؤبّدة كعقد الأمان، وعقد الذمّة لغير المسلمين في دار الإسلام. ولكن الذي يبدو لمن يتتبّع الأسس التي دعا لها الإسلام ومباني الأحكام الموجودة في النظام الإسلامي يؤمن بوجود اصطلاح خاص للجنسية في النظام الإسلامي غير الجنسية المصطلح عليها في القوانين الوضعية الحديثة المبتنية على الحسّ القومي والوطني وأسس لا يقرّ بها النظام الإسلامي، فالإسلام يرفض القومية والعنصرية والقبلية وكشاخص ومميّز بين المسلمين رفضاً تامّاً، ويرى أنّ الكلّ سواسية لا فرق بين شخص وآخر إلّا بالتقوى، فالإسلام يساوي بين الجميع، ويرى أنّ المسلمين أمّة واحدة. وهذا ما تشهد له الآيات القرآنية، كقوله تعالى: [وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ]، وقوله سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ﴾. وكذلك الروايات، من قبيل ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: [إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي، ولا للأحمر على الأسود إلّابالتقوى...]. كما أنّ كلّ من في دار الإسلام - مسلماً كان أو ذمّياً - لهم حقوق وعليهم واجبات يريدها الإسلام منهم، والجميع مشتركون في هذه الحقوق والتكاليف بحدّ سواء من دون فرق بين مسلم أو ذمّي، ولأهل الذمّة ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، فالإسلام يراعى حقوق وحرّيات أهل الذمّة وغيرهم من المعاهدين، وذلك ضمن الاطر والحدود التي يرتضيها النظام الإسلامي، وطيلة التزامهم بعهدهم وعقدهم، كالإنفاق على عاجزهم من بيت المال، كما نقل أنّ أمير المؤمنين عليه السلام مرّ به شيخ مكفوف كبير يسأل ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: [ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، نصراني، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه؟! أنفقوا عليه من بيت المال]، وأنّ من قتل ذمّياً فعليه الدية، وغير ذلك من تكاليف وحقوق.وهذا يعني أنّ عضوية الفرد في المجتمع الإسلامي نابعة من علاقة الفرد بالدولة الإسلامية، وهذه العلاقة إمّا أن تحصل عن طريق اعتناق الإسلام أو عن طريق قبول العهد والميثاق لأهل الذمّة ممّن هم داخل دار الإسلام، وليس للقومية والجنس واللون أيّ دور في هذا الارتباط؛ لأنّها تبعث على الفرقة بين المسلمين وتخالف أهداف الإسلام العليا وخلقياته وتعاليمه التي يدعو إليها. نعم، لو كان الالتزام بقوانين الجنسية لأجل حفظ النظام وضبط الوضع داخل دار الإسلام ولتمييز رعايا دار الإسلام من مسلمين أو معاهدين وذمّيين عن غيرهم من أهل دار الحرب، فلا إشكال فيه - بالنحو الذي لا يستوجب التفرقة بين المسلمين وتفضيل قومية على قومية أخرى وإيجاد حالة من التعصّب القومي أو الطائفي - كما أنّه لا مانع من تغيير أتباع الدولة الإسلامية لجنسيتهم ما لم يكن على خلاف القانون اللازم الاتّباع أو يستتبع المفسدة أو يستوجب وهن الدولة الإسلامية).[٣٦]

ومؤخراً، وجدت آية (التعارف) لنفسها حضوراً أيضاً -كدليل فقهي- في مسألة تعتبر من أهم المسائل السياسية ذات العلاقة بإدارة الدولة وفق الرؤية الإسلامية، وهي مسألة (ولاية الأمر)، ففي كتابه (ولاية الأمر، دراسة فقهية مقارنة) يستشهد الفقيه المعاصر الشيخ محمد مهدي الآصفي، ص ١٣٥-161 بالآية الشريفة للدلالة على الموقف الشرعي – بحسب وجهة نظره بغض النظر عن مدى صحة الدليل وعدمه – من مسألة (وحدة محور ولاية الأمر) وبطلان التعددية في هذا الإطار. قال: (لهذه المسألة فروض غير واقعية يتحدّث عن حكمها الفقهاء، ولا نعتقد أنّ هذه الفروض قد وقعت في وقت مضى أو أنّها ستقع مستقبلًا، من قبيل: أن يتصدّى شخصان للحكم في دائرة إدارية وسياسية واحدة، كلٌّ منهما بالاستقلال عن الآخر. أو يتصدّيا في دائرة واحدة، بشرط أن يكسب كلٌّ منهما موافقة الآخر قبل إصدار الحكم واتّخاذ القرار. وأمثال ذلك من الفروض النادرة، والتي هي من سنخ الافتراضات النظرية. وعليه، أرى من المفيد أن أبتعد عن الفروض النظرية العديدة لهذه المسألة، وأدخل مباشرة في البحث عن الحالة الوحيدة التي حصلت كثيراً في التاريخ الإسلامي، ونقدّر أنّها ستحدث فيما بعد أيضاً، وهي: أن يتصدّى شخصان أو أكثر للحكم في دوائر سياسية وإدارية عديدة من العالم الإسلامي، كلٌّ منهم يتصدّى للحكم بصورة مستقلّة عن الآخر. وأول من دعى إلى هذا النهج من التعددّية في الحكم: الأنصار في سقيفة بني ساعدة، عندما فشل مرشّحهم سعد بن عبادة في إحراز الخلافة يومئذ، فقال الأنصار: [منّا أمير ومنكم أمير] وطلبوا أن يكون لهم أمير وللمهاجرين أمير، فقال عمر: [سيفان في غمد واحد لا يصطلحان]. وروى الطبري في حوادث سنة 40: أنّ معاوية طلب من الإمام عليه السلام أن يكون له الشام وللإمام العراق، فقبل الإمام ذلك. ونحن لا ننفي هذا الطلب من معاوية، لكننا ننفي - بشكل جازم - أن يكون الإمام عليه السلام قد وافق معاوية على ذلك. وقد اتّفق المؤرّخون على أنّ الإمام عليه السلام كان قد أعلن قبيل شهادته عزمه على قتال معاوية، وأنّه يخرج بمن معه من أهل بيته وأصحابه الأقربين إلى معاوية حتى لو لم يخرج معه أحد غيرهم، إلّا أنّ عبد الرحمان بن ملجم المرادي الخارجي - لعنه اللَّه - لم يمهل الإمام عليه السلام وعاجله بالشهادة. ومهما يكن من أمر، فإنّ معاوية كان أوّل من طرح هذا المشروع السياسي... وقد حصل شيء من هذا القبيل في بدايات الحكم العباسي، حيث كان يحكم فيها بقايا بني أميّة في الأندلس، وبنو العباس يحكمون العراق ومناطق واسعة من العالم الإسلامي، ونقدّر أنّ المستقبل السياسي للعالم الإسلامي يشهد أحداثاً من هذا القبيل. وعليه، فإنّ دراسة هذه المسألة - بعد عودة الإسلام إلى السيادة والحكم وإلى الساحة السياسية - حاجة حقيقية، وعلينا أن نتناول هذه المسألة بصورة جدّية، حتى نصل إلى نتائج علمية يمكن الاعتماد عليها).[٣٧]

ثم أضاف تحت عنوان (الحكم الأوّلي- الأدلّة على نفي مشروعية التعدّدية) فقال: (نذكر في هذا البحث طائفة من الأدلّة على عدم مشروعية التعدّدية في الإمرة والولاية في العالم الإسلامي. ولست أدّعي أنّ هذه المجموعة من الأدلّة لا يمكن التشكيك في بعضها أو في جملة منها، إلّا أنّي أدّعي عدم إمكان التشكيك في مجموع هذه الأدلّة. وفيما يلي أحاول أن أستعرض هذه الأدلّة الواحد بعد الآخر، وأحاول أن أتجنّب استخدام المصطلحات الفقهية المعقّدة كلّما وجدت إلى ذلك سبيلًا؛ إلّا أنّ اضطرّ إلى ذلك، فأوضّحه بقدر ما يسعني من التوضيح. وسنتناول البحث أوّلًا حسب ما تقتضيه الأدلّة الاجتهادية، وأخرى حسب ما تقتضيه الأدلّة الفقاهتية).[٣٨] المراد من الأدلة الاجتهادية: الكتاب، السنة، الإجماع، والعقل، ومن الأدلة الفقاهتية: الاستصحاب، البراءة، الاحتياط، والتخيير.

وبعد استعراض دليل الروايات ودليل الاحتجاج بسيرة أمير المؤمنين علي عليه السلام، قال: (الدليل الثالث: وحدة الأمّة يشير القرآن الكريم إلى وحدة الامّة المسلمة في التاريخ وعلى وجه الأرض في موضعين: الأوّل: في سورة الأنبياء، وهو قوله تعالى: [إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ]. والثاني: في سورة المؤمنون، يقول تعالى فيها: ﴿وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾. والوحدة من أهم أسس الدعوة و السياسة في القرآن. أمّا عن الدعوة ، فإنّ اللَّه تعالى أرسل رسولًا للناس جميعاً من دون استثناء. يقول تعالى: ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾، و ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً﴾، و ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾، و ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾. ومعنى ذلك أنّ هذا الدين لعامّة البشريّة، وليس ديناً قوميّاً أو إقليميّاً، هذا أوّلًا. وثانياً: الوحدة السياسية للأمة، وإزالة الحواجز القوميّة والإقليميّة التي تفرّق هذه الأمّة. وقد تلونا عليكم آيتي الأنبياء والمؤمنون من قبل، وهما صريحتان واضحتان في الوحدة السياسية للأمّة. ولا نتصوّر معنىً لوحدة الأمّة غير الوحدة السياسية. فإنّ وحدة العقيدة مفروضة في الأمّة، ومن دونها لا تكون الأمة أمّة. فلابدّ أن تكون الوحدة في شيء آخر غير العقيدة؛ وإلّا فلا تكون هي أمّتنا والقرآن يقول: [وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ]! ولا معنى للوحدة إذا لم تكن في العقيدة، إلّا أن تكون في البنية السياسيّة للأمّة، فيكون معنى وحدة الأمّة هي وحدتها في الكيان السياسي، ووحدة الكيان السياسي بوحدة الولاية والسيادة لا محالة. والمقياس الذي وضعه اللَّه تعالى للتقييم في هذه الأمّة هو التقوى، وما اختلاف الناس في الأقوام والعشائر والأقاليم إلّا للتعارف والتلاقح فيما بينهم، وليس للافتراق والتباعد: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ﴾. وقد ورد في القرآن والحديث شواهد كثيرة على هذه الحقيقة في دين اللَّه. ففي الكتاب الذي كتبه أمير المؤمنين عليه السلام لواليه على مصر مالك الأشتر رحمه الله يوصيه بالناس ويقول له في ذلك: [ولا تكن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلَهم؛ فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق]. وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم للناس في خطابه التاريخي في العودة من حجّة الوداع: [لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض، إلّا بالتقوى]. وفي رواية أخرى: [أيّها الناس، إنّ ربكم واحد، وأباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب إنّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم، ليس لعربي على عجمي فضل إلّا بالتقوى، ألا فليبلّغ الشاهد منكم الغائب]. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: [ألا إنّ العربية ليست بأب والد، ولكنّها لسان ناطق، فمن قصر به عمله لم يبلغ به حسَبُه]. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: [ألا إنّ خير عباد اللَّه أتقاه]. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: [إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي ولا للأحمر على الأسود إلّا بالتقوى]. وأيضاً عنه صلى الله عليه وآله وسلم: [ليدعنّ رجال فخرهم بأقوام؛ إنّما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكوننّ أهون على اللَّه من الجعْلان التي تدفع بأنفها النتن]. وبالتأمّل فيما ذكرناه من الآيات والروايات - وهو غيض من فيض - نصل إلى نتيجة قطعية لا نشكّ فيها، وهي: إنّ الإسلام يرفض التفريق والتفاصيل فيما بين الناس، ويعمل دائماً لإزالة الفواصل والحدود الطبقية والقوميّة والإقليمية، ويجعل الناس امّة واحدة على الصراط المستقيم إلى اللَّه. ومع وضوح هذا الاتجاه في دين اللَّه، كيف يمكن أن يقرّ الإسلام التعدّدية في النظام السياسي والسيادة والدولة والولاية في الامّة الواحدة؟! ونحن إذا راجعنا التاريخ الإسلامي، نجد أنّ التعدّدية في النظام السياسي والولاية والسيادة هي من أكثر أسباب الاختلاف والصراع والتقاطع فيما بين المسلمين. والمنافسة والصراع على السلطة من أكثر أسباب القتال والحروب في تاريخ الإسلام وتاريخ البشرية. والدين الذي يعتمد في أسس تعاليمه: [إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً]، و [تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ]، لا يمكن أن يقبل التعدّدية في السيادة والنظام السياسي).[٣٩]

ومع بروز مسألة (ولاية الفقيه) كواحدة من المسائل السياسية الارتكازية في إدارة الدولة الإسلامية الأكثر نقاشاً وبحثاً في الوسط الفقهي الشيعي الإمامي، وذلك بلحاظ قيام نظام الجمهورية الإسلامية في إيران وارتكازه على نظرية ولاية الفقيه، فقد صار لآية (التعارف) نصيب كدليل من الأدلة المعتمد عليها في هذه المسألة.

وفي ذلك كتب الفقيه الإمامي المعاصر السيد كاظم الحائري في بحثه (الأساس الفقهي لولاية الفقيه - ولاية الأمر في عصر الغيبة)، وتحت عنوان: (المؤشّرات العامّة لاتجاه العناصر المتحرّكة): (الثاني من المؤشرات العامّة: القيم الاجتماعية التي أكّد الإسلام على الاهتمام بها، وكذلك مفاهيم معيّنة وتفسيرات محدّدة لظواهر اجتماعية أو اقتصادية وردت في النصوص. أما القيم فكالمساواة والأخوّة والعدالة والقسط ونحو ذلك. قال قدّس سرّه) أي أستاذه السيد الشهيد محمد باقر الصدر ([وهذه القيم تشكّل أساساً لاستيحاء صيغ تشريعية متطوّرة ومتحركة وفقا للمستجدات والمتغيرات تكفل تحقيق تلك القيم وفقاً لصلاحيات الحاكم الشرعي في ملء منطقة الفراغ قال اللّه سبحانه وتعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ﴾ْ، ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى﴾، ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾، ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾).[٤٠]

المسائل الطبية – الاستنساخ

وأما على مستوى الاستنباط في المسائل ذات البعد الطبي والعلمي فنجد تحت عنوان (مسائل حديثة في الطب – الاستنساخ) للفقيه الإمامي ميرزا جواد التبريزي (ت1427هـ/2006م) من كتاب صراط النجاة، أن الآية ساعدت في تقديم رؤيته حول مدى مشروعية الاستنساخ.[٤١]

وبغض النظر عن المناقشة التي سنذكرها لاحقاً حول صحة توظيف الآية في هذا المقام أو عدم ذلك، إلا أنه يبقى أن نفس الالتفات إليها لتكون واحدة من أدلة المقام يرشد إلى ارتفاع حظها من الأهمية لدى الفقهاء المعاصرين في اجتهاداتهم، لاسيما في مسألة قد تبدو -للوهلة الأولى- بعيدة من حيث طبيعتها ودائرتها عن جوّ الآية.

وما سيأتي في الاستفتاء وإن كان مجرد إشارة إلى الاستدلال بالآية، من دون الدخول في التفاصيل وإيراد الإشكالات والرد عليها كما هو ديدن الفقهاء في بحوثهم، إلا أنه يكفينا لبيان ما أردنا بيانه: (س 1169: إذ العالم في الأسبوع الماضي [تاريخ الاستفتاء 20 ذي القعدة 1417ه‍] شهد نقطة تحول كبيرة في تاريخ البشرية، قلبت مفاهيم علم الأحياء [البيولوجيا] وقوانين الطبيعة رأساً على عقب، حيث توصّل العلماء إلى استنساخ كائن حي من خلية جسدية واحدة، ينتج عنها كائن آخر، طبق الأصل عن الأول، والاستنساخ هو عبارة عن أخذ خلية جسدية من كائن حي تحتوي على كافة المعلومات الوراثية، وزرعها في بويضة مفرغة من مورثاتها، ليأتي الجنين مطابقاً تماماً في كل شيء للأصل وهو الكائن الأول الذي أخذت منه الخلية... أقول: إذا كان لا بد للعلم من التقدم، ولا بد للدين من أن يقول كلمته في كل مورد من الموارد العلمية لقدرة الدين على مواجهة ومسايرة الحياة، فإن هذه العملية في النعجة ممكنة في الإنسان، فإذا تمكن العلم من أخذ خلية من الإنسان، وعزل نواتها التي تحمل المعلومات الوراثية، وزرع تلك النواة في بويضة امرأة في المختبرات، ثم وضعت في رحم امرأة، فتولد جنين طبق الأصل عن صاحب الخلية فنسأل عن عدة أمور:

  1. هل يوجد حرمة شرعية لهذا العمل، يرجى توضيح دليله مفصلاً؟
  2. وعلى كل تقدير، فهل هذا الكائن الحي ولد شرعي؟
  3. من هو أبوه، ومن هي أمه؟
  4. هل في هذا العمل خطر على البشرية من الناحية الشرعية؟
  5. هل ترشدون العلماء إلى التوقف عن هذه العمليات، أم ترشدونهم للاستمرار، لتعرف عظمة الاسلام والقرآن، الذي أخبر عن خلق الحي من نفس الحي [وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا] بدون بويضة كما هو الظاهر؟

ج: لا يجوز ذلك العمل، لأن التمايز والاختلاف بين أبناء البشر ضرورة للمجتمعات الإنسانية، اقتضتها حكمة الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾، وقال: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ وذلك كله لتوقف النظام العام عليه ، بينما الاستنساخ البشري - إضافة إلى استلزامه محرمات أخرى كمباشرة غير المماثل، والنظر إلى العورة - يوجب اختلال النظام، وحصول الهرج والفوضى، ففي النكاح يختلط الأمر بين الزوجة والأجنبية، وبين المحرم وغير المحرم، وفي المعاملات كافة، لا يمكن تميز طرفيها، فلا يعرف الموجب من القابل، وفي القضاء والشهادات، لا يمكن تميز المدعي من المدعى عليه، وهما عن الشهود، والملاك عن غير الملاك، وهكذا في المدارس، والمشاغل، والإدارات، والامتحانات، حيث يسهل إرسال [النسخ] بدل الأصل ، [أو النسخة الأخرى] فتذهب الحقوق، وفي الأنساب والموارث حيث لا يتميز الولد عن الأجنبي، إضافة إلى كون [النسخة] لا يُعدّ ولداً شرعياً، فتضيع الأنساب والمواريث، وهذا غيض من فيض، وعليه فقس سائر الأمور، حيث لا يبقى نظام ولا مجتمع، والله العالم).

وفي نفس هذا الاتجاه، وتحت عنوان (الاستنساخ البشري – دراسة فقهية حقوقية) ذكر الباحث المعاصر الشيخ رعد الحجّاج تحت عنوان (نظرية تحريم الاستنساخ)، مجموعة من الأدلّة، وردّها، ومن بينها: (منافاة الاستنساخ للتنوّع وإفضائه إلى اختلال النظام: إنّ الأنظمة الاجتماعية في العالم قائمة على تحمّل كل إنسانٍ مسؤوليته عن أعماله، واستحقاقه لحقوقه التي يحفظها له المجتمع، وذلك بعد أن تميّز بشكله الخاص، وتفرّد في مظهره الجسدي، فأخذ هويته التي يعرف بها في المجتمع. ويمكن القول بعبارةٍ أخرى: إنّ المجتمع مبني على الطبقية، ففيه الغني وفيه الفقير، وفيه المريض وفيه السليم، وفيه الذكي وفيه الغبي، ولم يستطع أحد حتى الآن أن يلغي كل هذه الفوارق؛ فلقد ظهرت أفكار متعدّدة منذ جمهورية إفلاطون إلى الشيوعية تريد أن تجعل كل الناس متساوين سعداء، ولكن ماذا حصل؟ الشيوعية وعدت أن توصل أتباعها إلى الفردوس الأرضي، وإلى سعادةٍ ليس بعدها سعادة، لكن ماذا حصل بعد عقودٍ من ممارسة هذه الشيوعية؟ لقد أفلست الشيوعية وتبدّد أنصارها، وراح كلّ واحد منهم يسعى بقدر طاقته ومواهبه إلى إسعاد ذاته، وتأمين ما يستطيع تأمينه من خيرات، ولو على حساب سعادة الآخرين. لقد أراد الإنسان المعاصر أن ينسى أو يتناسى أنّ الاختلاف في المواهب والقدرات البشرية هو الذي يجعل المجتمع متكاملاً، إنّ المجتمع صورة للإنسان الفرد، فكما أنّ الإنسان الفرد يحتاج إلى كل عضوٍ من أعضائه مهما كان صغيراً أو ضعيفاً كذلك المجتمع، فلو أنّ الاستنساخ أخذ مجراه في البشر ووجد من الإنسان الواحد مئات من النسخ المتطابقة، فإنّ هذا يجعل من العسير تحديد محلّ الحقوق والالتزامات عن الأعمال البشرية. إضافةً إلى المخالفة الصريحة لعدد من الآيات القرآنية التي تؤكّد ضرورة وجود الاختلاف بين أبناء البشر، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118 – 119]، وقال عزّ من قائل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ [الروم: 22]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13]. وليس هذا التنوّع في الخلق الإلهي خاصاً بالإنسان، بل كان عاماً في كل المخلوقات، وسمةً من سمات هذا الخلق وإعجازاً، قال تعالى: ﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الرعد: 4]. فعلى هذا، يكون التنوّع نعمةً من نعم الله تعالى امتنّ بها على عباده، وهو هدفٌ من أهداف الخلق وسنّة الحياة، ومن شأنه إثراؤها، وهذا ما عرفته البشرية منذ نشأتها، والاستنساخ يأتي لنا بنسخٍ مكررة، في الوقت الذي أراد الخالق للناس أن يكونوا مختلفين، وأن يكون لكلّ فرد شخصيته المستقلّة؛ ولتأكيد هذا الاختلاف بين البشر أعطانا الله رمزاً يؤكّد ذلك يتمثل في عدم اتفاق بصمة إبهام فردين في هذا الوجود، وقد أشار الباري جلّ وعلا إلى هذه الظاهرة وقال: ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ [القيامة: 4]).[٤٢]

ثم استشهد الباحث بكلمات ميرزا جواد التبريزي ثم قال: (لقد قام عددٌ من العلماء بتحريم الاستنساخ لأجل هذا الإشكال، فهل يعدّ الإشكال المذكور عائقاً صعباً لا يمكن تجاوزه في هذا المجال، بحيث يكون ملازماً لعملية الاستنساخ ومفسداً لها من خلال إيجاده الفوضى والهرج والمرج واختلال النظام؟) ثم ردّ الإشكال بثلاثة ردود.

وتحت رقم 16 طرح الباحث إشكالاً آخر أورده بعض الفقهاء على الاستنساخ، وعنوانه (الاستنساخ وتفكّك العلاقات القانونية) قال فيه: (لا يقوم الاستنساخ على علاقاتٍ أسريةٍ ونسب محدّد، حيث لابد من سلسلةٍ تكون المجتمع، وهي عبارة عن أنّ الفرد يشكّل اللبنة الرئيسة لتكوين الأسرة، وهي بدورها تشكّل العامل الأساس لتكوين العشيرة والقبيلة، والعشيرة تعتبر وحدة بناء المجتمع، قال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا] [الحجرات: 13]؛ فإذا تحطّمت عوامل بناء المجتمع ابتداءً من الفرد ومروراً بالأسرة والعشيرة سوف يؤدي إلى تقوّض وتلاشي المجتمع برمّته. وبناءً على هذا ستنجم عن الاستنساخ مشا﴾كل قانونية واجتماعية وفقهية كثيرة، تنشأ من علاقة الفرد المستنسخ بصاحب الخلية وصاحبة البويضة بصورة خاصّة، وبالمجتمع بصورةٍ عامة، ويمكن القول - بعبارةٍ أخرى - سيؤدي الاستنساخ إلى اختلاط الأنساب وضياعها وانهدام علاقات الأبوّة والأمومة والأخوة والعمومة والخؤولة وهلمّ جراً، وما يستتبع ذلك من مشاكل في النكاح والإرث والنفقة وغيرها. والجواب: لقد درسنا هذا الموضوع بالتفصيل في مقالةٍ أخرى، وأثبتنا أنّ العلاقات بين النسيخ ومن حوله قائمة وموجودة، فهو كالفرد المخلوق بواسطة التلقيح الصناعي، وعليه لا يرد هذا الإشكال أيضاً).[٤٣]

فقه المرأة

عنوان (فقه المرأة) من العناوين الحديثة نسبياً، وإن ظهرت من قبلُ بعض المؤلفات المحدودة حول (أحكام النساء)، حيث أوليت المسائل الخاصة بالمرأة اهتماماً أكبر منذ عدة عقود، لا سيما بلحاظ التغيرات الحاصلة في نظرة المجتمعات الإسلامية إليها، تبعاً للتبدلات الحاصلة على المستوى العالمي عموماً، وطرْح ما يُعرف بعنوان (حقوق المرأة) وما يتفرّع عن ذلك من مسائل عديدة ذات أبعاد سياسية واجتماعية وتعليمية.

وجاءت آية (التعارف) لتكون واحدة من الركائز الاستدلالية في تقديم الأسس والمبادئ التي يمكن الاعتماد عليها في استنباط الأحكام الشرعية الخاصة بفقه المرأة، وإلى هذا الأمر أشارت (موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (ع)، مؤسسة دائرة المعارف الفقه الإسلامي) تحت عنوان (امرأة - مكانة المرأة في الإسلام)، حيث استشهدت بالآية الشريفة كأوّل مرجع في الباب، قالت: (فمن جهة الهوية، بيّن الشارع أنّ المرأة كالرجل إنسان، وأنّ كلّ إنسان - ذكراً أو أنثى - يشترك في مادّته وعنصره إنسانان ذكر وأنثى، فالرجل والمرأة جميعاً من نوع واحد من غير فرق في الأصل والسنخ ، ولا فضل لأحد على أحد إلّابالتقوى والعمل الصالح. ثمّ بيّن الشارع أنّ عمل كلّ واحد من هذين الصنفين غير مضيّع عند اللَّه لا يبطل في نفسه، ولا يعدوه إلى غيره، قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ﴾، وقال تعالى: ﴿أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾، وإذا كان لكلّ منهما ما عمل ولا كرامة إلّابالتقوى - ومن التقوى الأخلاق الفاضلة كالإيمان بدرجاته والعلم النافع والعقل الرزين والخلق الحسن - فالمرأة المؤمنة بدرجات عالية، أو المليئة علماً، أو الرزينة عقلًا، أو الحسنة خلقاً أكرم ذاتاً وأسمى درجة ممّن لا يعادلها في ذلك من الرجال في الإسلام. قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾).[٤٤]

حقوق الإنسان

إذا كانت مسألة حقوق الإنسان قديمة ضاربة بجذورها في التاريخ، وعلى ذلك شواهد تاريخية عديدة، إلا أنها أخذت خلال القرون الثلاثة الأخيرة بُعداً مختلفاً، وتميّزت بشكل واضح من حيث العنوان والمضمون، وصارت واحدة من أهم القضايا على المستوى العالمي وأكثرها حساسية، ودفعت بجهات عالمية من قبيل الأمم المتحدة إلى أن تخصص ميثاقاً لذلك، وأن تظهر على المستوى العالمي منظمات أهلية خاصة تُعنى بها، ومن خلالها يُقيَّم أداء الحكومات... إلخ.

وعلى الرغم من أن قدراً واضحاً من المسائل الفقهية تستهدف في الأساس حماية الحقوق بين الناس وإقامة العدل، ورفض الظلم والجور، إلا أن هناك تفاوتاً كبيراً بين مستوى الاهتمام القرآني بحقوق الإنسان من جهة، وبين مستوى اهتمام الفقهاء بذلك على مدى قرون مضت من جهة أخرى، ولا شك أن للبيئة الحاكمة آنذاك والواقع السائد فيه والمفاهيم الدارجة حول العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وحقوق الإنسان المختلفة دوراً محورياً في تحقق هذا التباعد الغريب، والفقيه -على كل حال- هو ابن بيئته ومجتمعه.

ومع التطور الكبير للتشريعات والمواثيق الخاصة بحقوق الإنسان على المستوى العالمي، إلا أن النتاج الفقهي المعاصر ما زال قاصراً عن مواكبة ذلك، ولو على مستوى تخصيص باب من أبواب الرسالة العملية يُعنى بهذه المسائل، أو دراسات مكثّفة على مستوى الفضلاء من طلاب الجامعات والحوزات الدينية.

ولكن على أي حال، عندما بدأ التنظير لهذه المسألة في الدائرة الإسلامية، وعلى المستوى الفقهي على وجه الخصوص، فإن آية (التعارف) جاءت على رأس قائمة الأدلة المعتمد عليها في تقديم الأسس والقواعد والمبادئ التي ترسم معالم الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان.

جاء في ج ٢٧، من (موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (ع)، مؤسسة دائرة المعارف الفقه الإسلامي)، تحت عنوان (العدل - تساوي الناس في الحقوق والواجبات الاجتماعية): (أسبغ الإسلام نعمة التساوي على الإنسانية بصورة لم يسبق لها نظير في تاريخ الشعوب والأديان على اختلافها وتعدّدها، فقد أعلن المساواة والعدل ما بين الأفراد والجماعات وما بين الأجناس، فلا فضل لأبيض على أسود، ولا حاكم على محكوم، فالناس في شريعة الإسلام سواسية كأسنان المشط لا فضل لبعضهم على بعض إلّا بالتقوى. وإليك بعض مظاهر المساواة التي منحها الإسلام للإنسان، وهي: قرّر الإسلام المساواة الاجتماعية بين المسلمين جميعاً، وفرضها عليهم. قال اللَّه سبحانه وتعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ﴾. وقال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: [الناس بنو آدم وآدم خلق من تراب، لينتهينّ أقوام عن فخرهم بآبائهم في الجاهلية أو ليكوننّ أهون على اللَّه سبحانه من الجعلان]. وقال علي بن الحسين عليه السلام: [... خلق اللَّه الجنّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشيّاً]).[٤٥]

وقدّم د. جابر عبد الهادي سالم الشافعي؛ أستاذ الشريعة الإسلامية المساعد في كلية الحقوق- جامعة الإسكندرية في كتابه (تأصيل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من منظور مقاصد الشريعة الإسلامية) بياناً لأهمية هذه الآية في الدراسة الفقهية في مجال حقوق الإنسان من المنظور الإسلامي، فقال ضمن عرضه لكتابه وأسباب اختيار هذا الموضوع وأهميته: (يعد موضوع حقوق الإنسان من الأمور الجديرة بالاعتبار والاهتمام في هذه الآونة، نظرًا لما يتعرض له الإنسان في هذه الآونة من انتهاكات لحقوقهن سواء في أوقات السلم أو في أوقات الحرب. عندما يأتي الحديث عن موقف الإسلام بالنسبة لهذا الموضوع، فإن الباحث يقف أمام ما يقرره الإسلام من أحكام ومبادئ وقواعد ناصعة ومحكمة وغنية في هذا المجال؛ لأنها اهتمت بالإنسان وغيره، وكرمته في أوقات السلم والحرب والمعاهدة على السواء، ليؤكد أنه لا يمكن أن يوصف الذين آمنوا بها إلا بالرحمة والفضيلة والعدالة والإنسانية).[٤٦]

ثم عرض السبب الثاني معتمداً على آية التعارف كدليل في هذا المجال فقال: (إظهار الارتباط الواضح بين ما جاء به الإسلام في هذا الخصوص والمواثيق الدولية، للتأكيد على أنّ ما جاء به الإسلام في هذا الخصوص والمواثيق الدولية، للتأكيد على أنّ ما جاء به الإسلام من حقوق ومبادئ وقيم إنسانية وحضارية، قد تعارفت عليه الشعوب باختلاف ألوانها وأجناسها ولغاتها ودينها وقبائلها، بالتوقيع والتصديق على المواثيق والاتفاقيات الولية التي احتوت على بعض هذه الحقوق، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13]، وللتأكيد على أن هذه الأحكام صالحة للتطبيق في هذا الزمان).[٤٧]

الاقتصاد

د. عطية السيد فياض أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر في محاضرته بعنوان (الاقتصاد الإسلامي وإنسانية الإنسان) ذكر أن: (إن الشرائع التى شرعها الله تعالى فى كل دين إنما هى لحظّ الإنسان وحمايته وحفظه عما يضره وجلب كل منفعة ومصلحة لهؤلاء تشذ عن ذلك شريعة أو دين من الأديان، وحيث إن الله تعالى جعل شريعة الإسلام خاتمة الشرائع ووارثة لما سبقها من شرائع فقد جاءت شاملة لكل خير يحقق كرامة هذا الإنسان وخيريته وإنسانيته على الوجه الذى أراده خالق ورب هذا الإنسان، وهذا للناس كل الناس دون تفرقة بسبب الجنس أو اللون أو العرق. إن دولة الإسلام الأولى فى المدينة المنورة عبّرت خير تعبير عن هذه المبادئ؛ فلا ازدراء ولا تحقير ولا إهانة ولا إقصاء لأحد ولا عنصرية في التعامل ولا تمييز بل تعايش وتعارف وتوافق تطبيقًا عمليًّا لقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ ولقوله تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، ومن المعلوم أن من بين العالمين من هو غير مسلم، ومع ذلك فالإسلام رحمة له وهو على دينه.... إن دراستنا لدور الاقتصاد الإسلامي فى تحقيق إنسانية الإنسان التي تعد خصيصة من خصائصه تعني إبراز دور الاقتصاد الإسلامي فى رعاية الإنسان وتكريمه بالإضافة إلى كون هذه الرعاية والكرامة مكفولة للجميع دون تفرقة، وهذا من شأنه أن يؤكد للكافة أن الإسلام من حيث كفالة الحق فى الحياة الكريمة لا يعرف التفرقة ولا التمييز بين الناس لا على أساس الدين ولا على الجنس ولا اللغة ولا العرق ولا غيره من ألوان التفرقة).[٤٨]

إن كل ما سبق ليؤكّد بكل وضوح أهمية ومحورية آية (التعارف) في تقديم رؤى فقهية اجتهادية حول المسائل الابتلائية ذات البعد السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي وحتى الطبي، لاسيما المعاصرة منها، وهو ما بدأ يأخذ مداه في العقود القليلة الماضية، ولكنه ما زال بحاجة إلى مزيد من التأصيل والتقعيد والامتداد الفقهي في تلك المسائل، لاسيما بعد أن تبيّن بوضوح أن هذه الآية الشريفة هي واحدة من أهم النصوص الإسلامية التي تقدّم المبادئ والأسس والركائز والأطر العامة للاستنباط فيها.

التعارف كقاعدة فقهية

عرّف البعض القواعد الفقهية بأنها: (أحكام كلية شرعية تقع في طريق تشخيص وظيفة المكلف في مقام العمل بنحو التطبيق)، أو (أصل فقهي كلي يتضمن أحكاماً تشريعية عامة من أبواب متعددة في القضايا التي تدخل تحت موضوعه).

وللقواعد الفقهية أهمية غير خافية، كونها تيسّر على الفقيه الوصول إلى بعض الأحكام الشرعية الخاصة بالأبواب المتنوعة، وتعينه في سد الثغرات التي لا تغطيها النصوص المباشرة التي يحتاج إليها لعلاج تلك الحالة الفردية أحياناً، وتقدِّم له قراءة أفضل للمتفرقات الفقهية في الباب الواحد، وبالتالي توسّع نظراته الفقهية وتعطيها نوعاً من الشمولية، وقد تقرّبه من فهم غاياتها، وقد قال أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي (ت 684هـ/1285م) في كتابه (أنوار البروق في أنواء الفروق): (إن هذه القواعد الفقهية كثيرة العدد عظيمة المدد، مشتملة على أسرار الشرع وحكمه، وعظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف).[٤٩]

وهي تقدِّم خدمة لغير الفقهاء أيضاً، وذلك من خلال تمكنيهم من إعمال القاعدة في محل الابتلاء والتوصّل إلى حل المسألة الشرعية من خلالها دون الرجوع إلى صاحب الاختصاص. وهذا ما نلاحظه بوضوح في ما رواه محمد بن إدريس الحلي (598هـ/1202م) في آخر كتابه السرائر نقلاً من كتاب هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إنما علينا أن نُلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا)، ونقل من كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الرضا عليه السلام قال: (علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع).[٥٠]

فقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) قاعدة فقهية مشهورة عند المسلمين، ويستفاد منها أن كل حكم يتسبب من ثبوته ضرر على المكلف فهو مرفوع وغير ثابت في الشريعة. فالتكليف ينتقل من الوضوء إلى التيمم عندما يترتب الضرر على استعمال الماء لسبب صحي مثلاً، ويجوز الإفطار في نهار شهر رمضان بسبب ترتب الضرر في حال الصيام. ومن جهة أخرى لا يجوز إيقاع الضرر بالآخرين ولا مقابلة الضرر بالضرر مثله والمقصود من ذلك رفع الضرر والمضرة.

وقد نص الفقهاء على أن القرآن الكريم قدّم مجموعة من القواعد الفقهية، كما ساهمت الأحاديث الشريفة في تقديمها أيضاً، ومثال ذلك في قاعدة (لا ضرر ولا ضرار):

  1. قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة:233]، حيث نهى الله سبحانه عن إضرار الأم بولدها بترك إرضاعه غيظاً على أبيه لبعض الجهات، كما أنه نهى عن إضرار الأب بولده بمنع رزقهن وكسوتهن بالمعروف مدة الرضاع، مما يؤدي إلى امتناعهن عن الإرضاع، فيتضرر بذلك الولد.
  2. قوله تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾ [الطلاق:6]، حيث نهى سبحانه عن الإضرار والتضييق على المطلقات في السكنى والنفقة في أيام عدتهن.
  3. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:231]، حيث نهى الله سبحانه عن الرجوع إلى المطلقات الرجعية لا لرغبة فيهن، بل لمجرد الإضرار بهن، من قبيل إطالة مدة بقائها على حال الزوجية حتى تلجأ إلى فكاك نفسها ببذل شيء من المال أو التنازل عن مؤخر صداقها من خلال الخلع.
  4. قوله تعالى: ﴿وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ﴾ [البقرة:282]، حيث نهى الله سبحانه عن إضرار كاتب الدَّين والشاهد عليه أو الشاهد على البيع، وذلك من خلال كتابة ما لم يمل عليه، أو بأن يشهد بما لم يستشهده عليه. وقد فهم بعض المفسرين من الآية أنها في وارد النهي عن الإضرار بالكُتّاب والشهداء إذا أدّوا حق الكتابة والشهادة.

وأما الأحاديث، فمن قبيل ما جاء في رواية محمد بن يعقوب الكليني (329هـ/941 م) في الكافي (عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن عبد الله بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: إنّ سمرة بن جندب كان له عذق في الحائط لرجل من الأنصار, وكان منزل الأنصاري بباب البستان، وكان يمر به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فلما تأبّى جاء الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشكا إليه وخبّره الخبر: فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخبّرة بقول الأنصاري وما شكا، وقال: إن أردت الدخول فاستأذن. فأبى. فلما ساومه حتى بلغ به الثمن ما شاء الله، فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق يمدُّ لك في الجنة. فأبى أن يقبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأنصاري: اذهب وارم به إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار).[٥١]

ومن مجموع النصوص السابقة قدّم الفقهاء قاعدة مهمة جداً وعملية في أبوبا مختلفة هي قاعدة (لا ضرر ولا ضرار).

ومثل قاعدة (لا ضرر ولا ضرار)، هناك قاعدة (لا حرج / نفي الحرج)، بناء على الآية الشريفة: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج:78]، وقاعدة اللزوم التي نص عليها بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة:1]، وقاعدة (السلطنة) بمعنى الملك والتحكم والتمكن من التصرف، وذلك من خلال قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء:29]، وآيات أخرى وأحاديث.

والفارق بين القواعد الفقهيّة والقواعد الخاصة بأصول الفقه (أو القواعد الأصوليّة) وذلك من قبيل حجّية خبر الثقة، وأصل البراءة وأصل الاحتياط والاستصحاب وما إلى ذلك -مع أنّ كلّاً منهما يقعان في طريق الوصول إلى الحكم الشرعي- أنّ استفادة الحكم الشرعي من القاعدة الأصوليّة تكون من باب الاستنباط، أمّا استفادة الحكم الشرعي من القاعدة الفقهيّة فتكون من باب التطبيق، ولذلك لا يستخدم القاعدة الأصوليّة -عادةً- إلّا الفقيه المتمكّن من الاستنباط، أمّا القاعدة الفقهيّة فيمكن أن تُعطى للمقلِّد مباشرة ليطبّقها مباشرة على مواضع الابتلاء والحاجة، كما في قاعدة لا ضرر ولا ضرار، وقاعدة نفي الحرج، وقاعدة السلطنة، وأمثال ذلك.

ويأتي في المقام سؤال: هل القواعد الفقهية توقيفية كأن تكون محددة ومجموعة في حديث صحيح مثلاً ولا يُسمح بتجاوزها والإضافة عليها؟

الجواب: كلا، القواعد الفقهية ليست توقيفية، ويمكن أن يُضاف عليها متى ما قام الدليل عند أهل الاختصاص وبعد دراسة وتمحيص على كونها تمثّل قاعدةً في المقام. قال الشيخ عباس آل كاشف الغطاء (معاصر) في كتابه: (المنتخب من القواعد الفقهية): (إن القاعدة الفقهية ترجع في حقيقتها إلى حكم شرعي عام له سعة وشمولية لمجموعة مسائل فقهية هي بمنزلة المصاديق له، فيتضح أن القواعد الفقهية لا تنحصر في عدد معين بل يمكن من خلال مراجعة الكتب الفقهية الحصول على قواعد فقهية كثيرة من قبيل قاعدة [يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب] أو [البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر] أو [من حاز ملَك] أو [كل شرط نافذ إلاّ ما خالف الكتاب العزيز ومقتضى العقد] أو [ما على المحسنين من سبيل]).

لذا فإن عدم عدّ (التعارف / لتعارفوا) المشار إليه في الآية مورد البحث قاعدة مِن قَبلُ لا يعني عدم إمكانية أن تصبح كذلك إذا قام الدليل عند بعض الفقهاء على صلاحيتها لذلك، خاصة بعد التطور الذي تتبعناه في توظيف الآية الشريفة عبر الزمن، حيث يمكن لها أن تمثّل قاعدة فقهية تساهم في تحديد الموقف من:

  1. مدى مشروعية شن الحرب ابتداء، بالإضافة إلى ما نستفيده من قوله تعالى بهذا الشأن: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة:190].
  2. علاقات الدولة الإسلامية بغيرها على الصعيد السياسي والاقتصادي والأمني والإعلامي والثقافي والعلمي وغير ذلك.
  3. حقوق الإنسان بغض النظر عن انتماء الفرد الديني أو الوطني أو القومي أو العرقي أو القبلي أو غير ذلك من العناوين، سواء في العلاقات البينية، أو في علاقة الحاكم بالمحكوم، أو الدولة بالمواطنين.
  4. بعض المسائل الاجتماعية المتعلقة بأحكام النكاح، من قبيل مسألة الكفاءة وغيرها.
  5. قضايا العولمة.
  6. الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب.

بل لربما يقال بأن الآية تمتلك من المقوّمات ما يجعلها من المباني الفقهية التي لربما تطغى – بحسب السيد ضياء مرتضوي أستاذُ بحث الخارج في الفقه، وهي مرتَبة متقدمة في الدراسات الدينية الشرعية في المدرسة الإمامية- حتى على نوع الاستناد إلى القواعد الفقهية، وذلك كما جاء في مقاله حول (المباني الفقهية للشيخ يوسف الصانعي) والصانعي فقيه إمامي معاصر [ت1442هـ/2020م] حيث كتب: (نعلم أن جميع الفتاوى الفقهية يجب أن تستند إلى أدلّة وشواهد كافية. ومن الناحية الكمّية فإن القسم الأصلي من هذه الأدلة هو الآيات والروايات الموجودة في مختلف الأبواب والمسائل الفقهية. والقسم الآخر من الأدلة عبارةٌ عن مجموعة من القواعد الفقهية العامة، حيث تكون دائرة كلّ قاعدة رَهْناً بمفادها، وتشمل جانباً من مسائلها. والقواعد من هذه الناحية ليست على وتيرةٍ واحدة؛ فهناك منها ما يجري ضمن نطاق خاصّ، ومنها - من قبيل: قاعدة نفي الضَّرَر، ونفي الحَرَج - إنما يجري في نوع الأبواب الفقهية. بَيْدَ أنه إلى جانب القواعد الفقهية أو أبعد منها، قد يستنبط كلّ فقيه، تَبَعاً لمستواه واتجاهه الاجتهادي، بعض المباني الفقهية الأكثر تعميماً وشمولية من مجموع الشريعة والأدلّة المتوفّرة، والتي رُبَما تطغى حتّى على نوع الاستناد إلى القواعد الفقهية أيضاً. لقد توصّل الشيخ الصانعي في إطار موازين الاجتهاد - تَبَعاً لأستاذه الكبير الإمام الخميني والتي عبَّر عنها مراراً وتكراراً بـ «الاجتهاد الجواهري»- إلى مباني فقهية ممتازة، أو إنه يؤكِّد عليها. وإن الذي يستحقّ الاهتمام والتحليل من الناحية العلمية والاجتهادية أكثر من الفتاوى المتميِّزة لسماحته هو هذا النوع من المباني، والتي يعتبر بعضها في الوقت نفسه فتوى فقهية أيضاً. ومن ذلك، على سبيل المثال: إن ما يذهب إليه الصانعي في التأكيد على وجوب قيام العلاقات الإنسانية بين جميع أفراد البشر - بغضّ النظر عن الاختلاف في التفكير والعقيدة - إنما تبلور في ظلّ بعض هذه المباني).[٥٢]

وأوّل تلك المباني الفقهية حمل عنوان (الحرمة والكرامة الذاتية للإنسان) وقال فيه: (يتمتع جميع الناس؛ بسبب إنسانيتهم، بحرمة وكرامة ذاتية، وبقِيَم وحقوق إنسانية متساوية. ولا يحقّ لأيّ أحدٍ أن يتّخذ من عقيدته مسوِّغاً للتعرُّض إلى حقوق الآخرين، واستباحة التصرّف في شؤونهم المادية والمعنوية والفردية والاجتماعية. ومن هنا يذهب الشيخ الصانعي إلى التأكيد على وجوب صيانة الأرواح والأموال والأعراض والكرامات والحرّيات والحقوق الإنسانية لجميع الناس. وإن الاستثناءات الواردة في هذا الشأن، والناشئة عن الأسباب العرضية والخارجية، إنما تخصّ مجموعةً خاصة، دون أن يكون للعقيدة دَوْرٌ في ذلك. ومن ذلك، مثلاً: إنه كما يحرم اغتياب الشخص الشيعي، يحرم كذلك اغتياب غيره من المسلمين، وغير المسلمين أيضاً. وإذا جاز في بعض الموارد اغتياب شخصٍ فهو يصدق بحقّ الجميع، دون فرقٍ بين شخصٍ وآخر. وكذلك في ثبوت حدّ القذف لا فرق بين أن يكون المقذوف مسلماً أو غير مسلم. كما يذهب الصانعي - في ما يتعلَّق بالقصاص والدية الكاملة، ووجوب الكفارة على القتل أيضاً - إلى عدم اختصاص ذلك بقتل المسلم، وإنه يشمل غير المسلم أيضاً، وإنْ كان كافراً حربياً، ولكنه «معاهدٌ». وتتحقَّق المعاهدة في ضوء الانضمام إلى القرارات والمعاهدات الدولية أيضاً. كما أن مجرّد الاعتقاد - ولو لم يكن صحيحاً من وجهة نظر الإسلام - لا يمكن أن يكون سبباً في نجاسة شخصٍ، ومن هنا فإن غير المسلمين بأجمعهم - الأعمّ من أهل الكتاب وغيرهم - محكومٌ عليهم بالطهارة من الناحية الشرعية. ويجري ذات هذا الملاك في الزواج أيضاً، مع استثناء المجموعة الثالثة، المتمثِّلة بـ «الكفّار المعاندين» بطبيعة الحال. ويقوم هذا الاتجاه من وجهة نظر شيخنا الأستاذ على أساس منطق ومنهج القرآن الكريم؛ إذ يوجِّه خطابه إلى «الناس» و«الإنسان». إن القرآن الكريم وإنْ كان «هدىً للناس»، وقد نزل لهداية جميع أفراد البشر، وإن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله بدَوْره وإنْ كان «بشيراً» و«نذيراً» و«رحمة للعالمين» جميعاً، ولكنّ هذا لا يعني أنه إذا لم يتمكّن بعض البشر من التعرُّف على رسالة الإسلام عن كثب؛ لأيّ سببٍ من الأسباب، ولم يؤمن به، أو حتّى إذا لم يتمكّن من الإقرار بوجود الله عزَّ وجلَّ والاعتقاد بهذه الحقيقة المطلقة، فإنّ هذا العجز سيحكم عليه بحرمانه من جميع حقوقه وقِيَمه الإنسانية، ومن هنا فإن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13] لا يختصّ بـ «المسلمين»، ولا حتّى بـ «الموحِّدين» أيضاً. ومن هنا فإن مفهوم «التقوى» الذي يَرِدُ في هذه الآية بوصفه ملاكاً عامّاً للتفاضل بين الناس يجب عدم حصره في إطار التمسّك والالتزام بالتعاليم الإسلامية، أو حتّى التوحيدية، والأديان السماوية فقط. ويرى الصانعي جواز وصحّة الوقف والوصية أيضاً لمصلحة غير المسلمين، وإنْ كان - على سبيل المثال - من أجل إعمار كنيسةٍ للنصارى أو كنيس لليهود. وكذلك جواز التيمُّم عند توقُّف حياة الكافر ـ حتّى إذا كان حربياً ـ على ماء الوضوء؛ وذلك لحرمة حياة الإنسان، بغضّ النظر عن المسائل العارضة. ومن الواضح أن هذا الأمر لا يعني تصحيح جميع المعتقدات والقِيَم السائدة في مختلف المجتمعات البشرية، وإنما هو تأكيدٌ على هذه الحقيقة، وهي أننا حتّى بعد الفصل العام بين «الإنسان القاصر»، أيّاً كان معتقده، و«الكافر المقصّر»، فإن قصور الإنسان عن معرفة الدين أو المذهب الحقّ لا يشكِّل ذريعةً لسلب حقوقه الإنسانية والعامة المنبثقة عن حرمته وكرامته الإنسانية. ومن هنا فإن لـ «الكفر» من وجهة نظر المرجع الصانعي معنىً خاصّاً، وكما أسلفنا فإن عنوان «الكافر» لا يشمل كلّ مَنْ هو غير مسلم. إن الاهتمام بحرمة وكرامة الإنسان من وجهة نظر الشيخ الصانعي لا ينحصر بما تمَّتْ الإشارة إليه في دائرة العقائد. لقد ترك هذا الاتجاه تأثيره في الأقسام الأخرى من الفقه أيضاً، ومن الممكن تحليل بعض النماذج من هذه الزاوية لاحقاً. كما قال سماحته في حكم كراهة ردّ ذوي الحاجة: إن هذا الحكم إنما يكون إذا لم يؤدِّ إلى تحوُّلهم إلى عالةٍ على المجتمع، وأما إذا أدّى إلى ذلك فردُّهم يكون واجباً).[٥٣]

وهذا يعني أن لدى هذه الآية الشريفة -بحسب الصانعي- من القابلية أن تكون مصدر هذا المبنى الفقهي المؤثّر على مستوى تقديم الإجابة حول مسائل عديدة من قبيل:

  1. حرمة دم الإنسان، بغض النظر عن دينه ومذهبه.
  2. حرمة أعراض الناس وسمعتهم، وشخصيتهم العامة.
  3. القصاص والديّات.
  4. الطهارة المادية لكل إنسان.
  5. النكاح.
  6. الوقف.
  7. الوصية.
  8. التيمم كبديل عن الوضوء، في حال تزاحم حاجة غير المسلم للماء القليل المتوفر لإنقاذ روحه مع استعماله في الوضوء. ولربما تكون هذه المسألة من فروع أو نتاجات المسألة الأولى.

وخلاصة القول أن الآية الشريفة بدلالتها العميقة والشمولية قابلة أن تأتي بمثابة القاعدة لاستنباط الأحكام الشرعية لعديد من المسائل الحساسة والمهمة على الصعيد الإنساني والسياسي والاجتماعي، الأمر الذي يحتاج إلى مزيد من التنظير والتقعيد والبحث والتحليل، ولربما يأتي اليوم الذي نجد فيه عنوان (قاعدة التعارف) قد انضمت إلى سلسلة القواعد الفقهية التي طالما اعتمد عليها الفقهاء في دراساتهم الشرعية وقدّموها إلى عامة الناس لتكون لهم مرجعاً في التوصل إلى معرفة الحكم الشرعي في مواقف عديدة دون حاجة للرجوع إلى فقيه في المقام.

هوامش ومراجع

  1. (موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (ع)، ج ٢، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي)، ص ٤٧.
  2. الشيخ د. حيدر حب الله، (العـولـمة وعالـميّة الـدين).
  3. الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني، (الوحدة الإسلامية).
  4. د. فريدة حايد، (مقصد التعارف وأثره في القانون الدولي الإسلامي).
  5. المرجع نفسه
  6. المرجع نفسه
  7. المرجع نفسه
  8. حوار أجري مع الفقيه السيد محمد حسين فضل الله (ت1431هـ/2010م).
  9. المرجع نفسه.
  10. المرجع نفسه.
  11. محمد بن الحسن الطوسي(ت 460هـ/1067م)، (كتاب المبسوط) ، ج ٢، ص ٧٤-75 .
  12. علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (ت 450هـ/1058)، (الأحكام السلطانية)، ج1، ص 40.
  13. علي أصغر مرواريد، (الينابيع الفقهية)، ج ٣١، ، ص ١٥٥.
  14. الحسن بن يوسف بن مُطهّر المعروف بالعلامة الحلي (ت 726هـ)، تذكرة الفقهاء، ج ٩، ص ٢٧٠.
  15. الحسن بن يوسف بن مُطهّر المعروف بالعلامة الحلي (ت 726هـ)، (منتهى المطلب)، ج ١٤، ص ٤٠٤.
  16. محمد حسن النجفي الملقب بصاحب الجواهر، (ت1266هـ / 1850م)، (جواهر الكلام)، ج ٢١، ، ص ٢١٥.
  17. الطوسي، (التبيان الجامع لعلوم القرآن)، ج9، ص352.
  18. محمد بن إدريس الشافعيّ المطَّلِبيّ القرشيّ (ت204هـ /820م)، (الرسالة) ص١٧١-173.
  19. محمد بن إدريس الشافعيّ المطَّلِبيّ القرشيّ (ت204هـ /820م)، (كتاب الأم)، ج ٧، ص 289.
  20. مالك بن أنس الحميري المدني (ت179هـ/795م)، (المدونة الكبرى)، ج ٢، ص١٦3-164.
  21. علي أصغر مرواريد، (الينابيع الفقهية)، ج ١٨، ، ص ٢٥٧.
  22. أحمد بن عبدالحليم الحراني المعروف بشيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ /1328م)، (المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام)، ج ٤، ص ١٥٨.
  23. سيد سابق (ت1420هـ/2000م)، (فقه السنة)، ج ٢، ص ١٤٤.
  24. عبد الرحمن بن أبي بكر بن داود، الدمشقيّ الصالحي (ت٨٥٦ هـ/١٤٥٢م)، (الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، ص461.
  25. موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (ع)، مؤسسة دائرة المعارف الفقه الإسلامي، ج ١٨، ص ١٧٤-176.
  26. سليمان بن عبد القوي الطوفي الصرصي (ت716هـ/1316م)، (الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية)، ص ٥٩٤.
  27. يوسف بن عبد البر (463هـ/978م)، (الإنباه على قبائل الرواة).
  28. د. حسين محمد المحيميد، (بحث الاجتهاد المقاصدي وأثره في مسائل السياسة الشرعية).
  29. المرجع نفسه.
  30. الشيخ حسين علي منتظري (ت1431هـ/2009م)، (دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية) ج ٢، ص ١٩٥- 196.
  31. المرجع نفسه.
  32. محمد إسحاق الفياض، (المسائل الطبية)، ص ١١٣-118.
  33. المرجع نفسه.
  34. مؤلف مؤسساتي، (السياسة الشرعية)، (مناهج جامعة المدينة العالمية)، ص56-57.
  35. حسن علي الشاذلي (ت١٤٣٩هـ/٢٠١٨م)، (الجنايات في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون) ، ص 203
  36. (موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (ع))، (مؤسسة دائرة المعارف الفقه الإسلامي)، ج ٣٥، ص ٤٠٤-406.
  37. محمد مهدي الآصفي، (ولاية الأمر، دراسة فقهية مقارنة)، ص ١٣٥-161.
  38. المرجع نفسه.
  39. المرجع نفسه.
  40. كاظم الحائري، (الأساس الفقهي لولاية الفقيه - ولاية الأمر في عصر الغيبة)، ص ١٤.
  41. ميرزا جواد التبريزي (ت1427هـ/2006م)، (صراط النجاة)، ج ٣، ص ٣٩٢-394.
  42. رعد الحجّاج، (الاستنساخ البشري – دراسة فقهية حقوقية)، تحت عنوان (نظرية تحريم الاستنساخ).
  43. المرجع نفسه.
  44. (موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (ع))، (مؤسسة دائرة المعارف الفقه الإسلامي) ج ١٧، ص ١١١.
  45. (موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (ع))، (مؤسسة دائرة المعارف الفقه الإسلامي)، ج ٢٧، ص ٨٨-89
  46. د. جابر عبد الهادي سالم الشافعي، (تأصيل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من منظور مقاصد الشريعة الإسلامية).
  47. المرجع نفسه.
  48. د. عطية السيد فياض، محاضرة بعنوان (الاقتصاد الإسلامي وإنسانية الإنسان).
  49. أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي (ت 684هـ/1285م)، (أنوار البروق في أنواء الفروق).
  50. محمد بن إدريس الحلي (598هـ/1202م) ، (السرائر).
  51. محمد بن يعقوب الكليني (329هـ/941 م)، (الكافي).
  52. السيد ضياء مرتضوي، (المباني الفقهية للشيخ يوسف الصانعي).
  53. المرجع نفسه.