«المنظومة الموازية-إهدار الكرامة»: الفرق بين المراجعتين

من Wiki Akhbar
اذهب إلى: تصفح، ابحث
(أنشأ الصفحة ب' تصنيف:كتابات عمار الجر')
 
 
سطر ١: سطر ١:
 +
[[ملف:كرامة الإنسان.jpg|تصغير|يسار|200بك|كرامة الإنسان]]
 +
[[ملف:أمن الدولة.jpg|تصغير|يسار|200بك|أمن الدولة]]
 +
[[ملف:الإنضباط والكرامة.jpg|تصغير|يسار|200بك|الإنضباط والكرامة]]
  
 
+
تجاهل إهدار كرامة الإنسان جريمة بحقنا جميعاً و نشارك بها جميعاً:
 
+
******************
 +
كان  جهاز التعذيب بالكهرباء يربط بين جزئين حساسين من الجسم (هما غالباً العضو التناسلي والشفتين) في أقبية فرع أمن الدولة في حلب و كان الجلادون يزيدون في الفولت بالشكل الذي لا يموت فيه الشخص الذي يعذب ولا يحيى. في نفس الوقت كان الطلاب في مدرسة الفرنسيسكان على بعد خمسين متراً فقط يتابعون تعليمات المدرس الذي يركز بشكل شديد على مخارج الحروف الفرنسية بحيث تكون لهجتهم أقرب ما تكون إلى اللهجة الباريسية الناعمة. كان المدرس يدّعي بأنه يساهم في نقل الناس من الجاهلية إلى الحضارة وكان آباء الطلاب يدّعون بأنهم يسعون لتأمين مستقبل راق لأبنائهم. ما كان المدرّس ولا الآباء يدرون بأن هذا الانعزال المرضي العجيب عن الواقع هو أكبر خطر على دنيا هؤلاء الأطفال وآخرتهم وبأنه هو السبب الأكبر للتفتيت السريع لبنى المجتمع التاريخية ولمؤسسات الدولة  الجامعة الذي نشهده اليوم. هذا الانعزال المرضي الذي سيبلغ أقصى درجات تناقضاته عندما ستقوم المؤسسات الرسمية في البلد باستخدام طاقات أبناء البلد في التخريب الشامل للإنسان والبنيان في البلد. وهذا الانعزال سيكون شديداً لدرجة أن الكتل المتفجرة تبقى ترمى فوق الناس لعدة سنوات فيقتل من أبناء البلد مئات الألوف و تتمزق أشلاؤهم  وتتهدم بيوتهم وتتقطع أوصالهم وتنفرط العلاقات المجتمعية والمؤسسية فيما بينهم وهم يتابعون حركة حياة فردية روتينية  من دون أن يستوعبوا حتى الآن أن المجتمع كله في ساعة احتضار لا تستمر معها حياة الفرد ما لم تتناسق مع حركة من تبقى من الأحياء.
 +
******************
 +
لا معنى لبناء الدولة ما دمنا نتجاهل تخريب أساسها وهو كرامة المواطن
 +
******************
 +
إن تجاهل تدمير المخابرات للكرامة الإنسانية يجعلنا في حالة انفصام كامل عن واقعنا. واستمرار هذا التجاهل لعشرات السنوات يجعل معظم الشعب السوري اليوم عاجزاً عن فهم العلاقة بين عمله اليومي وبين ما يحل به ولذا فهو عاجز عن القيام بما هو ضروري للخروج من محنته وهو ينتظر من الآخرين أن يخرجوه من هذه المحنة أو أن يتوقفوا (كما يتصور) عن إلحاق الأذى به دون أن يظن بأن سلوكه اليومي قد يكون سبباً من أسباب استمرار هذه المحنة.
 +
الحضارة الإنسانية تبنى على ارتقاء في المبادئ والأخلاق والسلوك لعدد كبير من الناس الذين يمكنهم نتيجة ذلك مكاملة آثار سلوكهم المادية ضمن أطر مؤسسية تحكمها نظم قانونية مبنية على أساس تلك المبادئ.إن الحضارة الإنسانية الجماعية تستند إلى أسس متينة ثلاثة واحد فوق الآخر:
 +
1. تبنى على أساس ضمني يقر بتميز الكائن البشري وبقدرته الهائلة على فهم ما حوله وعلى التحكم بما حوله وعلى مسؤوليته عن هذا التحكم. وبضرورة تقديرنا للإنسان واعتبار كيانه المادي والمعنوي هو المرجع الذي تقاس بالنسبة إليه قيمة باقي الكائنات والنشاطات الفردية والجماعية
 +
2. تميز الكائن البشري الحي يبنى على أساس ضمني بالإيمان بقاعدة أوسع هي معجزة حياة الحيوانات التي تتفاعل وتستوعب بيئتها بشكل غريزي فهي تحس وتحيى وتموت. احترامنا لحياة وحس هذه الحيوانات هو جزء من احترامنا للقسم البيولوجي من الإنسان.
 +
3. أيضاً الكائنات الحية ذات الحواس والتي تتفاعل مع البيئة وتعيها هي جزء من اساس ضمني يشمل الإيمان بقاعدة أوسع هي معجزة الحياة. حياة أي كائن متميز عن الجمادات مثل النباتات
 +
إن تدمير الكيان المعنوي والمادي للإنسان بشكل مبرمج عند عصابات المخابرات يهدم الأساس العميق الذي تبنى عليه الحضارة الإنسانية. وبالتالي فإن تجاهل هذا التخريب يجعل أي مشروع بناء أخلاقي أو معرفي أو ديني أو أي حديث عن تطور اقتصادي أو علمي بلا معنى. بل إن الحديث عن هذه المشاريع يساهم في التستر على ذلك التخريب.
 +
******************
 +
التجاهل جريمة يتم تعويدنا عليها
 +
******************
 +
جريمة الترويع المجتمعي التي تحدثت عنها في البوست السابق خضع لها ولا يزال معظم أبناء الشعب السوري. وهي ترتكز على التدمير المبرمج لكرامة بعض الناس في مراكز الاعتقال. ولكن معظم الناس خارج المعتقل لم يكونوا يدركون بأنهم هم أنفسهم ضحايا الترويع المجتمعي العام فقد كانت نفسياتهم تتخرب بشكل مبرمج نتيجة ذلك. والأفظع من ذلك أنهم لا يدركون أنهم هم أنفسهم يتم تدريبهم من حيث لا يشعرون كي يشكلوا أداة من أدوات الجريمة الكبرى. فقد كان مطلوباً من الإنسان أن يشارك في نشر الخوف والترويع الجماعي وفي نفس الوقت عليه أن لا ينبه الناس إلى آليات التخلص من هذا الترويع. لقد كان مطلوباً من الإنسان أن يتجاهل في نشاطات حياته اليومية التدمير المبرمج للكرامة الإنسانية الذي يحدث بالقرب منه وكانت المؤسسات منذ نعومة أظافرنا تدربنا على هذا التجاهل بالتدريج.
 +
1. كان الأطفال يتعلمون في الفرنسيسكان على بعد خمسين متراً من أمن الدولة وفي معهد الأخوة على بعد مئتي متر منها وفي مدرسة نابلس على بعد ستمئة متر منها. إن كل التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي الذي يهدف للارتقاء بمدارك الطفل وقدراته وفهمه للبيئة المحيطة لا قيمة له لأنه يتجاهل الخطر الأكبر على نفسية هذا الطفل وعلى حياته والمتمثل في الوحدات السرية المنظمة التي تستطيع في أية لحظة أن تعتقله أو تعتقل أباه أو تقتله أو تقتل أباه أو أمه أو أن تصطنع صراعاً مجتمعياً تصطدم من خلالها طائفته المجتمعية بطائفة أخرى ويقوم الطفل نتيجة تجهيله بدور سلبي في هذا الصراع. الخطر الأكبر من ذلك التعليم هو أنه لا يتجاهل تلك المؤسسات السرية بل يفرض على الطفل بالتدريج الخضوع لتلك المؤسسات السرية من خلال برنامج شديد الخطورة يصبح فيه الموجه التربوي النظري هو عنصر المخابرات الذي يقوم بتركيع الطفل منذ نعومة أظفاره وتعليمه كيف يستسلم لإرادة المخابرات في باقي مراحل حياته.
 +
2. كان الجميع في دور العبادة في المساجد وفي الكنائس في جامع السبيل على بعد مئة وخمسين من فرع أمن الدولة وفي جامع الروضة على بعد ستمئة متر منه وفي باقي المساجد والكنائس يتعلمون كيف أن الله يرضى عنهم عندما يصلّون في صالات دور العبادة المكيفة ويستغفرون ذنوبهم ولكنهم لم يكونوا يتعلمون بأن من أكبر الذنوب أن يبيت جارك معتقلاً من قبل العصابات معذباً مهدورة كرامته في المعتقل وأن تبقى في مسجدك حراً صامتاً. كان المؤمن يتعلم بالتدريج خلال آلاف خطب الجمعة التي يسمعها من خطباء عينتهم المخابرات كيف يربط في ذهنه عبادة الله بطاعة ولي الأمر وكيف يربط طاعة ولي الأمر بالاستسلام لإرادة المخابرات. كان يتعلم من خلال الخطب ومن خلال الدروس ومن خلال التراويح وإحياء ليلة القدر وغيرها كيف يمكنه أن يطور بالتدريج ممارسات دينية يشعر من خلالها بالرضى عن نفسه وهي منسجمة تماماً مع إرادة المخابرات ومع أفعالها ومع نشرها للترويع المجتمعي الذي يهدف للسيطرة على الفرد والمجتمع وعلى مؤسسات الدولة.
 +
3. كنا في قسم المعلوماتية وفي باقي أقسام كلية الهندسة الكهربائية على بعد أربعمئة متر من مركز أمن الدولة. كنا في جامعة حلب في باقي الجامعات السورية نعلم الطلاب المقررات التي تؤدي لتطوير الكوادر المؤهلة مهنياً لتحريك مؤسسات الدولة متجاهلين أن مؤسسات الدولة العامة والخاصة معطلة ومشلولة بفعل سيطرة المخابرات على إدارتها ولذا تحول التعليم إلى تدريس لمقررات منفصلة عن بعضها لا يدرك لا الطالب ولا المدرس الغاية منها غير تحصيل كرتونة تسمى الشهادة يفني من أجلها أربع أو خمس أو عشر سنوات من سنوات حياته. كنت في القاعة أعلم الطلاب تحليل وتصميم نظم المعلومات التي هي نواة إدارة المؤسسات الكبرى وفي نفس الوقت كان المحقق في فرع أمن الدولة ينتزع بالتعذيب بعض الكلمات من المعتقلين ستشكل المعلومات التي سترتكز عليها معلومات ضباط المخابرات في إدارة كل مؤسسات الدولة وفي نفس الوقت كان نظام إدارة الكلية نفسها يعتمد على تعيينات المخابرات لرئيس الجامعة وللعميد ولرؤساء الأقسام وللضبط المباشر للكوادر والطلاب عبر الفرقة الحزبية وعبر اتحاد الطلاب وعبر بعض الموظفين وبعض عناصر المخابرات. كان الطلاب يتعلمون كيف تنفصل المقررات التي يدرسونها عن الواقع وكيف ستكرس الجامعة هذا الانفصال. فكلية الكهرباء لا علاقة لها بأية دراسة لقطع ووصل الكهرباء وفي كلية الحقوق كان يمكن أن تأتي عصابات المخابرات لتعتقل الطلاب والكوادر دون أن يشعر اي شخص بتناقض بين الواقع وبين المقررات المدروسة. وقد كنت أعطي محاضراتي عن تاريخ الكمبيوتر مع باقي الدكاترة عندما كان أحد كوادر الكلية المعيد "يمان اللبني" يتم تعذيبه على بعد أربعمئة متر مني في فرع أمن الدولة حتى توفي في المعتقل.
 +
4. كنا نشارك في فعاليات "سوق الانتاج الصناعي والزراعي" لنرى التطور الهائل الحاصل في البلد! وعلى بعد مئتي متر كانت تستخدم أدوات بدائية جداً في انتزاع انسانية المواطنين في ذلك البلد. وكانت تستخدم أدوات التعذيب الكهربائية المستوردة لضبط سلوك أي مواطن بحيث يصبح تابعاً هو وباقي المواطنين في المؤسسات الصناعية والزراعية للمخابرات وبحيث يكرس تحكم المخابرات بمؤسساته.
 +
******************
 +
يؤدي تجاهل الترويع إلى عجزنا عن فهم دورنا غير المباشر في هدر كرامة المعتقلين
 +
******************
 +
في الحقيقة فإن كل مواطن هو جزء من الدولة وهو يشارك بشكل ما بإعطائها قوتها. ويبدو هذا أكثر ما يبدو واضحاً في الخدمة الإلزامية حيث يتشكل معظم الجيش الوطني من أبناء الدولة وهكذا يقدم كل مواطن من حيث لا يشعر للمنظومة الموازية القوة الكبيرة القادرة على البطش. الممارسات اليومية العادية للمواطن أيضاً والتي تبدو بريئة تتضمن خضوعه للمنظومة الموازية. هذا الخضوع الذي يبدو بسيطاً يعطي للمنظومة الموازية (مع الأعداد الهائلة للمواطنين) قوة كبيرة تستطيع من خلالها ممارسة اعتقال بعض الأفراد وتعذيبهم وتستطيع مع هذا الاعتقال تخويف الجميع. لنأخذ مثالاً الشرطي في دائرة الجوازات عندما تطلب منه عصابة المخابرات إعلامها بمرور شخص لاعتقاله من دون مذكرة قضائية. يقوم الموظف من خلال عمله بتكريس الترويع المجتمعي من حيث لا يشعر. مثال مشابه يمكن ضربه عندما تأتي عصابة المخابرات للكلية فيسهل لها بواب الكلية الدخول ويقوم العميد وبعض الرفاق الحزبيين بإرشاد العصابة إلى قاعة الامتحان التي يكون فيها أحد الطلاب فتدخل العصابة وتعتقل الطالب من دون أي مقاومة من قبل مدرس المادة أو رئيس القاعة أو المراقبين. بل لا يذكر أمين سر القاعة في تقرير الامتحان أي إشارة لواقعة الخطف أو الاعتقال. لقد كان  يتم توريط معظمنا (ولا يزال) في الجريمة بحيث يشارك الواحد منا في تخريب كيان الإنسان والمجتمع وهو لا يشعر بهذه المشاركة.  الفظيع أن الجميع يشارك في برمجة الجميع وفي التعتيم على الجميع ولكن كل فرد فينا لا يدرك أن سلوكه الفردي هو جزء من الحركة السلبية الشاملة القاتلة وأنه لا معنى لتفاؤله الكاذب بمستقبل جيد لنفسه أو لبلده ما لم يدرك الأثر السلبي لسلوكه في الحياة العامة وما الذي يجب عليه فعله في الدنيا لتحويل الأثر الجماعي في سلوكه إلى أثر إيجابي وأن مسؤوليته عما يحدث في البلد أمام الله تتعلق بما يفعله وعما كان يفعله في الشأن العام وليس عما يفعله الآخرون.
 +
******************
 +
بعض النتائج الخطيرة لجريمة تجاهلنا لهدر كرامة الإنسان:
 +
******************
 +
1. إن تجاهلنا لحالة الترويع الجماعي التي نعاني جميعاً منها ولحالة تدمير المخابرات لكرامة الإنسان ولحالة تسلط المخابرات على مفاتيح البلد تجعل المواطنين غير قادرين على فهم دور المخابرات في صناعة كثير من الجماعات المسلحة في سوريا في الظروف الحالية وعلى صدم المكونات المجتمعية والطوائف ببعضها وعلى مساهمتها في خلق الفتن وتعميقها وعلى تعاونها مع كثير من المنظومات السرية الموازية في العالم على حساب الشعب السوري وعلاقته بشعوب المنطقة. إن منظومة المخابرات مستعدة لتفجير المفخخات في أبناء الطائفة العلوية لتحفيزهم للدفاع بشكل مباشر للدفاع عن المنظومة الموازية تماماً كما هي مستعدة لقذف الهاونات فوق مناطق حلب الغربية والبراميل فوق حلب الشرقية للإيقاع بين أهالي نفس المدينة.
 +
2. إن عدم حديثنا عن التعذيب في المعتقلات لعشرات السنوات تجعلنا نظن أن سوريا قبل 2011 كانت فعلاً بخير. وفعلاً كان الإنسان قادراً على أن يأكل ويشرب بالمقارنة مع فترة الثمانينيات ولكننا لم نكن في أية لحظة في مأمن نحن أو غيرنا من الاعتقال من قبل عناصر المخابرات التي تتحكم بنا وتتحكم بكل مؤسساتنا. صحيح أن الظرف الحالي أقسى بكثير بكثير من الناحية الاقتصادية ومن ناحية عدد الضحايا والقتلى والشهداء من فترة ما قبل 2011 ولكن السبب الحقيقي لهذه الضحايا هو أن منظومات المخابرات هي التي كانت تسيطر على كل مؤسسات الدولة قبل عام 2011 وهي التي تتحكم بالبرلمان الذي يجب أن يعبر عن المجتمع السوري بكل فئاته وهي التي شلت وتشل مؤسسات الدولة السورية كي تستطيع الاستمرار بالتحكم وخلق الأحداث بالشكل الذي يجعلها تستمر بتحكمها.
 +
3.  تجاهلنا للسبب العميق في خراب البلد يجعل الناس تبحث في أسباب أكثر سطحية لتخلفنا المزمن. حيث يعرض بعض الناس مثلاً صوراً لمظاهر التحكم الآلي أو لنظافة الشوارع أو لسلوك الناس في بعض البلدان المتقدمة وكأن هذا التحكم أو النظافة أو السلوك هو السبب العميق لتقدم تلك البلاد. هذا العرض خطير من جهتين فهو ينم عن جهل أولئك الناس بالأساس الذي ترتكز عليه الحضارة وهو يؤدي من ناحية أخرى إلى تعميق عقدة التستر على جرائم المخابرات وخصوصاً عند أشخاص أصبحوا متحررين تماماً خارجياً من تلك السلطة.
 +
4. تجاهلنا لهدر كرامة الإنسان وهي الأساس الذي تبنى عليه باقي احتياجاتنا المعنوية يجعلنا عاجزين عن تحديد الأولويات في حياتنا ولاهثين وراء أهداف ذات مضمون أجوف. حيث نصبح مثلاً مع الزمن راكضين وراء الشهادة الكرتونية متناسين المضمون العلمي الحقيقي الذي يصبح فارغاً مع تحكم المخابرات بالتعليم ونصبح مع الزمن راكضين وراء احترام نجنيه من وراء جلوسنا في مناصب إدارية جوفاء لأن المخابرات هي من تدير المؤسسات من وراء ستار. بل حتى الأهداف المادية تصبح بلا معنى فركضنا وراء تملك العقارات لا معنى له ما دامت المخابرات قادرة على التلاعب بالملكيات ولهاثنا وراء المال لا معنى له مادامت حياتنا مهددة بجرة غاز أو ببرميل متفجر.
 +
5. تجاهلنا لجريمة هدر كرامة الإنسان وما يترتب عليها من ترويع مجتمعي جعلتنا نعيش كأفراد عاجزين عن الإحساس ببعضنا فبعض  من أبناء الشعب السوري اليوم يشعر فقط بالألم عندما يصيبه. فهو لا يشعر بالألم عندما يتم تدمير بيت مواطن آخر أو عندما يتم قتل ابنه. وبالمقابل يمكن أن يشعر بألم فظيع عندما يرتفع سعر الطماطم.
 +
6. انعدام الإحساس بمسؤوليتنا الجماعية عن الدفاع عن أنفسنا أمام الترويع الجماعي وعن مسؤوليتنا الجماعية في الإحساس ببعضنا جعل كثيراً ممن خرج من دائرة الضغط الشديد لا يفكر إلا بنفسه فهو لا يفكر بمساعدة إخوته الذين ما زالوا تحت الضغط. ولو فكر فهو يفكر فقط بعائلته ولم يتطور التفكير للبحث عن حلول جماعية.
 +
7. عدم إحساسنا بمسؤوليتنا عن الدفاع عن أنفسنا أمام الترويع الجماعي جعل كثيراً ممن خرج إلى دول متقدمة يفكر في كيفية حصوله على فوائد شخصية أكبر من تلك الدول دون أن يفكر في بنية تلك الدول التي يستحيل فيها أن ينمو السرطان المخابراتي وفي ضرورة نقل هذه البنية إلى بلادنا. على العكس من ذلك بعض المنغمسين في مرض التوحد الذين استطاعوا العيش في دول متقدمة يظنون حتى الآن أن ما يجنونه هو أعطية من رئيس أو ملك أو رئيس وزراء تلك الدولة وليس نتيجة بنية راقية للمؤسسات مبنية على أساس عميق يكفل كرامة الإنسان
 +
8. إن عجز الإنسان السوري عن فهم التخريب الهائل في أساس التجمع الذي تبنى عليه الدول تجعل الإنسان السوري يخلط بين عائلته وقبيلته وبين "سوريا" فهو يتحدث عن "سوريا" وكأنها عبارة عن مؤسسات متماسكة يترابط من خلالها كل الشعب السوري لها إرادة تتقاطع فيها إرادات أبناء الشعب السوري وهذه صورة كاريكاتيرية فحتى الآن لا يوجد أية مؤسسة يمكن حتى أن يتناقش من خلالها أبناء الشعب السوري ويعبروا عن آرائهم. المؤسسات الرسمية تحركها بشكل كامل إرادة المخابرات التي هي تهدم الأساس الذي تبنى عليه الحضارات وهو "كرامة الإنسان"
 +
9. إن تجاهلنا لشكلية مؤسسات الدولة في سوريا يجعلنا نظن بأنها دولة ويجعل الكثيرين يتلاعبون بعواطفنا عند الحديث عن حدود تلك الدولة وتقسيم تلك الدولة. في الحقيقة عدم وجود مؤسسات حقيقية يجعل حدود الدولة كرتونية. وسيطرة المخابرات على المؤسسات يجعل الحدود عاطفية يمكن بسهولة التلاعب بها. فاعتماد المخابرات على إثارة النعرات القومية الكردية والعربية وعلى إثارة العصبية القبلية والمذهبية وفصل أبناء الطائفة العلوية وغيرها شعورياً عن باقي الطوائف واستقدام القوات الروسية والإيرانية بدون أي تفويض شعبي كل ذلك يجعل الحدود (التي هي بالأساس مصطنعة بلا معنى) ليست إلا حدود رسوم غير مدعومة بأي كيان مجتمعي حقيقي ضمنها.  إن الحديث عن الكرامة الوطنية بحد ذاته في هذه الحالة يساهم في التستر على الكرامة الفردية للإنسان التي دمرتها أجهزة المخابرات.
 +
10. إن  التجاهل لعملية هدر كرامة الإنسان عند المخابرات وما ينتج عنه من ترويع جماعي وما ينتج عنه من تحويل مؤسسات الدولة إلى قوالب فارغة قد أدى إلى عدم التدقيق في معنى "النظام" وفي معنى "الثورة". لقد انتسب كثير من الناس للجماعات المسلحة في سوريا نتيجة إجرام المخابرات بحق المتظاهرين ونتيجة قتلها لأهله أو نتيجة هدمها لبيته. وليس نتيجة تفكير طويل للشعب السوري . نفكير أدى لبناء فكر جماعي. حتى الآن لا يوجد حراك فكري لتطوير المفاهيم التي تبني الأساس الذي يحترم الحياة ومن ثم يحترم الإنسان ومن ثم يبني فوق ذلك مبادئ الكرامة الجماعية والعمل الجماعي الذي تبنى فوقه الحضارة الإنسانية. لذا نجد لدى بعض الناس انتقل من دون أن يشعر من حالة الدفاع المشروع عن النفس إلى التورط في الدفاع عن جماعات مسلحة ذات أيديولوجيات تطلب من الإنسان أن يصبح سلاحاً بلا إرادة خاضعاً لإرادة أناس آخرين باسم الدفاع عن "الشريعة" أو غيرها تماماً كما يجد بعض الشبيحة تبريراً لجرائمه بالدفاع عن طائفته.
 +
11. إن تجاهل كثير من الناس لهدم الكرامة الإنسانية قبل 2011 ولخطورة هذا الهدم يجعلهم يحملون الجرائم التي تقع على الشعب السوري من قبل الشبيحة أو من قبل بعض الفصائل الثورية المسلحة إلى القتلة المباشرين وهم يقارنون هنا بين "جرائم النظام" و"جرائم الثورة". في الحقيقة إن المسؤول الأول عن تخريب قيمة الإنسان في عقول الناس هو سلوك أجهزة المخابرات الممنهج لعشرات السنوات وفي نفس الوقت يتحمل مسؤولية هذه الثقافة معظم أبناء الشعب السوري الذي بقي يتجاهل عملية الترويع الجماعي ويقبل بوجودها ويقبل بأن يجري خلال حياته وراء أهداف أقل أهمية من الحفاظ على الكرامة الجماعية.
 +
12. إن عدم إدراكنا لخطورة التجاهل الذي كنا نقوم به لعشرات السنوات يجعل المثقفين غير واعين لكونهم أداة التغيير الأولى رغم خروجهم من دائرة سيطرة المخابرات المباشرة فحركة المثقفين على الفيسبوك مثلاً ليس لتوليد فكر جماعي بناء بل هي ليست في معظمها أكثر من صدى لحركة المسلحين من مختلف الأطراف على الأرض.
 +
******************
 +
28- هذه هي الحلقة 28 من سلسلة كيف نحل مشكلتنا؟
  
 
[[تصنيف:كتابات عمار الجر]]
 
[[تصنيف:كتابات عمار الجر]]

المراجعة الحالية بتاريخ ٢٠:٣٧، ١٨ أغسطس ٢٠٢٠

كرامة الإنسان
أمن الدولة
الإنضباط والكرامة

تجاهل إهدار كرامة الإنسان جريمة بحقنا جميعاً و نشارك بها جميعاً:

كان جهاز التعذيب بالكهرباء يربط بين جزئين حساسين من الجسم (هما غالباً العضو التناسلي والشفتين) في أقبية فرع أمن الدولة في حلب و كان الجلادون يزيدون في الفولت بالشكل الذي لا يموت فيه الشخص الذي يعذب ولا يحيى. في نفس الوقت كان الطلاب في مدرسة الفرنسيسكان على بعد خمسين متراً فقط يتابعون تعليمات المدرس الذي يركز بشكل شديد على مخارج الحروف الفرنسية بحيث تكون لهجتهم أقرب ما تكون إلى اللهجة الباريسية الناعمة. كان المدرس يدّعي بأنه يساهم في نقل الناس من الجاهلية إلى الحضارة وكان آباء الطلاب يدّعون بأنهم يسعون لتأمين مستقبل راق لأبنائهم. ما كان المدرّس ولا الآباء يدرون بأن هذا الانعزال المرضي العجيب عن الواقع هو أكبر خطر على دنيا هؤلاء الأطفال وآخرتهم وبأنه هو السبب الأكبر للتفتيت السريع لبنى المجتمع التاريخية ولمؤسسات الدولة الجامعة الذي نشهده اليوم. هذا الانعزال المرضي الذي سيبلغ أقصى درجات تناقضاته عندما ستقوم المؤسسات الرسمية في البلد باستخدام طاقات أبناء البلد في التخريب الشامل للإنسان والبنيان في البلد. وهذا الانعزال سيكون شديداً لدرجة أن الكتل المتفجرة تبقى ترمى فوق الناس لعدة سنوات فيقتل من أبناء البلد مئات الألوف و تتمزق أشلاؤهم وتتهدم بيوتهم وتتقطع أوصالهم وتنفرط العلاقات المجتمعية والمؤسسية فيما بينهم وهم يتابعون حركة حياة فردية روتينية من دون أن يستوعبوا حتى الآن أن المجتمع كله في ساعة احتضار لا تستمر معها حياة الفرد ما لم تتناسق مع حركة من تبقى من الأحياء.

لا معنى لبناء الدولة ما دمنا نتجاهل تخريب أساسها وهو كرامة المواطن

إن تجاهل تدمير المخابرات للكرامة الإنسانية يجعلنا في حالة انفصام كامل عن واقعنا. واستمرار هذا التجاهل لعشرات السنوات يجعل معظم الشعب السوري اليوم عاجزاً عن فهم العلاقة بين عمله اليومي وبين ما يحل به ولذا فهو عاجز عن القيام بما هو ضروري للخروج من محنته وهو ينتظر من الآخرين أن يخرجوه من هذه المحنة أو أن يتوقفوا (كما يتصور) عن إلحاق الأذى به دون أن يظن بأن سلوكه اليومي قد يكون سبباً من أسباب استمرار هذه المحنة. الحضارة الإنسانية تبنى على ارتقاء في المبادئ والأخلاق والسلوك لعدد كبير من الناس الذين يمكنهم نتيجة ذلك مكاملة آثار سلوكهم المادية ضمن أطر مؤسسية تحكمها نظم قانونية مبنية على أساس تلك المبادئ.إن الحضارة الإنسانية الجماعية تستند إلى أسس متينة ثلاثة واحد فوق الآخر: 1. تبنى على أساس ضمني يقر بتميز الكائن البشري وبقدرته الهائلة على فهم ما حوله وعلى التحكم بما حوله وعلى مسؤوليته عن هذا التحكم. وبضرورة تقديرنا للإنسان واعتبار كيانه المادي والمعنوي هو المرجع الذي تقاس بالنسبة إليه قيمة باقي الكائنات والنشاطات الفردية والجماعية 2. تميز الكائن البشري الحي يبنى على أساس ضمني بالإيمان بقاعدة أوسع هي معجزة حياة الحيوانات التي تتفاعل وتستوعب بيئتها بشكل غريزي فهي تحس وتحيى وتموت. احترامنا لحياة وحس هذه الحيوانات هو جزء من احترامنا للقسم البيولوجي من الإنسان. 3. أيضاً الكائنات الحية ذات الحواس والتي تتفاعل مع البيئة وتعيها هي جزء من اساس ضمني يشمل الإيمان بقاعدة أوسع هي معجزة الحياة. حياة أي كائن متميز عن الجمادات مثل النباتات إن تدمير الكيان المعنوي والمادي للإنسان بشكل مبرمج عند عصابات المخابرات يهدم الأساس العميق الذي تبنى عليه الحضارة الإنسانية. وبالتالي فإن تجاهل هذا التخريب يجعل أي مشروع بناء أخلاقي أو معرفي أو ديني أو أي حديث عن تطور اقتصادي أو علمي بلا معنى. بل إن الحديث عن هذه المشاريع يساهم في التستر على ذلك التخريب.

التجاهل جريمة يتم تعويدنا عليها

جريمة الترويع المجتمعي التي تحدثت عنها في البوست السابق خضع لها ولا يزال معظم أبناء الشعب السوري. وهي ترتكز على التدمير المبرمج لكرامة بعض الناس في مراكز الاعتقال. ولكن معظم الناس خارج المعتقل لم يكونوا يدركون بأنهم هم أنفسهم ضحايا الترويع المجتمعي العام فقد كانت نفسياتهم تتخرب بشكل مبرمج نتيجة ذلك. والأفظع من ذلك أنهم لا يدركون أنهم هم أنفسهم يتم تدريبهم من حيث لا يشعرون كي يشكلوا أداة من أدوات الجريمة الكبرى. فقد كان مطلوباً من الإنسان أن يشارك في نشر الخوف والترويع الجماعي وفي نفس الوقت عليه أن لا ينبه الناس إلى آليات التخلص من هذا الترويع. لقد كان مطلوباً من الإنسان أن يتجاهل في نشاطات حياته اليومية التدمير المبرمج للكرامة الإنسانية الذي يحدث بالقرب منه وكانت المؤسسات منذ نعومة أظافرنا تدربنا على هذا التجاهل بالتدريج. 1. كان الأطفال يتعلمون في الفرنسيسكان على بعد خمسين متراً من أمن الدولة وفي معهد الأخوة على بعد مئتي متر منها وفي مدرسة نابلس على بعد ستمئة متر منها. إن كل التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي الذي يهدف للارتقاء بمدارك الطفل وقدراته وفهمه للبيئة المحيطة لا قيمة له لأنه يتجاهل الخطر الأكبر على نفسية هذا الطفل وعلى حياته والمتمثل في الوحدات السرية المنظمة التي تستطيع في أية لحظة أن تعتقله أو تعتقل أباه أو تقتله أو تقتل أباه أو أمه أو أن تصطنع صراعاً مجتمعياً تصطدم من خلالها طائفته المجتمعية بطائفة أخرى ويقوم الطفل نتيجة تجهيله بدور سلبي في هذا الصراع. الخطر الأكبر من ذلك التعليم هو أنه لا يتجاهل تلك المؤسسات السرية بل يفرض على الطفل بالتدريج الخضوع لتلك المؤسسات السرية من خلال برنامج شديد الخطورة يصبح فيه الموجه التربوي النظري هو عنصر المخابرات الذي يقوم بتركيع الطفل منذ نعومة أظفاره وتعليمه كيف يستسلم لإرادة المخابرات في باقي مراحل حياته. 2. كان الجميع في دور العبادة في المساجد وفي الكنائس في جامع السبيل على بعد مئة وخمسين من فرع أمن الدولة وفي جامع الروضة على بعد ستمئة متر منه وفي باقي المساجد والكنائس يتعلمون كيف أن الله يرضى عنهم عندما يصلّون في صالات دور العبادة المكيفة ويستغفرون ذنوبهم ولكنهم لم يكونوا يتعلمون بأن من أكبر الذنوب أن يبيت جارك معتقلاً من قبل العصابات معذباً مهدورة كرامته في المعتقل وأن تبقى في مسجدك حراً صامتاً. كان المؤمن يتعلم بالتدريج خلال آلاف خطب الجمعة التي يسمعها من خطباء عينتهم المخابرات كيف يربط في ذهنه عبادة الله بطاعة ولي الأمر وكيف يربط طاعة ولي الأمر بالاستسلام لإرادة المخابرات. كان يتعلم من خلال الخطب ومن خلال الدروس ومن خلال التراويح وإحياء ليلة القدر وغيرها كيف يمكنه أن يطور بالتدريج ممارسات دينية يشعر من خلالها بالرضى عن نفسه وهي منسجمة تماماً مع إرادة المخابرات ومع أفعالها ومع نشرها للترويع المجتمعي الذي يهدف للسيطرة على الفرد والمجتمع وعلى مؤسسات الدولة. 3. كنا في قسم المعلوماتية وفي باقي أقسام كلية الهندسة الكهربائية على بعد أربعمئة متر من مركز أمن الدولة. كنا في جامعة حلب في باقي الجامعات السورية نعلم الطلاب المقررات التي تؤدي لتطوير الكوادر المؤهلة مهنياً لتحريك مؤسسات الدولة متجاهلين أن مؤسسات الدولة العامة والخاصة معطلة ومشلولة بفعل سيطرة المخابرات على إدارتها ولذا تحول التعليم إلى تدريس لمقررات منفصلة عن بعضها لا يدرك لا الطالب ولا المدرس الغاية منها غير تحصيل كرتونة تسمى الشهادة يفني من أجلها أربع أو خمس أو عشر سنوات من سنوات حياته. كنت في القاعة أعلم الطلاب تحليل وتصميم نظم المعلومات التي هي نواة إدارة المؤسسات الكبرى وفي نفس الوقت كان المحقق في فرع أمن الدولة ينتزع بالتعذيب بعض الكلمات من المعتقلين ستشكل المعلومات التي سترتكز عليها معلومات ضباط المخابرات في إدارة كل مؤسسات الدولة وفي نفس الوقت كان نظام إدارة الكلية نفسها يعتمد على تعيينات المخابرات لرئيس الجامعة وللعميد ولرؤساء الأقسام وللضبط المباشر للكوادر والطلاب عبر الفرقة الحزبية وعبر اتحاد الطلاب وعبر بعض الموظفين وبعض عناصر المخابرات. كان الطلاب يتعلمون كيف تنفصل المقررات التي يدرسونها عن الواقع وكيف ستكرس الجامعة هذا الانفصال. فكلية الكهرباء لا علاقة لها بأية دراسة لقطع ووصل الكهرباء وفي كلية الحقوق كان يمكن أن تأتي عصابات المخابرات لتعتقل الطلاب والكوادر دون أن يشعر اي شخص بتناقض بين الواقع وبين المقررات المدروسة. وقد كنت أعطي محاضراتي عن تاريخ الكمبيوتر مع باقي الدكاترة عندما كان أحد كوادر الكلية المعيد "يمان اللبني" يتم تعذيبه على بعد أربعمئة متر مني في فرع أمن الدولة حتى توفي في المعتقل. 4. كنا نشارك في فعاليات "سوق الانتاج الصناعي والزراعي" لنرى التطور الهائل الحاصل في البلد! وعلى بعد مئتي متر كانت تستخدم أدوات بدائية جداً في انتزاع انسانية المواطنين في ذلك البلد. وكانت تستخدم أدوات التعذيب الكهربائية المستوردة لضبط سلوك أي مواطن بحيث يصبح تابعاً هو وباقي المواطنين في المؤسسات الصناعية والزراعية للمخابرات وبحيث يكرس تحكم المخابرات بمؤسساته.

يؤدي تجاهل الترويع إلى عجزنا عن فهم دورنا غير المباشر في هدر كرامة المعتقلين

في الحقيقة فإن كل مواطن هو جزء من الدولة وهو يشارك بشكل ما بإعطائها قوتها. ويبدو هذا أكثر ما يبدو واضحاً في الخدمة الإلزامية حيث يتشكل معظم الجيش الوطني من أبناء الدولة وهكذا يقدم كل مواطن من حيث لا يشعر للمنظومة الموازية القوة الكبيرة القادرة على البطش. الممارسات اليومية العادية للمواطن أيضاً والتي تبدو بريئة تتضمن خضوعه للمنظومة الموازية. هذا الخضوع الذي يبدو بسيطاً يعطي للمنظومة الموازية (مع الأعداد الهائلة للمواطنين) قوة كبيرة تستطيع من خلالها ممارسة اعتقال بعض الأفراد وتعذيبهم وتستطيع مع هذا الاعتقال تخويف الجميع. لنأخذ مثالاً الشرطي في دائرة الجوازات عندما تطلب منه عصابة المخابرات إعلامها بمرور شخص لاعتقاله من دون مذكرة قضائية. يقوم الموظف من خلال عمله بتكريس الترويع المجتمعي من حيث لا يشعر. مثال مشابه يمكن ضربه عندما تأتي عصابة المخابرات للكلية فيسهل لها بواب الكلية الدخول ويقوم العميد وبعض الرفاق الحزبيين بإرشاد العصابة إلى قاعة الامتحان التي يكون فيها أحد الطلاب فتدخل العصابة وتعتقل الطالب من دون أي مقاومة من قبل مدرس المادة أو رئيس القاعة أو المراقبين. بل لا يذكر أمين سر القاعة في تقرير الامتحان أي إشارة لواقعة الخطف أو الاعتقال. لقد كان  يتم توريط معظمنا (ولا يزال) في الجريمة بحيث يشارك الواحد منا في تخريب كيان الإنسان والمجتمع وهو لا يشعر بهذه المشاركة.  الفظيع أن الجميع يشارك في برمجة الجميع وفي التعتيم على الجميع ولكن كل فرد فينا لا يدرك أن سلوكه الفردي هو جزء من الحركة السلبية الشاملة القاتلة وأنه لا معنى لتفاؤله الكاذب بمستقبل جيد لنفسه أو لبلده ما لم يدرك الأثر السلبي لسلوكه في الحياة العامة وما الذي يجب عليه فعله في الدنيا لتحويل الأثر الجماعي في سلوكه إلى أثر إيجابي وأن مسؤوليته عما يحدث في البلد أمام الله تتعلق بما يفعله وعما كان يفعله في الشأن العام وليس عما يفعله الآخرون.

بعض النتائج الخطيرة لجريمة تجاهلنا لهدر كرامة الإنسان:

1. إن تجاهلنا لحالة الترويع الجماعي التي نعاني جميعاً منها ولحالة تدمير المخابرات لكرامة الإنسان ولحالة تسلط المخابرات على مفاتيح البلد تجعل المواطنين غير قادرين على فهم دور المخابرات في صناعة كثير من الجماعات المسلحة في سوريا في الظروف الحالية وعلى صدم المكونات المجتمعية والطوائف ببعضها وعلى مساهمتها في خلق الفتن وتعميقها وعلى تعاونها مع كثير من المنظومات السرية الموازية في العالم على حساب الشعب السوري وعلاقته بشعوب المنطقة. إن منظومة المخابرات مستعدة لتفجير المفخخات في أبناء الطائفة العلوية لتحفيزهم للدفاع بشكل مباشر للدفاع عن المنظومة الموازية تماماً كما هي مستعدة لقذف الهاونات فوق مناطق حلب الغربية والبراميل فوق حلب الشرقية للإيقاع بين أهالي نفس المدينة. 2. إن عدم حديثنا عن التعذيب في المعتقلات لعشرات السنوات تجعلنا نظن أن سوريا قبل 2011 كانت فعلاً بخير. وفعلاً كان الإنسان قادراً على أن يأكل ويشرب بالمقارنة مع فترة الثمانينيات ولكننا لم نكن في أية لحظة في مأمن نحن أو غيرنا من الاعتقال من قبل عناصر المخابرات التي تتحكم بنا وتتحكم بكل مؤسساتنا. صحيح أن الظرف الحالي أقسى بكثير بكثير من الناحية الاقتصادية ومن ناحية عدد الضحايا والقتلى والشهداء من فترة ما قبل 2011 ولكن السبب الحقيقي لهذه الضحايا هو أن منظومات المخابرات هي التي كانت تسيطر على كل مؤسسات الدولة قبل عام 2011 وهي التي تتحكم بالبرلمان الذي يجب أن يعبر عن المجتمع السوري بكل فئاته وهي التي شلت وتشل مؤسسات الدولة السورية كي تستطيع الاستمرار بالتحكم وخلق الأحداث بالشكل الذي يجعلها تستمر بتحكمها. 3. تجاهلنا للسبب العميق في خراب البلد يجعل الناس تبحث في أسباب أكثر سطحية لتخلفنا المزمن. حيث يعرض بعض الناس مثلاً صوراً لمظاهر التحكم الآلي أو لنظافة الشوارع أو لسلوك الناس في بعض البلدان المتقدمة وكأن هذا التحكم أو النظافة أو السلوك هو السبب العميق لتقدم تلك البلاد. هذا العرض خطير من جهتين فهو ينم عن جهل أولئك الناس بالأساس الذي ترتكز عليه الحضارة وهو يؤدي من ناحية أخرى إلى تعميق عقدة التستر على جرائم المخابرات وخصوصاً عند أشخاص أصبحوا متحررين تماماً خارجياً من تلك السلطة. 4. تجاهلنا لهدر كرامة الإنسان وهي الأساس الذي تبنى عليه باقي احتياجاتنا المعنوية يجعلنا عاجزين عن تحديد الأولويات في حياتنا ولاهثين وراء أهداف ذات مضمون أجوف. حيث نصبح مثلاً مع الزمن راكضين وراء الشهادة الكرتونية متناسين المضمون العلمي الحقيقي الذي يصبح فارغاً مع تحكم المخابرات بالتعليم ونصبح مع الزمن راكضين وراء احترام نجنيه من وراء جلوسنا في مناصب إدارية جوفاء لأن المخابرات هي من تدير المؤسسات من وراء ستار. بل حتى الأهداف المادية تصبح بلا معنى فركضنا وراء تملك العقارات لا معنى له ما دامت المخابرات قادرة على التلاعب بالملكيات ولهاثنا وراء المال لا معنى له مادامت حياتنا مهددة بجرة غاز أو ببرميل متفجر. 5. تجاهلنا لجريمة هدر كرامة الإنسان وما يترتب عليها من ترويع مجتمعي جعلتنا نعيش كأفراد عاجزين عن الإحساس ببعضنا فبعض من أبناء الشعب السوري اليوم يشعر فقط بالألم عندما يصيبه. فهو لا يشعر بالألم عندما يتم تدمير بيت مواطن آخر أو عندما يتم قتل ابنه. وبالمقابل يمكن أن يشعر بألم فظيع عندما يرتفع سعر الطماطم. 6. انعدام الإحساس بمسؤوليتنا الجماعية عن الدفاع عن أنفسنا أمام الترويع الجماعي وعن مسؤوليتنا الجماعية في الإحساس ببعضنا جعل كثيراً ممن خرج من دائرة الضغط الشديد لا يفكر إلا بنفسه فهو لا يفكر بمساعدة إخوته الذين ما زالوا تحت الضغط. ولو فكر فهو يفكر فقط بعائلته ولم يتطور التفكير للبحث عن حلول جماعية. 7. عدم إحساسنا بمسؤوليتنا عن الدفاع عن أنفسنا أمام الترويع الجماعي جعل كثيراً ممن خرج إلى دول متقدمة يفكر في كيفية حصوله على فوائد شخصية أكبر من تلك الدول دون أن يفكر في بنية تلك الدول التي يستحيل فيها أن ينمو السرطان المخابراتي وفي ضرورة نقل هذه البنية إلى بلادنا. على العكس من ذلك بعض المنغمسين في مرض التوحد الذين استطاعوا العيش في دول متقدمة يظنون حتى الآن أن ما يجنونه هو أعطية من رئيس أو ملك أو رئيس وزراء تلك الدولة وليس نتيجة بنية راقية للمؤسسات مبنية على أساس عميق يكفل كرامة الإنسان 8. إن عجز الإنسان السوري عن فهم التخريب الهائل في أساس التجمع الذي تبنى عليه الدول تجعل الإنسان السوري يخلط بين عائلته وقبيلته وبين "سوريا" فهو يتحدث عن "سوريا" وكأنها عبارة عن مؤسسات متماسكة يترابط من خلالها كل الشعب السوري لها إرادة تتقاطع فيها إرادات أبناء الشعب السوري وهذه صورة كاريكاتيرية فحتى الآن لا يوجد أية مؤسسة يمكن حتى أن يتناقش من خلالها أبناء الشعب السوري ويعبروا عن آرائهم. المؤسسات الرسمية تحركها بشكل كامل إرادة المخابرات التي هي تهدم الأساس الذي تبنى عليه الحضارات وهو "كرامة الإنسان" 9. إن تجاهلنا لشكلية مؤسسات الدولة في سوريا يجعلنا نظن بأنها دولة ويجعل الكثيرين يتلاعبون بعواطفنا عند الحديث عن حدود تلك الدولة وتقسيم تلك الدولة. في الحقيقة عدم وجود مؤسسات حقيقية يجعل حدود الدولة كرتونية. وسيطرة المخابرات على المؤسسات يجعل الحدود عاطفية يمكن بسهولة التلاعب بها. فاعتماد المخابرات على إثارة النعرات القومية الكردية والعربية وعلى إثارة العصبية القبلية والمذهبية وفصل أبناء الطائفة العلوية وغيرها شعورياً عن باقي الطوائف واستقدام القوات الروسية والإيرانية بدون أي تفويض شعبي كل ذلك يجعل الحدود (التي هي بالأساس مصطنعة بلا معنى) ليست إلا حدود رسوم غير مدعومة بأي كيان مجتمعي حقيقي ضمنها. إن الحديث عن الكرامة الوطنية بحد ذاته في هذه الحالة يساهم في التستر على الكرامة الفردية للإنسان التي دمرتها أجهزة المخابرات. 10. إن التجاهل لعملية هدر كرامة الإنسان عند المخابرات وما ينتج عنه من ترويع جماعي وما ينتج عنه من تحويل مؤسسات الدولة إلى قوالب فارغة قد أدى إلى عدم التدقيق في معنى "النظام" وفي معنى "الثورة". لقد انتسب كثير من الناس للجماعات المسلحة في سوريا نتيجة إجرام المخابرات بحق المتظاهرين ونتيجة قتلها لأهله أو نتيجة هدمها لبيته. وليس نتيجة تفكير طويل للشعب السوري . نفكير أدى لبناء فكر جماعي. حتى الآن لا يوجد حراك فكري لتطوير المفاهيم التي تبني الأساس الذي يحترم الحياة ومن ثم يحترم الإنسان ومن ثم يبني فوق ذلك مبادئ الكرامة الجماعية والعمل الجماعي الذي تبنى فوقه الحضارة الإنسانية. لذا نجد لدى بعض الناس انتقل من دون أن يشعر من حالة الدفاع المشروع عن النفس إلى التورط في الدفاع عن جماعات مسلحة ذات أيديولوجيات تطلب من الإنسان أن يصبح سلاحاً بلا إرادة خاضعاً لإرادة أناس آخرين باسم الدفاع عن "الشريعة" أو غيرها تماماً كما يجد بعض الشبيحة تبريراً لجرائمه بالدفاع عن طائفته. 11. إن تجاهل كثير من الناس لهدم الكرامة الإنسانية قبل 2011 ولخطورة هذا الهدم يجعلهم يحملون الجرائم التي تقع على الشعب السوري من قبل الشبيحة أو من قبل بعض الفصائل الثورية المسلحة إلى القتلة المباشرين وهم يقارنون هنا بين "جرائم النظام" و"جرائم الثورة". في الحقيقة إن المسؤول الأول عن تخريب قيمة الإنسان في عقول الناس هو سلوك أجهزة المخابرات الممنهج لعشرات السنوات وفي نفس الوقت يتحمل مسؤولية هذه الثقافة معظم أبناء الشعب السوري الذي بقي يتجاهل عملية الترويع الجماعي ويقبل بوجودها ويقبل بأن يجري خلال حياته وراء أهداف أقل أهمية من الحفاظ على الكرامة الجماعية. 12. إن عدم إدراكنا لخطورة التجاهل الذي كنا نقوم به لعشرات السنوات يجعل المثقفين غير واعين لكونهم أداة التغيير الأولى رغم خروجهم من دائرة سيطرة المخابرات المباشرة فحركة المثقفين على الفيسبوك مثلاً ليس لتوليد فكر جماعي بناء بل هي ليست في معظمها أكثر من صدى لحركة المسلحين من مختلف الأطراف على الأرض.

28- هذه هي الحلقة 28 من سلسلة كيف نحل مشكلتنا؟